الرمز بين اللغة والأدب: دراسة تطبيقية مقارنة

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

أستاذ علوم اللغة بقسم اللغة العربية، کلية الآداب، جامعة القاهرة

المستخلص

يحاول هذا البحث تحديد العلاقة بين الرمز اللغوي والرمز الأدبي، حيث يفترض أن المقارنة بين هذين النوعين من الرموز کفيلة بتقديم مدخل جيد لفهم طبيعة الرمز الأدبي، ومعرفة کيفية تشکيله وکيفية قراءته، ومن ثم کيفية تجنب بعض أخطاء فهمه.
والمقصود بالرمز اللغوي کلمات اللغة عندما نستخدمها بدلالاتها المعجمية التي يعرفها جميع أبناء اللغة ، فکلمات اللغة عبارة عن رموز صوتية اصطلحت الجماعة على معناها، أما الرمز الأدبي فيستخدم في البحث بدلالة عامة، حيث يطلق على استخدام دال لغوي (يدل على شيء محسوس) للدلالة على معنى غير معناه الاصطلاحي، ويعني ذلک أن الرمز الأدبي يستخدم الرمز اللغوي استخداما رمزيًّا، شريطة وجود علاقة بين المعنى الاصطلاحي للرمز اللغوي والمعنى الذي يرمز إليه.
وتنقسم الدراسة إلى مبحثين: يخصص المبحث الأول لتحديد أوجه الخلاف بين هذين النوعين من الرموز، بينما يخصص المبحث الثاني لتحديد الصفات المشترکة بينهما، ويتم ذلک التحديد من خلال تحليل الرموز الأدبية في عدد کبير من النصوص الأدبية القديمة والحديثة، ثم يقارن البحث بين الصفات المستنتجة لهذه الرموز وصفات الرمز اللغوي کما حددتها الدراسات الحديثة في علم الدلالة.  

الكلمات الرئيسية


یعد موضوع الرمز من الموضوعات التی اهتم بها الدرس الأکادیمی المعاصر([1]) ولذلک فلن تتوقف هذه الدراسة عند کثیر من المداخل المرتبطة به، مما سُبِقَتْ إلیه، من قبیل تعریف الرمز فی اللغة والاصطلاح، وتصنیف الرموز من حیث مصادرها، وبحث تاریخ الاهتمام بدراسة الرمز، وذلک حتى لا یعطی ذلک إیحاء بجدة أمور غیر جدیدة؛ ومن ثم فسوف یعرج هذا البحث على موضوعه بشکل مباشر. وموضوعه هو تحدید العلاقة بین الرمز اللغوی والرمز الأدبی، إذ إن هذا البحث یفترض أن المقارنة بین هذین النوعین من الرموز کفیلة بتقدیم مدخل جید لفهم طبیعة الرمز الأدبی، ومعرفة کیفیة تشکیله وکیفیة قراءته، ومن ثم کیفیة تجنب بعض أخطاء فهمه، وهو أمر لم تعن به أی من الدراسات السابقة فی حدود قدرة الباحث على الاستقصاء.

والمقصود بالرمز اللغوی الکلمات التی نستخدمها بدلالاتها الاصطلاحیة العامة التی تقدمها المعاجم، والتی یعرفها أبناء اللغة من استعمالهم لها، فکلمات اللغة عبارة عن رموز صوتیة اصطلحت علیها الجماعة، أو لنقل – بعبارة عاطف مدکور: «إن الدال، أی الصورة الصوتیة، إن هو إلا رمز أو علامة عن الشیء، یغنی عن استحضاره عند التفاهم».([2]) أما الرمز الأدبی فیستخدم فی البحث بدلالة عامة، حیث یطلق على استخدام دال لغوی (یدل على شیء محسوس) للدلالة على معنى غیر معناه الاصطلاحی، ویعنی ذلک أن الرمز الأدبی یستخدم الرمز اللغوی استخداما رمزیًّا، شریطة وجود علاقة بین المعنى الاصطلاحی للرمز اللغوی والمعنى الذی یرمز إلیه، سواء کانت هذه العلاقة من علاقات المجاز المعروفة أو لم تکن، فاستخدام المطر رمزا للخیر یمکن أن یدخل فی باب المجاز المرسل، واستخدام الغروب رمزا للموت یمکن أن یدخل فی باب التشبیه [سواء کان تشبیها أو استعارة] على أساس أن الغروب هو نهایة الیوم، وهو وقت الأفول، کما أن الموت نهایة العمر، لکننا لا نستطیع أن نجد علاقة من علاقات المجاز المألوفة فی استخدام الحمام رمزا للسلام، کما لا نستطیع أن نصنف قول شوقی([3])

وللحریة الحمراء باب                 بکل ید مضرجة یدق

فی إحدى تصنیفات المجاز المعروفة، رغم وضوح الدلالة الرمزیة فی البیت، مما یعنی أنه رغم التداخل بین مصطلحی الرمز والمجاز، فالمعنى لیس واحدا، وقد یتفقان کما قد یختلفان، حیث إن علاقات المجاز محددة فی البلاغة العربیة تحدیدا صارمًا. 

إن عملیة الترمیز تشکل جوهر التفرد الإنسانی، حیث مکن الله الإنسان من خلالها من استخدام هواء الزفیر الذی یمثل نفایات عملیة التنفس لإنتاج اللغة التی تعد أهم الظواهر الاجتماعیة؛ إذ بها یتواصل الإنسان مع محیطه فتکون بمثابة أسمنت المجتمع کما یقال([4])، وبها یسجل معارفه ویبقیها للأجیال التالیة فیحدث التراکم المعرفی، وبها یؤثر فی محیطه ویحقق ما یرید.

 ولأن عملیة الترمیز من صفات الإنسان الرئیسة فإنه لا یکاد یتوقف عنها، فالإنسان کائن منتج للرموز، ولیس معنى أنه یرث اللغة عن الجماعة التی ینتسب إلیها أن طاقته على إنتاج الرمز قد توقفت، فهناک رموز جدیدة دائما، نتعرف إلیها عند ظهور کلمات جدیدة، أو عند دراسة مبحث التغیر اللغوی؛ حیث تتغیر الدلالات بتغیر الزمان والمکان، کما نتعرف إلیها عند دراسة الأدب؛ حیث یحتوی الأدب دائما على رموز مبتکرة، قد تصبح لاحقا جزءا من الدلالات العامة للغة.

ولأن الرموز الأدبیة تنشأ عن الملکة نفسها التی نشأت عنها الرموز اللغویة، فقد بدا للباحث أن المقارنة بین النوعین من شأنها دعم الکفاءة القرائیة التی یستطیع المتلقی من خلالها اکتشاف الرموز الأدبیة وفهمها، وهذا ما سیحاول هذا البحث شرحه من خلال المقارنة بین طبیعة الرمز اللغوی والرمز الأدبی، للکشف عن أوجه الخلاف وأوجه الشبه بینهما، وذلک فی مبحثین، یعالج الأول الموسوم بــ« طبیعة الرمز بین اللغة والأدب» أوجه الخلاف بین الرمزین، ویعالج الثانی الموسوم بــ« الصفات المشترکة بین الرمزین اللغوی والأدبی» أوجه الشبه بینهما.

المبحث الأول: طبیعة الرمز بین اللغة والأدب. 

تمثل عملیة الترمیز إحدى أهم العملیات التی یقوم بها المبدع من أجل إنشاء النص الأدبی، کذلک تمثل عملیة قراءة الرمز وتحدید المقصود به إحدى أهم العملیات التی  یقوم بها المتلقی من أجل إنتاج الدلالة، والوصول إلى معنى النص، وتعد هذه العملیة کذلک مصدرًا من أهم مصادر الجمال فی النص الأدبی، إذ ترتبط عملیة الترمیز بخصوصیة الإنسان العقلیة التی تفصله على غیره من الکائنات کما سبق.

والمقصود بعملیة الترمیز تحویل شیء ما إلى دال، یدل على أمر آخر. وهذا التحویل هو جوهر اللغة ذاتها، فاللغة عبارة عن تحویل الأصوات إلى رموز تدل على معان بعینها، فتدل أصوات القاف المفتوحة، واللام المفتوحة، والمیم (قَلَمْ) على الأداة التی نکتب بها، وتدل أصوات الواو المفتوحة، والراء المفتوحة، والقاف (وَرَقْ) على الشیء الذی نکتب فیه.

والفرق بین الرموز اللغویة (الکلمات) والرموز الأدبیة التی تستخدم الرموز اللغویة رموزا یتمثل فی ثلاثة أمور:

الأول أن الدوال فی الرموز اللغویة هی الأصوات التی تستخدم رموزا للأشیاء أو الأحداث فی الواقع الخارجی، بینما الدوال فی الرمز الأدبی هی الأشیاء نفسها، أو هی المعانی التی ترمز إلیها کلمات اللغة، فالرمز الأدبی رمز مرکب، حیث یستخدم الرمز رمزًا.    

الثانی: أن العلاقة بین الدال والمدلول فی اللغة، أو بین الکلمة الرمز، والمعنى المرموز إلیه علاقة اعتباطیة، إذ لا یوجد فی القلم شیء یجعلنا نستخدم معه هذه الأصوات بعینها، وقد نسمیه « لقم» أو نسمیه بأی اسم آخر، لکن فی الرمز المستخدم فی النص الأدبی لا بد من وجود علاقة تسهل عملیة الانتقال من الرمز إلى المرموز إلیه، فعندما یستخدم الشاعر الجاهلی (السیر فی الطریق الضیق) رمزا للهلاک، نستطیع أن نفهم ذلک من خلال معرفة خصائص الطریق الضیق، ومعرفة أن السیر فیه یعنى استحالة الفرار عندما یواجه السائر خطرًا ما، وکذلک عندما یُستخدم السیر فی المرتفعات علامة على نجاة الحیوان من الصیاد، إذ لا یصعد الصیاد على الجبال، أو یستخدم الوصول إلى عین ماء ملیئة بالطحالب رمزا للنجاة؛ إذ یعد ذلک دلیلا على أن هذه العین لم یصل إلیها إنسان من قبل، ومن ثم لا یعرفها الصیاد أو لا یعرف الطریق إلیها. وکذلک عندما نستخدم فی الدارجة المصریة السیر فی الطریق الزراعی رمزا للنجاح وتحقیق الهدف المنشود نستطیع أن نفهم ذلک من خلال معرفة خصائص الطریق الزراعی، الذی نجد فیه الأنیس والطعام والشراب، وبشکل عام نلاحظ أننا نجد فی صفات کل هذه الرموز ما یجعلنا نتوصل إلى المقصود بها، حتى فی حالة عدم معرفة الرمز من قبل.

   أما الأمر الثالث الذی یفرق بین استخدام الکلمات فی اللغة بوصفها رموزا للأشیاء، واستخدامها رموزا أدبیة فی نص من النصوص فهو أن الرموز اللغویة رموز عامة، لا یختلف فی فهمها أبناء اللغة، فاللغة عامة، إذ هی اتفاق مجتمعی على استخدام الکلمات بمعان بعینها، أما الرموز الأدبیة فاستخدامات خاصة:

أ- قد تکون خاصة بالمستوى الأدبی للغة فی مقابل المستوى العادی.

ب- وقد تکون خاصة بمدرسة بعینها، أو بفترة بعینها، بحیث لا یفهم الأدب المنتمی إلى هذه المدرسة، أو تلک الفترة إلا بمعرفة المقصود بهذه الرموز، وذلک مثل استخدام وجود الحیوان فی الطلل فی الشعر الجاهلی، فهو رمز خاص یحتاج فهمه إلى استقراء استعمالاته، وإلى معرفة السیاق الثقافی الخاص به على نحو ما سیأتی فی نهایة البحث.  

ج - وقد یکون الرمز خاصا بنص من النصوص، ینتجه الأدیب، وَیُحَمِّلُهُ دلالة النص، وعندئذ یکون فهم النص مرتبطا بالقدرة على قراءة ذلک الرمز، وتحدید المرموز إلیه. وهنا تتجلى الموهبة الأدبیة فی أعلى صورها، وکذلک تتجلى القدرة القرائیة عند المتلقى، وهنا تبلغ المتعة فی الأدب درجة کبیرة، فعملیة الترمیز من خصوصیات الإنسان التی تدل على قدرته وفاعلیته.

والعملیة العقلیة المستخدمة فی الترمیز وفی قراءة الرمز هی عملیة الربط، أو إدراک الروابط بین صفات الأشیاء، ونحن نفهم الرمز عندما نحدد الصفة أو الصفات التی یتقاطع فیها الرمز والمرموز له، ونستبعد الصفات الأخرى غیر المقصودة فی الجمع بینهما.

إن وجود هذا التقاطع هو الذی یبرر استخدام الرمز دالا على المرموز له، فعلى سبیل المثال یقول البردونی فی قصیدته: الأخضر المغمور([5]):

یروِّی سِواه، وهو أظمى من اللظى

 

ویهوی، لکی ترقى السفوح الى الذُّرى

فلا یجد القارئ عناء فی فهم ما یقصده فی وصفه ذلک البطل المرجو الذی یرمز له بالأخضر؛ حیث الخضرة رمز الخیر والنماء، فهو فی البیت السابق یستخدم کلمة السفوح رمزًا لأولئک الذین یعیشون حیاة الذلة والخنوع فیرضون بالقاع، وکلمة الذرى رمزا لأولئک الذین سمت مکانتهم وعلوا على غیرهم. واستخدام العلو المکانی رمزا للعلو القیمی استخدام رمزی مألوف، لکنه یستخدم الوقوع والسقوط من الذرى رمزا للتضحیة بالنفس من أجل الغیر، وهو استخدام غیر مألوف، إذ السقوط من حالق کنایة عن الهلاک، لکن الشطر الأول یساعد على فهم مقصوده، حیث یجعله یروى غیره على ظمئه الشدید، وتلک درجة کبرى من الإیثار، فهذه المساعدة السیاقیة تقدم قرینة تساعد على التقاط الصفة المشترکة بین السقوط والتضحیة، إذ نجده سقوطا اختیاریا من أجل القابعین فی السفوح.، وکذلک یفعل البردونی فی البیت التالی الذی یقدم فیه رمزا جدیدا لکنه واضح مفهوم، یقول:

یقولون، مِن شکل الفوارس شکلُه

 

نعم... لیس تَکْسِیًّا، لمن قاد واکترى

فیستخدم کلمة التاکسی رمزا للرجل الذی یوصل الحاکم إلى ما یرید بمقابل مادی یأخذه، سواء کان هذا الأجر مالا أو جاها، وسواء قدم خدماته من خلال البلاغة کما یفعل مثقفو السلطة، أو من خلال القوة کما یفعل جنودها، أو من خلال الدهاء الإداری کما یفعل موظفوها. وعلى الرغم من جدة استخدام هذه الکلمة الدخیلة بهذا المعنى فإنها مفهومة للجمیع، حیث یقود السیاق اللغوی إلى الصفة المشترکة بین التاکسی وبین ذلک الشخص المستخدم فی توصیل مخدومه إلى غایته، فی مقابل أجر یحصل علیه.

والبیت الأخیر واضح فی أن الرمز یکون مفهوما حتى لو کان جدیدا، ما دام الربط ممکنا بین المرموز به والمرموز له من خلال اکتشاف مکان التقاطع أو باکتشاف الصفة المشترکة.

وتتضح هذه الفکرة عندما تصادفنا رموز یقع خلاف فی الصفة التی یحدث عندها التقاطع بین الدال والمدلول، من ذلک قول لیلى الأخیلیة([6]):

      ومُخرّقٍ عَنْهُ القَمِیصُ تَخالُهُ         وَسْطَ البُیُوتِ مِنَ الحیاءِ سَقِیما

حیث یتضح أنها تصف من تشیر إلیه بصفة تشترک مع صفة من صفات الشخص المخرق عنه القمیص، ولما کانت هذه الکنایة غیر مألوفة فقد اختلف الشراح فی فهم البیت تبعا لاختلاف الصفة الجامعة، فقیل إن المعنى:

ـ أنه مطلوب لقضاء الحاجات فالناس تتجاذب قمیصه، فتخرقه، وهو المعنى الذی ذکره أغلب الشراح.

ـ أنه زاهد لا یبالى أن یلبس الثیاب البالیة.

ـ وافترض الدکتور محمد محمد أبو موسى أن المقصود أنه عریض المنکبین([7])، مما یجعل قمیصه مخرقا لأنه یضیق عنه، وهو المعنى الأنسب لسیاق الأبیات التالیة.

وتتضح هذه الفکرة بشکل کبیر مع الأمثال، عندما لا ینقل شرحها بوضوح فلا نعرف کیفیة الانتقال، من ذلک قولهم (من دخل ظفار حَمَّر)، ومعنى المثل أن الإنسان یتأثر بمن یعیش معهم، ویقلد من یحیطون به، فمن دخل ظفار کان مثل أهلها، فما هی الصفة التی قلدها من دخل ظفار وأثبت من خلالها أنه مثل أهلها؟

هناک إجابتان: الأولى أن ظفار قریة بالیمن، کان أهلها یصبغون الملابس باللون الأحمر، وکان من دخلها یقلدهم فقیل من دخل ظفار حَمَّر، وقیل إن الصفة الجامعة هی الکلام بالحمیریة، وأن سبب المثل أن رجلا من العرب دخل على ملک من ملوک حمیر وهو على سطح له، فقال له الملک: ثِبْ، فوثب فتکسر فقال الملک: من دخل ظفار حَمَّرَ. أی تکلم بالحمیریة، لأن : ثب عند حِمْیَر معناها: اقعد([8]).

ونحو ذلک قولهم: «هو یرقم على الماء» وهنا یختلف المعنى باختلاف الصفة المفترض أنها تجمع بین المرموز به، [الرقم على الماء]، والمرموز له، فقد نفترض أن الصفة هی القدرة على المستحیل، وبذلک یکون معنى المثل: هو شدید المهارة، یفعل ما لا یستطیعه سواه، وهو معنى تؤدیه کنایات کثیرة فی الدارجة المصریة مثل دهان الهواء، وقد ذکر هذا المعنى صاحب نهایة الأرب([9])، غیر أن المعنى الشائع فی کتب البلاغة یفترض أن الصفة الجامعة هی فعل ما لا طائلة منه، فالرقم على الماء لا یؤدی إلى شیء مکتوب، فمن یرقم على الماء کمن یؤذن فی مالطا.  

وقد انتبه ابن جنی کعادته إلى هذا السبب لتعدد دلالة النصوص باختلاف الصفة التی تستخدم للربط، یقول فی معرض شرحه للمثل العربی:(هذا یوم لا یُنَادَى ولیده): « یُخْتَلَفُ فی تفسیره. فقال قوم إن الإنسان یذهل عن ولده لشدته، فیکون هذا کقول الله تعالى: ﴿ یَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ کُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾[الحج:2]، وقال قوم أی هو أمر عظیم، فإنما ینادى فیه الرجال لا الإماء والصبیة، وقال آخرون الصبیان إذا ورد الحی کاهن أو حَوَّاءُ أو رَقَّاءُ حشدوا علیه واجتمعوا له، أی لیس هذا الیوم بیوم أنس ولهو، وإنما هو یوم تجرد وجد، وقال آخرون وهم أصحاب المعانی: أی لا ولید فیه فینادى، وإنما فیه الکفاة والنَّهَضَةُ...  وعلى ذلک عامة ما جاء فی القرآن وفی حدیث النبی صلى الله علیه وسلم وَمَنْ بَعْدَهُ، رضوان الله علیهم، وما وردت به الأشعار وفصیح الکلام»([10]).

ومن الأمثلة التی توضح کیف أن فهم الرمز إنما یختلف باختلاف الصفة التی یفترض المتلقی أنها تربط بین الدال والمدلول ما یروى عن النبی صلى الله علیه وسلم:« ابن الثمانین أسیر الله فی أرضه». لقد قُدِّمَتْ لشرح هذا النص المنسوب للنبی دلالات متعددة([11])، هی:

- أن الصفة التی تربط بین الأسیر وابن الثمانین هی أنه من الفئات الضعیفة التی أوصى الله بالعنایة بها، قال تعالى:  ﴿وَیُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَىَ حُبّهِ مِسْکِینًا وَیَتِیمًا وَأَسِیرًا﴾ [الإنسان:8]، وبالتالی یصبح المعنى: أکرموا الأسیر.

-  أن الصفة المشترکة بین ابن الثمانین والأسیر هی أنه جدیر بأن یعفى عنه إذا وقع فی ید الکریم، فحکم الأسیر بین المن والفداء، عندما یکون أسیرا للناس، قال جل شأنه: ﴿حَتّىَ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدّواْ الْوَثَاقَ فَإِمّا مَنّا بَعْدُ وَإِمّا فِدَآءً حَتّىَ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ [محمد:4] ولما کان الفداء غیر متصور فی حقه جل شأنه، فإن حکم أسیر الله هو أن الله الکریم سیمن علیه بالعفو والمغفرة.

- أن معنى النص یأتی من الربط بین ابن الثمانین والأسیر من خلال صفة أخرى، هی أن ابن الثمانین هو الأسیر الذی لا عذر له، فالأسرى حکمهم: جواز العفو عنهم أو عقابهم، ویصبح افتراض العقاب أقوى مع الأسیر إذا کان بدون عذر. وابن الثمانین أسیر یستبعد العفو عنه، لأنه أسیر غیر معذور، فقد بلغ من العمر مدة کان یمکنه أن یتراجع فیها. وقد تم هذا الربط من خلال حدیث البخاری: «أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّینَ سَنَةً » ([12]) وإذا کان ابن الستین قد زال عذره فابن الثمانین أولى، فمن عُمِّرَ حتى الثمانین فهو کالأسیر، استنفد کثیرا من فرصه، وأصبحت حجته أضعف وموقفه أصعب مثل صعوبة موقف الأسیر. وهذا المعنى نفسه بصرف النظر عن الحدیث معنى مروی عن ابن عباس رضی الله عنه فی تفسیر قوله جل شأنه: ﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْکُم مَّا یَتَذَکَّرُ فِیهِ مَن تَذَکَّرَ ﴾[فاطر:37]، قال: العمر الَّذی أعذر الله فیه إلى ابن آدم ستون سنة([13]).

 وهکذا نجد للنص الواحد دلالات متعددة، تختلف باختلاف الربط الذی یقوم به المتلقی، ورغم أن هذا المعنى الأخیر لا یلائم سیاق حدیث المسند الذی تعود إلیه هذه العبارة المنسوبة للنبی صلى الله علیه وسلم ، فإنه یظل معنى محتملا عندما تروى هذه العبارة مستقلة. والحق أنها مستقلة أقوى من حدیث المسند الذی أزعم أنه حدیث معلول([14]).

وهکذا یتضح أن فهم الرمز الأدبی من خلال فهم العلاقة الجامعة بین المرموز به والمرموز له یؤدی فی أحیان کثیرة الدور الرئیس فی الکشف عن دلالة النص، وذلک عندما یکون المعنى مختزنا فی رمز ما أو عدة رموز لا یمکن فهم النص إلا من خلال معرفة المقصود بها، من ذلک ما نلاحظه فی القصة التالیة لمحمد المخزنجی([15]):

 [ وأنا صغیر أجوب الخلاء، أرفع رأسی إذ أسمع فوقی رفیفًا مضطربا لطائر یمرق، إنها یمامة مضروبة تهوی.

ها هی ذی فرصة سانحة للحصول على یمامة بلا عناء، وأطیر وراءها.

هأنذا أجری، الیمامة تهوی. ضربها أحدهم دون أن یصیبها فی مقتل. (أفکر فی کونها ستقع بمکان قریب)

جناحها مضروب، لکنها عنیدة، أجری أنا تحت، وترفرف هی فوق، تهبط رویدا رویدا حتى أکاد ألمسها. أرفع یدی قافزا لأنالها، لکنها تنفلت. تنطلق بأسرع ما تقدر، وتسقط من جناحها المضروب قطرة حمراء ساخنة، تبل یدی، تطیر فوق حقل مشتول، أخوض لألحق بها لاهثا، فتنغرز قدمای فی الطین، ها هی ذی تبتعد وأنا مغروز. أدرک أنها أفلتت، وأننی لن أمسک بها أبدا، أمسح قطرة دمها التی جفت وغمقت على یدی، وهی [الیمامة المضروبة] أراها هناک.

نقطة رفیعة، رفیعة ومجروحة، لکنها تجاهد فی الأفق]

یتحدث النص عن العناد والإصرار على المحاولة وعدم الاستسلام للظروف الصعبة، ویجعل هذه الصفات طریق النجاح والنجاة، کما یتحدث عن المکانة السامیة التی تعطیها هذه الصفات لأصحابها، بینما تکون المکانة الوضیعة من نصیب من یتصفون بعکسها. وقد عرض النص هذا المعنى من خلال تعبیر رمزی شائع، حیث نجد الیمامة المضروبة العنیدة فوق، فی السماء، تجاهد فی الأفق، بینما نجد الصبی الأنانی المستغل تحت، «أجری أنا تحت، وترفرف هی فوق» بل نجده مغروزا فی الطین، رمزا لوضاعة المکانة التی أدت إلیها وضاعة الصفات «ها هی ذی تبتعد وأنا مغروز... أراها هناک. نقطة رفیعة، رفیعة ومجروحة، لکنها تجاهد فی الأفق».

ولتأکید هذا المعنى یستخدم رمزا آخر، هو رمز الوصمة التی تلطخ الجلد، فقد سقطت من جناح الیمامة المضروبة قطرة من الدماء، بلت یده، ثم غمقت لتترک أثرها وتبقى وصمة تلاحقه حتى بعد أن نجت الیمامة، «أدرک أنها أفلتت، وأننی لن أمسک بها أبدا، أمسح قطرة دمها التی جفت وغمقت على یدی».  

إن الإنسان لا یتوقف عن الترمیز، الذی یعد من أهم خصائصه، ومن أکثر ما یستغل للترمیز صفات المکان والزمن، لنجد (فوق) رمزا، و(تحت) رمزا، ولنجد الیمین رمزا، والشمال رمزا، والطریق الزراعی فی نحو قولنا (طریقک زراعی) رمزا والصحراوی خلافه، والسهل رمزا والحزن أی الطریق الصعب رمزا، والفجر رمزا والغروب خلافه.

ویغری الحجم لصغیر لقصص المخزنجی باستخدام مثال آخر لتوضیح طبیعة الرمز، وکیفیة الربط بین المعنى الأول للکلمة، وهو الشیء الذی تشیر إلیه، والمعنى الثانی، وهو الدلالة المعنویة التی یرمز إلیها ذلک الشیء، وهذا المثال هو قصته التالیة، واسمها الأوتاد([16]):

[ ثلاث شجرات أمام البوابة، شجر غریب ساکن وقور، تمتد فروعه وما تلبث أن تَرْفِد فروعا تتدلى متجهة إلى الأرض.

یخبرنی الجانینی الطیب العجوز باسمًا أنها شجرات نادرة من نوع التین، ویشیر إلى الفروع المتجهة إلى الأرض، ویشرح لی کیف أنها ستغوص فی التربة کالخیمة تقوم على عمود واحد، وتشدها عشرات الأوتاد.

جاءوا (یُجَمِّلُونَ) المدخل برصیف من البلاط الأسمنتی ... ترکوا حول جذوع الشجرات فراغا قلیلا، لکنهم حالوا بین الفروع الهابطة والوصول إلى التربة.

یهز العجوز رأسه محتجًّا، متمتما:" غلط، أکبر غلط" فلا أعرف سببا لقوله.

فی مدة وجیزة طالت الشجرات ... سمقت کما لم أعتد أی نوع من الشجر. أقول للعجوز عن ملاحظتی، فیظل على حزنه المحتج وهو یشیر إلى الفروع الْمُدَلَّاةِ، وقد عجزت عن الغوص فی بلاطات الأسمنت، فجفت هشیما، ثم یشیر إلى أعلى الشجرات مهمهما: " همممم ... صحیح طالعة فوق فوق فی السماء، لکن..."

ویتجه إلى الجذوع قائلا وهو یهزها: ... ضعیفة جدًّا فی الأرض".

 ویدهشنی إلى حد الفزع أن أرى یدیه الضعیفتین تحرکان الشجرات السامقات بیسر، وکأنه ینفخ فی قشات طفت على ماء].

وینفتح النص على عدة احتمالات وفقا لاختلاف ترکیز المتلقی على أی من عناصره، إذ یوحی الترکیز على المفارقة بین طول الشجرات الشدید وضعفها الشدید بأن رسالة النص هی التحذیر من الانخداع بظواهر الأشیاء، دون معرفة مخبرها وحقیقتها، بینما یوحی الترکیز على السبب فی اختلاف وجهتی النظر إلى الشجرات بأن النص یتحدث عن دور الخبرة والحکمة فی معرفة حقائق الأمور، فقد منعت هذه الخبرة العجوز من الانخداع بما انخدع به الراوی الذی أدهشه ضعف الشجرات إلى حد الفزع، أما الترکیز على الدافع لاستبدال الرصیف الترابی بالرصیف الأسمنتی وهو الرغبة فی تجمیل المدخل فیقود إلى أن النص یقول إن التحدیث لیس تجمیلا على نحو دائم عندما یفسد الطبیعة، لا سیما أنه وضع کلمة (یُجَمِّلون) بین قوسین فی إشارة أن ذلک هو ما قاله الذین رصفوا المدخل، لکنه لیس الحقیقة.

ومع ذلک فکل هذه الاحتمالات تشحب عندما نفهم دلالة رمز الوتد الذی استخدمه النص عنوانا له، والصفة الأساسیة للوتد أنه یکون أثبت وأقوى عندما یغوص فی الأرض، وهذه هی الصفة الجامعة بین الوتد، والشجرات التی تشبه الوتد، والإنسان المرموز إلیه، وهو الإنسان الذی له أصل ثابت. ویعنى هذا أن مصدر القوة إنما هو الانغماس فی الأصل، وامتداد الجذور، أما إذا انقطع الشیء عن جذوره وعن أصوله فإنه یصبح هشًّا ضعیفا بل قد یذبل ویموت. هذا ما حدث مع الشجرات، وهو ما یحدث مع الإنسان إذا ابتعد عن جذوره وأصوله. وجذور الإنسان وأصوله هی تاریخه وماضیه، فالقصة تقول: إن من ینخلع من جذوره یذبل ویضعف ویموت. فالقوة مصدرها الأصل الذی هو الأرض للنبات، والعراقة والتاریخ والأهل للإنسان.

 المبحث الثانی: الصفات المشترکة بین الرمز اللغوی والرمز الأدبی.

أ- التعدد الدلالی:

یعنی تعدد المعنى أن تستخدم الکلمة بمعان متعددة، نحو کلمة المولى التی تدل على السید والحلیف والصاحب والصهر والقریب وابن العم والعبدوالمُعْتِق والمُعْتَق([1]). وتعد صفة تعدد المعنى من أهم صفات الکلمات، ویعزوها اللغویون إلى تناهی المفرادت ولا تناهی المعانی؛ ومن ثم یلزم أن تدل الکلمة الواحدة على معان متعددة.

وهذا الصفة لیست خاصة بالرموز اللغویة، وإنما تشارکها أیضا الرموز الأدبیة، فهی رموز متعددة المعنى. بل إننا قد نجد الکلمة تستخدم رمزا لمعنیین مختلفین فی نص واحد، کما نلاحظ فی نص بدر شاکر السیاب: جیکور والمدنیة([2])، یقول:

وتلتف حولی دروبُ المدینة 
حبالا من الطین یمضُغْن قلبی، ویُعْطِین عن جَمْرةٍ فیه طینه 
حبالا من النار یَجْلِدْن عُرْیَ الحقولِ الحزینه 
ویَحْرِقْنَ جَیْکُورَ فی قاع روحی ، ویزرعْنَ فیها رماد الضَّغینه 
دروبٌ تقول الأساطیرُ عَنْها 
على موقدٍ نام: ما عاد منها 
ولا عاد من ضفَّة الموتِ سارٍ 
کأن الصَّدى والسَّکینه 
جناحا أبی الهولِ فیها، جناحان من صخرة فی ثراها دفینه 
فمن یَفجُرُ الماء منها عیونا لتُبْنی قُرانا علیها ؟ 
ومن یُرْجِعُ الله یوما إلیها؟

یستخدم النص رمزا شائعا فی الشعر العربی المعاصر هو رمز المدینة، التی یرمز بها لجمود المشاعر واختفاء الإنسانیة، وضعف عاطفة الإنسان تجاه أخیه الإنسان، فی مقابل القریة التی یرمز بها لعکس ذلک.

ویبدو ذلک الاستخدام مفهوما حیث مَثَّلَت المدینة مصدر اغتراب لعدد کبیر من أهم أقطاب الشعر الحدیث، نحو بدر شاکر السیاب، وأمل دنقل، وأحمد عبد المعطی حجازی، وغیرهم من کبار الشعراء الذین نشأوا فی القریة لأسر بسیطة، ثم انتقلوا إلى المدینة للتعلیم أو للعمل، لیجدوا صعوبة فی الحیاة، ولتواجههم منظومة قیم مغایرة لمنظومة القیم التی تعودوا علیها، وقد عبر أحمد عبد المعطی حجازی عن ذلک فی مواضع کثیرة من دیوانه:[مدینة بلا قلب]، من ذلک قوله فی قصیدة:[الطریق إلى السیدة] ([3])

یا عم

أین طریق السیده:

أیمن قلیلا ثم أیسر یا بنی

قال ولم ینظر إلی

وسرت یا لیل المدینه،

أرقرق الآه الحزینه،

أجر ساقی المجهده

للسیده

للسیده. 

إننا فی المدینة أمام منظومة قیم مختلفة، ففی الریف فی ذلک الوقت، لن یجیب المسئول السائل الغریب دون أن ینظر إلیه، بل الغالب أن یأخذه من یده ویوصله للمکان الذی یسأل عنه، لا سیما أن السائل یسأل عن مسجد السیدة بصفاته المعروفة، [ وقد کان الغریب یذهب لمسجد السیدة زینب لیجد طعاما، وربما لیجد مأوى ینام فیه] ومن المتوقع فی الریف أن یتطوع المسئول فی مثل هذه الحالة باستضافة السائل على الطعام على الأقل، إن لم یکن على الطعام والمبیت.

نحن إذن أمام فروق جوهریة بین القریة وما نجد فیها من تعاطف إنسانی، والمدینة وما نجد فیها من قلوب باردة، وعقول لاهثة وراء المال. ورغم أن المدینة تغزو القریة شیئا فشیئا، فإن هذا الفرق یظل موجودا، بدرجة من الدرجات.

ومن هنا مثلت المدینة لهؤلاء الشعراء غربة حقیقیة فی مطلع حیاتهم، ولذلک أصبحت رمزا لجمود القلب، وقسوة المشاعر، وبرودة العواطف، فی مقابل القریة التی تمثل الإنسانیة المتعاطفة، والمشاعر الفیاضة، والجماعة المترابطة التی لم یفرق بینها اللهاث وراء الذهب والفضة، والبهرجة المصطنعة الزائفة.

وسواء کانت القریة کذلک أو لم تکن، وسواء کانت المدینة کذلک أو لم تکن، فهذه هی الصورة الذهنیة التی ترسم لکل منهما فی الشعر العربی الحدیث، لا سیما عند شعراء المدرسة الواقعیة اللذین بدأوا حیاتهم الأدبیة متصلین بشکل أو بآخر بالمدرسة الرومانسیة، ومن أهم هؤلاء الشاعر العراقی الکبیر: بدر شاکر السیاب.

فی قصیدة جیکور والمدینة یجعل فی هذه القصیدة بشکل خاص، وفی شعره بشکل عام، من قریته: (جیکور) أیقونة تجسد معانی النقاء والإنسانیة والأخوة والتعاطف، وهو هنا یوضح هذا الرمز بوضعه إزاء الرمز المناقض له، وهو المدینة.

لکن ما یهمنا هنا بصدد الحدیث عن تعدد المعنى أنه فی السطور الأولى یستخدم رمز (الطین) بمعنیین مختلفین. یبدأ النص بالحدیث عن غزو المدینة للقریة، ومحاولتها اختطاف أحد أبنائها لضمه إلى عالمهما، وإلغاء آثار جیکور فیه، یقول:

وتلتف حولی دروبُ المدینه 
حبالا من الطین یمضُغْن قلبی، ویُعْطِین عن جَمْرةٍ فیه طینه 
حبالا من النار یَجْلِدْن عُرْیَ الحقولِ الحزینه 
ویَحْرِقْنَ جَیْکُورَ فی قاع روحی، ویزرعْنَ فیها رماد الضَّغینه. 

إن المدینة لا تدعوه إلیها بالکلمات، ولا تحاول أن تجذبه بیدها فیکون الرفض سهلا، وإنما تتحول طرقها، ودروبها إلى حبال تلتف حوله، وفی ذلک إشارة واضحة جدا إلى صعوبة موقفه، والمدینة تحاول السیطرة علیه.

والنص یرمز لهذه الحبال التی هی دروب المدینة برمزین متتالین یوضحان القدرة الکبیرة للشاعر الموهوب على إنتاج الرموز، وتحویل الکلمات إلى دوال تدل على معان جدیدة.

 إن الحبال فی الصورة الأولى حبال من (الطین الجامد) الذی لا حیاة فیه، والذی یحاول أن یتمدد لیصل إلى قلب الشاعر الممتلئ بالإنسانیة والمشاعر الدافئة، ولذلک جعل هذا القلب جمرا، لیعطی الجمر معنى الدفء والحرارة فی مقابل الطین الجامد البارد البلید.

ثم نفاجئ فی السطر الثالث بتبدل الدلالة الرمزیة للکلمات، حیث لم تعد النار [التی تمثلها الجمرة فی السطر السابق] رمزا للحرارة والاتقاد، وإنما للإحراق، ولم یعد الطین الذی هو أصل الحقول رمزا للبلادة والجمود، وإنما أصبح رمزا للخیر والنماء، ذلک الخیر الذی تحرقه دروب المدینة التی نراها حبالا من النار، تحرق حقول جیکور، أی تحرق الخیر وتضع بدلا منه رماد الضغینة الموجود فی المدینة. 

ومثل هذه القدرة الکبیرة على الترمیز التی تتیح استخدام الکلمة للرمز للشیء ونقیضه فی سطرین متتالیین، تدل کما لاحظ الدکتور على عشری زاید فی قراءته المتمیزة لهذه القصیدة([4]) على قدرة شعریة فائقة على شحذ الکلمات بالمعانی.

إن الطین مستخدم فی السطر الثانی رمزا للجمود والتبلد، فی مقابل الاتقاد والحرارة والتی

ترمز له الجمرة، لکن الحقول التی تنتمی للمجال الدلالی للطین مستخدمة فی السطر الثالث رمزا للخیر، فی مقابل النار التی تنتمی للمجال الدلالی للجمرة، والتی یرمز بها هنا للإحراق، وتحویل الحقول إلى رماد الضغینة.

وإذن فرمز الجمر أیضا یستخدم فی سطرین متتالیین بدلالتین مختلفتین، فهو یدل فی السطر الأول على الإحراق، وفی الثانی على التوقد والذکاء، ویقابله رمز الطین الذی یستخدم أیضا بدلالتین مختلفتین، فهو فی السطر الأول یدل على الزرع والخیر الذی تحرقه نیران المدینة، بینما یدل فی السطر الثانی على التبلد والجمود فی مقابل التوقد والذکاء.

لکن هذا الرمز مستخدم بدلالة ثالثة فی قول إیلیا([1])   

نسی الطین ساعة أنه طیــ

 

ـــن حقیر فصال تیها وعربد

وکسى الخزّ جسمه فتباهى

 

وحوى المال کیسه فتمرّد

یا أخی لا تمل بوجهک عنّی

 

ما أنا فحمة ولا أنت فرقد

فالطین هنا رمز لحقارة الأصل التی ما کان یجب أن ینساها الإنسان فیتکبر ویتجبر.

ومن الرموز التی تستخدم بدلالات متعددة رمز الفراشة، فرمز الفراشة مستخدم فی الشعر العربی القدیم للإشارة إلى الضعف والهشاشة والموت الجماعی، کما نلاحظ فی قول المتنبی([2]):

کأن على الجماجم منه نارا

 

وأیدی القوم أجنحة الفراش

وبدلالة قریبة من هذه الدلالة یستخدم الرمز فی القرآن الکریم فی قوله جل شأنه: ﴿ یَوْمَ یَکُونُ النَّاسُ کَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾ [القارعة:4]  فالتشبیه بالفراش هنا یشیر إلى ثلاثة عناصر دلالیة هی الضعف والانتشار والکثرة، وقد أمسک الرازی بجوهر الدلالة فی قوله: « قال الزجاج: الفراش هو الحیوان الذی یتهافت فی النار، وسمی فراشا لتفرشه وانتشاره، ثم إنه تعالى شبه الخلق وقت البعث ههنا بالفراش المبثوث، وفی آیة أخرى بالجراد المنتشر. أما وجه الشبه بالفراش فلأن الفراش إذا ثار لم یتجه لجهة واحدة، بل کل واحدة منها تذهب إلى جهة غیر الأخرى، یدل هذا على أنهم إذا بعثوا فزعوا واختلفوا فی المقاصد على جهات مختلفة غیر معلومة، والمبثوث المفرق یقال بثه إذا فرقه، وأما وجه التشبیه بالجراد فهو الکثرة»([3]) .

غیر أن ما غلب على دلالة رمز الفراشة فی الشعر لیس ضعفها، وإنما ذهابها إلى النار، لیؤول أمرها إلى الاحتراق بها. وقد ظهر هذا المعنى أول مرة « فی حدود المادة التی استقرأتها وهی مادة واسعة» مع شعر الهجاء والخلافات القبلیة، حیث یُجَسَّدُ اقتراب المهجو من الشاعر أو قومه فی صورة اقتراب الفراشة من النار، جهلا بما سیؤول إلیه أمرها، یقول الکمیت بن زید الأسدی([4]):

کأن بنی ذویبة رهط قرد

 

فَرَاشٌ حول نار یصطلینا

یطفن بحرها ویقعن فیها

 

ولا یدرین ماذا یتقینا

وهو معنى استخدمه جریر فی هجائه غیر مرة، لیشیر إلى أن من بدأ مهاجاته کالفراشة التی تحرق نفسها، یقول([5]):

وما مستنیر الخبث إلا فراشة

 

هوت بین مؤتج الحریقین ساطع

ویکرر هذا المعنى فی قصیدة أخرى قائلا([6]):

أزرى بحلمکم الفیاش فأنتم

 

مثل الفراش غشین نار المصطلی

أی أن الرغبة فی الفیاش، وهو الفخر قد غیبت العقل، إذ إن المفتخر بمقارعة جریر کالفراشة تغشى النار فتحترق بها.

ویکرر الأندلسی یحیى ابن الحکم العزال هذا المعنى فی قوله([7]):

أنت والله کما حا

 

مت على النار الفراشة

وقد یکون الاقتراب نتیجة الطمع بأن یکون فی الاقتراب من النار خیر، فإذا به یعرض الفراشة للشواء فی النار، کما نلاحظ فی قول ابن الرومی فی مهجو له([8]):

عشوت إلى ناری بحلم فراشة

 

فصادفتها نزاعة لشواکا

أو قوله فی السیاق نفسه([9]):

عشو الفراشة نحو موقد مصطل

 

فانتاشها من جانبیه ضرام

فاقبض حصائد ما زرعت قصائدا

 

شنعا تجدد عارها الأیام

ولذلک یجعل ابن المعتز التعامی والخبال علة لمثل هذا التهافت فی النار([10]):

وهم فراش السوء یوم ملمة

 

یتهافتون تعاشیا وخبالا

وقد انتقل هذا الرمز إلى شعر الحب، رمزا لتجربة ظنها الشاعر حسنة من بعید، فإذا بها تؤدی إلى الاحتراق، فی اقتراب من وصف أبی العلاء المعری للمرأة بقوله فی اللزومیات:

هی النیران تحسن من بعید

 

ویحرقن الأکف إذا لمسنه

ولذلک یجعل الوأواء الدمشقی اقترابه من محبوبته کاقتراب الفراشة من النار([11]):

دعا بألحاظه قلبی إلى تلفی

 

فجاءه مسرعا طوعا یلبیه

مثل الفراشة تأتی إن رأت لهبا

 

إلى السراج فتلقی نفسها فیه

ومن هذا المنطلق أصبح رمز الفراشة رمزا رئیسا عند شعراء الرومانسیة، حیث تجربة الحب غیر المشبع التی تؤول إلى الشقاء، یقول ناجی([12]) :

فراشة حائمة

 

على الجمال والصبا

تعرضت فاحترقت

 

أغنیة على الربى

تناثرت وَبَعْثَرَتْ

 

رمادها ریح الصبا

ولا نحتاج إلى التمثیل أکثر لهذا الرمز بهذه الدلالة، فهو کما یلاحظ– بحق - طه وادی أحد أهم الصور عند شعراء الرومانسیة، لا سیما ناجی.([13])

غیر أن شیوع هذا المعنى فی الشعر الحدیث لا یعنی سیطرته علیه، فالفراشة تستخدم أیضا رمزا للفتاة الرقیقة اللطیفة الجمیلة؛ فهی کائن جمیل لطیف مسالم، یقول الأخطل الصغیر([14]):

 أخت الفراشات یلعبـ

 

ــن حالیات الجناح

لم تبق للزهر والطیــ

 

ــر من شذا وصداح

کم من وشاح کساها

 

الجمال کم من وشاح

ولأنها کائن مسالم لطیف ضعیف فإن نزولها على کتف الإنسان رمز لأنه لا یذعر أحدا، ولا یخیف شیئا، فهو مثال للسکینة والسلام، یقول محمود درویش([15]):

فماذا صَنَعْتُ لهم یا أبی

الفراشات حطت على کتفی

ومالت علیّ السنابل

والطیر حطت على راحتی

فماذا فعلت أنا یا أبی

ومن المحطات المهمة لرمز الفراشة استخدامه فی الشعر الصوفی، الذی جعل سعی الفراشة [وهی ترمز عندهم للروح] إلى النور اختیارا، وجعل احتراقها فناء، لیرمز إلى فکرة الفناء عند غلاة الصوفیة، ومن ثم أثار هذا الرمز إشکالا عقدیا کبیرا، لیس هذا البحث مکانا مناسبا للتوقف عنده.     

غیر أن التتابع السابق لا یعنی تطورا تاریخیا لرمز الفراشة، فتعدد دلالات الرمز نابع من تعدد الصفات التی یتقاطع معها کل نص من النصوص، ومن ثم فهذه الدلالات جمیعا کانت متعاصرة، ویمکن أن یستخدم الرمز بها، ولذلک نجد على محمود طه یستخدم الرمز فی العصر الحدیث بمعناه الذی ورد به أول مرة فی الشعر القدیم، وفی القرآن الکریم للدلالة على الضعف والهشاشة، یقول([16]):     

والقلب فی کف الفضاء فراشة

 

رفافة والعمر وشک نفاد

وهذا التتبع لاستخدام الرمز یجعلنا على وعی بأن الرمز إنما هو توظیف لصفة من صفات الشیء تتقاطع مع غیره فیرمز بها إلیه، ولذلک فإن عملیة القراءة لا یجوز لها أن تتجاوز هذه الصفة المرادة فی الرمز، وتساوی بین الرمز والمرموز بها فی صفة أخرى، أو فی الصفات کلها، وإلا فسنخرج بدلالات کثیرة لا یحتملها النص ولا یقولها، إذا ربطنا بین الرمز والمرموز فی صفات أخرى غیر الصفة التی یتقاطع معها النص.

والحق أنه دائما ما توجد صفات أخرى یمکن الربط من خلالها، ومن ثم توجد معان جدیدة محتملة، فعندما نقول فلان أسد، یتبادر إلى الذهن معنى الشجاعة، ومع ذلک فعند طرح السؤال عن أوجه الشبه الأخرى الممکنة التی تساعد على استغلال التشبیه بالأسد لأداء معان أخرى على الطلاب تلقیت إجابات من قبیل: هو أسد أی:    

- هو أنانی لأن الأسد اعتاد أن یأکل وحده.

   - هو قادر مسیطر فالأسد هو ملک الغابة.

- هو قنوع، فالأسد لا یصید ولا یأکل إلا إذا کان جائعًا.

- هو کسول لأن الأسد لا یصید بنفسه إنما تصید له أنثاه.

إن الصفات التی یتصف بها الأسد کثیرة، ویمکن استغلال کل صفة منها فى الربط، مما یولد دلالة جدیدة.

والذی یجب أن یکون القارئ على ذکر منه دائما أن علیه أن یکتشف الرابط ثم لا یتجاوزه، لأن التجاوز یعنی ادعاء التماثل بین الرمز والمروز له، وهذا غیر صحیح، فالمراد یکون استخدام التقاطع فی صفة من الصفات، ولا یلزم التسویة بین الصفات، ویؤدی عدم وضوح ذلک إلى أخطاء کبیرة جدا فی فهم النصوص، وقد کان هذا سببا فی معاناة کثیر من المبدعین.

ومن المفید لشرح الفقرة السابقة أن نکمل تعلیق الرازی على استخدام رمز الفراشة والجراد فی القرآن الکریم للإشارة إلى حالة الناس عند البعث، یقول: «.. وأما وجه التشبیه بالجراد فهو فی الکثرة، قال الفراء: کغوغاء الجراد یرکب بعضه بعضا، وبالجملة فالله سبحانه وتعالى شبه الناس بالجراد المنتشر، والفراش المبثوث، لأنهم لما بعثوا یموج بعضهم فی بعض کالجراد والفراش، ویؤکد ما ذکرنا قوله تعالى: ﴿فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾ [النبأ18] ... وقوله فی قصة یأجوج مأجوج: ﴿ وَتَرَکنا بَعضَهُم یَومَئِذٍ یَموجُ فی بَعضٍ وَنُفِخَ فِی الصّورِ فَجَمَعناهُم جَمعًا﴾ [الکهف:99]. فإن قیل الجراد بالنسبة إلى الفراش کبار، فکیف شبه الواحد بالصغیر والکبیر معا؟ قلنا: شبه الواحد بالصغیر والکبیر لکن فی وصفین، أما التشبیه بالفراش فبذهاب کل واحدة إلى غیر الجهة الأخرى، وأما بالجراد فبالکثرة والتتابع. ویحتمل أن یقال إنها تکون کبارا کالجراد ثم تصیر صغارا بسبب احتراقهم بِحَرِّ الشمس»([17])  

والأجابة الدقیقة هی الإجابة الأولى؛  إذ یجب عدم تخطی نقطة التقاطع المحددة بین الرمز والمرموز إلیه، وتعنى هذه الإجابة أن التشبیه کان بشیئین مختلفین أحدهما کبیر والآخر صغیر لأن الحجم لم یکن معتبرا فی الدلالة الرمزیة، فالمعتبر فی التشبیه بالجراد التشتت، وفی التشبیه بالفراش الکثرة.  أما الإجابة الثانیة فتعنی إعطاء مشروعیة للتسویة بین صفات المرموز به، والمرموز له، وقد نتجت مشکلات کثیرة عن عدم الوعی بهذه المسألة لا سیما فی حالة القصیدة القناع عندما یُسْتخدم أحد الأنبیاء [علیهم السلام] قناعا، فیتجاوز بعض القراء نقطة التقاطع المقصودة إلى ادعاء التماثل، وعن هذا التجاوز نتجت اتهامات کثیرة للشعراء بسبب عدم الوعی بطبیعة العلاقة بین المرموز به والمرموز له.  

ب ـــ الترادف فی الرموز

کما یُشْبِهُ الرمزُ الأدبیُّ الرمزَ اللغویَّ فی صفة تعدد المعنى الذی قد یصل إلى حد التضاد کما رأینا، یشبهه أیضا فی صفة تعدد الرمز للمعنى الواحد. وتعد هذه الصفة فی غایة الأهمیة بالنسبة لدارس الرموز الأدبیة، ولدارس الثقافة، لأنها تدل على الرموز المؤسسة للثقافة، فالمعانی التی تتعدد رموزها تمثل الأفکار الرئیسة فی کل ثقافة من الثقافات.

وبسبب ضوابط النشر الأکادیمی سنتوقف عند معنى واحد من المعانی التی تتعدد الرموز المستخدمة لتوصیلها، وهو المعنى الذی یقف وراء عدد کبیر من رموز المرأة فی الشعر العربی القدیم. 

ویعد رمز الشجرة بشکل عام والنخلة بشکل خاص من أهم رموز المرأة فی الشعر الجاهلی، وقد استخدم الحدیث النبوی النخلة رمزا للمسلم بشکل عام([18])، لکن الاستخدام الغالب فی الشعر الجاهلی أن هذا الرمز یخص المرأة.

ورمز النخلة رمز مرکب کما تشیر النصوص، فالعناصر التی تجمع المرأة بالشجرة کثیرة، منها عراقة الأصل، فجذور النخلة تمتد لمسافات طویلة، ومن ثم یکون أصلها ثابت، ومنها السمو والارتفاع، ولذلک یکون فرعها فی السماء بالتعبیر القرآنی، فالمرأة [النخلة] سامیة ذات عراقة وأصل([19]):

ألا یا نخلة من ذات عرق

 

علیک ورحمة الله السلام

ثم إن النخلة هی الظل فی الصحراء یأوی إلیها الإنسان من الهجیر، وتلک وظیفة المرأة الأثیرة لدى الرجال. وهی کذلک شجرة مثمرة تمنح اللاجئ إلیها أطیب الثمار، یقول الفرذدق مشیرا إلى ظل النخلة وثمرها:([20])

فَهَل أَنتِ إِلّا نَخلَةٌ غَیرَ أَنَّنی      

 

أَراها لِغَیری ظِلُّها وَصِرامُها

فالمرأة نخلة ظلیلة مثمرة، ولیست مثل بعض الناس الذین یتحدث عنهم متمم بن نویرة([21]):

وبعض الرجال نخلة لا جنى لها

 

ولا ظل إلا أن تعد من النخل

ثم إن النخلة [وکذلک السرحة] شجرة نضرة لا تجف، فهی تعیش على أقل المیاة، فإذا ما کانت على الماء کانت نضارتها شدیدة، وریحها عطرة، یقول الحسین بن مطیر الأسدی ([22])

کَلاَمُکِ یَا سَلْمَى وإنْ قَلَّ نَافِعی 

 

ولا تَحْسَبی أنِّی وَإنْ قَلَّ حَاقرُه

أَبَتْ سَرْحَةُ الأَثْمادِ إِلاَّ مَلاَحةً      

 

وطِیبًا إذا ما نَبْتُها اهْتَزَّ ناضِرُهْ

ولذلک یطالعنا کثیرا فی وصف النخیل الذی تشبه به النساء أنه على الماء یسقى غدوة ورواحا.

غیر أن المعنى الأهم الذی یربط النخلة بالمرأة فی الشعر الجاهلی هو معنى الحمایة، فالنخلة محمیة لا یستطیع أن یصل إلیها أحد؛ إذ کانت الواحات التی تضم النخیل تحتاج إلى الحمایة فی مجتمع یُخْرِجُ فیه القوی الضعیف من أرضه.

وفکرة الحمایة هذه هی السر الذی یجعل تشبیه النساء بالنخل فی لوحة الظعائن یستدعی الحدیث عن القوة والسیوف؛ فهؤلاء النساء الظاعنات محمیات لا یستطیع أن یقترب منهن أحد، یقول امرؤ القیس فی رائیته التی وظف فیها تشبیه الظعائن بالنخیل خیر توظیف رمزی یمکن أن یصل إلیه شاعر على مر العصور([23]):

 سَما لَکَ شَوقٌ بَعدَما کانَ أَقصَرا

 

وَحَلَّت سُلَیمى بَطنَ قَوٍّ فَعَرعَرا

کِنانِیَّةٌ بانَت وَفی الصَّدرِ وُدُّها

 

مُجاوِرَةٌ غَسّانَ وَالحَیُّ یَعمُرا

بِعَینَیَّ ظَعنُ الحَیِّ لَمّا تَحَمَّلوا

 

لَدى جانِبِ الأَفلاجِ مِن جَنبِ تَیمَرا

فَشَبَّهتُهُم فی الآلِ لَمّا تَکَمَّشوا

 

حَدائِقَ دومٍ أَو سَفینًا مُقَیَّرا

أَوِ المُکرَعاتِ مِن نَخیلِ اِبنِ یامِنٍ

 

دُوَینَ الصَفا اللائی یَلینَ المُشَقَّرا

سَوامِقَ جَبّار أَثیثٍ فُروعَهُ

 

وَعالَینَ قُنوانًا مِنَ البُسرِ أَحمَرا

حَمَتهُ بَنو الرَّبداءِ مِن آلِ یامِنٍ

 

بِأَسیافِهِم حَتّى أَقَرَّ وَأَوقَرا

وَأَرضى بَنی الرَّبداءِ وَاعتَمَّ زَهوُه

 

وَأَکمامُهُ حَتّى إِذا ما تَهَصَّرا

أَطافَت بِهِ جَیلان عِندَ قِطاعِهِ

 

تُرَدِّدُ فیهِ العَینَ حَتّى تَحَیَّرا

غَرائِرُ فی کَنٍّ وَصَونٍ وَنِعمَةٌ

 

یُحَلَّینَ یاقوتًا وَشَذرًا مُفَقَّرا

ففی الأبیات السابقة تجتمع الصفات المشترکة بین النخلة والمرأة إذ نجد النضارة  والعلو والإثمار والجمال ثم الحمایة بالسیوف، فظعائنه کالنخیل المکرعات، «وهی المغروسات فی الماء، وهی أنعم النخیل وأطولها» وهی نخلات سوامق تحمل ثمارا کثیفة، وهی بهیة جمیلة مُعْجِبَة، ترجع العیون النظر إلیها حتى تتحیر، ثم هى محمیة بالسیوف.

وقد کشف کل من حسن البنا عز الدین وبدر محمد إبراهیم عن البعد الرمزی للوحة الظعائن([24])، وأوضحا مدى ارتباطها بفکرة الخلافات القبلیة، وأن بدایة القصیدة بلوحة الظعینة یمثل تهدیدا بأن الصراع مع المخاطب الفعلی بالنص قد یؤدی إلى اضطرار نسائه إلى الظعن، حیث یکون الشعور السائد هو الخوف علیهن أن یتخطفن فی الطریق، فالحرب فی الجاهلیة کانت للمهزوم مخزیة أو مجلیة، فهو إما أن یقیم على شروط المنتصر، أو یرحل إلى حیث یأمن، وفی الرحلة یکون الخطر کبیرًا على الظعینة. ومن هنا استخدمت الظعائن رمزا للخلافات بین الأحلاف، وکانت لوحة الظعائن البدایة المناسبة للقصائد التی تتحدث عن الهجر الواقع فعلا، أو المنتظر قریبا، سواء کان من الصدیق أو الحبیبة.   

وهذا الارتباط هو السر فی تشبیه الظعائن بالسفنیة، فلیس أخوف عند العربی من رکوب البحر، وهو السر فی مجموعة الرموز التی تستخدم لوصف مآلات رحلة الظعینة على نحو ما شرحته بدر محمد إبراهیم([25]).

ولهذا السبب یستحضر امرؤ القیس السیوف فی لوحة الظعائن التی بدأ بها قصیدته التی قالها عندما تَرَکَ نساءَه واضطر للرحیل إلى قیصر یستنصره، فترک بنات الملوک المطموع فیهن غرائر فی کن وصون ونعمة یخاف علیهن، ویأمل أن تکون غربتهن محمیة.

وقد استجمع حمید بن ثور عناصر الرمز کلها على نحو رائع فی قافیته الفریدة، حیث اضطر إلى الرمز لمحبوبته عندما منع من الحقیقة، یقول([26]):

سَقى السَّرحَةَ المِحلالَ والأَبطَحَ الَّذی      

 

بِهِ الشَّریُ غَیثٌ مُدجِنٌ وَبُروقُ

عَلا النَّبتُ حَتّى طالَ أَفنانُها العُلا      

 

وَفی الماء أَصلٌ ثابِتٌ وَعُروقُ

فَیا طیبَ رَیّاها وَیا بَردَ ظِلِّها      

 

إِذا حانَ من حامی النَّهارِ ودوقُ

حمى ظلَّها شکْسُ الخَلیقَةِ خائفٌ      

 

عَلیها غرامَ الطائِفین شَفیقُ

فَلا الظِلّ مِنها بِالضُّحى تَستَطیعَهُ      

 

وَلا الفیءَ مِنها بِالعشی تَذوقُ

أَبى اللَّهُ أَلا أَنَّ سرحةَ مالِکٍ      

 

عَلى کُلِّ أَفنانِ العِضاةِ تَروقُ

ففی الأبیات نجد صفات السرحة التی تبرر الرمز کلها، فنجد السرحة التی طالت إلى العلا، ونجد أصلها الثابت، ونجد ظلها البارد، ونضارتها الشدیدة، ثم نجدها محمیة لا یستطیع أحد أن ینال من ثمرها أو ظلها.

وعلى الرغم من کثرة الصفات التی تجمع بین المرأة والنخلة فإن تتبع الشعر القدیم یظهر أن الرابط الأهم فی الثقافة بین المرأة والنخلة هو فکرة الحمایة، وأن أحدا لا یستطیع الوصول إلیها، فالمرأة العربیة مصانة محمیة وهی بیضة الخدر التی لا یرام خباؤها.

إن هذه الفکرة قابعة وراء أهم رموز المرأة فی الشعر العربی القدیم، من ذلک رمز البیضة فهی بیضة النعامة، لأنها مصونة، أو رمز الدرة، فهی درة أو لؤلؤة؛ لأنها مکنونة.

یقول زهیر بن أبی سلمى([27]):

وکأنها یوم الرحیل وقد بدا

 

منها البنان یزینه الحناء

بَردیة فی الغیل یغذو أصلها 

 

ظل إذا طلع النهار وماء

أو بیضة الأدحی بات شعارها

 

کنفا النعامة جؤجو وعفاء

 فهی بردیة لیس لأنها منعمة غضة فحسب، ولکن لأنها فی الغیل، وهو الشجر الملتف الذی یحمیها، وهی بیضة الأدحی لیس لأنها جمیلة فحسب، وإنما لأن النعامة تحوطها بصدرها وریشها، فکأن هذا الریش ملابس لها، فهی محمیة مصانة.

  وعندما تشبه المرأة بالدرة یکون الجمال عنصرًا من عناصر التشبیه، لکن العنصر الأبرز هو صعوبة المنال، ولذلک فعندما یُغْرِق الأعشى فی بیان الرمز لا یتحدث عن اللمعان، وإنما عن صیاد اللؤلؤ، وکیف یکاد یهلک فی الوصول إلى تلک الدرة البعیدة المنال، یقول أبو بصیر([28]):

کَأَنَّها دُرَّةٌ زَهراءُ أَخرَجَها      

 

غَوّاصُ دارینَ یَخشى دونَها الغَرَقا

قَد رامَها حِجَجًا مُذ طَرَّ شارِبُهُ      

 

حَتّى تَسَعسَعَ یَرجوها وَقَد خَفَقا

لا النَّفْسُ توئسُهُ مِنها فَیَترُکُها

 

وَقَد رَأى الرَّغبَ رَأیَ العَینِ فَاحتَرَقا

وَمارِدٌ مِن غُواةِ الجِنِّ یَحرُسُها      

 

ذو نیقَةٍ مُستَعِدٌّ دونَها تَرَقا

لَیسَت لَهُ غَفلَةٌ عَنها یُطیفُ بِها      

 

یَخشى عَلَیها سرى السارینَ وَالسَّرَقا

حِرصًا عَلَیها لَوَ انَّ النَفسَ طاوَعَها      

 

مِنهُ الضَّمیرُ لَیالی الیَمِّ أَو غَرِقا

تِلکَ الَّتی کَلَّفَتکَ النَّفْسُ تَأمُلُها      

 

وَما تَعَلَّقتَ إِلّا الحَینَ وَالحَرَقا

وواضح أن الترکیز لیس على جمال الدرة، وهو معنى مقصود على کل حال، لکن الجامع الرئیس هو صعوبة الوصول، فقد کانت الدرة حلما قدیما للغواص منذ نبت شاربه، وقد ظل حججا یرومها، دون أن ییأس فیستریح، ودون أن یحصل علیها، وکیف یحصل علیها ومن یحرسها مارد من الجن لا یغفل عنها، فهو حارس لا تنقصه القوة ولا الیقظة.

ومن اللافت للنظر أن فکرة صعوبة الوصول هذه هی التی تقف وراء تشبیه ریق المرأة بالعسل، فالجامع لیس حلاوة الطعم فقط، بل - قبل ذلک - فکرة صعوبة الوصول إلى ما بهذه الجوهرة المصونة والدرة المکنونة من حلاوة، ولذلک عندما یوغل الأعشى فی التشبیه بالعسل یستحضر کیف کاد مشتار العسل یهلک فی صعوده إلى الجبل؛ حیث یحمی النحل الشرس غذاءه حمایة فائقة، یقول الأعشى([29]):

کَأَنَّ طَعمَ الزَّنجَبیلِ وَتُفـ      

 

فاحًا عَلى أَریِ الدَّبورِ نَزَل

ظَلَّ یَذودُ عَن مَریرَتِهِ      

 

هَوى لَهُ مِنَ الفُؤادِ وَجَل

نَحلًا کَدَرداقِ الحَفیضَةِ مَر      

 

هوبًا لَهُ حَولَ الوَقودِ زَجَل

فی یافِعٍ جَونٍ یُلَفَّعُ بِالـ      

 

صحرى إِذا ما تَجتَنیهِ أَهَل

یُعَلُّ مِنهُ فو قُتَیلَةَ بِالـ      

 

إِسفِنطِ قَد باتَ عَلَیهِ وَظَل

وکما تحضر رائحة الفم الزکیة وحلاوته، تحضر صعوبة الوصول إلى العسل البعید الذی یحمیه النحل المرهوب ذو الصوت القوی الذی یجعل القلب فی وجل وفزع. وهذا الحضور لفکرة صعوبة الوصول إلى العسل حضور قدیم نجده عند عبید بن الأبرص([30])، وإن کان الأعشى یغرق کعادته فی التفاصیل.

وهکذا نجد هذا المعنى له رموز کثیرة تدل علیه، کما توجد للأسد کلمات کثیرة تدل علیه فی اللغة العربیة، وکما توجد للجَمَلِ کلمات کثیرة تدل علیه لأهمیته عند العرب، وکما توجد للثلج کلمات کثیرة جدا تدل علیه فی لغة الإسکیمو لأهمیته عندهم.

 وکما تدل کثرة المترادفات على أهمیة الشیء فی الثقافة، فإن کثرة الرموز تدل على أهمیة الفکرة فی الثقافة، مما یؤکد جوهریة فکرة صیانة المرأة وکون الوصول إلیها أمرا صعب المنال، وهی الفکرة التی تتجلى فی أمور کثیرة غیر لغویة لعل أبرزها الحجاب.

ج ـــــ التغیر الدلالی  

من المعروف أن دلالة المفردات تتغیر بتغیر الزمان والمکان، فکلمة الحاجب تستخدم الآن بمعنى الساعی فی المحکمة، لکنها کانت تستخدم فی الأندلس للدلالة على منصب یساوی الآن الوزیر الأول أو رئیس الوزراء، وکلمة الشنب تستخدم الآن بمعنى الشارب ومعناها ماء الأسنان وبردها وصفاؤها، کما نجد فی قول ذی الرمة([31]):

لمیاء فی شفتیها حوة لعس        وفی اللثات وفی أنیابها شنب

بل قد یختلف معنى الکلمة عدة مرات عبر التاریخ، کما فی کلمة البرید، قال المطرزی:« البرید فى الأصل الدابة المرتبة فى الرباط، ثم سمى به الرسول المحمول علیها، ثم سمیت به المسافة المشهورة »([32]). وهى معان تختلف جمیعا عن المعنى الذى تستعمل به الکلمة الآن.

ونظرا لخطورة أن تفهم الکلمات بمعناها الحادث فی نصوص تستخدم فیها بمعنى قدیم لم یعد مستعملا اعتمد الأصولیون والمفسرون وشراح الحدیث النبوی الشریف قاعدة عامة مفادها أن "اللفظ السابق لا یحمل على الاصطلاح الحادث"([33]) وقدموا أمثلة کثیرة لسوء الفهم عندما لا ینتبه الشارح لهذه القاعدة.

وکما تتغیر دلالة الکلمات عبر الزمان تتغیر عبر المکان وقد یصل التغیر إلى حد التضاد، قال ابن فارس:" ومن الاختلاف: اختلاف التضادِّ، وذلک قول حِمْیَر للقائم "ثبْ" أی اقعد" ([34]) فالفعل وثب یثب فی العربیة الشمالیة معناه قفز یقفز، لکنه فی لغة حمیر معناه جلس، ولذلک حکوا " أن زید بن عبد الله بن دارِم وفد عَلَى بعض ملوک حِمْیَر فألْفاه فِی مُتَصَیَّد لَهُ عَلَى جبل مُشْرِف، فسلم عَلَیْهِ وانتسب له، فقال لَهُ الملک "ثب" أی اجلس، وظن الرجل أنه أمره بالوثوب من الجبل فقال: "لتجدنی أَیُّها الملک مِطْواعًا، ثُمَّ وثب من الجبل فهلک، فقال: الملک: مَا شأنه؟ فخبّروه قصته وغلطه فِی الکلمة، فقال أما إنه لیست عندنا عربیة [کعربیتکم](·)، مَنْ دَخَلَ ظَفَارِ حَمَّرَ... أراد من دخل ظفار فلیتعلم الحمیریة"([35])

وهذه الروایة الشائعة فی کتب الأدب واللغة مثال واضح على ما یمکن أن یؤدی إلیه عدم معرفة اختلاف دلالة المفردات حتى إذا کانت روایة غیر صحیحة. وعدم صحتها هو الغالب بسبب اضطراب الأسماء والأماکن الشدید بین الکتب فیها، لکنها فی کل الحالات مثال على شدة الإحساس قدیمًا بخطورة اختلاف دلالة المفردات.

غیر أن الخطورة والخفاء تکون أکبر عندما یتعلق الأمر بدلالة الرمز الأدبی، إن دلالة الرموز الأدبیة تتغیر عبر الزمان والمکان کما تتغیر دلالة الکلمات التی هی الرموز اللغویة. من أمثلة ذلک رمز الحمار، فهو فی الشعر الجاهلی رمز للقوة والصبر وشدة التحمل، کما نجد فی نصوص کثیرة منها قول امرئ القیس([36])

کَأَنِّی وَرَحْلِی عَلَى أَحْقَبٍ

 

بِشُربَةَ أَوْطَافٍ بِعِرْنَانَ موجِس

وقوله([37]):

کَأَنِّی وَرِدْفِی وَالْقِرَابِ وَنُمْرُقِی

 

عَلَى ظَهْرِ عَیْرٍ وَارِدِ الخَبِرَاتِ

وقول بشر بن أبی خازم([38])

کَأَنَّ قُتُودِی عَلَى أَحْقَبٍ

 

یُرِیدُ نَحُوصًا تَؤُمُّ السِّلَامَا

وفی کل هذه القصائد وغیرها کثیر جدا تبدو صورة الحمار قویا صبورا شدید التحمل، ولذلک أطلق على مروان بن محمد، آخر خلفاء بنی أمیة «الخلیفة الحمار» نظرا لجلده وشدة تحمله للحوادث حین ولی الأمر فی فترة کان نجم بنی أمیة قد آذن بالمغیب، فأظهر قدرة وجلدا، بید أن الوقت کان قد ولى. ولا تزال هذه الدلالة الرمزیة للحمار تمثل صورته فی الولایات المتحدة الأمریکیة، حیث یتخذ رمزا للحزب الدیمقراطی.

غیر أن الدلالة الرمزیة للحمار قد اختلفت اختلافا کبیرا، فأصبح رمزا للبلادة وعدم الفهم منذ فترة طویلة. ویبدو أن هذا التغیر کان بعد أن ارتبطت صورة الحمار بالحمر الأهلیة أکثر من الحمر الوحشیة، وبعد التمثیل القرآنی به للذین حملوا التوراة ثم لم یحملوها.   

ورغبة عن الإطالة سنستخدم نموذجا واحدا من نماذج کثیرة توضح خطورة عدم الانتباه إلى اختلاف دلالة الرمز فی فهم النصوص، هو رمز الراعی للإشارة للحاکم فی الحدیث الشریف.  

إن معنى رمز الراعی فی الحدیث الشریف: «کُلُّکُمْ رَاعٍ فَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِیَّتِهِ» یُعْرَف بالنظر إلى الصفة الجامعة بین الراعی والحاکم فی زمن ورود الحدیث الشریف ولیس بعد ذلک، وهی صفة الانقهار أمام المُسْتَرْعِی وقت المحاسبة، فالراعی قدیما کان أجیرا ضعیفا لا نصیر له.

 إن الحدیث الشریف ینظر إلى علاقة الراعی بمن استرعاه ووظفه فی رعایة ممتلکاته، أی علاقة الراعی بصاحب المال، أو علاقة المفوَّض بمن فَوَّضَهُ، [ وهی فی حالة الملک علاقته بربه الذی آتاه الملک] فیفهم منه معنى المسئولیة والمحاسبة، ویفهم منه أن التفویض الممنوح له توظیف لا تشریف، وأنه غیر مطلق، بل مقید بأوامر من فوضه، کالخادم الذی سمی أیضا فی الحدیث الشریف نفسه راعیا، فی مال سیده، فهو مفوض فی إدارته، لکن ذلک لا ینفی أنه یدیر وفق القواعد التی أمر بها من فوضه، ومن سیحاسبه حسابا عسیرا، وهکذا مع سلطة المرأة فی مال زوجها، ومع سلطة الراعی على الغنم، فهی سلطة ناقصة ومشروطة ومقیدة بمقاصد المُفَوِّض ویتلوها حساب شدید.

ومن ثم فإطلاق لفظ الراعی على الأمیر یعنی شدة المحاسبة کما کان الراعی یُحَاسَبُ فی ذلک الوقت، وقد کانت مهنة الرعی أقل المهن فی سلطة المستأجَر أمام المستأجِر، لدرجة أن بعضهم کان قبل الإسلام یقتل الراعی فی عِقَال بعیر، ومن ثم ارتبطت مهنة الرعی بالتواضع.

وهذا الوعی بسیاق الرمز یؤکد أن وصف الأمیر بأنه راع یعنی أنه فی خطر شدید لأنه سیحاسب حساب الراعی، بالنظر إلى ضعف قدرة الراعی أمام صاحب المال، ومن هنا وصفت الإمارة بأنها ذلة وندامة.

غیر أن هذه الدلالة قد تغیرت تغیرا کبیرا عندما تم الجمع بین الراعی والحاکم – فی فترة لاحقة - بالنظر إلى علاقة الراعی بموضوع الرعایة، أی علاقة الراعی بالغنم المرعیة ولیس بصاحب المال، وعندئذ یکون المعنى هو شدة تسلط الراعی وتحکمه، فالغنم لا تعرف مصالحها وإنما یصلح الراعی شأنها. وهذا المعنى غیر مقصود على الإطلاق فی الحدیث النبوی الشریف الذی کرر کلمة المسؤولیة خمس مرات، ثم ذکر أمثلة أخرى للرعایة تکون مکانة الراعی أقل ممن وظفه – کالعبد فی مال سیده -  للإشارة إلى الرابط الجامع، وهو شدة المحاسبة، قال صلى الله علیه وسلم: «کُلُّکُمْ رَاعٍ فَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِیَّتِهِ، فَالْأَمِیرُ الَّذِی عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَیْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِیَةٌ عَلَى بَیْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِیَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَیِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَکُلُّکُمْ رَاعٍ وَکُلُّکُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِیَّتِه»([39])   

إن المعنى المقصود من تشبیه هؤلاء المکلفین بالراعی فی الحدیث الشریف هو شدة المسئولیة والمحاسبة، بحیث یکون الحاکم کأقل الأجراء عندما یحاسب على ما استحفظ، وهذا ما قصده أبو مسلم الخولانی عندما قال لمعاویة وهو خلیفة: "السلام علیک أیها الأجیر، فقال الناس: الأمیر، فقال معاویة: دعوا أبا مسلم، هو أعلم بما یقول"([40]) لکن ما حدث بعد ذلک أنه قد أعید إنتاج دلالة التشبیه لتلائم ما أصبح علیه الملوک من قوة وسلطة، فتم ترکیز النظر على علاقة الراعی بالمال ولیس بصاحبه الذی وظفه، وأصبح الرابط أن له حق التصرف إذ هو الأعلم بالمصلحة، وهو معنى یتجاهل معطیات السیاق اللغوی والثقافی الذی یحدد صفات الراعی حینئذ، وهی الصفات التی یتم الجمع على أساسها.

د- سیاقیة المعنى بین الرمز اللغوی والرمز الأدبی.

یتصف الرمز اللغوی بتعدد الدلالة کما سبق، لکن تعدد الدلالة فی أحیان کثیرة یتصل بالکلمة خارج السیاق، أما عندما توضع فی السیاق فالغالب أن یحدد السیاق لها معنى من المعانی المحتملة، فکلمة (ضرب) لها معان کثیرة محتملة، لکنها فی الجمل:

- یؤلمنی ضرب زید علیا.

- أحفظ جدول الضرب منذ فترة طویلة.

- ضرب الأمثال یوضح الأمور الغامضة.

- ضرب العملة قدیم فی مصر.

ذات معنى واحد، یحدده السیاق، ولا یظهر قبل أن توضع الکلمة فیه، وهذا هو المقصود بسیاقیة معنى الرمز اللغوی.

والأمر کذلک مع الرمز الأدبی، فهو متعدد المعنى، وسیاقه اللغوی والخارجی یسهم فی أحیان کثیرة فی توضیح المعنى المراد، وإن بقی الاحتمال قائما فی أحیان أخرى.

فعلى سبیل المثال رأینا فی الصفحات السابقة أن رمز الفراشة قد استخدم لعدة دلالات، لکن هذه الدلالات کلها تختلف عن الدلالة التی یستخدمه بها مهیار الدیلمی فی قوله([41]):

 ووراء ثأرک غلمة لسیوفهم

 

فی الروع من مهج العدا ما اختاروا

یتهافتون على المنون کأنهم

 

حرصا فراش والمنیة نار

حلماء فی الجلى فإن هم أغضبوا

 

طاشوا فحنت فیهم الأوتار

فسیاق المدح یؤکد أن الوصف الجامع هنا هو الکثرة والسرعة، فهو یصف ممدوحه بأنه عزیز على أتباعه بحیث یتهافون فی الحرب على أعداء الممدوح کتهافت الفراش على النار، ولا شک أن فکرة احتراق الفراش بالنار لم تعد واردة، ومن ثم لم یعد عنصر الجهل بمآلات الأمور ورادا کما وجدنا فی الدلالات السابقة للرمز.

والأمر کذلک فی قول لیلى الأخیلیة الذی سبقت الإشارة إلیه:

ومُخرّقٍ عَنْهُ القَمِیصُ تَخالُهُ               وَسْطَ البُیُوتِ منَ الحیاءِ سَقِیما

فقد افترض الشراح لقولها ومخرق عنه القمیص عدة معان، أهمها أنه مطلوب لحوائج الناس، فیتجاذبون قمیصه ویخرقونه، أو أنه زاهد لا یبالى أن یلبس الثیاب البالیة، وافترض الدکتور محمد محمد أبو موسى أن المقصود أنه عریض المنکبین([42]).

وعندما نحلل سیاق الأبیات یستبعد على الأقل المعنى الثانی، أی معنى الزهد، ویبقى المعنى الأخیر أقوى المعانی، فالبیت فی سیاق المدح، وهی تصف قومها بصفات البطولة کلها، مشیرة إلى استعدادهم الدائم للمعارک، ورعایتهم للخیول التی هی أداتها، وبأن منهم من یرى مخرقا قمیصه، أی قویا فتیا، ومع ذلک فإن الحیاء یجعل من یراه یظن به المرض، فإذا ما رفع اللواء أصبح زعیما على الخمیس، تقول([43]):

قَوْمٌ رِبَاطُ الْخَیْلِ وَسْطَ بُیُوتِهِمْ

 

وَأَسِنَّةٍ زُرْقٍ تُخَالُ نُجُومَا

وَمُخَرَّقٍ عَنْهُ الْقَمِیصُ تَخَالُهُ

 

وَسْطَ الْبُیُوتِ مِنَ الْحَیَاءِ سَقِیمَا

حَتَّى إِذَا رَفَعَ اللِّوَاءَ رَأَیْتَهُ

 

تَحْتَ اللِّوَاءِ عَلَى الْخَمِیسِ زَعِیمَا

والوصف بالقوة الجسمانیة هو ما یناسب السیاق، ولذلک رجح الدکتور محمد أبو موسى کما سبق أن یکون المعنى هو أنه عریض المنکبین.

ومن الأمثلة التی توضح سیطرة السیاق على المعنى حتى إنه لیحیل المعنى إلى نقیض الدلالة الرمزیة المألوفة قول العقاد عن عسکری المرور([44]):

مُتَحَـکِّمٌ فـِى الرَّاکبـیـ          

 

نَ وَمَـا لَــهُ أبدًا رُکُوبَهْ

لَـهُمُ الْمَثُوبَـةُ مِـْن بَـنَا          

 

نِکَ حِینَ تـَـأْمُرُ وَالْعُقُوبَهْ

مُرْ مَا بَدَا لَکَ فِى الطَّرِیـ     

 

قِ وَرُضْ عَلَى مَهَلٍ شُعُوبَه

أَنَـا ثَـائرٌ أَبَـدًا وَمَــا                

 

فِـی ثَوْرَتِی أَبَـدًا صُعُوبَهْ

أَنَـا رَاکِبٌ رِجْـِلى فَـلَا        

 

أَمْــرٌ عَلَـىَّ وَلا ضَرِیبَهْ

وَکَـذَاکَ رَاکِــبُ رَأْسِهِ         

 

فِـی هَــذِه الدُّنْیَا الْعَجِیبَهْ

فالعقاد یستخدم رکوب الرأس فی البیت الأخیر بدلالة غیر الدلالة المألوفة لها، وهی الدلالة على العناد، والقارئ یبدأ اکتشاف الدلالة الجدیدة عندما یتحقق من أن الدلالة الشائعة لا تتماشى مع السیاق، فیبدأ فی البحث عن دلالة مناسبة.

 إن هذه الأبیات تبدو للوهلة الأولى شدیدة البساطة والمباشرة، ومع ذلک فإن بالإمکان قراءتها على مستوى أعمق، وتلک هی طبیعة کثیر من قصائد هذا الدیوان [دیوان عابر سبیل] الذی عرض فیه العقاد لتجارب حیاتیة بسیطة لیوصل من خلالها أفکاره العمیقة، مؤکدًا أن عین الشاعر قادرة على أن ترى شعرًا فی کل شیء.

على المستوى المباشر تتحدث الأبیات عن عسکری المرور، موضحة کیف یتحکم فى الراکبین ویأمرهم وینهاهم، ویثیب هذا ویعاقب ذاک بإشارة منه، [حیث یبدو من النص أن تحکماته أبعد کثیرا من تطبیقه لقوانین وظیفته؛ فهو یعاقب من یشاء، ویثیب من یشاء، ویأمر بما بدا له فی الطریق].

ثم تذکر الأبیات أن الشاعر بعید عن تحکم عسکری المرور، وأنه لا یحتاج أن یدفع له؛ کما لا یحتاج أن یدفع لسائق أی سیارة من السیارات أجرًا على نقله من مکان لآخر؛ لأنه یرکب رجله، ویصل إلى حیث یرید مشیًا على قدمیه. وتقارن الأبیات بین ثلاثة أصناف:

ـ صنف یتحکم فیه عسکری المرور، وهم أصحاب السیارات أو رکابها.

ـ وصنف لا یتحکم فیه عسکری المرور، یمثله الشاعر الراکب لرجله

ـ وصنف ثالث لا یتحکم فیه عسکری المرور أیضًا، وربما لا یتحکم فیه أحد، وهو الصنف الذی یرکب رأسه.

وعندما نقارن بین هذه الأصناف محاولین إیجاد الجامع الذی یربط بین الصنفین اللَّذَیْنِ خرجا عن التحکم سنکتشف أن النص یتحدث عن علاقة التحکم والسیطرة بالحاجة إلى الآخرین، موضحًا کیف أن احتیاج الإنسان إلى غیره یجعل الإنسان مُتَحَکَّمًا فیه، ویجعل ذلک الغیر مُتَحَکِّمًا فی من یحتاج إلیه ومسیطرًا علیه، حتى إذا لم تکن لهذا المتحکم المتسلط قدرة فى ذاته: ( وما له أبدًا رکوبه). لکن مجرد الحاجة إلیه تعطیه سلطة وقدرة على القهر والعقاب: (لهم المثوبة من بنانک حین تأمر والعقوبة). أما من یرکب رجله فقد خرج عن دائرة التحکم؛ لأنه لیس محتاجًا، وکذاک من یرکب رأسه.

وعندما نتأمل بعمق معنى العبارة: (وکذاک راکب رأسه) سنصل إلى أن المقصود هنا هو من یستخدم أفکاره هو لا أفکار الآخرین، ویستعمل عقله هو لا عقول الآخرین، ویحل مشکلاته بنفسه ولا یترک مسئولیة حلها للآخرین، فهذا الصنف الثالث الذی ینطلق إلى غایته راکبًا رأسه لا رأس غیره، لا یتحکم فیه أحد أصلا، لأنه لا یکون محتاجًا إلى أحد. 

ثم إن هذا القسم من الناس هو وحده القادر على الرفض، والقادر على أن یثور على ما لا یعجبه فی أی وقت یرید، إذ إنه یستخدم فی انتقالاته وفی قضاء مصالحه بشکل عام قدراته الذاتیة [یرکب رجله]، ومن ثم فهو فی غیر حاجة إلى أن یُرْضِی أحدًا:

أَنَـا ثَـائرٌ أَبَـدًا وَمَــا                

 

فـِی ثَوْرَتِی أَبَـدًا صُعُوبَهْ

ومن أین تأتی الصعوبة؟ وهو غیر محتاج لأحد!

أما من یرکبون السیارات ففی رفضهم لتحکمات عسکری المرور صعوبة کبیرة؛ لأنهم یحتاجون إلیه، وحینئذ سوف یبدو واضحا معنى قوله :[ فی هذه الدنیا العجیبة]، إذ إن مصدر العجب هو أن عدم الملکیة الذی قد یبدو صعبًا ویبدو مصدرا للمشقة والتعب کان سببا للخروج عن دائرة تحکم الآخرین، فالذی یرکب رجله ویتحمل المشقة نتیجة أنه لا یملک سیارة هو الذی ینجو من التسلط، وکذاک یکتشف من یرکب رأسه ولا یأخذ الحلول الجاهزة من الآخرین، أنه الأکثر راحة رغم ما فى الاستعانة بالحلول الجاهزة من سهولة ویسر، ورغم ما فی حل الإنسان لمشاکله برأسه هو من مشقة وتعب.

وثمة احتمالات أخرى لقراءة النص، لکن ما یهمنا هنا هو تأکید أهمیة المرونة فی قراءة الرمز الأدبی، واحترام صفة سیاقیة الدلالة وضرورة التخلص من سیطرة المجال والسیر مع الدلالة المألوفة، حیث إن الإصرار على فهم رکوب الرأس بالدلالة الشائعة یمثل عائقا فی فهم النص، فالکنایة: (وکذاک راکب رأسه) یکاد یقتصر استخدامها فی الدارجة المصریة للتعبیر عن العناد، بینما استخدمها الشاعر تعبیرًا عن اعتماد الإنسان على فکره الخاص، وعلى رأسه هو لا على رؤوس الآخرین، فهو یرکب رجله لیصل إلى المکان الذی یریده، ویرکب فکره کذلک لیصل إلى الأهداف التی یرجوها، والکنایة یمکن دائمًا أن تقرأ على نحو غیر النحو الشائع المألوف، ویحتاج إدراک ذلک إلى درجة کبیرة من المرونة، کما یحتاج إلى أن یکون المتلقی على وعی دائم باتصاف الرمز الأدبی بسیاقیة المعنى، تماما کما یتصف بها الرمز اللغوی.

وکما یتسع مفهوم السیاق مع الرمز اللغوی لیشمل السیاق الخارجی الذی تستخدم فیه الکلمة، أی لیشمل العناصر غیر اللغویة للحدث الکلامی، نحو صفات المتکلم والمخاطب وعاداتهما وثقافتهما ومکان وزمان التکلم ومجمل عناصر سیاق الموقف، فإن هذا یحدث أیضا مع الرمز الأدبی؛ ولذلک فمن المهم أن یکون المتلقی حَذِرًا، وأن یحاول قدر المستطاع إتمام سیاق النص، وإلا فسوف تکون النتیجة فهما غیر صحیح للرموز.

ومن أشهر أمثلة ذلک عدم فهم رمز وجود الحیوان فی لوحة الطلل فی الشعر الجاهلی، لقد سودت صفحات کثیرة جدا حول معنى ذلک الرمز، لکن أکثر ما قیل لم یکشف عن دلالة الرمز التی کانت تحتاج کما تقول بدر محمد إبراهیم إلى تتبع استخدامه فی الشعر القدیم کله، تقول:« وقد شاع بین الباحثین أن هذا الحدیث عن الحیوان ووجوده آمنا وإنجابه صغارا رمز لاستمرار الحیاة فى المکان، أو لکون الطلل یحمل دلالتى الفناء والبقاء معا، بید أن استقراء النصوص التى ورد فیها هذا الحدیث یوحى بصفة أخرى یراد الإشارة إلیها عن طریقه، هى صفة التأبد والتوحش، لقد أصبح المکان موحشًا لا أنیس به بعد الرحیـل، فسکنته هذه الحیوانات التى لا توجد فى مکان یوجد به البشر یقول عنترة:

ولا دیارهم بالأهل آنسة

 

یأوى الغراب بها والذئب والنمر

ویقول عبید:

وبُدّلت من أهلها وحوشا

 

وغیرت حــالها الخـطوب

وهذا التبدیل بطبیعة الحال تبدیل غیر محبوب ولا مطلوب، یقول :

دیارهم إذ هم جمیع فأصبحت

بسابس إلا الوحش فى البلد الخالى

فإن تک غبراء الخبیبة أصبحت

خلت منهم واستبدلت غیر أبــدال
 

فقدما أرى الحى الجمیع بغبطة

بها واللیالى لا تدوم على حال (126)
 

وکونها غیر أبدال (أى أن التبدیل له دلالة سیئة) هو ما یؤکده الأعشى :

 یا من یرى ریمان أمـ

ـسى خاویا خربا کعابه

 أمسى الثعالب أهلــه

 

بعد الذین هم مآبه»([45]) 

  وقد نقلت النص على طوله بشواهده حتى یکون واضحا أن دلالة التوحش هی الدلالة المقصودة من هذا الرمز فعلا، على نحو ما کشفت بدر محمد إبراهیم.

والشاهد فی هذا المثال لیس فقط إمکانیة خفاء معنى رمز أدبی لفترة طویلة رغم شیوعه، بل الشاهد هو أن معنى هذا الرمز کان سیصبح سهلا ومؤکدا من خلال إدراک السیاق الثقافی للنص؛ ذلک أن معنى هذا الرمز کان واضحا جدا بالنسبة لکاتب هذه السطور، بسبب معرفته بأن وجود هذه الحیوانات کنایة سامیة قدیمة عن الخراب، ورثها الشعر الجاهلی. ولهذه الکنایة شواهد کثیرة جدا فی العهد القدیم، جاء فی سفر إرمیا: « هُوَ ذَا صَوْتُ خَبَرٍ جَاءَ، وَاضْطِرَابٌ عَظِیمٌ مِنْ أَرْضِ الشِّمَالِ، لِجَعْلِ مُدُنِ یَهُوذَا خَرَابًا، مَأْوَى بَنَاتِ آوَى.»([46]) والنص واضح جدا فی أن وجود الثعالب فی الدیار إنما هو رمز على خرابها واستیحاشها، فالثعالب لا توجد حیث یوجد الأنیس: وهذا هو المعنى فی قول الأعشى([47]):

وَتَصِیرُ بَعْدَ عِمَارَة ٍ

 

یومًا لأمرِ خرابها

إنّ الثّعَالِبَ بِالضّحَى

 

یلعبنَ فی محرابها

والجنْ تعزفُ حولها

 

کَالحُبْشِ فی مِحْرَابِهَا

وکذلک کل هذه الحیوانات التی أکثر الشعراء من ذکر وجودها فی الطلل فی الشعر الجاهلی: نجد وجودها فی الدیار رمزا للخراب فی العهد القدیم، جاء فی سفر إشعیا: « 10مِنْ دَوْرٍ إِلَى دَوْرٍ تُخْرَبُ. إِلَى أَبَدِ الآبِدِینَ لاَ یَکُونُ مَنْ یَجْتَازُ فِیهَا.11وَیَرِثُهَا الْقُوقُ وَالْقُنْفُذُ، وَالْکَرْکِیُّ وَالْغُرَابُ یَسْکُنَانِ فِیهَا، وَیُمَدُّ عَلَیْهَا خَیْطُ الْخَرَابِ وَمِطْمَارُ الْخَلاَءِ12. أَشْرَافُهَا لَیْسَ هُنَاکَ مَنْ یَدْعُونَهُ لِلْمُلْکِ، وَکُلُّ رُؤَسَائِهَا یَکُونُونَ عَدَمًا.13 وَیَطْلَعُ فِی قُصُورِهَا الشَّوْکُ. الْقَرِیصُ وَالْعَوْسَجُ فِی حُصُونِهَا. فَتَکُونُ مَسْکِنًا لِلذِّئَابِ وَدَارًا لِبَنَاتِ النَّعَامِ14. وَتُلاَقِی وُحُوشُ الْقَفْرِ بَنَاتِ آوَى، وَمَعْزُ الْوَحْشِ یَدْعُو صَاحِبَهُ. هُنَاکَ یَسْتَقِرُّ اللَّیْلُ وَیَجِدُ لِنَفْسِهِ مَحَّلاً15.هُنَاکَ تُحْجِرُ النَّکَّازَةُ وَتَبِیضُ وَتُفْرِخُ وَتُرَبِّی تَحْتَ ظِلِّهَا. وَهُنَاکَ تَجْتَمِعُ الشَّوَاهِینُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ.»([48])

 وبهذا تتأکد صفة سیاقیة الدلالة بالنسبة للرمز الأدبی، وحاجته المؤکدة لتحلیل السیاق اللغوی والسیاق الخارجی کما هو الشأن مع دلالة الکلمات أو الرموز اللغویة.   



[1] - دیوان إیلیا أبی ماضی[الأعمال الکاملة]، دار العودة، بیروت، لبنان، د.ت، ص: 316 .

[2] - دیوان المتنبی، دار بیروت للطباعة والنشر، بیروت، لبنان، 1983، ص: 242.

[3] - تفسیر الرازی: (مفاتیح الغیب)، ج 16، ص: 69، تفسیر الآیة الرابعة من سورة القارعة.

[4] -  دیوان الکمیت بن زید الأسدی، جمع وشرح وتحقیق:محمد طریفی، ط1، دار صادر، بیروت، لبنان، 2000، ص: 394.

[5] - دیوان جریر، دار بیروت للطباعة، لبنان، 1986، ص: 288.

[6] - دیوان جریر: 359.

[7] - دیوان یحیى بن الحکم الغزال، جمعه وحققه وشرحه: محمد رضوان الدایة، دار الفکر المعاصر، بیروت، لبنان، 1993، ص:62.

[8] - دیوان ابن الرومی، تحقیق: حسین نصار، مرکز تحقیق التراث، دار الکتب المصریة، ط3، القاهرة، 2003. ج5، ص:1849.

[9] - السابق: 2153.

[10] - دیوان ابن المعتز، دار صادر، بیروت، لبنان، د، ت، ص: 377.

[11] - دیوان الوأواء الدمشقی، تحقیق سامی الدهان، ط1، دتر صادر، بیروت، لبنان: 1993، ص: 750.

[12] - شعر إبراهیم ناجی: الأعمال الکاملة، کلمات عربیة للترجمة والنشر، القاهرة، 2012، دیوان الطائر الجریح، ص:236.

[13] - طه وادی: شعر ناجی، الموقف والأداة، مکتبة النهضة ، القاهرة 1976 ، ص 136-139 . 

[14] -بشارة بن عبد الله الخوری [الأخطل الصغیر]، شعر الأخطل الصغیر، قصیدة ندى، نسخة إلکترونیة.

[15] - محمود درویش، الأعمال الکاملة، ریاض الریس للکتب والنشر، ط1، بیروت، لبنان، 2005، دیوان ورد أقل، قصیدة: (أنا یوسف).

[16] - علی محمود طه، الأعمال الکاملة، کلمات عربیة للترجمة والنشر، القاهرة، 2012،دیوان الشوق العائد، قصیدة صاحب الأهرام، ص: 337.

[17] -  مفاتیح الغیب: 16/ 69.

[18] -  الإحالة على حدیث الشیخین عن عبد الله بن عمر رضی الله عنهما « إن من الشجر شجرة لا یسقط ورقها وهی مَثَلُ المسلم، حدثونی ما هی؟ فوقع الناس فی شجر البادیة، ووقع فی نفسی، أنها النخلة، قال عبدالله: فاستحییت، فقالوا: یا رسول الله أخبرنا بها، فقال علیه الصلاة والسلام: هی النخلة، قال عبد الله: فحدثت أبی بما وقع فی نفسی، فقال: لأن تکون قلتها أحب إلی من أن یکون لی کذا وکذا» متفق علیه.

[19] - هذا البیت من الشواهد النحویة المشهورة، انظر: البغدادی، خزانة الأدب، 2/198.

[20] - دیوان الفرزدق، شرحه وطبعه: على فاعور، دار الکتب العلمیة، بیروت، لبنان، 1987، ص: 553.

[21] - مالک ومتمم ابنا نویرة، جمع ودراسة: ابتسام مرهون الصفار، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1968، ص: 131، والبیت لمتمم، وهو من شواهد سیبویه.

[22] - دیوان الحسین بن مطیر الأسدی، جمعه وقدم له: حسین عطوان، ص: 164.

[23] - دیوان امرئ القیس: تحقیق محمد أبو الفضل إبراهیم، دار المعارف، القاهرة، 1990، ص: 56-57.

[24] - انظر: حسن البنا عز الدین: قصیدة الظعائن فی الشعر الجاهلی، دار عین، القاهرة، ط1، 1993، ص: 18 وما بعدها، وبدر محمد إبراهیم: السرد فی الشعر الجاهلی، دار النصر، القاهرة،2007، 284، وما بعدها   

[25] - السرد فی الشعر الجاهلی، 293، وما بعدها.

[26] - دیوان حمید بن ثور: 33-41.

[27] - دیوان زهیر: 202.

[28] - دیوان الأعشى، تحقیق: محمد محمد حسین، مکتبة الآداب، القاهرة، 1950، قصیدة 80، ص: 367.

[29] - دیوان الأعشى: 277.

[30] - دیوان عبید، تحقیق حسین نصار، مکتبة الثقافة الدینیة، القاهرة:2004. ص:97، یقول:

بارک فی مائها الإله فما

 

بیض منها کأنه عسل

من ماء حجناء فی ممنعة

 

أحرزها فی تنوفة جبل

 

[31] - دیوان ذی الرمة، تحقیق: مجید طراد، دار الکتاب العربی، ط2، 1996، ص:29.

[32] - المطرزی: المُغْرِب فی ترتیب المُعَرَّب، تحقیق: محمود فاخوری، وعبد الحمید مختار، الطبعة الأولى، مکتبة أسامة بن منقذ، حلب، سوریة، 1979، 1/67. 

[33] - ابن حجر: فتح الباری، 3/ 373.

[34] - ابن فارس: الصاحبی فی فقه اللغة العربیة وسنن العرب فی کلامها، شرح وتحقیق: السید أحمد صقر، الهیئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة الذخائر، العدد99، ص:31.

  • · - ما بین المعقوفتین کلمة زائدة على الأصل المطبوع،  أشار المحقق إلى ثبوتها فی بعض النسخ، وهی مهمة للمعنى فأثبتها.

[35] - ابن فارس: الصاحبی: ص:32.

[36] - دیوان امرئ القیس: ص:101

[37] - السابق: 79.

[38] - دیوان بشر بن أبی خازم، قدمه وشرحه: مجید طراد، دار الکتاب العربی، بیروت، لبنان، 1994. ص: 1994.

[39] _متفق علیه من حدیث عبد الله بن عمر رضی الله عنهما، رواه البخاری فی کتاب العتق، رقم:2381، ومسلم فی کتاب الإمارة، رقم:  3414

[40] - أبو نعیم الأصفهانی، حلیة الأولیاء وطبقات الأصفیاء، مکتبة الخانجی بالقاهرة، ودار الفکر، ببیروت، 1996. ج: 2/ ، ص: 125.

[41] - الأبیات عن مسالک الأبصار فی ذکر الممالک والدیار، لابن فضل الله العمری، طبعة المجمع الثقافی (أبو ظبی)، ج: 15/ 424، وهی من قصیدته: مَنْ حَاکِمٌ وخصومی الأقدار.

[42]- محمد محمد أبو موسى: التصویر البیانی :دراسة تحلیلیة لمسائل البیان ، ط3، مکتبة وهبة، القاهرة، 1993. ص: 387.

[43] - دیوان لیلى الأخیلیة، ص:110.

[44] - العقاد: خمسة دواوین للعقاد، الهیئة المصریة العامة للکتاب،1965 ص: 392، وانظر قراءة موسعة لهذا النص فی: حسام قاسم: قراءة النص الأدبی وسیلة لدعم مهارات التفکیر والإبداع، رسالة المشرق، ملحق العددان الأول والثانی، 2006، ص: 104، وما بعدها، ونقد نقلت عن تحلیل النص بتصرف یسیر.

[45] - بدر محمد إبراهیم: السرد فی الشعر الجاهلی، دار النصر للطباعة والنشر، ط1، 2007، ص: 169-170.

[46] - إرمیا: 10/ 22.

[47] - دیوان الأعشى، قصیدة 39، ص:251.

[48] - إشعیا: 34/ 10-15.



[1] - انظر: لسان العرب، مادة (ولی).

[2] - انظر فی الاستخدام المزدوج لهذا الرمز فی القصیدة: شفیع السید: تجارب فی نقد الشعر، مکتبة الشباب، القاهرة،1990،ص: 197

[3] - أحمد عبد المعطی حجازی: الأعمال الکاملة، دیوان : مدینة بلا قلب، ص: 51.

 

[4] - علی عشری زاید، قراءات فی الشعر العربی المعاصر، دار الفکر العربی، القاهرة، 1998، ص:136.



[1] - انظر على سبیل المثال: من الکتب فی الموضوع: محمد فتوح أحمد: الرمز والرمزیة فی الشعر المعاصر، دار المعارف، ط1، القاهرة، 1977، ومن البحوث: جلال عبد الله خلف: الرمز فی الشعر العربی، مجلة دیالی، العدد الثانی والخمسین، العراق، 2011، ومراجعهما المتعددة.

[2] - عاطف مدکور: علم اللغة بین القدیم والحدیث، دار الثقافة للنشر والتوزیع، ط1، القاهرة، 1986، ص: 22.

[3] - الشوقیات، دار الکتاب العربی، بیروت، لبنان، ج2، ص:77.

[4] - عاطف مدکور: علم اللغة بین القدیم والحدیث، مرجع سابق، ص: 16-17.

[5] - البردونی: الأعمال الشعریة الکاملة،الهیئة الیمنیة العامة للکتاب، ط1، صنعاء، 2002، ج1،ص:747.

[6] - دیوان لیلى الأخیلیة، عنی بجمعه وتحقیقه: خلیل إبراهیم العطیة، وجلیل العطیة، سلسلة کتب التراث، العدد 5، وزارة الثقافة والإرشاد، العراق،د.ت. ص: 110.

[7] - محمد محمد أبو موسى: التصویر البیانی: دراسة تحلیلیة لمسائل البیان، ط3، مکتبة وهبة، القاهرة، 1993. ص: 387.

[8] - لسان العرب، مادة وثب.

[9] - النویری: نهایة الأرب فی فنون الأدب، باب ما یتمثل به مما ذکر فیه الماء. 1/161، وقال أبو هلال العسکری بهذا المعنى أیضًا فی جمهرة الأمثال، قال: یقال للحاذق هو یرقم على الماء، أی: من حذقه.

[10] ـ ابن جنی: الخصائص، تحقیق محمد على النجار، ط1، الهیئة المصریة العامة للکتاب، القاهرة 1986، ج3، ص: 166- 168.

[11] - انظر فی دلالات هذا الخبر وأصحابها ومصادرها: حسام قاسم: التناص وأثره فی إنتاج الدلالة، رسالة المشرق، مرکز الدراسات الشرقیة بجامعة القاهرة، 2008، ص:25 وما بعدها.

[12] - صحیح البخاری، کتاب الرقاق ، الحدیث رقم 594 ، باب من بلغ ستین سنة فقد أعذر إلیه، وقد أخرجه مسلم والنسائی وأحمد.

[13] - تفسیر الطبری، 20/ 478، وانظر تفسیر الآیة عند ابن کثیر، والشوکانی فی فتح القدیر.

[14] - أصل هذه العبارة ما رواه أحمد مرتین عن أنس رضی الله عنه: [ ما من معمر یعمر فی الإسلام أربعین سنة إلا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء: الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ خمسین سنة لیَّن الله علیه الحساب، فإذا بلغ ستین رزقه الله الإنابة إلیه بما یحب، فإذا بلغ سبعین سنة أحبه الله وأحبه أهل السماء، فإذا بلغ الثمانین قبل الله حسناته وتجاوز عن سیآته، فإذا بلغ تسعین غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وسمی أسیر الله فی أرضه وشفع فی أهل بیته] وهو حدیث ضعیف سندا، معلول متنا بسبب تناقضه مع فلسفة الحسنات والسیئات فی الإسلام، ومخالفته للخبرة العملیة، وقد ذکره ابن الجوزی فی الموضوعات،[1/284] ولذلک فقد رفض الألبانی محاولات تحسینه، ورفض إجازة روایته للترغیب، السلسلة الضعیفة رقم: 5983.

[15] - محمد المخزنجی: الآتی [مجموعة قصصیة]:، الطبعة الثالثة، ط3، دار الشروق، القاهرة، 2007، ص:27.

[16]- محمد المخزنجی: الآتی، مرجع سابق، ص: 12.

- إحسان عباس: تاریخ النقد الأدبی عند العرب، ط 4، دار الثقافة، بیروت، 1983.
- أحمد مجاهد: أشکال التناص الشعری، دراسة فی توظیف الشخصیات التراثیة، الهیئة المصریة العامة للکتاب، القاهرة، 2004.
- أحمد مختار عمر: علم الدلالة، ط1، مکتبة دار العروبة للنشر والتوزیع، القاهرة ، 1982.
- الأعشى: دیوانه، تحقیق: محمد محمد حسین، مکتبة الآداب، القاهرة، 1950.
- الأعلم الشنتمرى:
- شرح  دیوان النابغة الذبیانى، تحقیق: محمد أبو الفضل إبراهیم، ط 2، دار المعارف، القاهرة 1985.
- شعر زهیر بن أبى سلمى، تحقیق: فخر الدین قباوة، ط 3، دار الآفاق الجدیدة، بیروت 1980.
- بدر محمد إبراهیم: السرد فی الشعر الجاهلی، دار النصر للطباعة والنشر، ط1، 2007.
- البردونی: الأعمال الشعریة الکاملة، الهیئة الیمنیة العامة للکتاب، ط1، صنعاء، 2002.
- بشر بن أبی خازم: دیوانه، قدمه وشرحه: مجید طراد، دار الکتاب العربی، بیروت، لبنان، 1994.
- جریر بن عطیة: دیوانه، دار بیروت للطباعة، لبنان، 1986.
- جلال عبد الله خلف: الرمز فی الشعر العربی، مجلة دیالی، العدد الثانی والخمسین، العراق،
2011.
- ابن جنی: الخصائص، تحقیق محمد على النجار، ط1، الهیئة المصریة العامة للکتاب، القاهرة 1986.
- حسام أحمد قاسم:
-  التناص وأثره فی إنتاج الدلالة، رسالة المشرق، مرکز الدراسات الشرقیة بجامعة القاهرة، 2008.
- قراءة النص الأدبی وسیلة لدعم مهارات التفکیر والإبداع، رسالة المشرق، إصدار خاص، ملحق العددان الأول والثانی، 2006
- حسن البنا عز الدین: قصیدة الظعائن فی الشعر الجاهلی، ط1، دار عین، القاهرة، 1993.
- الحسین بن مطیر الأسدی: دیوانه، جمعه وقدم له: حسین عطوان، محلة معهد المخطوطات العربیة، مجلد 15، ج1.
- ذو الرمة: دیوانه، تحقیق: مجید طراد، ط2، دار الکتاب العربی، 1996.
- الرازی: مفاتیح الغیب أو التفسیر الکبیر ، ط11 ، دار الغد العربی ، القاهرة ،1991. 
- ابن الرومی: دیوانه، تحقیق: حسین نصار، ط3، مرکز تحقیق التراث، دار الکتب المصریة، القاهرة، 2003.
- سیزا قاسم: القارئ والنص: العلامة والدلالة، ط1، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة،2002.
- شفیع السید: تجارب فی نقد الشعر، مکتبة الشباب، القاهرة،1997.
- الطبری: جامع البیان عن تأویل آی القرآن، ط1، دار الفکر للطباعة والنشر، بیروت، 2001 .
- طه وادی: شعر ناجی، الموقف والأداة، مکتبة النهضة، القاهرة 1976. 
- عاطف مدکور: علم اللغة بین القدیم والحدیث، ط1، دار الثقافة للنشر والتوزیع، القاهرة، 1986.
- عبید بن الأبرص: دیوانه، تحقیق حسین نصار، مکتبة الثقافة الدینیة، القاهرة:2004.
- العقاد: خمسة دواوین للعقاد، الهیئة المصریة العامة للکتاب،1965.
- علی عشری زاید: قراءات فی الشعر العربی المعاصر، دار الفکر العربی، القاهرة، 1998.
- ابن فارس: الصاحبی فی فقه اللغة العربیة وسنن العرب فی کلامها، شرح وتحقیق: السید أحمد صقر، الهیئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة الذخائر.
- الفرزدق: دیوانه، شرحه وطبعه: على فاعور، دار الکتب العلمیة، بیروت، لبنان، 1987.
- القرطبى: الجامع لأحکام القرآن ، ط 2 ، دار الکتب المصریة ، القاهرة ، 1935.
- الکمیت بن زید الأسدی: دیوانه، جمع وشرح وتحقیق:محمد طریفی، ط1، دار صادر، بیروت، لبنان، 2000.
- لیلى الأخیلیة: دیوانها، عنی بجمعه وتحقیقه: خلیل إبراهیم العطیة، وجلیل العطیة، سلسلة کتب التراث، العدد 5، وزارة الثقافة والإرشاد، العراق.
- مالک ومتمم ابنا نویرة: دیوانهما، جمع ودراسة: ابتسام مرهون الصفار، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1968.
- المتنبی: دیوانه، دار بیروت للطباعة والنشر، بیروت، لبنان، 1983.
- محمد توفیق سعد: دلالة الألفاظ عند الأصولیین دراسة بیانیة ناقدة ط 1، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1987.
- محمد محمد أبو موسى: التصویر البیانی: دراسة تحلیلیة لمسائل البیان ، ط3، مکتبة وهبة، القاهرة،1986.
- محمد المخزنجی: الآتی [مجموعة قصصیة]، ط3، دار الشروق، القاهرة، 2007.
- محمد فتوح أحمد: الرمز والرمزیة فی الشعر المعاصر، دار المعارف، ط1، القاهرة، 1977.
- محمود درویش: الأعمال الکاملة، ریاض الریس للکتب والنشر، ط1، بیروت، لبنان، 2005.
- محمود موسى حمدان: أدوات التشبیه دلالاتها واستعمالاتها فی القرآن الکریم، ط1، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1992.
- ابن المعتز، دیوانه، دار صادر، بیروت، لبنان، د، ت.
- أبو نعیم الأصفهانی: حلیة الأولیاء وطبقات الأصفیاء، مکتبة الخانجی بالقاهرة، ودار الفکر، ببیروت، 1996.
- الوأواء الدمشقی: دیوانه، تحقیق سامی الدهان، ط1، دتر صادر، بیروت، لبنان: 1993.
- یحیى بن الحکم الغزال: دیوانه، جمعه وحققه وشرحه: محمد رضوان الدایة، دار الفکر المعاصر، بیروت، لبنان، د.ت.