السيرة الهلالية والتلقي الشعبي دراسة في أشکال الاستجابة الجماهيرية

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

أستاذ الأدب الشعبي المساعد بقسم اللغة العربية وآدابها - کلية الآداب، جامعة القاهرة

المستخلص

سعت هذه الدراسة إلى البحث في أسباب استمرارية التلقي الشعبي للسيرة الهلاليــة، في ضوء علاقة الجمهور بها، فاستعرضت الأشکال المتعددة للاستجابة الجماهيريـــة. وقد تنوعت هذه الاستجابات بتنوع وظائف السيرة التي تؤديها في سياقاتها الأدائية المختلفة. وقد أجملت الدراسة هذه الاستجابات في ست، هي على النحــو التالي:-
1- الاستجابة الحماسية أو البطولية، على نحو ما تعکسه مشاهد الحرب التي يؤديها الراوي.
2- الاستجابة الغرائزية، من خلال بعض المشاهد التي تثير غرائز الجمهور، کتلک التي تتوقف عند وصف مفاتن المرأة وجمالها.
3- الاستجابة الجغرافية، التي تسعى إلى الوقوف عند تنوعات أداء الهلالية ما بين جنوب مصر وشمالها، سواء من حيث طبيعة الآلات الموسيقية أو طبيعة النص في کل منهما.
4- الاستجابة الجندرية؛ حيث التوقف   عند دور کل من المرأة في تلقي الهلال.
5- الاستجابة القبلية، من خلال التوقف عند الدور الذي يلعبه الانتماء القبلي ما بين أمارة أو زغابة أو أشراف في تلقـي الهلالية.
6- الاستجابة الإلکترونية؛ اعتمادا على أثر المتغيرات التکنولوجية الراهنة التي تسيطر على المجتمع المصـري. فقد کان للتلقي الإلکتروني أثره في إبراز خصائص جديدة للهلالية، سواء من حيث الرواة أو الجمهور أو طببيعة الحکايات المختارة لعرضها على المواقع الإلکترونية مثل اليوتيوب. 

الكلمات الرئيسية


مقدمة:

یمکن القول - من منظور علاقات القوة بین القارئ/ الجمهور والنص الأدبی المدون- "إن هناک علاقة سیطرة أو تبعیة أو تکافؤ بین القارئ والنص"(1)؛ ومن ثم فإن دور الجمهور سلبی فی تلقی فنون الروایة والشعر والقصة القصیرة عند قراءتها بمعزل عن مؤلفها. هذا رغم وجود النظریات الحدیثة التی تعتد بدور القارئ، وتعتبره قارئا ضمنیا؛ للدلالة على "أنواع البراعة التی یملکها القراء الحقیقیون"(2). وهو- کذلک- القارئ الضمنی بحسب إیکو، والقارئ المؤلفی أو الجمهور المؤلفی بحسب رابینوفیتز، والقارئ الصوری عند جیبسون(3). هذا بالرغم من اختزال دور القارئ فی هذه النظریات- خاصة فی ظل اختفاء المؤلف الذی یخاطب القراء على نحو مباشر- فی مجرد التفسیر، ولیس المشارکة فی إنتاج النص؛ لذلک فإن درجة المشارکة الجماهیریة أعلى مع تلقی الفنون التی تعتمد على الأداء والمواجهة المباشرة، من خلال ردود أفعال الجماهیر، مثل الخطب. فالخطب الدینیة تعکس مدى تجاوب الجمهور مع الخطبة بالإنصات الشدید تارة، أو باستخدام عبارات "الله"، أو بالتهلیل على غرار جمهور الشیخ الشعراوی وما إلى ذلک تارة أخرى. ویحدثنا عماد عبداللطیف عن التصفیق بوصفه أحد مؤشرات استجابة الجمهور للخطب السیاسیة بالقبول أو الرفض، من خلال مدة التصفیق أو قوته وانخفاضه، متوقفا عند دراسة ذلک فی خطب الرؤساء المصریین الثلاثة: عبد الناصر والسادات ومبارک(4). ویقترب من ذلک جمهور المسرح، من خلال "هذا الدور التفاعلی الجدلی للجمهور"(5). غیر أن هذه الأدوار التی تؤکد درجة من الاستجابة، تؤکد فی الوقت نفسه قهر الجمهور؛ لأنه لا یملک القدرة على تغییر ما یُلقى علیه؛ لذلک فإن الأمر مع النص الشعبی والمدونات الإلکترونیة مختلف إلى حد کبیر. فللجمهور الحق والقدرة على التغییر، والتدخل بإبداء رأیه فیما یعتقد أنه یحتاج إلى ذلک. وإذا کان الأمر مع المدونات الإلکترونیة لا یعدو کونه إعجابًا Like أو تعلیقًا  Comment أو مشارکة Sharing، فإنه مع النص الشعبی یعد أحد وسائل استمراریة تألیفه واستمراریته، فمع کل أداء جماهیری جدید للنص الشعبی نحن أمام عمل إبداعی جدید؛ نظرًا لما یضفیه کل من المؤدی والجمهور مع هذا السیاق الأدائی الجدید. ویشیر أحمد مرسی إلى أن جمهور المتلقین الذین یستقبلون هذه المادة یعد أحد أهم عناصر العملیة الأدائیة(6). وما نرید أن نخلص إلیه، أن نظریات القراءة المنتجة أسهمت خلال الفترة الأخیرة إسهامات مهمة فی السرد، منها أنها "أعادت وضع الکاتب والقارئ جنبًا إلى جنب مع النص، بوصفهما عنصرین ینبغی أن یؤخذا بنظر الاعتبار فی أیة نظریة ملائمة"(7).

تتعدد روایات السیرة الهلالیة بوصفها نصًّا شعبیًّا بین المدون والشفاهی، وهذه الأخیرة تتنوع أداءاتها، سواء فی مصر بین الأداء الجنوبی والشمالی، أو من حیث تعدد هذه الأداءات بین ما هو داخل مصر وما هو خارجها، عربیًّا کان أو أفریقیًّا. کل هذا التنوع والثراء الأدائی بین المدون والشفاهی، أو بین الشفاهی والشفاهی، یمنح السیرة الهلالیة ثراء وخصوبة فی تنوع الاستجابة الجماهیریة لها. والهلالیة بوصفها عملاً إبداعیًّا، فإنها بقدر ما تعد نصًّا أدبیًّا، فإنها تمثل عرضًا شعبیًّا جماهیریًّا، وهو الأمر الذی یمیز تلقیها جماهیریا عن تلقی تلک النصوص الفردیة المدونة، على نحو ما یتمیز به عرض الهلالیة- وکذلک نصها- من تفاعل جماهیری بین المؤدی/ الشاعر والجمهور؛ إذ یؤثر کل منهما فی الآخر، على النحو الذی یترک أثره على النص المروی، وکذلک على نحو تتعدد معه استجابات هذا الجمهور. وبشکل مبدئی یمکن حصر هذه الاستجابات على النحو التالی:

-     الاستجابة البطولیة/ الحماسیة

-     الاستجابة الغرائزیة/ العاطفیة

-     الاستجابة الجغرافیة

-     الاستجابة الجندریة

-     الاستجابة القبلیة

-     الاستجابة الإلکترونیة

تسعى هذه الدراسة إلى التوقف عند معالجة أداء السیرة الهلالیة فی صورتیه الشفاهیة والمدونة، معتمدة على عدد من مرویات الهلالیة المدونة، وبعض روایاتها الشفاهیة المباشرة أو الإلکترونیة، التی تمثل جنوب مصر وشمالها، هذا إلى جانب الاعتماد على روایة نیجیریة (عرب الشوا)؛ بهدف إبراز هذا التنوع الأدائی؛ ومن ثم التنوع فی استجابات الجمهور المتلقی لها.

(1)

تتعدد أشکال الاستجابة لدى جمهور السیرة الهلالیة أثناء أدائها، بحسب الوظیفة التی یرغب الراوی الشعبی فی ترسیخها، وکذلک بحسب طبیعة نص الحکایة الهلالیة المختارة، وبحسب طبیعة الجمهور نفسه. ویمکن حصر أشکال هذه الاستجابات على النحو التالی:

أولا: الاستجابة البطولیة/ الحماسیة

تخاطب السیرة الهلالیة جمهورا ناضجا معظمه من الرجال، ولیس من الأطفال على نحو ما یتمثل ذلک فی جمهور الحوادیت(8)؛ ومن ثم یعد إلهاب حماس قطاع من هذا الجمهور أحد وظائفها التی تسعى إلى تحقیقها عند جمهورها. وتعد مشاهد الحروب فیها من المشاهد التی تلعب دورا مهما فی إلهاب حماس هذا الجمهور، فیتفاعل معها ذلک الجمهور بدرجة کبیرة. فسیرة بنی هلال عبارة عن سلسلة من الحروب، فما إن تنتهی حرب إلا وتبدأ أخرى على نحو أشد. وهذا ما ترویه الهلالیة فی مراحلها الأربع "الموالید، والریادة والتغریبة والأیتام"، سواء فی نصوصها المدونة أو روایاتها الشفاهیة. ویعد مشهد الحرب من أکثر المشاهد اختلافا فی إیقاعه الموسیقی والصوتی، وفی محاولة الراوی أن یتقمص شخصیة المتبارزین، معتمدا على تمثل هذا المشهد تمثلا دقیقا، مستخدما یدیه تارة، وقوس الربابة تارة أخرى بوصفها سیفا، وقد یساعده بعض أفراد فرقته الموسیقیة فی إلهاب حماس الجمهور، ذلک الجمهور الذی ینتظر هذا المشهد بشغف کبیر، ویتفاعل- فی إنصات شدید- مع هذا المشهد. ویکفی أن نضـرب مثالا هنا بالتوقف عند وصف مشهد حرب– من بین مشاهد الحروب المتعددة فی الهلالیة- وهو مشهد وصف حرب فی السیرة الهلالیة الشفاهیة، للشاعر محمد الیمنی(9)؛ حیث یخوض البطل أبوالحلقان بن أبی زید الهلالی حربا شرسة ضد الفارس سلمان– أحد قطاع الطرق- من أجل ابنة عمه سبیکة ابنة السلطان حسن بن سرحان؛ دفاعا عن عرضه وشرفه. وسنعرض لهذا المشهد الوصفی للحرب کاملا- رغم طوله- لتأکید ترکیز السیر العربیة على إبراز مشاهد الحروب وتکرارها؛ تلبیة لغرائز وقیم شعوریة ولاشعوریة فی نفوس الجمهور المتلقی لها، على رأس هذه القیم- بالطبع- قیمة الفروسیة.

ونزلوا مع بعض لتنین

یا لطیف یلَّا السلامه

من  الصبح لما أضلم اللیل

وبانت هوایل القیامه

*   *   *

ولتنین عطوها لفَّات

لتنین عطوها لفَّات

وداقوا کاسات الندامه

عیکوشوا على بعض کِی(10) آفات

وسلمان وابن سلامه

*   *   *

خلوا الطعن یا اخی تانی یوم

یادی العچب والعچایب

آهو الحلو ذاقوه علقوم(11)

وواقفه عموم الحبایب

*   *   *

وقَّفوها تالت یوم

الطعن یا اخی تالت یوم

وتاچی العواقب سلامه

وملمومه کل القوم

وحده خلوفة سلامه

*   *   *

لما تعب منهم دا لحصان

الحصان تعب دا منهم

وسلمان أبدى یقول إیه:

یا ولد تاخد ولا تچیب؟

إکْفایه تلات لیالی

أنا امْعایا نا دابوا الجلالیب

إتچیب یا ابن الهلالی


*   *   *

یا ولد إتچْیب ولا تلقىا؟

إتْچیب ولا تلقىا یا واد؟ هنا الولد أبدى یقُلُّه:

وفِ السن أنا اقل منَّک

وع الید ماسک الیمانی

إنت هات واتلقَّىا منَّک

ولد یوم عیشش یومانی

*   *   *

هنا سلمان صرخ لما چاه

على کد عینه ماشایف

وعقف له السیف مِناداه

وییچی مقدم العود هایف

*   *   *

اتعدل تانی عمل کیف؟

قال: المولى یلطف بحالی

وسلمان لما عقف السیف

خلا منُه ابن الهلالی

*   *   *

وشیَّع له التلاته عدُّوا

وشیَّع له التلاته عدُّوا

قال: المولىا یلطف بحالی

وعیب اللى یخلف معادُّه(12)

یا یتمکم یا عیالی

*   *   *

وسلمان لما هافوا مِنِّیه

وتاچی العواقب سلامه

ابن ابو زید عقله شت مِنِّیه

وناوی یسقیه الندامه

*   *   *

قلُّه: یا هلس اتلقَّىا مِنِّی

ما أحلاک یاما أحلى شبابک!!

وعقلی لما شت منِّی

فی یومی لأعدم شبابک

*   *   *

إنت فاهم دِیَّ مِنِّین؟

إنت فاهمها دیَّ منین؟

وانت سبع فوق البهیمه

إُبقى اسأل شوفها مِنِّین؟

وادیک وقعت فِ جریمه

*   *   *

الولد اتعدل واهو چاه

ابن ابو زید اتعدل واهو چاه

وع الید ماسک الیمانی

وعقف له السیف مناداه

قام چابه تلات کیمانی

*   *   *

وقع قائد الجیش ولَّت القوه

والولد جسمه ما حامل خلایق

الولد أبو زید چاته شده بقوه

فیکم ما ابقِّی خلایق

*   *   *

إن أداء الشاعر لمشهد الحرب السابق لا یقتصر على الإنشاد فحسب، الذی قد یبطِّئ إیقاعه تارة أو یسرِّعه تارة أخرى ، بل یقوم بالتمثیل على خشبة المسـرح، وتجسید أدوار الشخصیات المختلفة فی السیرة عن طریق الاعتماد على جسده (الأیدی والإشارات والإیماءات والعیون وتغییر نبرات صوته .... إلخ)، أو من خلال الاعتماد على العصا التی یمسکها، بتحریکها یمینا وشمالا، أو إلى أعلى وأسفل، أو بالاعتماد على قوس الرباب، أو أحد أعضاء فرقته.

وتنبغی الإشارة إلى أن عادة استخدام العصا والأقواس عادة عربیة صحراویة شفویة، یعرفها العرب منذ العصر الجاهلی أثناء إلقاء الشعر. فـ "عرب الصحراء کانت لدیهم عادة عجرفیة بالتلویح بالأقواس والعصی فی أحادیث وإنشادات الشعر العلنیة وذلک من أجل التأکید وربما بمثابة أداة عون إیقاعیة"(13). وقد اتخذ الشعوبیون من هذه العادة دلیلا على أنها علامة تخلف العرب، فاتخذوها ذریعة للهجوم على العرب ورمیهم بالتخلف. غیر أن هذه العادة لها علاقة قویة بطبیعة المجتمع العربی الشفاهی؛ إذ کانت أداة عون للذاکرة والإیقاع؛ ومن ثم فإن لها دلالة خاصة إذا ما قورنت بالحقائق المدونة. إن "الشعراء قد استعملوا مثل أدوات العون الإیقاعیة هذه فی العصـر الجاهلی کما استعملها أیضًا الکهان والأنبیاء. إن أدوات العون الإیقاعیة ضروریة لنظم الشعرالشفوی. وقد لاحظ لورد أنه عندما یجرد المغنی الیوغوسلافی من الأداة الموسیقیة المصاحبة له فإنه یفقد دقته، ویبدأ فی إنتاج أبیات غیر منتظمة، نصفها نثر ونصفها شعر.ومن حسن الحظ فقد دونت لنا الشعوبیة تلک العادة وذلک سخریة منهم بها. لقد میز الجاحظ (المتوفی سنة 869 م) – والذی یُفترَض أنه شاهد إبداعات البدو للشعر الشفوی- بین النظم الشفوی والنظم المتعلم، وذلک فی دفاعه عن العرب ضد الاتهامات المناوئة التی کانت تثیرها الشعوبیة"(14).

وتجدر بنا الإشارة إلى أن الترکیز على مشاهد الحرب یمثل تیمة رئیسة فی کل السیر الشعبیة العربیة، باستثناء سیرة واحدة تتوسل للوصول إلى أهدافها بالمعرفة والعقل، بدلًا من القوة والحرب، وهی سیرة "علی الزبیق". ولعل ما نرید أن نؤکده فی هذا الشأن، أن مشهد الحرب یعد تقنیة أساسیة تقوم علیها السیر العربیة، وتشترک معها فیه الملاحم الغربیة، هذا بالرغم من اختلاف أسباب هذه الحروب، وأشکالها(15).

(2)

ثانیًا: الاستجابة الغرائزیة/ العاطفیة

یتمثل أحد جوانب استجابة الراوی الشعبی للجمهور فی تلبیته رغبة الجمهور فی الاستماع إلى إحدى القصص الهلالیة التی تغطی احتیاجا غرائزیا؛ نظرا لما تتضمنه من وصف تفاصیل جسد المرأة وصف حسیا. فمشهد وصف المرأة یحظى بحالة من الشغف الجماهیری، الأمر الذی أدى بجمهور لیس جمهور السیرة الأساسی إلى اقتطاع هذا المشهد الوصفی وتوظیفه توظیفا جماهیریا مختلفا فی صعید مصر عبر وسیلة الـ D. G، واستخدامها فی الأفراح ذات الطابع الحداثی المغایر للطابع التقلیدی الذی تؤدى فیه الهلالیة. ففی هذه الأفراح التی تُعقد فی المدن، والتی تستخدم أغانی أفراح من الأغانی الشائعة(16) ولیست الشعبیة، والتی لا یُستخدم فیها الراوی الشعبی أو السیرة الهلالیة. ففی مثل هذه الأفراح لاحظ الباحث أن السیرة الهلالیة تُختزل فی هذا المشهد الوصفی المقتطع لجمال المرأة. کما لاحظ- أیضا- أنه بالرغم من اقتطاع هذا المشهد من سیاق استخدامه الطبیعی فی الهلالیة؛ إذ أصبح مقطعا غنائیا مستقلا، فإنه یحظى بالجماهیریة نفسها بین قطاع الجمهور المغایر. وعادة ما یکون هذا المقطع- سواء فی أدائه الطبیعی أو المقتطع- مصحوبا بتراقص الجمهور، ممسکین- أحیانا- بالعصا فی أیدیهم، ویحرکونها على نحو یکون مصحوبا بتمایل أجسادهم یمینا وشمالا فی حالة أشبه ما تکون بحالة الوجد الصوفی. وتتعدد مشاهد وصف جمال المرأة فی السیرة الهلالیة، من ذلک وصف الجازیة ابنة السلطان سرحان، ووطفا ابنة دیاب بن غانم، ودوابة ابنة الخفاجى عامر، وعزیزة ابنة السلطان معبد، وغیرهنَّ الکثیر. ومن بین استخدامات هذا المشهد ما جاء على لسان الراوی الشعبی محمد الیمنی فی وصف جمال سبیکة ابنة السلطان حسن بن سرحان، عندما أراد أن یصفها أبو الحلقان لأبیه أبی زید الهلالی؛ لیقنعه بضرورة الزواج منها. والمشهد یتناول عناصر جمال المرأة العربیة المتوارثة؛ إذ یصف المرأة من رأسها حتى قدمها، مرورا بکل تفاصیل هذا الجسد العربی.

"قوم ابو زید قله: یا واد شفتها بعینک انت؟.. قلُّه: واتملِّیت فیها، قلُّه: طب ممکن توصفهالی؟.. أشوف ذوقک لیه معنى ولَّا چبان؟ أوصفهالی.. فقال ایه الواد لابوه.. لما عاوز الصبیه.. هیزیدها حلاوه.. صلِّی علیه.

 

قال: چمیله وکامله الزین

ملیحه بنت السلطان

یا بایا لابسه قمیصین

على دوله لابسه فستان

*   *   *

لابسه من الطباطیب

کل بدله ولیها ألوان

طالقه مسک وطیب

بالیلک(17)  مع القمصان

مِنْ شافها العلیل یطیب

لو کان سنتین عیان

یا لیل . . یا لیل ..

الواد اللى عیوصفها وأبو زید یسمع الوصفه.. یتماوچ یمین وشمال

لابسه توب عین الحمامه

یا دوبک ع الجسم بان

یا بایا وتوب خفیِّف

عچبتنی بنت السلطان

من شافها ابو عقل خفیّف

یسیب خلقاته(18)ویطیر عریان

یا لیل یا لیل یا عینی یا
عینی..

یا لیل . . یا لیـ .

عاصبه(19) العاصبه محلاوی

عاطیاها تکْیه(20) شمال

بلاوی یا دنیا بلاوی

علیَّ حکمت لیَّام(21)

یا لیل .. یا لیل .. یا لیل..
هیه . .

قلُّه: فیها شعر أصفر

تقول سلب چمال

وفیها الجبین واسع

یا بایا هلال شعبان

علیها الأنف طیِّب

تقول بلحه من الشام

فیها جوز عیون

تحلف تقول عیون غزلان

یا لیل یا لیل ..

الواد قعد یوصف فیها لأبوه.. علشان أبوه یقتنع، ویچیبهاله..

قلُّه: فیها فم ضیق

تقول: خاتم سلیمان

إسنانها فیها ظَبْیه

حبیبی لولی ومرجان

فیها الرقبه طویله

حبیبی الصایغ نعسان

علیها صدر واسع

تقول بلاط حمام

تنزل تلقى جنینه

فیها خوخ وفیها رمان

اللى معاه واحده غشیمه

من دلوق یلقالْها مکان

یا لیل یا لیل یا عینی یا عینی.. آه.."(22)

*   *   *

ومن الأجزاء التی تلقى جماهیریة کبرى تلک المواویل التی تتغنى بـ "عزیزة" ابنة السلطان معبد، خاصة فی علاقتها بیونس، أو المواویل المرتبطة بـ "دوابة" ابنة الخفاجى عامر، خاصة فی حزنها على فراق أبیها. وتنبغی الإشارة إلى أن معظم هذه المواویل انفصلت عن نص السیرة الهلالیة، وصارت مستقلة. من هذه المواویل، ذلک الذی تتحدث فیه عزیزة مع یونس بعد لقائها به، وهی تخبره بأنه لن یرى أهله فی نجد مرة أخرى؛ إذ ستحبسه فی قصـر أبیها الذی بناه له؛ لیکون یونس مِلکا لها، لا یشارکها فیه أحد.

عزیزه قالت: یا یونس ادخل قصرنا شوفه

واشرب عندنا الشاى.. هات العقد أنا اشوفه

من یوم هویتک حرام النوم ما بشوفه

قلت له: یبقى کده الهجر یا ابن الکرم والمجد

أبویا راجل سلطان صاحب کرم ومجد

آنا اقُلَّک الجد حرمت علیک نجد.. حتى الشرق ما تشوفــه

*   *   *

ومن ذلک- أیضا- حدیثها مع الدلال الذی جاء لیخبرها عن عقد یونس، فراحت تسأله عن صاحب العقد، وحالها بسبب سماعها عنه، وبعده عنها.

عزیزه قالت: یا دلال خلِّی العُقد مطراحه

کلِّمنى بالصدق یونس فین مطراحه(23)

من یوم هُوِیته وانا ع الفرشه مطراحه(24)

قلت له: دانا بنت معبد ومن دون البنات زینه

أبوی بنى لی قصر ومن دون القصور زینه

طلبت منُّه الوصال.. ما رْضیش بالزینه(25)

لاخده ف سفینه وابویا یسد مطراحه

       ومن أکثر القصص الهلالیة التی لاقت قبولا جماهیریا، وطلبا من الجمهور بالاستماع إلیها، قصة "زیارة بنات هلال للمساجین فی تونس". ولعل مشهد الحوار الغنائی الغزلی بین منصور بن عمارة، بواب تونس، والجازیة ابنة السلطان سرحان، هو أکثر المشاهد التی ینتظرها الجمهور، لما یشتمل علیه من عناصر إیقاعیة وغنائیة. فهو یتخذ من الزجل شکلا شعریا. والملفت للنظر أن هذه الحواریة الغزلیة وردت فی النسخة الهلالیة المدونة، وحافظت علیها الروایات الشفاهیة فی دلتا مصـر وصعیده؛ وذلک من خلال المحافظة على الشکل الشعری الزجلی نفسه، وبعض المفردات والتراکیب اللغویة، ذلک على الرغم من أن الشائع فی بعض القصص المتشابهة، ثمة محافظةٌ على المضمون العام للقصة، مع اختلافات لغویة أو اختلافات فی الشکل الشعری المستخدم، لا سیّما فی ظل غلبة شکل القصید على النسخ المدونة، والمربع على روایة الصعید، والموال على روایة الوجه البحری. 

ینتظر الجمهور بشغف وصول الراوی إلى هذه المحاورة الغنائیة، التی تتخذ من الزجل شکلا لها. ذلک الشکل الذی یتکون من أربعة أشطر، تتفق ثلاثة منها فی قافیتها، وتختلف قافیة الشطر الرابع معها، ولکن قافیة الشطر الرابع تتکرر فی نهایة الشطر الرابع لمربعات القصیدة کلها. وهذه المحاورة کتبها المدون ـ فی التغریبة ـ فی شکل نثری، ولکن بعد إعادة کتابتها فی شکل شعری، سنجدها تأخذ الشکل الشعری التالی:

یا بوَّاب صاره

 

 

افتح للعذاره

حنا مشندر (ه)



 

 

إلى حد السوره

وروحی یا ظریفه

 

 

شاوری لنا خلیفه

له حربه رهیفه

 

 

تقسم الحجاره

یا بوَّاب منصور

 

 

افتح باب السُّور

ندخل بدستور

 

 

ونبیع العطاره.. إلخ(26)

       

وتتوالى ـ بعد ذلک ـ مربعات القصیدة، التی تتفق قافیة الشطرات الثلاثة الأولى منها ، وإن اختلفت هذه القافیة من مربع إلى آخر، فی حین تتکرر قافیه الشطر الرابع فی نهایة کل مربع منها.

وفی الروایات الشفاهیة المعاصرة، لا تزال تلک الحواریة تحظى بالجماهیریة نفسها، ففی صعید مصر تأتی روایتها على النحو التالی: "قلت له: دا انت شاعر ملیح وقولک صحیح، ولسانک فصیح، تعا نغنی ع الحرف، قلَّها: أنهی حرف؟، قلَّها: حرف الراء، قلت له: ما اسمک؟؛ علشان اقلَّک: یا فلان بنظام، قلَّها: اسمی منصور بن عماره، قلت له: یجعلک ع العدا منصور، وعلیک عمار الدیاره.

افتح یا منصور

 

 

افتح باب السُّور

سنخشُّو بدستور (یا حبیبى)

 

 

ونبیع العطاره

       

تکرر الفرقة المربع السابق(27)

یا إبن عماره

 

 

یا بواب العماره

وتسعین صبیَّه

 

 

ما توقَّفناش جباره

یا إبن عماره

 

 

یا بوَّاب العماره
>

انظر الشعور (یاحبیبی)

 

 

وعلى صدر العذاره

قال: بابی ما افتحوشی



 

لِلِّی ما اعرفوشی

خلیفه ما اضمنهوشی

 

 

لیموَّتنی خساره

       

تکرار من الفرقة:

قلت له: افتح ما تخافشـی




 

إیاک انت ما تعرفشـی

شوف الحنَّه البلغشـی

 

 

فی إیدین العذارى

       

تکرار من الفرقة:

قال: ما افتحشی یا ظریفه

 

 

خایف من خلیفه

لیه حربه رهیفه

 

 

تنفد فِ الحجاره

قلت له: افتح یا حبیبی

 

 

یا مسکی مع طیبی

خدتک من نصیبی

 

 

علیک عمار الدیاره

     

تکرار من الفرقة:

قال: خایف یا ظریفه


 

 

خایف من خلیفه

لیه حربه رهیفه

 

 

تنفد فِ الحجاره

یا ست الصبایا

 

 

ما تغنِّیش معایا

الرؤسا ورایا

 

 

لیخربوا الدیاره

     

شوف الجاز قلت له إیه.. هِهْ...

افتح یا نور عینی

 

 

افتح وانظر زینی

فیه بینک ما بینی

 

 

قعده بالاختصاراهـ

     

قلَّها: إیه اللى تقولیه.. إیه الکلام الحلو ده اللى عتقولیه دی؟!!.. قولی الکلام دا تانی یا جاز.. قالت الجاز:

افتح یا نور عینی

 

 

افتح وانظر زینی

فیه بینک ما بینی

 

 

قعده بالاختصارا (هـ)

قال: الباب فتحنا

 

 

ومعاکِ اصطلحنا

إن شلَّه خلیفه یدبحنا

 

 

فی حبک مش خساره (28)

     

*   *   *

وفی الوجه البحری (دلتا مصر) یحافظ الرواة الشعبیون على القصة نفسها بتراکیبها اللغویة وإیقاعها، وتأتی الحواریة على النحو التالی:

"الجازیة نقَّتْ تمانین صبیة من بنات هلال، ولبستهم أحلى الحریر... الجازیة قالت له: بقى تِقْفِل فى وشى الباب وأنا شاعرة بنت شاعر، قال لها: وأنا شاعر ابن شاعر، وجَدى شاعر کمان، قالت له: افرش وأنا أغطى علیک، قال لها: لأ الفرش على الحریم والغطا على الرجال.

افتح یا منصور

 

 

افتح باب السور

ندخل بدستور

 

 

نبیعوا العطاره

ریَّة قُبَالَکْ

 

 

الناعسة تِسَالَکْ

نفسى فى وصالک

 

 

یا ابن الأماره

افتح لاتبالى

 

 

حالک مثل حالى

أهنیک بوصالى

 

 

لیلى ونهاره

روحى یاصبیة

 

 

شورتک رضیة

معاکم عیال أبو ریة

 

 

یخربوا الدیاره

روحى یا ظریفة

 

 

خایف من خلیفة

لُه حَرْبَة رهیفة

 

 

تِفْلَق فى الحجاره

افتح لا تخافشى

 

 

أوریک نقشى

الحنة بلاقشى

 

 

طیب العداره

افتح یا حبیبى

 

 

یا مسکى وطیبى

وآخدک من نصیبى

 

 

یا ابن الأماره

رُدْ عَلَیَّه

 

 

وإنتَّ فى قلبک حجاره

البواب هَامْ

 

 

خد المفتاح وقام

فتح الباب

 

 

سابه على العماره

خُشوا یا صبایة

 

 

خُشوا یا بنات

سَابْ الباب مفتوح

 

 

عشـر تیام جهاره

       

خَشُّوا الصبایة زیدوا النبى صلاة، أول ما دَخَلوا البواب على الجازیة اتقدم، الجازیة قالت: إلحق یا أبوزید یا أسمر الألوان، أبو زید جِه راکب المهرة وسَاحِب السیف وضَرب البواب على رقبته طیَّرها زى الخِیَّارة"(29).

لقد حافظت الروایات ـ جمیعها (المدون منها والشفاهی، القبلی منها والبحری) ـ على اسم البواب (منصور بن عمارة)، وکذلک حافظت على حرف الروی (القافیة)، (...ـاره)، وهو ما یؤکد على سمة التواصل، سواء کان تواصلَّا زمانیًّا، القدیم/ المدون، والمعاصر/ الشفاهی، أو کان تواصلَّا جغرافیًّا، القبلی والبحری. ولعل محافظة الروایات على هذا الشکل الشعری الزجلی تعود إلى "میل المنشد إلى الترویح عن نفوس المستمعین فی موقف من مواقف الصـراع النفسـی"(30). ویتأکد ربط هذا النمط الشعری بالترویح النفسی عند الجمهور، من خلال تعلیقات الشعراء أو عباراتهم أو طرق أدائهم الترویحیة  للقصة السابقة، أثناء الأداء، أو عندما یطلب أحد الحاضرین من الراوى/ الشاعر إنشاد تلک القصة تحدیدًا دون غیرها من القصص الهلالیة، أو من خلال مصاحبة ذلک الأداء بتفاعل الجمهور وتراقصه على إیقاعها مع تردید بعض أجزائها. یؤکد ذلک تعلیق الشاعر عنتر رضوان على رغبة صاحب المناسبة التی کان یحییها، عندما طلب منه أن ینشد قصة "زیارة المساجین"، بعد ما بدأ فی قصة أخرى، علق واصفًا صاحب هذه الرغبة "أصله نفسه خضرا" (أی محب لقصص النساء)، ثم بدأ فی إنشادها. ویعلق الراوی "عقل إسماعیل" فی نهایة روایته، واصفًا "منصور" عندما همَّ بفتح الباب للبنات، بقوله: "سل لخضـر"، والتی قوبلت بضحک من الحاضرین.

 (3)

ثالثًا: الاستجابة الجغرافیة

تشیع روایة السیرة الهلالیة شفاهیا فی معظم أنحاء العالم العربی، هذا إلى جانب روایتها بین عدد من الشعوب الإفریقیة. ویقوم الراوی- فی کل روایة منها- بمراعاة ظروف کل مجتمع تُروى فیه. ففی المجتمع الفلسطینی- على سبیل المثال- یصبح أبو زید الهلالی هو نفسه شخصیة الفدائی، الذی یدافع عن وطنه الفلسطینی المغتصب. وإذا کانت قضیة أبی زید فی المجتمعات العربیة ذات البشرات الفاتحة اللون تتمثل فی سواد بشرته، والدفاع عن نسبه وشرف أمه، فهذه لیست قضیته فی المجتمعات الإفریقیة ذات البشـرة السمراء، التی لا یمثل فیها سواد بشـرة أبی زید شذوذًا؛ ومن ثم تصبح قضیة البطل لیست فی سواده، وإنما فی قوته المفرطة، التی ترعب والده رزق بن نایل. هذا ما تذهب إلیه روایة عرب الشوا بنیجیریا للسیرة الهلالیة؛ إذ لم تتطرق إلى سواد بشـرة أبی زید الهلالیة؛ ومن ثم تَمثَّل سبب الأزمة التی وقعت بین أبی زید عقب ولادته مع قبیلته فی القوة المفرطة التی اتسم بها هذا المولود، على النحو الذی أخاف أباه رزقا وقبیلته، مما ترتب علیه رحلة الغربة، ولکنها غربة القبیلة عن الطفل، ولیست غربة الطفل عن القبیلة؛ حیث إن القبیلة هی التی رحلت عن المکان تارکة الطفل وأمه والعبدة. ولم یأت هذا الاختلاف بین الروایتین إلا بسبب الاختلاف الثقافی بینهما، فسعت إلى مراعاة طبیعة الجمهور المغایر ثقافیا للجمهور العربی. فالروایة العربیة التی اتخذت من السواد سببا لغربة البطل مرتبطة بوضعیة الأسود الاجتماعیة، تلک الوضعیة التی تقرن الأسود بمجموعة من الصفات السیئة على النحو الذی تقرنه بالعبودیة والخیانة والتدنی الطبقی. ونظرًا إلى استشعار الوجدان الشعبی العربی لخطورة هذه العنصریة اللونیة فی المجتمع، وما سیترتب على ذلک من إقصاء اجتماعی وتهمیش لطبقة کبیرة فی المجتمع، وهو ما ینذر بعواقب سیئة فی المجتمع تؤدی إلى تفتت المجتمع وتقسیمه، هذا فی الوقت الذی کان ینحو فیه المجتمع العربی نحو التوحد والتجمع لمواجهة العدو الأجنبی الذی یهدد الوجود العربی؛ لذا انتصـرت هذه السیرة لحاملی هذا اللون، ورسمت صورة حامله بالمنقذ والبطل المخلص لأمته. ورغم أن النص الشعبی یحمل تشابهات عالمیة کثیرة، فإن هذه التشابهات لم تلغ خصوصیة البیئة، التی یُروى فیها هذا النص، وطبیعة الجمهور المتلقی له بخلفیاته الثقافیة والاجتماعیة. وهو الأمر الذی ینطبق- ثقافیا- على روایة الهلالیة فی نیجیریا. فعدم وجود هذه العنصـریة اللونیة فی المجتمع النیجیری؛ ونظرًا إلى تجذر اللون وترسخه فی البیئة النیجیریة، بل نظرًا إلى عدم وجود ثنائیة لونیة- کل هذا- أدی إلى عدم الإشارة إلى لون أبی زید أو لون الطائر الذی توحمت علیه خضرة الشریفة مع نساء بنی هلال فی هذه الروایة، مما أدى إلى اختلاف سبب غربة البطل(31). وتذهب هذه الروایة إلى أن أبا زید کان "من أولاد بنی هلال، واسم أمه أندة. واسم أم دیاب بزلة. ودیاب ابن عم أبو زید، بمثابة أخیه. وفی البدایة قبل أن تحمل أمامهما بهما، قالت أندة: تعالی یا بزلة نرد ]الماء [لنغسل ملابسنا، کعادة النساء. قالت لها بزلة: نعم. وحملتا أوعیتهما، ووردتا للبحر ]= النهر [. فوجدتا فرسا میتة، تأکل فیها الطیور. وکانت ]الطیور[ جماعة. ثم جاء واحد ]من الطیور [جسور طرد ]سائر [النسور، وقعد یأکل وحده. حین رأت بزلة هذا قالت لأندة: یا أندة، فی طهری هذا، إذا حملت بولد، أریده أن یکون جسورًا مثل هذا النسـر وأسمیه دیاب. فی الآخر، هبط طائر طرد هذا النسر وأمسک بالفرس ورفعها وحطها ثلاث مرات. حین رأت أندة هذا قالت لبزلة: یا بزلة، أرید فی طهری هذا، یکون لی ولد فحل ومنیع مثل هذا النسر أسمیه أبو زید. وغسلتا ملابسهما وملأتا جرتیهما وحملتاها. وعادتا إلى بیتیهما. وحملت کل واحدة منهما فی طهرهما هذا وولدت ولدا. أسمت بزلة ولیدها دیاب. وأسمت أندة ولیدها أبو زید..." (32). وتحافظ الروایة النیجیریة على الخط السـردی العام لأحداث السیرة، دون أن تؤثر علیه ما تحدثه فیها من تغییرات تلائم الخصوصیة الثقافیة للمجتمع النیجیری الراوی لها، وعلى نحو یواکب استبدال اللون الأسود، ذلک العامل الأساسی وراء أزمة أبی زید فی المجتمع العربی بالقوة المفرطة له التی تکاد أن تلتهم کل قبیلة بنی هلال إذا کبر فی کنفها. ویشیر الحجاجی إلى ذلک الاختلاف الثقافی، الذی ترک أثره فی النص الهلالی فی البیئتین؛ حیث- بحسب قوله- "تجاوزت روایة عرب الشوا عن سواد أبی زید، فهو لیس موضوعا من موضوعات السیرة وهذا متسق مع الرواة، فأبو زید الهلالی هناک هو فعلا عربی ولکنه من العرب الأفارقة، والعرب الأفارقة من جنوب الصحراء الکبرى قد اکتسبوا السواد، ومن الصعب فصل ألوانهم عن غیرهم من الأفارقة، وقد حدث تحول درامی من مشکلة سواد الطفل إلى مشکلة قدرة الطفل الفائقة حتى خاف منه الأب"(33).

وفی داخل مصر ، تختلف روایة الوجه البحری عن نظیرتها فی الوجه القبلی، سواء من حیث الشکل أو المضمون أو طبیعة الأداء. فمن حیث الشکل، یشیع فی روایة الوجه البحری القصید والموال، فی حین تغلب روایة الوجه القبلی بالمربع. فمثلا القصید التالی نجده فی روایة بحری:

لا ینام اللیل إلا أبو قلب خَالى

واللى علیه الحِمْل النوم منین جَاه

یُحْرُمْ على عینى النوم ما هى شَایَفْاه(34)

فی حین یُروى فی الوجه القبلی بالمربع التالی:

بلاوی یا دنیا بلاوی

علیَّه وحکمت لیام

ینام اللیل أبو قلب خالی

عوّال الهموم ما ینام

ونستطیع أن نتلمس ذلک الاختلاف الشکلی فی روایة قصص هلالیة کاملة من الوجه البحری فی شکل القصید والموال، فی حین تُروى فی الوجه القبلی بالمربع، الذی یتخلله الموال أحیانا، مثل قصة "الناعسة وزید العجاج"، و"علیا العقیلیة"، والریادة والتغریبة والأیتام. وسنأخذ مثالا على ذلک قصة "عزیزة ویونس". فروایتها القدیمة فی الوجه القبلی تأتی على المربع المکون من أربع شطرات، تحمل الشطرات الثلاث الأولى نفس القافیة، ویحمل الشطر الرابع قافیة مختلفة، تتوحد مع قافیة نهایة کل مربع، وهی القافیة (وه). ومن ذلک الحوار التالی الذی دار بین أبی زید وابن أخته یونس.

یونس قلُّه:

چعنا یا خال

ماتشوف لنا چیِّد نضیفوه(35)

یعنی ضیف.. واحد یضیفنا.. إیه.. ماتشوف لنا إیه.. جیِّد نضیفوه..        

قلُّه: یا وِلد اختى ولا تعلِّیش

بلاد غُرْب ماتفضحنیش

آدی العبایه وادی القمیص

اللى یکمِّل الغدا فیه نبیعوه

اللى یجیب فیهم الغدا.. نتغدَّى بیها.. وبیعَّها..

قلُّه: سلامتک وسلامة قمیصک

الشرق والغرب على کیسک

قُطع یا خال اللى من لبس قمیصک

لا بالسیف وتقرّضوه

قله:

سلمت یا قوى الهِمَّه

خایل ف لفِّ العِمَّه

معانا فِرْع من عقد شمه

یوزن بمال الغرب وابوه

الواد لمین لخاله.. قلُّه: اوصیک یا واد یا یونس..

یا واد یا ابو قلب منزَّه دایب

یا واد یا ابو قلب منزّه دایب

ماتخشش سوق العصایب

ماتخشش سوق ولا سرایات

بنات تونس دوله غوَّایات

یسقوا بعقلک الصبایات

ومنک العقد یاخدوه

وتأتی روایتها فی الوجه البحری بالقصید(36)، على النحو التالی:

جعنا یا خال أبوزید الجوع کَادِنَا(37)

والجوع یهد الجَوامل(38) الغَواضِبْ

تبدى أبوزید فى الجواب. وقال له

والله یا ابنى ما معایه لا فضه ولا دهبْ

ما معایه حاجة خالص غیر القمیص اللى دایبْ(39)

خُد القمیص ده بیعه فى البلد

وهات یا ابنى غَدا منهى وطایبْ

قال له عباد الله یا خال سلامة

تَمنْ القمیص ما یغدى شیوخ العرایبْ

الناس تِجَبَّىً الروح والعمر والتنا(40)

وإنت تِجُوْد بقمیص مَنْخُولْ(41) ودایب

تَبَدَّى أبوزید وقال له شاهد معایه

غیر إیه یا أقَلْ العرایبْ

شَافْ الکلام یونس ونادى وقال له:

تِسْلَمْ لنا یا خال ویسْلَم قمیصک

تِسلَمْ لنا عیونک الملاح الرغایبْ

معایه أنا یا خال من یفادى قمیصک

من یفادى قمیصک فى أرض المغاربْ

ومن جیبه طَلَّع عقد جواهر

نَورَّ على السجر من کل جانبْ

قال أبوزید العقد منین جبته


إحنا تُجَّارْ ولاَّ شعرا بربایب

قال له یا خال دا عقد شمَّة(42)

اللى أبویه سرحان شاف علیه التعایبْ

ویتضح من خلال المقارنة السابقة، وجود اختلاف بین روایتى الوجه البحرى والقبلى ، من حیث الشکل الشعرى الذى اتخذته کل روایة، المربع الشعرى فی الصعید، والقصید فی الوجه البحرى . أما من حیث المضمون فهناک تشابه کبیر بینهما، على النحو الذى یرد الروایتین إلى أصل مدون واحد

أما على مستوى أداء الرواة، فإن الهلالیة فی الوجه البحری (شمال مصـر) تبدو أقرب ما تکون إلى النص الهلالی المدون؛ حیث یسودها شکل القصید التقلیدی، والموال، وأحیانًا الزجل. ومن حیث الموضوعات فإن قصص الحب والثنائیات العاطفیة الأکثر شیوعا فیها، مثل قصة "عزیزة ویونس"، وقصة "رزق وحسنة". ونظرًا إلى أن الموال هو الشکل الأدبی الأکثر استخدامًا فی سیرة الوجه البحری؛ ومن ثم فالإیقاع فیها بطیء، فإن الشعراء یمیلون إلى استخدام آلات موسیقیة تتناسب وطبیعة النص والإیقاع الهلالی فیها، مثل العود Lute، والنای Flute، والکمنجة Violin cello

       
   
 
     

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


الفرقة الموسیقیة فی الوجه البحری تستخدم الکمنجة والنای

ویحرص الشعراء فی الوجه البحری على ارتداء زی معین لحظة الأداء، مثل القفطان الأبیض، الذی تعلوه "الکاکولا"، والطربوش الأحمر، وهو زی یشبه زی شیوخ الأزهر؛ وذلک بهدف إضفاء نوع من القدسیة والاحترام على روایتهم. ویتبدى ذلک فی اللغة التی یستخدمونها فی روایاتهم؛ حیث إنها لغة تعتمد على تفصیح العامیة، ویطلق علیها "العامیة المفصحة" أو "الفصحى المهشمة"(43).

 
   

 

 


الشاعر أحمد حواس،

مرتدیا الزی الأزهری أثناء الأداء

ونظرا إلى أن روایة الوجه القبلی/ الصعید یشیع فیها المربع –بالطبع إلى جانب الأنواع التقلیدیة أحیانا فی مواضع محددة- لأنه یتناسب وطبیعة الموضوعات التی تتعرض لها الروایة الجنوبیة، مثل قصص الحرب والثأر؛ لذا فإنها تمیل إلى استخدام آلات موسیقیة معینة؛ لتناسب طبیعة الإیقاع الأکثر سرعة فیها. وتعد "الربابة" أهم هذه الآلات، والطبلة، والرِّق/ المظهر، والبندیر. علما بأن البندیر أو الرق/ المظهر قد حلَّ بدلا عن آلة "الطار"، التی شاع استخدامها فی الروایات القدیمة فی الصعید.

   
   
 
   

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


أهم الآلات الموسیقیة التی تستخدم فی

جنوب مصر (الصعید)

ولا یحرص الشعراء فی الوجه القبلی على ارتداء زی معین، باستثناء ارتداء الخاتم. فهو عادة أو طقس توارثوه عن الشاعر الشعبی جابر أبو حسین؛ اعتقادا منهم أنه الملهم لهم على تذکر السیرة لحظة الأداء، على حد قول الشاعر محمد الیمنی وعنتر رضوان.

   
   
 
   

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


شعراء من الجنوب یرتدون "الخاتم"

فی إحدى یدیهما لحظة الأداء

 (4)

رابعا: الاستجابة الجندریة:

یلعب النوع Gender دورًا رئیسًا فی تلقی النص الشعبی عامة، والسیرة الهلالیة خاصة، وذلک من حیث الدور الذی تلعبه المرأة فی حرکة سردها. فقد انعکس تغیر الوضع الاجتماعی للمرأة العربیة على صورتها فی السیرة الهلالیة ما بین المدون (الذی ینتمی إلى فترة تاریخیة قدیمة) والشفاهی (الذی ینتمی إلى حقبة تاریخیة معاصرة). وقد أثر هذا التغیر الاجتماعی فی تلقی السیرة الهلالیة. وتتعدد المواقف المحوریة التی تلعبها المرأة فی السیرة الهلالیة، بدءا من مرحلة الموالید، من خلال الدور المرکزی الذی تلعبه خضـرة الشـریفة فی حیاة البطل أبی زید الهلالی، ورحیلها به من بین قومها الذی اتهمها فی شرفها، ثم قیامها بتربیته فی أرض الزحالین، وتعلیمه فی "الکُتَّاب"، ثم تدریبه على الفروسیة، ثم الوقوف- إلى جانبه- إلى أن صار بطلا معترفا به من خصومه. کما تتعدد الأدوار التی لعبتها شخصیة نسائیة مهمة مثل الجازیة، سواء فی موقف عودة خضرة الشریفة وابنها أبی زید إلى أرض نجد، بعد أن نجحت فی الوفاء بقسم أبی زید، بفرش حریر الرطایب أمام جمل خضـرة الشـریفة، وکذلک فی موقفها فی الریادة البهیة، أو فی موقفها من الثأر لمقتل أخیها السلطان حسن على ید دیاب بن غانم، أو بإنقاذ النساء الحوامل من غدر دیاب بن غانم بهن، وهربها معهن، ثم تربیتها للأطفال وعودتها معهم بعد أن صاروا أبطالا، ویتمکنون من أخذ الثأر من دیاب. وکذلک موقف دوابة ابنة الخفاجى عامر مع أبیها، الذی لا یقل أهمیة عن موقف سعدة مع أبیها الزناتی خلیفة(44). فمما لا شک فیه أن هذا الدور المرکزی للمرأة العربیة ترک أثره فی التلقی الشفاهی للسیرة الهلالیة، فی مجتمع مغلق کانت المرأة تطمح فیه إلى أن تتماهى مع شخصیة مثل الجازیة أو دوابة أو سعدة أو خضرة الشریفة.  

ولعل من الملاحظ، أنه بالرغم من تراجع- إن لم یکن انعدام- دور المرأة فی روایة الهلالیة على المستوى الاحترافی، فإن هذا لم یقف حجر عثرة أمام تلقی المرأة لها، وتناقلها وروایتها على مستوى الهوایة، وذلک فی النطاق الأسری المحدود. وقد ترک ذلک الدور النسائی فی الروایة والتلقی أثره فی إبراز دور المرأة وإضاءته فی الروایات الشفاهیة، مقارنة بنظیراتها المدونة، وهو ما یتضح فی مقارنة روایات الرجال بروایة نسائیة للهلالیة، على نحو ما انتهینا إلیه فی إحدى دراساتنا(45).

(5)

خامسا: الاستجابة القبلیة:

تتسم السیرة الهلالیة- فیما تتسم به- بکثرة أبطالها، وهو ما یخلق تعددا فی الانتماءات الجماهیریة المتلقیة له، فلکل بطل جمهوره الذی یشجعه، ویتحزب له، ویلتف حوله، ویتعصب له. فأبو زید الهلالی، ودیاب بن غانم الزغبی، وحسن بن سرحان، والخفاجى عامر، والزناتی خلیفة، والجازیة ابنة السلطان سرحان، کل هؤلاء أبطال، لکل منهم مؤیدوه وأنصاره. فمما یمیز جمهور الهلالیة- فی صعید مصر- تعصبه لها، وربما یکون ذلک الأمر هو أحد أسباب البقاء لها حتى الآن. فالجمهور ـ على حد وصف بعض من حاورناهم ـ یتعصب للهلالیة، ویعیش ـ أثناء روایتها ـ حالة أشبه ما تکون بحالة مشجعی کرة القدم، والتعصب لإحدى الفرق الریاضیة. الأمر الذى قد یحدث ألوانًا من العنف الناشئ عن التعصب لمصلحة فرقة ضد الأخرى. ویعکس ذلک التعصب والانتماء القبلی تعلیقات بعض الجمهور على مقاطع الفیدیو لبعض رواة السیرة الهلالیة، على نحو ما سیرد فی مبحث التلقی الإلکترونی. إن السیرة الهلالیة فی بحثها الدائم عن الانتماء القبلی، إنما تشبع ـ بذلک ـ الغریزة الصعیدیة، بالدخول فی صراعات ومعارک. وهذا إنما یعبر ـ ویعکس فی الوقت نفسه ـ طبیعة المجتمع الصعیدی، الذی تغلب علیه روح العصبیة والانتماء والثأر أحیانا. فالصعید بطبیعته یمثل تربة خصبة لروایة الهلالیة، من هنا وجدنا انتماءات القبائل الصعیدیة إلى أحد أبطال السیرة الهلالیة، والتحزب أمامها أحزابًا مختلفة، ما بین زناتة/"أمرا" وأشراف وزغابة... إلخ. متخذین من أحد أبطال السیرة رمزًا لهم، فیلتفون حوله. وهو ما یؤکده أحمد مرسی بقوله: "وقد انعکس هذا الصـراع بالضرورة على جمهور هذه السیرة الذین شغفوا بها زمنًا طویلًا، ومازالوا مشغوفین بها إلى الآن؛ إذ إن حب الجماعة الشعبیة لأبی زید نابع فی حقیقته من أنه کان عنصر التوازن فی السیرة، کما کان عنصر التجمیع والتوحید. أما "دیاب" ... کان عنصـر فرقة وانقسام، أکثر منه عنصـر تجمیع ووئام... تحرکه عصبیة فردیة ضیقة"(46).

إذن تمسک الجمهور بالسیرة؛ لأنها عبرت عن انتماءاتهم القبلیة، فتحزبوا حولها شیعًا، هذا یحب أبا زید ویکره دیابًا، وذلک یحب دیابًا ویکره الزناتی.... إلخ. وهو أمر یلتقی ـ على نحو ما أشرت ـ مع طبیعة المجتمع الصعیدی، الذی یعج بمثل هذه الصراعات القبلیة والانتماءات الحزبیة، التی ـ ربما ـ فسـرت سبب بقاء الهلالیة فی الصعید کنص متکامل إلى الآن. فی حین أن الهلالیة فی الوجه البحری، بعد جیل الرواد من أمثال فتحی سلیمان وسید حواس، لم یبق منها بین الأجیال المعاصرة سوى قصص الحب والرومانسیة، التی تغذی روح العاطفة والحب، أی أصاب السیرة الهلالیة التفتت عند هؤلاء الرواة، فلم یبق منها سوى قصص متناثرة مثل: "عزیزة ویونس"، و"رزق وحسنة"... إلخ. فی حین لا یزال الجمهور الصعیدی یفضل الاستماع إلى قصص اللقاء والحرب والثأر، مثل "حرب الزناتی مع أبی زید"، و "قتل دیاب للزناتی"، و"قصص الأیتام"، و"أولاد هولة"... إلخ(47).

تشیع فی صعید مصـر حکایة یرویها أکثر من شخص، ومن بین من قاموا بروایتها، الشاعرالراحل سید الضوی، تلک الحکایة التی تذهب إلى  أن شاعرًا کان اسمه "حسین"، ینشد الهلالیة فی مولد سیدی عبدالرحیم القناوی. وکان ینشد قصة "لقاء الزناتی وأبی زید". وکان هناک رجل من قریة دندرة یمر بضائقة مالیة اقتضت منه بیع آخر شیء یمتلکه بقرة (شابَّه)، بثمانیة عشـرة جنیهًا فی السوق. وفی طریق عودته وجد هذا الشاعر ینشد القصة المشار إلیها فجلس یستمع إلیه، وکان هذا الرجل من الأمارة (أنصار الزناتی)، ووجد الزناتی مهزومًا، فهب واقفًا وطلب من الشاعر أن ینصـر الزناتی، نظیر أن یدفع له جنیهًا، وظل الأمر هکذا، کلما وقع الزناتی دفع للشاعر جنیهًا نظیر نصرته، حتى فرغ جیبه، وقد حقق له الشاعر رغبته فی إنقاذ الزناتی، فقفل عائدًا إلى منزله سعیدًا. ولما وصل إلى البیت، وحکى لزوجته ما کان منه مع الشاعر، فلم یکن من هذه الزوجة إلا أن راحت تزغرد؛ إعلانًا عن فرحتها بانتصار الزناتی(48). وتؤکد الحکایة السابقة تغلیب الروح القبلیة على تلقی الهلالیة فی الوجه القبلی، على نحو یعبر عن مدى معایشة جمهور السیرة لما یروى علیهم وتفاعله معه، بروح یغلب علیها التعصب والانتماء القبلی.

إن تلک الحکایة المتواترة فی المجتمع القناوی ذات أصل مدون، ولکن بعد استبدال طرفی الصـراع، وجعله بین أبی زید ودیاب بن غانم الزغبی. وهی قصة تذکرنا بموقف شبیه حدث مع راوی سیرة عنترة أیضًا. حیث أنهى راوی سیرة عنترة قصته فی إحدى اللیالی على المقهى بأسر النعمان بن المنذر لعنترة، وعندما عاد أحد مناصری عنترة إلى البیت لم یستطع النوم؛ حزنا على عنترة، فأخذ کل ما یمتلکه من أموال وذهب إلى منزل الراوی، وأیقظه من نومه، وأعطاه کل ما یملک من أجل فک أسر عنترة وإعادته إلى أهله. وقد حقق الراوی له أمنیته بعدما نال ما یرید من المال. وفی روایة أخرى أنه هدده بالقتل إن لم یفک أسر عنترة، فبحسب ما یشیر المؤرخ المحامی عبد اللطیف فاخوری "أنه حینما کان یتوقف الحکواتی فی نهایة السهرة عند موقف حرج یتعرض له البطل، کی یشد الجمهور لمتابعة الحکایة فی الیوم التالی، أنه صادف أن توقف مرة عند أسر عنترة بن شداد وزجه فی السجن، بعد تکبیله بالحدید والأغلال، وبعد ذهاب الحکواتی إلى منزله، ومغادرة الحاضرین، صعب على أحد الحضور الذین یهیمون بعنترة، أن یبقى الأخیر سجینًا، وألا یعرف مصیره إلّا فی الیوم التالی، وعندما ذهب إلى بیته لم یستطع النوم، وکبرت القصة فی رأسه، فذهب إلى منزل الحکواتی، وأیقظه، وهدده بالقتل، إن لم یُخرج عنترة من السجن، ویفک قیوده هذه اللیلة، فاضطر "الحکواتی" أن یقرأ علیه وحده، حتى وصل إلى لحظة إطلاق سراح عنترة"(49). ولعل الموقف الذى یورده أحمد شمس الدین الحجاجی یؤکد ذلک الانتماء والتعصب لأبطال السیرة الهلالیة، کما یؤکد- فی الوقت ذاته- أثر المتلقی على الروایة والراوی. فیذکر الحجاجی أن الراوی عندما أشار إلى لقاء الزناتی مع العبد أبو القمصان، فاستشاط الجمهور المؤید للزاتی/ قبائل الأمارة غضبا:

"خلیفه نادم یا قمصان

سود اللیالی تعیبک

یا فطیس یا شرایة المال

راح فین أبو زید سیدک؟

ورد علیه قمصان:

أبو زید سیدی مالک بیه؟

یابو العمامه النضیفه

إن کان ع الحرب خلِّیه

أنا کفوکم یا خلیفه

وإذا بواحد من المستمعین یقترب منه وقد ظهر على وجهه الغضب، وبان فی عینیه عدم الرضا وقال له: "یا أخی قبلنا أن ینازل أبو زید الزناتی خلیفه فهو ابن الشریفه خضرة، وبعدها تترک عبدًا ینازله. وهنا استمر النادی عثمان فی غنائه معلنًا رفض الزناتی خلیفه أن ینازل العبد قمصان، ویعود قمصان لیصـر على ملاقاته وهو یقول: "العبد بیحارب على حس سیده". وضعه النادی عثمان فی حجمه الذى یریده له الجمهور"(50).  ویتبدى هذا التأثیر للمتلقی فی روایة الهلالیة فی تلک الأهمیة التی یولیها الراوی لرغبات الجمهور المستمع له، ملبیا- أحیانا- رغباتهم بروایة تلک الحکایات التی یطلبها منه الجمهور أثناء الأداء تارة، خاصة عندما یفضلون الاستماع لحکایة بعینها دون غیرها، وتارة أخرى باحترام انتماءات هذا الجمهور، فیمیل إلى روایة تلک الحکایات التی تعزز ذلک الانتماء، فلا یصطدم الراوی برغبات الجمهور أو انتماءاته. فمثلا منطقة دندرة وما یحیطها فی مرکز قنا، ومنطقة القلعة وما یحیطها فی مرکز قفط ینسبون إلى الأمارة، الذین یفضلون الزناتی خلیفة؛ لذلک فإن الشاعر عندما یقوم بإحیاء إحدى الحفلات بهما فإنه یحرص على اختیار القصص التی یکون فیها الزناتی خلیفة منتصرًا؛ حتى لا یصطدم بانتماءات الجمهور المستمع إلیه. وتبرز الصور التالیة جزءًا من تفاعل الجمهور مع الراوی الشعبی أثناء أداء السیرة الهلالیة.

 
   

 

 

 

 

 

 


الجمهور یتعاطى الخمور والمخدرات أثناء الاستماع للشاعر

 
   

 

 

 

 

 

 


الجمهور فی حالة إنصات للشاعر

   
   
 
   

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


ردود أفعال الجمهور أثناء الأداء

 (6)

سادسا: الاستجابة الإلکترونیة:

    تمثل وسائل المیدیا الإلکترونیة، (شبکات التواصل الاجتماعی)، خاصة الیوتیوب والفیس بوک، وسیلة اجتماعیة مهمة لتناقل فنون الأدب الشعبی، وبدایة مرحلة جدیدة من مراحل الترویج والدعایة الجماهیریة لها، وهو الأمر الذی أدى إلى تزاید شعبیتها وجماهیریتها. فبعد أن کانت هذه الجماهیریة محدودة ومحددة بمکان الأداء، صار من السهولة بمکان تداول أحد مقاطع هذه الفنون، ویشارک الجمهور على أحد المواقع الإلکترونیة فی الاستماع لها والمشاهدة. وقد صاحب ذلک التحول الاجتماعی تحول فی بعض ملامح هذه الفنون وخصائصها. فالسیرة الهلالیة- على سبیل المثال، وعلى نحو ما سبق أن أشرنا- ذکوریة من حیث الأداء الاحترافی لها، غیر أن ذلک التحول الاجتماعی صاحبه تحول فی تلک الخصیصة. غیر أنه- فی الآونة الأخیرة- ظهرت بعض المطربات اللائی أبهرتهن الهلالیة، ورحن یحاولن أداءها وغناءها. هذا ما نلاحظه مع المطربة دینا الوهیدی، التی حاولت غناء مقاطع من السیرة الهلالیة، مما أدى إلى اختلاف ردود أفعال الجمهور، حول درجة قبولهم لهذا التحول فی نوع الراوی. وقد لقی هذا الأداء النسائی للهلالیة قبولا على مواقع الیوتیوب یکاد یقترب من إقبال الجمهور على مقاطع فیدیو الأداء الذکوری لها، بل تغلب على بعض المقاطع المنشورة للرجال فی بعض الأحیان. نستطیع أن نلمس ذلک من خلال مقارنة عدد المشاهدات. ففی أحد مقاطع الفیدیو المرفوعة للمطربة دینا الوهیدی على موقع الیوتیوب بتاریخ 3 یونیه 2015، والمأخوذ من احتفالیتها بمکتبة الإسکندریة، حظی بعدد مشاهدین بلغ 358.434 متابعا، و 128 تعلیقا(51).

 
   

 

 

 

 

 

 

 


فی حین حظی مقطع الفیدیو المجزوء من حفلها الذی أقامته بساقیة الصاوی، والمنشور على الموقع فی 17 أغسطس 2013، على 182.142 متابعا، و 62 تعلیقا(52).

 

 

 
   

 

 

 

 

 

 

 


هذا فی الوقت الذی حظی فیه أحد مقاطع الفیدیو للشاعر عز الدین نصـر الدین على موقع الیوتیوب بتاریخ 9 مایو 2013 على 330.368 متابعا، و 39 تعلیقا(53). فی حین حظی فیدیو للشاعر سید الضوی منشور بتاریخ 4 سبتمبر 2009 على 347.492 متابعا، وبلا تعلیقات(54). کما حظی الفیدیو الخاص به، والمنشور بتاریخ 5 یونیه 2011، على  235.343متابعا، و 37 تعلیقا(55). وربما کان أحد أسباب تزاید عدد متابعی المطربة دینا الوهیدی هو حداثة الفکرة؛ حیث إن غناء امرأة للهلالیة- على نحو احترافی- أمر جدید، بل ربما یکون غریبا- إلى حد ما- على مسامع الجمهور. وهو ما تعکسه الاستجابات الجماهیریة على هذه المقاطع؛ حیث تتفاوت آراء المتابعین.فقد تراوحت هذه الاستجابات بین الإعجاب الشدید بهذا التحول، وبأداء المطربة، أو بالسیرة الهلالیة عموما.

 

black tiger10 months ago (edited)

انا کنت متخیل انی قدیییییییییییییییییم عشان بسمع السیرة الهلالیة بصوت جابر ابو حسین . اتاری فیه شباب مهاویس بالسیرة الهلالیة

Reply 16  

 

Salah  

القمه الدخلویه القمه الدخلویهBnj7 months ago

أّنِأّ 17َّسنِهِ وِحٌأّفِّظّ نُص ألسیِّرهِ

Reply 4  

 

Amr Ramadan3 months ago

السیرة الهلالیه تحفة دا طرب یتسمع بجد

Reply 3  

 أو الرفض الشدید له، سواء بسبب الخلفیة الاجتماعیة للمتابع؛ حیث التعود على مشاهدة راوٍ رجل، ولیس امرأة. یؤکد هذا بعض التعلیقات، التی من قبیل: "السیرة لها ناسها وأداءها لا یجذب الانتباه علیها. بکرة نسمع إن نانسـی عجرم بتغنی السیرة الهلالیة.. حرام والله حرام"(56). أو بسبب ضعف أدائها النسائی مقارنة بأداء الرواة الرجال، على نحو ما یؤکده التعلیق التالی: "إیه القرف ده!! هو أی تمسح ف التراث الشعبی وخلاص، وشویة تجعیر وإزعاج یبقى خلاص بقیتی فنانة وضاربة ف الجذور. اسفخص عاللی ماحدافوکیش بالبیض"(57). وقد یکون الرفض بسبب تعود الجمهور على سماعها من الشاعر الشعبی الراحل جابر أبو حسین(58).

 
   

 


Ahmad Ibrahem2 months   ago

السیرة الهلالیه من غیر جابر أبو حسین ملهاشى طعم ولا معنى

Reply 2

 

saga elarabe1 week ago

عم جابر وبس

Reply  

 


alaa ahmed2 months ago

بس برضو مش زی الربابه ولهجه عم جابر

Reply  

أو بسبب خلفیة دینیة؛ حیث استغراب البعض من قیام امرأة بمدح النبی، علیه الصلاة والسلام(59).

 
   

 


عمر محمود2 months ago

نبی مین یابنت ال...... لمی نفسک الأول

Reply  

 
   

 


محمود عبدالحمید1 month ago

عفوا یا اخی هی بتغنی فا عیب تشتم

Reply  

 

Emad Faheam4 months ago

صوتها وحش اوى ازاى بتغنى السیره وتجیب اسم النبى (ص)وهى لابسه کده ولا هو تغنى اى حاجه لزوم الشهره

Reply 4  

وقد امتد التحریم- أحیانا فی بعض التعلیقات- لیضم کل أشکال أداء السیرة الهلالیة، سواء کان راویها رجلا أو امرأة. هذا ما یؤکده تعلیق أحد المتابعین لمقطع فیدیو للشاعر الشعبی جابر أبو حسین. فقد حرم  صاحب هذا التعلیق السماع للهلالیة بسبب اعتمادها على آلة شیطانیة هی "المزمار"(60).

 

احمد محود6 months ago

السیره الهلالیه حرام لانها بها مزماز والمزمار شیطانی

ولم تخل تعلیقات البعض من إیحاءات جنسیة، حیث تعلیقات یوحی ظاهرها أن المقصود منها الثناء على الأداء، ولکن باطنها یؤکد أن المقصود صاحبة الأداء. یتضح ذلک عندما نقارن هذه التعلیقات التی ترد على أحد المقاطع الهلالیة لدینا الوهیدی بنظیراتها عند الرواة الرجال. فمن بین العبارات التی استخدمها بعض المعلقین على مقاطع دینا الوهیدی: "إیه الجمال والروعة دیه"، "أنا بحبک جدا، وصوتک تحفة یا دینا"، "جمیلة یا دینا، وطریقتک جمیلة بصـراحة فی السیرة"، "عسل یا دینا.. ممتازة جدا جداااا"(61) ، .... إلى غیر ذلک من التعلیقات الإیحائیة، التی لا نجد تعلیقات مماثلة لها على مقاطع الرواة الرجال.

 


Sayed Saad5 months ago

إنتى العشق یا بنت الودیدى.

Reply 1  

 
   

 


mohamed nour 01116841086 3 weeks ago

روعه روعه صوتک جمیلBBBB

Reply  

 

Ahmad Omari3 weeks ago

عسوله یا دینا

Reply  

 

abdo elrock1 month ago

العشق :*

Reply 1  

 

mostafa elkady2 months ago

هو انتى انا بسمعها من زمان ومکنتش اعرف مین اللى بتغنى روعه یخرب بیتک

Reply  

   
   
 
   

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


جزء من تعلیقات الجمهور

وهناک من انصرف ذهنه عن الأداء، وانشغل بما ترتدیه المطربة، على نحو ما تعکسه التعلیقات التالیة(62).

 


وطن تائه1 year ago

هی البت دى لابسه ایه ؟؟؟

Reply  

 

Ahmed samy1 year ago

بنطلون بس لونه عامل مع الضوء انا کنت مفکر زیک بردو :D :D 

Reply  

وفی الوقت الذی تفاوتت فیه آراء الجمهور حول المطربة دینا الوهیدی، تارة بالقبول والرفض الاجتماعی والدینی، وأخرى بالانشغال بأمور قد لا تتعلق بالهلالیة، نجد التعلیقات الخاصة بمقاطع فیدیو الرواة الرجال تأتی إما مبدبة إعجابها بالسیرة أو راویها، أو متحفظة على السیرة وما تحمله من قیم قد تکون رجعیة- من وجهة نظرهم- لأنها تمثل الماضی. هذا ما تعکسه آراء بعض الجمهور لمقطع فیدیو للشاعر عز الدین نصر الدین(63). کما تعکسه التعلیقات على مقاطع فیدیو للرواة محمد الیمنی وسید الضوی، أو المقاطع الصوتیة لعلی جرامون وجابر أبو حسین.

 

 
   

 

 

 

 

 

 

 

 

 

کما تعکس بعض التعلیقات العصبیات القبلیة الموجودة فی بعض المجتمعات العربیة، خاصة بین أنصار قبائل الأمارة، من أنصار الزناتی خلیفة، أو الأشراف من أنصار أبی زید الهلالی، أو الزغابة من أنصار دیاب بن غانم. فالسیرة الهلالیة سیرة تعرفها معظم المجتمعات العربیة، وهی سیرة قبلیة- فی المقام الأول- تحظى بتعصبات وتحزبات قبلیة، کل بحسب انتمائه القبلی. وقد عکست بعض هذه التعلیقات هذه التعصبات القبلیة؛ حیث انتقل الصـراع القبلی إلى وسائل التواصل الاجتماعی؛ لیشغل مساحة من تعلیقات الجمهور على بعض هذه المقاطع، خاصة بین أنصار الزناتی خلیفة "الزناتة"، وأنصار أبی زید الهلالی "الأشراف"(64).

1 year ago

بالنسبه إلى بنی هلال هم عرب مستعربة أما بنی حیل هم أهل . خلیفه الزناتی أهل العرب الصح * عرب مستعربه معناها هم أهل من کل بلد واحد بالنسبه إلى الهلایل

Reply 2  

 

سلامة التلاوی التلاوی2 months ago

أخی الفاضل أهل الزناتی أصلا هم بربر أمازیغ السکان الأصلیین لشمال أفریقیا أما بنی هلال هم من أساس العرب الذین جاؤوا من الیمن وأضاءت بهم مشارق الارض ومغاربها.

Reply

 

Royal Alhdad4 months ago

أنا الزناتی جبل المحامیل زعیم العرب والرجال یعرفونی وعمری عن الحدود ماحمیل وللمرجله قدمونی لازم أنزل الحرب بکرة ولا اخلی ولا بنت بکرى..

Reply  

  

mahmoud eldeep1 year ago

أبو زید زعیم العرب ابن رزق عالى النسب وجدى دیاب فارس ابو شناب راجل زعیم القبایل مهاب والزناتى لنا طار عنده قتل معیقل وعقل أولاد الامیرة هولة بنت سرحان وهوة اللى بدا الحرب معانا وجدنا دیاب ابن غانم الزغبى أسد الحروبات هو اللى قتله

Reply  

 

Ebbo Mido1 year ago

رجاء إلى کل محبى هذه الملحمة تغییر الاسم إلى السیرة الزناتیة .. البطولة والشرف أهلها الزناتى ولیس بنى هلال.

Reply  

 

تقی الدین الجزائری الهلالی3 weeks ago

ماهذا لم نسمع سیرة بنو هلال بل سمعنا سیرة زناتی(65).

Reply  

وبقدر ما تعکس التعلیقات السابقة هذا التعصب القبلی فی تلقی الهلالیة، والتعبیر عن الانتماءات القبلیة؛ ومن ثم التحزب حول بطل بعینه، والرغبة فی تغییر اسم السیرة الهلالیة- على نحو ما بدا فی بعض التعلیقات- لتکون سیرة زناتیة، نسبة إلى الزناتی خلیفة، أو إعلان الانتساب لبطل آخر هو "دیاب بن غانم"، والتباهی ببطولاته، على حد قول أحدهم: "وجدى دیاب فارس أبو شناب راجل زعیم القبایل مهاب والزناتى"، إنها بقدر ما تعکس ذلک فإنها- فی الوقت نفسه- تعکس هذه الثقافة التاریخیة التی یتمتع بها هذا الجمهور، سواء فی الحدیث عن "العرب المستعربة"، أو "البربر الأمازیغ".

ولعل الملاحظة الجدیرة بالالتفات إلیها، من خلال التلقی الإلکترونی للسیرة الهلالیة، تتمثل فی تغییب دور الرواة الشعبیین، ممن ارتبط تقدیمهم فی بعض الأداءات بمتعهد لتقدیمهم إلى الجمهور أثناء الاحتفالات أو المناسبات التی یؤدون فیها الهلالیة، إلى درجة وصلت إلى حد تهمیش الرواة فی تعلیقات الجمهور الإلکترونی. ولعل المثال الأکثر بروزا فی ذلک طغیان صورة الشاعر عبد الرحمن الأبنودی على شخصیة الراوی الشعبی سید الضوی. ففی معظم المقاطع التی جمعت بینهما، نلاحظ إما قلة التعلیقات، أو اختفاء التعلیقات عامة(66) ، أو توجیه معظم الثناء والمدح أو الترحم إلى الشاعر عبد الرحمن الأبنودی، مع تجاهل الراوی سید الضوی(67). فی حین یصبح الأمر مختلفا عندما ینفرد الرواة- فی مقاطع الفیدیو أو الصوت- بالروایة، دون أن یشارکهم أحد، حیث ترکز معظم التعلیقات على الرواة أنفسهم، أو طریقة الأداء، أو السیرة الهلالیة والموقف منها. 

الخاتمة:

توقفت هذه الدراسة عند أسباب استمراریة التلقی الشعبی للسیرة الهلالیة، فی ضوء علاقة الجمهور بها. کما استعرضت الدراسة الأشکال المتعددة للاستجابة الجماهیریة. وقد تنوعت هذه الاستجابات بتنوع وظائف السیرة التی تؤدیها فی سیاقاتها الأدائیة المختلفة. وقد أجملت الدراسة هذه الاستجابات فی سبع، منها ما یرتبط بما تلهبه السیرة الهلالیة من حماس فس نفوس الجمهور المتلقی لها، خاصة مشاهد الحرب التی یؤدیها الراوی، کذلک الاستجابة الغرائزیة، من خلال بعض المشاهد التی تثیر غرائز الجمهور، کتلک التی تتوقف عند وصف مفاتن المرأة وجمالها. أما الاستجابة الجغرافیة فقد توقفت عند تنوعات أداء الهلالیة ما بین جنوب مصـر وشمالها، سواء من حیث طبیعة الآلات الموسیقیة أو طبیعة النص فی کل منهما. کما لعب النوع دورًا فی تشکل الاستجابة الجندریة؛ حیث توقف تلقی الهلالیة على طبیعة الجمهور ما بین امرأة أو رجل، بحسب دور کل منهما فی الحکایة التی یعرض لها الراوی الشعبی. کذلک لعب الانتماء القبلی ما بین أمارة أو زغابة أو أشراف دورًا فی تلقی الهلالیة، فالقبلیة عامل أساسی فی استمراریة تلقی الهلالیة. ونظرًا إلى المتغیرات التکنولوجیة الراهنة التی تسیطر على المجتمع المصـری، فقد کان للتلقی الإلکترونی أثره فی إبراز خصائص جدیدة للهلالیة، سواء من حیث الرواة أو الجمهور أو طببیعة الحکایات المختارة لعرضها على المواقع الإلکترونیة مثل الیوتیوب. 

*   *   *   *

  • أولا: المصادر والمراجع العربیة

    • د. أحمد بهی الدین العساسی: السیرة الهلالیة: روایة من دلتا مصر، روایة الشاعر الشعبی (فتحی عوض سلام )، الهیئة المصریة العامة للکتاب، سلسلة الثقافة الشعبیة، 2012.
    • د. أحمد شمس الدین الحجاجی: مولد البطل فی السیرة الشعبیة، دار الهلال، العدد (484)، أبریل 1991.
    • د. أحمد شمس الدین الحجاجی: "بین سیرة بنی هلال وملحمة لإلیاذة"، من کتاب: "الحکی الشعبی بین التراث المنطوق والأدب المکتوب، تحریر: د. غراء مهنا، القاهرة،  دار العین للنشر، 2009.
    • د. أحمد على مرسی: الأدب الشعبی وثقافة المجتمع، الهیئة المصریة العامة للکتاب، مکتبة الأسرة، 1999.
    • د. أحمد علی مرسی: مقدمة فی الفولکلور، دار عین للدراسات والبحوث الإنسانیة والاجتماعیة، الطبعة الثانیة، 1995.
    • إدوارد ولیم لین: المصریون المحدثون، شمائلهم وعاداتهم، ترجمة: عدلی طاهر نور، الهیئة العامة لقصور الثقافة، ذاکرة الکتابة، الجزء الثانی، الطبعة الثالثة، 1998.
    • ج. ر. باترسون: أبو زید فی برنو، أربع حکایات عنه بعربیة الشوا، تقدیم: هـ. ر. بالمر، تحریر: عبد الحمید حواس، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2015.
    • جیمز مونرو: النظم الشفوی فی الشعر الجاهلی، ترجمة: د. فضل بن عمار العماری، منشورات دار الأصالة للثقافة والنشر والإعلام، الطبعة الأولى، 1987.
    • د. خالد أبو اللیل: الأسود مهمشا، قراءة ثقافیة فی السیر الشعبیة العربیة، مجلة الموروث، صادرة عن معهد الشارقة للتراث، الشارقة، الإمارات، العدد الثانی، یونیو 2016.
    • خالد أبواللیل: "روایات السیرة الهلالیة فی قنا"، القاهرة، الهیئة المصریة العامة للکتاب، مجلدان، 2012.
    • خالد أبو اللیل: السیرة الهلالیة، دراسة للراوی والروایة، القاهرة، الهیئة العامة لقصور الثقافة، مکتبة الدراسات الشعبیة، 2011.
    • د. تامر فایز: تحولات الشخصیة التاریخیة فی المسرح المصری المعاصر، دراسة نقدیة مقارنة"، القاهرة المجلس الأعلى للثقافة، 2016.
    • د. سیزا قاسم: القارئ والنص، والعلامة والدلالة، القاهرة، الهیئة المصریة العامة للکتاب، مکتبة الأسرة، 2014.
    • د. عبد الحمید یونس: السیرة الهلالیة ملحمة فروسیة شعبیة، مجلة عالم الفکر، الکویت، المجلد 17 ، العدد (1)، أبریل 1986.
    • د. عماد عبد اللطیف: لماذا یصفق المصریون، دار العین للنشر، 2009.
    • د. غراء مهنا (إشراف وتحریر): الحکی الشعبی بین التراث المنطوق والأدب المکتوب، أعمال المؤتمر الدولی السابع لقسم اللغة الفرنسیة وآدابها، آداب القاهرة، فی الفترة 28- 30 مارس 2009، دار العین للنشر، 2009.
    • مؤلف مجهول: تغریبة بنی هلال ورحیلهم إلى بلاد الغرب وحروبهم مع الزناتی خلیفة، مکتبة ومطبعة محمد علی صبیح وأولاده، (د، ت).
    • د. نادر کاظم: تمثیلات الآخر، صورة السود فی المتخیل العربی الوسیط، المؤسسة العربیة للدراسات والنشر، بیروت، ط1، 2004.
    • والاس مارتن: نظریات السرد الحدیثة، ترجمة: حیاة جاسم محمد، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومی للترجمة، العدد (36)، 1998.

     

    ثانیا: المراجع الأجنبیة

    • Honko, Lauri. (1989).Methods in Folk Narrative Research. In; Reimund Kvideland and Henning K. Sehmsdorf. “Nordic Folklore: Recent Studies”. Indiana University press.
    • Reynolds, Dwight Fletcher. (1995). Heroic Poets and Poet Heroes: The Ethnography of Performance in an Arabian Oral Epic Tradition. Cornell University press.
    • Reynolds, Dwight Fletcher. (2006). "Sīrat Banī Hilal" from "Arabic Literature in the Post-classical period.Edited by: Roger Allen. Cambridge University Press.

    ثالثا: المواقع الإلکترونیة

    *   *   *   *