العبقرية الشعرية والموهبة العامة

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

مدرس مساعد بمرکز اللغة العربية ــ جامعة القاهرة

المستخلص

نتناول في هذا البحث دلالة العبقرية کما وردت في معاجم اللغة العربية أولاً ثمَّ في معاجم اللغة الإنجليزية والفرنسية مع طرح مابينها جميعًا من تقارب، العبقرية في کل اللغات هي کل ماليس معتادًا، کل ماهو نادر الحدوث.
ثمَّ طرحنا وجهات الفلاسفة والمفکرين ورجال الفن في العبقرية وما لهم من آراء شکلت المقدمات التاريخية للدراسات الحالية، التي اعتمدت في معظمها إلى تقسيم العبقرية في تعريفها إلى أربعة أنواع أساسية تحدد هويتها، تلک هي: المراحل التي يمر بها الفنان حتى ينتهي من العمل، ثمَّ مجموع السمات الشخصية التي تميز المبدعين، ثمَّ العوامل التي يقوم عليها نشاط العبقري، وأخيرًا الترکيز على نتاجات وأعمال المبدعين دليلاً على عبقريتهم وتفردهم.

نقاط رئيسية

وبعد أن فحص کولردچ هذین العملین خلص لنا ببعض ملاحظات اعتبرها إرهاصات ممیزة للعبقریة الحقة فى أى عمل شعرى. ویحصرها فیما یلى:ـ

 

    أولاً: "الإحساس بالمتعة الموسیقیة بالإضافة إلى القدرة على تولید هذا الإحساس لدى الغیر.. والقدرة على خلق أثر موحد من الکثرة وعلى تعدیل سلسلة من الأفکار بواسطة فکرة واحدة سائدة أو انفعال واحد مهیمن." ([i])

 

    وهو یجمع بین قدرة الفنان على الإحساس بالمتعة الموسیقیة والقدرة على تولید هذا الإحساس لدى الغیر، مع القدرة على خلق الوحدة؛ إذ یرى أن وسیلتهما واحدة لدى الفنان وهى الخیال، الخیال وحده والذى یُصدِّق على وصف العبقرى " المثل القائل بأن المرء یولد شاعرًا ولا یمکنه أن یصبح شاعرًا عن طریق الصنعة. " ([ii])

 

     فمهما حاول الشخص الموهوب تولید الموسیقى وخلق الوحدة من خلال الاطلاع والاکتساب لن یستطیع ذلک إن خلت روحه من ملکه الخیال التى لا یکتسبها الفرد أبدًا عن طریق الصنعة وإنما هى ملک للعبقریة الخلاقة تحطم بها، تذیب؛ کی تخلق من جدید.

 

     ویزید الأمر وضوحًا النظر إلى الإرهاص الثالث للعبقریة عند کولردچ فـ " الصور وحدها مهما بغل جمالها ومهما کانت مطابقتها للواقع ومهما عبر عنها الشاعر بدقة لیست هى الشیء الذی یمیز الشاعر الصادق، وإنما تصبح الصور معیارًا للعبقریة الأصیلة حین تشکلها عاطفة سائدة أو مجموعة من الأفکار والصور المترابطة أثارتها عاطفة سائدة. أو حینما تتحول فیها الکثرة إلى الوحدة والتتالى إلى لحظة واحدة أو أخیرًا حینما یضفى علیها الشاعر من روحه حیاة إنسانیة وفکریة.."([iii])

وکل هذه الأشیاء لا یستطیعها الفنان بدون ملکة الخیال حتى تکتسب قدرتها الأصیلة.

 

     أما الإرهاص الثانی والذی تخطیناه بالحدیث عن الصور فهو " اختیار موضوعات نائبة جدًّا عن ظروفه الخاصة ومواضع اهتمامه الفردی." ([iv])

     فالعبقری عنده یمکن أن یستثار بقوة ولأى سبب من الأسباب أکثر بکثیر من استثارته بالأسباب التى تتعلق بمواضع اهتماماته الشخصیة، فهو فرد شدید الحساسیة، یعیش فى عالم الآخر معبرًا عن اللاذاتى وکأنه جزءٌ من ذاته هو.

ولو أنه اعتمد المباشرة فى اختیاره موضوعاتِه " من إحساساته وتجاربه الشخصیة فإن جودة قصدیته تصبح موضع شک وتکون عادة دلیلاً على القدرة الشعریة الأصیلة" ([v]) وحتى لو حدث وتحقق له التمیُّز المؤقت فهو لا یضمن له أبدًا أن یکون هذا التمیز سندًا له طوال حیاته.

 

    أما الإرهاص الرابع أو الصفة الأخیرة کما یقول کولردچ " والتی لا مغزى لها إلا بالإضافة إلى الصفات الأخرى ولو أنه بدونها لا تتحقق هذه الصفات بمقدار کبیر، وحتى إذا افترضنا أنها وجدت بدون هذه الصفة فإنها لن تدل إلا على ومضات خاطفة زائلة وقوة لا تلبث أن تخبو وتأفل، هذه الصفة هى عمق التفکیر وطاقته. فلم یتمکن أحد حتى الآن من أن یصبح شاعرًا کبیرًا بدون أن یکون فیلسوفًا عمیقًا. وذلک لأن الشعر هو زهرة المعرفة الإنسانیة وعبیرها، هو زهرة الأفکار الإنسانیة وعواطف الإنسان وانفعالاته ولغته.. " ([vi])



([i])  کولردچ / 167ـ 168.

([ii])  نفسه / 168.

[iii])) کولردج/ 168.

([iv])  نفسه.

[v]))  نفسه.

[vi])) کولردج/ 168.

الكلمات الرئيسية


مفهوم العبقریة:

فکأنما أصبح هناک شبهُ اتفاق عام بین الباحثین المختلفین على أنه لا یوجد مفهومٌ واحدٌ للکلمة. و(چان ایڤ تادییه) نفسه یقول إنها: " دائمًا تقدمیة " ([i])، تسبق کل المهایا والأشکال، تحرر الطاقة، تفجرها، تضیئها فى کل مکان.

 

    و"الشاعر الخلاق، مثلاً، یتجاوز باستمرار ما حققه، لأنه یشعر، باستمرار أنه غیر راضٍ عن المطابقات التى أقامها بین ذاته والعالم الخارجی، ولأنه یشعر أن ما یرید أن یکتبه أو یطمح إلیه، لم یحققه بعد. فکأن الإبداع نفى یتقدم. وضمن هذا المنظور یصبح التواصل والتشابه نفیًا للإبداع؛ لأنهما یؤدیان إلى إعادة ما أنتجه السابقون"([ii])وتقلیده، فیفقد أعظم سمة یمکن أن تمیزه وهى العبقریة.

 

     فالفنان العبقری فی حالة بحث وکشف دائمین عن علاقات جدیدة غیر متکررة یقدم من خلالها الإنسان والأشیاء فى حرکاتٍ وتموجاتٍ غیر التى ألفها الناس سواء فى أعماله السابقة أو فى أعمال غیره من الفنانین.

وولیام شکسبیر ـ مثلاً ـ کتب فى أقل من عشرین عامًا مائةً وأربعًا وخمسین قصیدة شعریة وسبعًا وثلاثین مسرحیة رائعة، دون أن یکرر ولا أن یماثل فى شخصیات ولا إحساسات وتجارب أبطاله وأعماله المختلفة.

     فکأنه کما یصفه ت.س. إلیوت "ستة شکاسبرة فى عین الوقت دون أن یتصادموا" ([iii])

ذلک لأن العباقرة لا " ینتجون القلیل من الأفکار النفسیة ثم یقفزون خارج سفینة (الإبداع) والعکس صحیح تمامًا: حیث إن العباقرة یبتکرون عددًا کبیرًا من الأفکار ویَزیدُونَ من سرعة ومعدل غزارة إنتاجهم کلما تقدمت بهم الحیاة، وتقوم طاقتهم الإبداعیة بحشد المزید والمزید من القوة التى تستمدها من کل أعمالهم السابقة." ([iv])

 

     إذن فالعباقرة ینتجون الکثیر من الأفکار والأعمال الرائعة التى تختلف فیما بینها، سیاستها التباین، مما یجعل من مهمتنا فى دراسةٍ العبقریة مهمة صعبة، سواء دراستها هى فى حد ذاتها من خلال استخداماتها فى اللغة أو دراستها من خلال بعض الأعمال لفنانین وصفوا عبر تاریخ الفن بأنهم عباقرة أو من خلال دراسة سماتهم الشخصیة.. إلى غیر ذلک من طرق اتبعها المهتمون بدراسة الکلمة.

 

     وبالطبع هذا لیس معناه "أن نَحذُوَ حذو رجلٍ مثل یوهان کاسبر لافاتر الذى لم یضع إطلاقًا تعریفًا للعبقریة، على أساس أن من لدیه عبقریة لا یعرفها، والمحروم منها لا یستطیع معرفة کنهها." ([v])

فالضرورة تحتم علینا تتبع الکلمة وبیان استخداماتها فى اللغة وکذلک فى الفن.

 

 

 

 

 

 

 

الدلالة المعجمیة للعبقریة:

 

     ونبدأ بتعریفها کما جاءت فى معاجم اللغة:

"کلمة" عبقریة کما نعلم هى کلمة عربیة مفرغة فى صیغة مصدر صناعى وهى مأخوذة من کلمة عبقر وهو مَوضِعٌ بالبادیة کَثیرُ الجنِّ یُقالُ فى المَثَلِ کأنَّهُم جِنُّ عبقرٍ. ثم نَسَبُوا إلیه کلَّ شىء تَعَجَّبُوا مِنْ حِذْقِهِ أو جودةِ صنعتِهِ وقُوّتِهِ فقالوا: عَبْقَرىٌّ.. قال ابن الأثیر: (عَبقَرُ) قریةٌ تسکُنُها الجِنُّ فیما زَعَمُوا، فکلَّما رأوا شیئًا فائقًا غریبًا مما یَصْعُبُ عَمَلُهُ ویَدِقُّ، أو شیئًا عظیمًا فى نفسه نسبوه إلیها فقالوا: عبقرىّ، ثم اتُّسِع فِیه حَتَّى سُمِّى بِهِ السَّیِّدُ والکبیر.

وفى الحدیث: أنه کان یسجد على عبقرىّ، وهى هذه البُسُطُ التى فیها الأصباغُ والنقوشُ، حتى قالُوا: ظلمٌ عبقرى، وهذا عبقرىُّ قومٍ، للرجلِ القوىِّ، ثم خاطبهُمُ الله تعالى: بما تعارَفُوهُ: فقال فى

وصف أهل الجنة "متکئین على رفرفٍ خضرٍ وعبقرىٍّ حِسَانٍ " ([vi])

 

     وقالَ ابنُ سِیدة: وعبقر قریةٌ بالیمن تُوَشَّى فیها الثیابُ والبُسُطُ، فثیابُها أجودُ الثیابِ فصارتْ مثلاً لکلِّ منسوبٍ إلى شىءٍ رفیعٍ. فکلما بالغوا فى نعتِ شىءٍ متناهٍ نسبوه إلیه، وقیل إنما یُنسبُ إلى عبقرٍ الذى هو موضعُ الجنِّ. وقال زهیر: أصل العبقرىّ صفةٌ لکلِّ ما بوُلِغ فى وصفِهِ، فنُسِبَ کلُّ جیدٍ إلى عبقر. وقیل العبقرىُّ الذى لیسَ فوقهُ شىء والکاملُ من کل شیءٍ.([vii])

 

     والحقیقة أن مفهوم الکلمة فى المعاجم العربیة قریب أیضًا إلى مفهومها فى المعاجم الأجنبیة سواء الإنجلیزیة أم الفرنسیة المختلفة.

ففى کبریات المعاجم الفرنسیة تؤخذ هذه الکلمة من کلمة Extraordinaire الفرنسیة وتفسر فیها بما ترجمته " ما لیس معتادًا"، " الذی یحدث نادرًا "، " الأفکار السابقة لزمانها." ([viii])

 

     وکذلک فی معجم أکسفورد الإنجلیزى تشتق الکلمة مباشرة من کلمة genius اللاتینیة، وتفسر بأنها " قوة فکریة فطریة من نمط رفیع کتلک التى تعزى إلى من یعتبرون أعظم المشتغلین فى أى فرع من فروع الفن أو التأمل أو التطبیق، طاقة فطریة وغیر عادیة على الإبداع التخیلى أو الفکر الأصیل أو الابتکار أو الاکتشاف، وهى تختلف کثیرًا عن الموهبة." ([ix])

 

     فجمیع المعانی الواردة لدینا سواء فى معاجمنا العربیة أم فى معاجم الغرب تتقارب فى المعنى، فلا تخرج عن کون اللفظة مُعَبِّر عن ضرب من النشاط الإنسانى المتمیّز أو لون من الطاقة غیر العادیة یتمیّز بها شخص تخرق أعماله العادة لیظل یلفت انتباه الجمیع ویثیر إعجابهم واختلافهم حول تفسیر الکلمة وتحلیلها.

 

     غیر أنَّ الاستخدام الحدیث یربطها بشکل کبیر بالإبداع والأصالة والموهبة، وذلک بدءًا من القرن الثامن عشر بعد الحرب العالمیة الأولى، حینما أجریت الدراسات المختلفة حول استخدام العبقریة بوجهٍ عام ثم دراسة استخدامها فى الفن على وجه الخصوص وذلک بعد الحرب العالمیة الثانیة.

 

العبقریة فی الدراسات القدیمة:

 

     ولیس معنى هذا أن نجهل ما قبل هذه الدراسات من آراء ونظریات نشرها فلاسفة ومفکرون وبعض من رجال الفن دارت کلها حول العبقریة ومثَّلت المقدمات التاریخیة للدراسات الحالیة.

فسواء أطابقت الدراسات الحالیة أم لا فهى تمهید لا محید عنه کى نفهم ما أتت به دراساتنا الحدیثة من نتائج مختلفة خاصة وأن هذه الدراسات الحدیثة لم تنشأ من العدم وإنما بدأت من حیث انتهى الآخرون. فیکفى أن هؤلاء الآخرین آمنوا بفکرة امتلاک أفراد معینین لقوى خلاقة تمیزهم عن غیرهم.

 

     وأول بل أکثر ما یلفت النظر فى الآراء والنظریات القدیمة للکلمة هو ذلک الإصرار الواضح والکبیر "على إبراز أوجه الخلاف بین العباقرة وبین العادیین من الناس، فى حین أن النتائج العلمیة الحدیثة تتجه معظمها إلى تأکید أوجه الشبه بین هذین الطرفین، على أساس أن الاختلاف بینهما ـ وهو ما لا یمکن انکاره ـ إنما هو اختلاف فى الدرجة لا فى النوع." ([x])

 

    والحقیقة أن هذه الدراسات قد بدأت حتى من قبل تسمیة هذه الظاهرة الإبداعیة باسم العبقریة؛ إذ سبقت الأعمال العبقریة فى الواقع اکتشاف المفهوم بزمن طویل فکان اهتمامهم بقدرة إبداعیة خارقة دارت أراؤهم فى دراستها حول محورین أساسیین سواء فى دراسة هذه القدرة فى الفن أم فى أى نشاط إنسانىٍّ آخر وهما الإلهام والجنون أو کما یسمیه البعض الهوس Mania.([xi])

واعتبروا هذه القدرة الإبداعیة مظهرًا " من مظاهر وصول التوتر فى نفس المبدع إلى ذروته وعدم قدرته على التکیف مع الجماعة بعد ذلک." ([xii])

 

     ورغم أن أفلاطون لیس هو أول من ابتکر نظریة الإلهام حیث نجدها عند کثیر من المفکرین القدامى إلا أنه یعد أشهر بل أشد المؤیدین لها، فقد أفرد لها کتابًا خاصًا هو کتاب "أیون أو عن الإلیاذة" عرض فیه لنظریته "العبقریة إلهام"، فیرى: " أن الشاعر کائن أثیرى مقدس ذو جناحین لا یمکن أن یبتکر قبل أن یلهم فیفقد صوابه وعقله، ومادام الإنسان یحتفظ بعقله فإنه لا یستطیع أن ینظم الشعر." ([xiii])

 

     فالشاعر عند أفلاطون لا یقدر أن یبتکر الشعر بمفرده دون أن یتلقاه إلهامًا من مصدر إلهى مقدس وهو فى هذه اللحظة ـ لحظة تلقیه الإلهام ـ یفقد صوابه وعقله الذى یقدر بدونه نظم الشعر الرائع فلو أنه احتفظ بعقله لما استطاع نظمه أبدًا.

ففقدان الصواب والعقل أو بمعنى آخر الإصابة بداء الجنون أو الهوس یرتبطان بنظریة الإلهام الشعرى عند أفلاطون وقد یکون هو أول من ربط بینهما ـ بین الإلهام والجنون ـ وتبعه فی ذلک عدد کبیر من الفلاسفة والمفکرین، والذین لم یقتصروا على ربط الإلهام بالجنون فقط  وإنما اتسعت معهم دائرة ربط الإلهام بکافة أنواع المرض العقلى والنفسى والجسمى.

 

     واستمر هذا الربط حتى النصف الثانى من القرن التاسع عشر خاصة فى إیطالیا وفرنسا.

وتعددت أشکال الربط بین کل من الجنون والعبقریة وأصبحت العلاقة بینهما علاقة السبب والمسبب. فجعل بعض العلماء من العبقریة نتیجة للجنون وجعله آخرون مظهرًا من مظاهر العبقریة.

 

     أى أن جنون الفنان ومرضه النفسى أو العقلى قد یکن نتیجة مصاحِبةً لعبقریته، لا عبقریته هى التى تصاحب جنونه وتنتج عنه.

 

     ویرى الدکتور مصطفى سویف أن "هذا الرأى الأخیر أقرب إلى الاتجاه السائد لدى عدد   کبیر من علماء النفس فى الوقت الحاضر" ([xiv])

وهو الأقرب فی ظننا للاتجاه الصحیح، فالرأى الأول والذى یجعل فیه العلماء العبقریة نتیجة للجنون یقرب بشکل کبیر من رأى أفلاطون الذى یغیِّب دور العقل وقت الإلهام و یصیبه بالجنون کشرط أساسى لنظم الشعر. خاصة وأنه قد سبق وأن أشار أرسطو اإلى ربط أفلاطون للإلهام بالجنون وذلک فى کتابه (فن الشعر) وعلى وجه التحدید ضمن مناقشته للخیال الشعرى فذکر أن "أقدر الشعراء هم أولئک الذین یشارکون أشخاصهم مشاعرهم لما بینهم وبین الناس من مشابه، والحق أن أقدر الناس تعبیرًاعن الشقاء من کان الشقاء فى نفسه، وأقدرهم تعبیرًا عن الغضب من استطاع أن یملأ بالغضب قلبه. ولهذا فإن فن الشعر من شأن الموهوبین بالفطرة أو ذوى العواطف الجیاشة: فالأولون أکثر تهیؤًا للتکیف مع أحوال أشخاصهم، والآخرون أشد استسلامًا للنوبات الجنونیة الشعریة " ([xv])

فعند أرسطو ینفصل الإلهام عن الجنون ویکون الأولى بنظم الشعر أصحاب الموهبة الفطریة الذین فطروا علیها لا الذین ذهب عقلهم وقت الإلهام فنظموا لنا أشعارهم.

 

    وهو فهم قریب إلى فهمنا الحدیث وبعید فى الوقت ذاته، قریبٌ فی إبعاده الجنون عن أن یکونَ هو أساس العملیة الشعریة. وبعیدٌ فى إحلاله العبقریة محلّ الموهبة الفطریة وکأنهما متساویان، بالرغم من الفرق الکبیر بین العبقریة ومجرد الموهبة.

 

    ورَغْمَ ارتباط المفهومین منذ بدایة القرن الماضى إلا أن هذا الارتباط لیس هو ارتباط الترادف والتماثل وإنما هما مختلفان یفرق بینهما النقد الحدیث.

 

    ومنذ تعریف مارلاند Marland للموهبة والذى تم تقدیمه فى بدایات العقد الثامن من القرن الماضى وبالتحدید فی عام1972م ونحن نتعامل مع الموهبة على أنها " تعبر عن استعداد فطرى یولد الفرد مزودًا به، ومن ثم لا یکون له أى دخل فى ذلک إِذْ إِنه کاستعداد یعد بمثابة شىء موروث یتعلق بمجال أو أکثر من مجالات السلوک الإنسانی" ([xvi])

 

    ومن وجهة نظر ماى May,1959  فإن هذا الاستعداد الفطرى " یعبر عن الفرصة المتاحة لولادة شیء جدید، وهو تعبیر الفرد العادى عن ذاته فى إطار عمله من أجل تحقیق ذاته" ([xvii]) ولکنه لا یضمن له الفن الجید کما تضمنه له العبقریة.

وهذا هو أول حدود التفریق بینهما. فالموهبة وحدها لا تکفى وإن کانت هى بمثابة نقطة البدایة لکل عبقرى خلاق. فلا تنشأ العبقریة من العدم وإنما تبدأ بمجرد الموهبة.

 

     وقد لا یصبح کلُّ موهوبٍ عبقریًّا ولکن یستحیل أن یکون العبقرىُّ غیرَ موهوبٍ فى أساسه وأخذ بموهبته وطورها ونّماها بعقله الخالق ووعیه بقواعد الفن المختلفة.

 

     " وقد أجرى (دین کیث سیمونتن) دراسة عن (ألفین وستة وثلاثین) عالمًا مبدعًا عبر التاریخ واکتشف حینئذ أمرًا أثار دهشته ـ ولکنه أمر مفهوم لدینا حالیًا ـ وهو أن أکثر العلماء شُهرةً لم یقتصر إنتاجهم على أنهم قد انتجوا أیضًا أعمالاً أسوأ من أعمال العلماء الآخرین." ([xviii])

فربما صدرت أعمالهم تلک والتى وصفت بأنها الأسوأ من أعمال الآخرین عن مجرد مواهبهم العامة، التى "تدفعها إلى تألیف الشعر ظروف عارضة أو الإرادة المحضة بدلاً من الإلهام الذی یصدر عن طبیعة عبقریة خلاقة"([xix])، فهؤلاء العباقرة العظام لا یکتفون بمجرد مواهبهم التی تمیز ذواتهم وتجعل لهم البصمة المختلفة عن بصمات الآخرین وإنما کانوا یدعمونها بالدراسة والوعى والمِران الکافى لصقلها.

فیطلعون على أعمال غیرهم ویدرسونها لیحللوا أسالیب وبناء أصحابها فیها ویکون إطلاعهم هذا بمثابة الدراسة بالنسبة لهم.

 

     فالفنان عندما یطّلع على التراث الفنى یعیشه بکل مافیه ویُسْکِنُه عقله اللاواعى متمنیًا أن ینتج مثل هذا العمل ولا یهدأ حتى یبدع عملاً یشبهه مستدعیًا ما حفظه فى عقله اللاواعى مستعرضًا وکأنه خلقٌ من جدید.

 



([i])  النقد الأدبى فى القرن العشرین / ترجمة د.قاسم المقداد / منشورات وزارة الثقافة ـ المعهد العالى للفنون المسرحیة/ دمشق/ 1993م/ 241.

([ii])  أدونیس/ الثابت والمتحول / دار السَّاقى / ج4 / 52.

([iii])  المختار من نقد ت.س.إلیوت / مختار من کتاب الغابة المقدسة / اختیار وترجمة وتقدیم: ماهر شفیق فرید / تصدیر:جابر عصفور/ المجلس الأعلى للثقافة / 2000م/ ج1/ 142.

[iv]))  تونى بوزان / قوة الذکاء الإبداعى/عشر طرق لتحقیق أقصى استفادة من ذکائک الإبداعی، مکتبة جری، ط. الأولى، المملکة العربیة السعودیة، 2005م./ 135.

([v])  بنیلوبى مرَّى/ العبقریة تاریخ الفکرة / 14 نقلاً عن: Johann Caspar Lavater,Physiognomishe Fragment, (Leipzig,1778) vol.4p, and see H.M.Jones, Revolution and Romances (Cambridge, Mass.,1974), P.283.

(7)  القرآن الکریم: الآیة76 من سورة الرحمن.

(8)  انظر: الخلیل بن أحمد الفراهیدى / کتاب العین / تحقیق د. مهدی المخزومی، د.إبراهیم السامرائی/ تصحیح أسعد الطیب / انتشارات أسوه / ج2 / مادة عبقر/ 298  + ابن منظور/ لسان العرب / تحقیق عبد الله على الکبیر، محمد أحمد حسب الله، هاشم محمد الشاذلی/ دار المعارف / القاهرة / ج4 / مادة عبقر /2788ـ 2789 + الفیروزآبادی/ القاموس المحیط / دار الجیل / بیروت / ح 2/ فصل العین باب الراء /  86 + الزبیدى/ تاج العروس/ دراسة وتحقیق على شیرى/ دار الفکر/ 1994م/ 1414هـ/ مج7/ مادة عبقر/ 182ـ 183 + عبد الله البستانی / البستان / مکتبة لبنان / بیروت / ط1/ 1992م / جزآن فی مجلد واحد/ (ب.ع.ب)/ 686.

([viii])  أبو بکر ذکرى / العباقرة تراث الإنسانیة الخالد / دراسات فی الإسلام یصدرها المجلس الأعلى للشئون الإسلامیة / القاهرة / إشراف: محمد توفیق عویضه / ع64 / 1386هـ 1966م/8.

([ix])  بنیلوبى مرَّى / العبقریة تاریخ الفکرة /14.

([x])  د.مصطفى سویف / العبقریة فی الفن / الهیئة المصریة العامة للکتاب / 1993م / 7.

(12)  تشیر لفظة  Mania فی اللغة الیونانیة القدیمة إلى حماسة المبدع وهیاج المجنون.

 ولمزید من التفصیل راجع د.مراد وهبة / مُلاک الحقیقة المطلقة / الهیئة المصریة العامة للکتاب / طبعة خاصة تصدرها دار قباء ضمن مشروع مکتبة الأسرة / 1999م (الجزء الخاص بالإبداع والجنون) ص259 ـ263.

(13)  د.صلاح فضل / مناهج النقد المعاصر/ دار الآفاق العربیة / 67ـ 68.

([xiii])  د.مصطفى سویف / العبقریة فی الفن /9.

([xiv]) د.مصطفى سویف / العبقریة فی الفن /13.

([xv])  أرسطو طالیس / فَنَّ الشعرـ مع الترجمة العربیة القدیمة وشروح الفارابی، وابن سینا وابن رشد، ترجمة وشرح وتحقیق عبد الرحمن بدوی، دار الثقافة، بیروت ـ لبنان / 48 ـ 49.

([xvi])  د.عادل عبد الله محمد / سیکلوچیة الموهبة / دار عربیة للطبع / القاهرة / دار الرشاد للنشر/ القاهرة / ط1/ 1425هـ ـ 2005م / 19.

([xvii])  تیسیر صبحى/ د.یوسف قطامى / مقدمة فى الموهبة والإبداع / دارالفارس للنشر والتوزیع / بیروت، المؤسسة العربیة للدراسات والنشر/ ط1/ 1992م /106.

([xviii])  تونى بوزان / قوة الذکاء الإبداعی / 138 ـ 139.

([xix])  صامویل تیلور کولردچ: کولودچ، ترجمة د. محمد مصطفی بدوی، دار المعارف، ط. الثانیة، القاهرة/ 166.

المراجع العربیة:
(1)    أبوالقاسم الشابی: موسوعة الشابى، مج. 11( صور وکلمات )، إعداد وتقدیم أبو القاسم محمد کِرّو، دار صادر، ط . الأولى ، بیروت ، 1999م.
(2)    ابن منظور: لسان العرب، تحقیق نخبة من العاملین بدار المعارف هم الأساتذة: عبد الله على الکبیر ـ محمد أحمد حسب الله ـ هاشم محمد الشاذلی، ج. الرابع والخامس، دار المعارف.
(3)    أدونیس: الثابت والمتحول ـ بحث فی الإبداع والاتباع عند العرب، ج. الرابع، دار الساقی.
(4)    أرسطو طالیس: فَنَّ الشعرـ مع الترجمة العربیة القدیمة وشروح الفارابی، وابن سینا وابن رشد، ترجمة وشرح وتحقیق عبد الرحمن بدوی، دار الثقافة، بیروت ـ لبنان.
(5)    أبوبکر ذکرى: العباقرة ـ تراث الإنسانیة الخالد، دراسات فی الإسلام یصدرها المجلس الأعلى للشئون الإسلامیة، العدد ـ 64، إشراف محمد توفیق عویضة، القاهرة، 1386هـ ـ 1966م.
(6)    د. توفیق الطویل: أسس الفلسفة، دار النهضة العربیة، ط. الحادیة عشرة، القاهرة، یولیو 1990م.
(7)    تیسیر صبحی ـ د. یوسف قطامی: مقدمة فی الإبداع والموهبة، دار الفارس للنشر والتوزیع، بیروت، المؤسسة العربیة للدراسات والنشر، ط. الأولى، 1992م.
(8)    الخلیل بن أحمد الفراهیدی: کتاب العین، تحقیق د. مهدی المخزومی ـ د. إبراهیم السَّامّرائی، تصحیح أسعد الطیب، ج. الثانی والثالث، انتشارات أسوة ( التابعة لمنظمة الأوقاف والأمور الخیریة ).
 
(9)    الزبیدی ( محب الدین أبی فیض السید محمود مرتضى الحسینی الواسطى ): تاج العروس ـ من جواهر القاموس، دراسة وتحقیق على شیری، مج . الخامس والسابع، دار الفکر، 1414هـ ـ 1994م.
(10)   د. سعد جلال: المرجع فی علم النفس، دار المعارف، ط. الثانیة، مصر، 1962م.
(11)   د. صلاح فضل: مناهج النقد الأدبی المعاصر، دار الآفاق العربیة.
(12)   د. عادل عبد الله محمد: سیکلوچیة الموهبة، عربیة للطباعة والنشر، دار الرشاد للنشر، ط. الأولى، القاهرة، 1425هـ ـ 2005م .
 (13) د عبد اللطیف محمد خلیفة: الحدس والإبداع، دار غریب، القاهرة، 2000م.
(14)   الفیروزآبادی ( مجد الدین محمد بن یعقوب ): القاموس المحیط، ج. الأول والثانی، دار الجیل، بیروت ـ لبنان.
(15)  د.محمد مصطفى بدوى / دراسات فى الشعر والمسرح / دار المعارف / الإسکندریة / ط2 / 1979م
(16)   د. مراد وهبه: مُلاک الحقیقة المطلقة، الهیئة المصریة العامة للکتاب، مکتبة الأسرة، 1999 م.
 
(17)   د. مصطفی سویف: العبقریة فی الفن، الهیئة المصریة العامة للکتاب، 1993م.
 
 (18) یحیی حقى: فجر القصة المصریة، الکتابات النقدیة (1)، الهیئة المصریة العامة للکتاب، ط. الثانیة، 1987م.
 
المراجع الأجنبیة:
 
(1)    بنیلوبی مرَّی: العبقریة ـ تاریخ الفکر، ترجمة محمد عبد الواحد محمّد، مراجعة عبد الغفار مکاوی، عالم المعرفة ـ سلسلة کتب ثقافة شهریة یصدرها المجلس الوطنی للثقافة والفنون والآداب، العدد ـ 208، الکویت، ذو القعدة 1416هـ ـ أبریل / نسیان 1996م.
 (2)   المختار من نقد ت.س.إلیوت، اختیار وترجمة وتقدیم ماهر شفیق فرید، تصدیر د. جابر أحمد عصفور، 3 أجزاء، المجلس الأعلى للثقافة، 2000م.
(3)    تونی بوزان: قوة الذکاء الإبداعی ـ عشر طرق لتحقیق أقصى استفادة من ذکائک الإبداعی، مکتبة جری، ط. الأولى، المملکة العربیة السعودیة، 2005م.
(4)    چان إیڤ تادییه: النقد الأدبی فی القرن العشرین، ترجمة د. قاسم المقداد، منشورات وزارة الثقافة ـ المعهد العالی للفنون المسرحیة، دمشق ـ 1993م.
العنوان الأصلی للکتاب:
Jean yves tadié , Lacritque Litteraite Au xxe Siecie , Les Dossiers Bel Fond 1987.
 
(5)    چرمین بری: البیرکامو ، ترجمة جبرا إبراهیم جبرا ، المؤسسة العربیة للدراسات والنشر ، ط. الثانیة، بیروت ـ لبنان، 1981م.
(6)    الأدیب وصناعته، إشراف روی کاودن، ترجمة جبرا إبراهیم جبرا، منشورات مکتبة منیمنة ـ بیروت بالإشتراک مع مؤسسة فرنکلین للطباعة والنشر، بیروت ـ نیویورک 1962م.
          (7)     صامویل تیلور کولردچ: کولودچ، ترجمة د. محمد مصطفی بدوی، دار المعارف، ط. الثانیة، القاهرة.