الدين بين الأساطير والمعارف التقليدية

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

حاصل على دکتوراة ، قسم اللغة العربي ، جامعة عين شمس

المستخلص

يدور البحث حول العلاقة الجدلية بين الدين من ناحية والفکر الخرافي من ناحية أخرى، مع محاولة تحرير مصطلح الخرافة بما يُشحن به من دلالات الکفر والخزعبلات والترهات، إلى فضاء يقترب بمصطلح الخرافة من مصطلح المعارف التقليدية، أو الفلکلور إذا جاز لنا استخدام مصطلح حديث.
والباحث في سبيل ذلک الهدف يحاول فک الاشتباک بين المعارضة المفتعلة بين الدين والخرافة عن طريق التفريق بين مصطلحي الخرافة والأسطورة، باعتبار أن الأولى معرفة تقليدية أما الأسطورة فهي بقايا ديانات قديمة تنازع الدين الجديد (وهو هنا الإسلام) وهو ما يفسر سر الخصومة الشديدة التي يحملها الإسلام لـ(أساطير الأولين) وما شابه، ةعلى العکس من ذلک موقف الإسلام من الخرافة التي لم ترد في القرآن سلبا ولا إيجابا، في حين وردت في السنة النبوية بشکل إيجابي أکثر من مرة.

الكلمات الرئيسية


لم یذکر القرآن دال «الخرافة» بأی من اشتقاقاتها ولو مرة واحدة، فی حین ذکر «الأسطورة» تسع مرات فی تسع سور، منها ثمانی سور مکیة (الأنعام/ 25 – النحل/ 24 – المؤمنون/ 83 – الفرقان/ 5 – النمل/ 68 – الأحقاف/ 17 – القلم/ 15 – المطففین/ 13)، وسورة واحدة مدنیة (الأنفال/ 31). وربما کان السبب فی ذلک هو حالة التنافس الکتابی والشعائری بین الأساطیر القدیمة، والکتاب المقدس الجدید (القرآن)، الذی لم یسلم من کونه: «أساطیر الأولین» التی قیل أحیانا إن النبی محمد «اکتتبها»([1])، فترکیز القرآن على دال الأساطیر یشیر إلى اتهام دائم تعرض له، وهو ما یشیر إلى الطبیعة النوعیة التی رأى بها السرد الدینی «الأسطورة» من أنها «بمعنى الخط»([2])، وهی کذلک قصة «غلب على إطلاقها القصة الباطلة أو المکذوبة، کما یقال خرافة»([3]). ومحاولة تفسیر ابن عاشور هنا الأسطورة بـ«الخرافة» اجتهاد لم یطرحه الخطاب القرآنی فی رفضه لمعنى الأسطورة، فهو لم ینف عن نفسه أنه «أساطیر الأولین» خوفا من وصمه بأنه خرافة، بل لأن اتهامه بأنه «أساطیر» یخرجه من کونه دینًا جدیدًا أصلا، ویضعه فی مصاف الدیانات التقلیدیة المعروفة فی الجزیرة العربیة.

ولا یجب أن نغفل هنا الکثرة العددیة لذکر الأساطیر فی القرآن المکی (ثمانی مرات) فی مقابل القرآن المدنی (مرة واحدة)، وهو ما یتسق مع مرحلة تأکید نسب الکتاب/ القرآن لله فی المرحلة المکیة، وأنه لیس من أساطیر الأولین – مکتوبة أو شفاهیة.

إن المفسرین وهم یباعدون بین النص الدینی من ناحیة والأسطورة من ناحیة ثانیة، فإنهم یقولون دون تصریح إن الأسطورة هی وإن کانت تشترک مع الخرافة من حیث کونهما قصة/ حدیث، فإن الأسطورة یمکن النظر إلیها باعتبارها بقایا دین قدیم، أو هی قص دینی، وربما هذا ما فطن إلیه الرافعی فی تاریخ الأدب العربی، حین قال: «أما الأساطیر الدینیة فلیس فی العرب من یتعمل لنظمها غیر أمیة بن أبی الصلت، لما مر من شأنه فی باب الشعر الحکمی، وله من ذلک أشیاء مرویة، کقصة سفینة نوح، وقصة الحمامة التی بعثها ترتاد فی الأرض موضعا یکون مرفأ للسفینة بعد أن بعث الغراب فوقع على جیفه ونحو ذلک، ومما نظم أمیة من خرافات الأعراب خرافة الغراب والدیک التی یقولون فیها إن الدیک کان ندیمًا للغراب، وإنهما شربا الخمر عند حمار ولم یعطیاه شیئا، وذهب الغراب لیأتیه بالثمن ورهن الدیک، فخاس به ولم یرجع، ولذلک ذهب الغراب مطلقا فی الأرض وبقی الدیک محبوسا عند الناس، ولکن نظم أمیة فی هذه المعانی لا یرمی إلى شیء غیر معنى القصص، کأنه لا یرید من الشعر إلا أن تکون دلیلا على علمه وترشیحه للأمر الذی یحدث به نفسه کما سبق»([4])..

إن مجموعة القصص التی أورد مصطفى صادق الرافعی (ت 1937م) مثالا لها فی الاستدلال السابق، هی التی لبّست على کثیر من الباحثین إلى الیوم بین الخرافة والأسطورة، فکلتاهما قصة، نعم، ووراء کلتیهما مغزى، نعم، لکن الأسطورة تنحو منحى دینیا، فیما تبتغی الخرافة عرض المعارف التقلیدیة للبشر بشکل أساسی وإن اشتملت على أفکار ومعانٍ دینیة.

بمعنى آخر، الأسطورة - قصةً ومعنى - یؤمن بها معتنقها إیمانا یقینیا، أی أن القصة وقعت والمعنى صحیح وحق، لکن الخرافة یعرف مرددها أن تفاصیل القصة لم تحدث، ولکنه یؤمن بالمغزى من وراء القصة، فلو کانت عن الجن فإن مردد القصة وراویها یکاد لا یؤمن بصحة الوقائع وإن تیقن من وجود الجن.

وربما استطعنا تلمس ملامح کل واحدة بتفصیل أکثر فی الروایة الحدیثیة التی أوردها بعض کتب الحدیث النبوی والتی تنقل ما روی عن النبی محمد تعریفًا بـ«حدیث خرافة»، فی نص طویل یحتوی حکایة شعبیة، بین رجل وأمه وزوجه([5]).

یقول نص الحکایة فی إحدى صیغها فی «ذم البغی»، لابن أبی الدنیا (ت 281هـ): «حدثنی الحسین بن الحسن، قال: حدثنا عاصم بن علی، قال: حدثنا عثمان بن معاویة، عن ثابت، عن أنس بن مالک، قال: اجتمع إلى النبی صلى الله علیه وسلم نساؤه، فجعل یقول الکلمة کما یقول الرجل عند أهله. قال: فقالت إحداهن: کأن هذا من حدیث خرافة، فقال النبی صلى الله علیه وسلم: أتدرین ما حدیث خرافة؟ إن خرافة کان رجلا من بنی عذرة فأصابته الجن، وکان فیهم حینًا، فرجع إلى الإنس فجعل یحدثهم بأشیاء تکون فی الجن، وبأعاجیب لا تکون فی الإنس، فحدث أن رجلاً من الجن کانت له أم فأمرته أن یتزوج، فقال: إنی أخشى أن یدخل علیک من ذلک مشقة، أو بعض ما تکرهین، فلم تزل به حتى زوجته، فتزوج امرأة لها أم. فکان یقسم لامرأته ولأمه، لیلة عند هذه، ولیلة عند هذه، قال: فکانت لیلة امرأته وکان عندها، وأمه وحدها، فسلم علیهما فردت السلام، ثم قال: هل من مبیت؟ قالت: نعم، قال: فهل من عشاء؟ قالت: نعم، قال: فهل من محدث یحدثنا؟ قالت: نعم، أرسل إلى ابنی یأتیکم یحدثکم، قال: فما هذه الخشفة التی نسمعها فی دارک؟ قالت: هذه إبل وغنم. قال أحدهما لصاحبه: أعط متمنیا ما تمنى فإن کان خیرا، وقد ملئت دارها إبلا وغنما، فرأت ابنها خبیث النفس. فقالت: ما شأنک؟ لعل امرأتک کلفتک أن تحول إلى منزلی، وتحولنی إلى منزلها؟ قال: نعم، فقالت: فنعم، فتحولت إلى منزل امرأته، وتحولت امرأته إلى منزل أمه، فلبثا ثم أصاباها والفتى عند أمه، فسلما فلم ترد السلام، فقالا: هل من مبیت؟ قالت: لا، قالا: فعشاء؟ قالت: ولا، قالا: فما إنسان یحدثنا؟ قالت: ولا، قال: فما هذه الخشفة التی نسمعها فی دارک؟ قالت: سباع، فقال أحدهما لصاحبه: أعط متمنیا ما تمنى وإن کان شرا، قال: فملئت علیها دارها سباعا، فأصبحوا وقد أکلت».

تتعدد صیغ وروایات الحدیث النبوی فی مفتتحها..

تقول إحداها:

«روى الترمذی عن عائشة قالت: حدث النبی صلى الله علیه وسلم نساءه بحدیث فقالت امرأة منهن: کأنه حدیث خرافة فقال: أتدرین ما خرافة؟ إن خرافة کان رجلا من عذرة أسرته الجن فمکث دهرا ثم رجع»([6]).. إلخ.

ویقول مفتتح آخر، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود:

«بلغنی (عن عائشة) أنها قالت: قلت للنبی صلى الله تعالى علیه وعلى آله وسلم: حدثنی بحدیث خرافة فقال: رحم الله خرافة إنه کان رجلا صالحا وإنه أخبرنی أنه خرج لیلة لبعض حاجته فلقیه ثلاثة من الجن فأسروه..»([7]).. إلخ.

وفی ثالث:

«تدرون ما خرافة؟ إن خرافة کان رجلا من عذرة أسرته الجن فی الجاهلیة فمکث فیهم دهرا طویلا ثم ردته إلى الإنس فکان یحدث الناس بما رأى فیهم من الأعاجیب فقال الناس: حدیث خرافة»([8]).. إلخ.

وفی رابع، فی «باب عشرة النساء»:

«عن عائشة قالت حدث رسول الله صلى الله علیه وسلم نساءه ذات لیلة حدیثا فقالت امرأة منهن یا رسول الله کأن الحدیث حدیث خرافة قال أتدرون ما خرافة إن خرافة کان رجلا من أهل عذرة أسرته الجن فی الجاهلیة»([9]).. إلخ.

وفی خامس:

«عن أنس بن مالک، قال: اجتمع إلى النبی صلى الله علیه وسلم نساؤه، فجعل یقول الکلمة کما یقول الرجل عند أهله. قال: فقالت إحداهن: کأن هذا من حدیث خرافة، فقال النبی صلى الله علیه وسلم: أتدرین ما حدیث خرافة؟ إن خرافة کان رجلا من بنی عذرة»([10]).. إلخ.

وفی سادس:

«فی الأوسط عن عائشة أن رسول الله صلى الله علیه وسلم حدثها بحدیث وهو معها فی لحاف فقالت بأبى وأمى یا رسول الله لولا حدثتنی بهذا الحدیث لظننت أنه حدیث خرافة فقال رسول الله صلى الله علیه وسلم وما حدیث خرافة یا عائشة؟ قالت: الشیء إذا لم یکن، قیل حدیث خرافة. فقال رسول الله صلى الله علیه وسلم: إن أصدق الحدیث حدیث خرافة. کان خرافه رجلا من بنی عذرة سبته الجن»([11]).. إلخ.

وفی سابع:

«ویقال أیضا للخرافات الموضوعة من حدیث اللیل: حدیث خرافة. وذکر أن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله علیه وسلم: حدثینی.. قلت: ما أحدثک؟ حدیث خرافة؟ قال: أما إنه قد کان.. وذُکر أیضا أنه قال لها: إن أصدق الأحادیث حدیث خرافة»([12])..

تطرح الروایات السابقة مجموعة من الملاحظات الأولیة الکاشفة:

أولاً: ذکرت الروایة الأولى أن النبی کان یحدث «نساءه»، ولم تسمیهن الروایة «أمهات المؤمنین»، وهو ما یشیر إلى الطابع الأسری فی هذه الجلسة، وبالتالی فیما یطرح فیها من «أحادیث/ قصص».

ثانیًا: تشیر الروایة الأولى أیضًا إلى أن نساء النبی بعد أن قال عن «حدیث خرافة»، فقالت «إحداهن»، هکذا تنکیرًا دون ذکر لاسم من قالت، وهو ما یؤکد المعنى الأول ویباعد أکثر بین ما یجری فی هذه الجلسة والجلسات الدینیة؛ فالنبی هنا یحدث بصفته زوجًا لا نبیًا.

ثالثًا: لفت انتباه «إحداهن» الفارق النوعی بین ما یقال (کأنه حدیث خرافة) وطبیعة القائل (النبی)، ما وضعها فی حیرة، فقالت للنبی: «کأنه حدیث خرافة»، لقد حدث ما یسمى فی النقد الأدبی تضارب المقاصد (Crosstalk)، فقد سمع نساء النبی کلاما لیس من کلام النبوة، فلم یجدن ملجأ بعدُ إلا الشفرة الثقافیة (Cultural code)، التی یمکن عن طریقها فهم ما یقال من النبی من أحادیث خرافة. غیر أن ما حدث هنا یعنی وجود تشابه ما بین نصین/ خطابین، هما النص الدینی وحدیث خرافة، بحیث إذا ما ذکر أحدهما ذکّر بالآخر، فبینهما ما یمکن أن نصفه بتجاوب الأصداء (Echolalia)؛ والمقصود أن إحدى العلامات ترجع صدى علامة أخرى([13]).

رابعًا: تذکر الروایة الثانیة أن السیدة عائشة هی التی طلبت من الرسول أن یحدثها، وحددت الموضوع الذی ترید معرفته (حدیث خرافة)، وهو ما یشیر إلى شهرة «حدیث خرافة» وإن جهلت فیما یبدو بعض تفاصیله.

خامسًا: «خرافة» (مجهول الاسم) فی کل الروایات، لکنه فی الروایة الثانیة شخص محدد معروف، على الرغم من عدم التصریح باسمه. وهو فی کل الروایات، دون خلاف، من قبیلة بنی عذرة، بل إن النبی محمد قابله، وهو الذی حکی للنبی حکایته.

سادسًا: خرافة هذا یحدث عن الجن، فأصبح علما على کل غریب.

سابعًا: دعا النبی لخرافة فی أکثر من روایة بالرحمة، ووصفه بالصلاح.

ثامنًا: أورد الهیثمی (ت 807هـ) الروایة الرابعة فی «باب عشرة النساء»، ولعله لم یر فیها من الدین غیر هذا المعنى. کما أن الروایة أصرت على ذکر أن ما جرى کان لیلا، وکأن النبی کان یسامر أهله. وهو ما أشارت إلیه الروایة الخامسة فی بدایتها حین جاء فیها أن النبی جعل «یقول الکلمة کما یقول الرجل عند أهله». وهو ما یباعد أکثر بین ما یقال والحدیث النبوی المعروف بالمعنى الدینی.

تاسعًا: فی الروایة السادسة، وهی عن عائشة أیضا، کان الرسول یحکیها وهو معها «فی لحاف»؛ أی أنهما کانا فی فراشهما، وهنا وقعت السیدة عائشة فی الحیرة التی ذکرناها سابقا بین شخص النبی وطبیعة الحدیث النبوی من جهة وطبیعة ما یقوله النبی من جهة ثانیة، فأخبرت النبی أنه لولا أنه هو (النبی) الذی یحدثها لظنت أنه حدیث خرافة. فسألها النبی عما تعرفه من حدیث خرافة، فأجابته بأنه «الشیء إذا لم یکن، قیل: حدیث خرافة». وهو ما یشیر إلى عدم واقعیة الأحداث (لم یکن)، ولکن فحوى الحدیث فی عمومیته من حیث المبدأ العام مقبولة اجتماعیًا وثقافیًا.

عاشرًا: تبدأ الروایة السابعة بشکل مختلف؛ فالنبی هو من طلب من السیدة عائشة أن تحکیه، فسألته: ماذا أحکی؟ حدیث خرافة؟ فهی على ما یبدو لا تملک محصولا من الحکی إلا «حدیث خرافة»، وکأنها تحقر ذکر مثل هذه الأحادیث أمام النبی، فکان تعلیق النبی أن حدیث خرافة أصدق الحدیث. بالإضافة إلى ما جاء فی الروایة نفسها من «الخرافات الموضوعة من حدیث اللیل».

مما سبق نرى الارتباط الکبیر بین «حدیث خرافة» و«السمر» و«اللیل» و«ما یقوله الرجل فی أهله»، وما یحکیه مع زوجه «فی لحاف واحد». وعلى النقیض من ذلک ما جاء فی النص القرآنی من ذم بالغ وصریح لأساطیر الأولین التی یتهم بها النص القرآنی، والتی تبرأ منها أکثر من مرة.

یتبقى هنا التساؤل حول دعاء النبی لخرافة ووصفه بالصلاح، ووصف کلامه بأنه أصدق الحدیث، وأنه حق. وکأن النبی هنا یشیر إلى ما یکتنز به «حدیث خرافة» من حکمة وعبرة، فالحقیقة والصدق هنا یرتبطان بفحوى ما یحکى عن خرافة ولیس بنص ما یحکى ومدى مطابقته للواقع (Fact) والمنطق (Reason).

تطرح الروایات السابقة وما تلاها من ملاحظات ما یمکن تسمیته بـ«معجم الخرافة» (Vocabulary of Superstition) فی الأدبیات التراثیة التی لا تنحصر فی: (اللیل – الأهل – النساء – الجن – الزوج – اللحاف/ الفراش - الجاهلیة - الأعاجیب - عشرة النساء - الخرافات الموضوعة - حدیث اللیل.. وغیرها. مما یشیر إلى السیاق الاجتماعی والثقافی الذی توجد فیه «أحادیث خرافة»).

وفق ما سبق لا نحتاج لکثیر عناء لنقول إن ما تسمیه الأدبیات التراثیة الدینیة وغیرها «خرافة»، یکاد یتسق دون تمحل مع ما نسمیه الآن فلکلور (Folklore)، أو ثقافة شعبیة (Folk culture)، أو مأثورات (Gnomic)، سواء فی الجانب السردی (Narrative) (حکایات وحوادیت، وأمثال، ونوادر.. إلخ)([14]) أو فی جانبها الاجتماعی (عادات ومعتقدات). ولا یجب أن ننسى هنا أننا بالأساس أمام صیغة مَثَلیة (parable formula) منتشرة فی کتب التراث العربی عامة (حدیث خرافة) أو (أمحل من حدیث خرافة)، وهنا یطرح علینا الزمخشری (ت 538هـ) فی کتاب «المستقصی» عبارة موحیة عند التعرض لمثل «امْحل منْ حدْیْث خرافة»، یقول: «هو (خرافة) رجل من بنی عذرة استهوته الجن ثم رجع إلى قومه فکان یحدثهم (بالأباطیل) وکانت العرب إذا سمعت ما لا أصل له قالت حدیث خرافة. وقد أورده ابن الزبعرى فى بیت کرهت إثباته ثم کثر فی کلامهم حتى قالوا للأباطیل خرافات»([15]). وکأنهم لم یکونوا یقولون للأباطیل (Untruths) خرافات، أو کأن الخرافات من قبلُ کانت مما لا یوصف بالباطل، حتى جاء مثل بیت الشعر الذی کره صاحب «المستقصی» ذکره ربما لحرج دینی، لیس لأنه یحتوی على خرافة، ولکن لأن به أباطیل یسمونها خطأ خرافة.

ولعل من المناسب هنا الإشارة إلى ما ذکره المسعودی (ت 346هـ) فی «مروج الذهب» وإلیان سرکیس (ت 1932م) صاحب «معجم المطبوعات» فی معجمه من أن أصل کتاب «ألف لیلة ولیلة» فی الفارسیة هو «ألف خرافة» وجرت ترجمتها إلى العربیة الترجمة المعروفة([16]).

وربطت الترجمة العربیة هنا بین الخرافات والحکایات المستملحة، فلا یغیب عن الذهن أن المترجم ربط ذلک کله باللیل، فهو لم یترجم خرافة بمعنى حکایة، بل قفز قفزة دلالیة أخرى حین جعل الخرافة/ الحکایة لیلة، وهو ربط یستدعی ما سبق وأشرنا إلیه من السمر والحدیث المستملح الذی یظن فی تفاصیله الکذب أکثر من الصدق. وهو ما فطن إلیه المسعودی حین قال: «وقد ذکر کثیر من الناس ممن له معرفة بأخبارهم أن هذه (أخبار موضوعة من خرافات مصنوعة) نظمها من تقرب للملوک بروایتها، وصال على أهل عصره بحفظها والمذاکرة بها، وأن سبیلها الکتب المنقولة إلینا والمترجمة لنا من الفارسیة والهندیة والرومیة، وسبیل تألیفها مما ذکرنا کتاب هزار أفسانه، وتفسیر ذلک من الفارسیة إلى العربیة: ألف خرافة. والخرافة بالفارسیة یقال لها أفسانه. والناس یسمون هذا الکتاب ألف لیلة ولیلة (...) ومثل کتاب فرزه وسیماس وما فیه من أخبار ملوک الهند والوزراء، ومثل کتاب السندباد، وغیرها من الکتب فی هذا المعنى»([17]).

وتتجلى الخرافة فی السرد التراثی (Heritage narrative) فی وجهین رئیسیین، هما:

1-   السرد القصصی (Storytelling).

2- ما یمکن أن نسمیه مع بعض التجوز «تفسیر الظواهر الکونیة» سواء فی الطبیعة أو فی الکائنات، الحیوانات خاصة.

وقد نشأ الأول لأسباب متعددة، أهمها فی نظری کان لملء فراغ ترکه السرد القصصی الدینی (Storytelling religious)، کأن یبحث القاص (Storyteller) الخرافی/ الشعبی فی الورق الذی کتب علیه نبی الله سلیمان رسالته إلى بلقیس.. «هذا ولم أر فی الآثار ما یشعر بأنه علیه السلام کتب ذلک على الکاغد أو الورق أو غیرهما واشتهر على ألسنة الکتّاب أن الکتاب کان من الکاغد المعروف وأن الهدهد أخذه من طرفه بمنقاره فابتل ذلک الطرف بریقه وذهب منه شیء وکان ذلک الزاویة الیمنى من جهة أسفل الکتاب وزعموا أن قطعهم شیئًا من القرطاس من تلک الزاویة تشبیها لما یکتبونه بکتاب سلیمان علیه السلام وهذا مما لا یعول علیه. ولسائر أرباب الصنائع والحرف حکایات من هذا القبیل وهی عند العقلاء أحادیث خرافة»([18]).

ولعل من أکثر من یمکن أن تستوقفه مثل هذه الإضافات هو ابن حزم الظاهری (ت 456هـ). ومن ذلک ما جاء من مناقشة لرأیه فی کتاب «الملل والنحل»، الذی أورده صاحب «العجاب»، حیث قال إن ابن حزم بعد أن أقر بعصمة الأنبیاء «واستدل بالآیات الواردة فی ذلک وأطنب فی التمسک بظاهرها وعمومها ثم ختم بأن قال وهذا یبطل ظن من قال إن هاروت وماروت کانا ملکین فعصیا بالزنا وشرب الخمر وقتل النفس ثم أخذ یتأول القصة التی فی الآیة. قال ولم یقل الله إنهما کفرا ولا عصیا وإنما جاء ذلک فی (خرافة موضوعة) لا تصح من طریق الإسناد أصلا ولا هی مع ذلک عن رسول الله بل هی موقوفة على من دونه، فسقط التعلق بها.. إلى أن قال نسبوا إلى الله ما لم یأت به أثر یشتغل به وإنما هو کذب مفترى أن الله أنزل إلى الأرض ملکین وهما هاروت وماروت وأنهما عصیا بشرب الخمر والحکم بالباطل وقتل النفس المحرمة والزنا وتعلیم الزانیة اسم الله الأعظم فطارت به إلى السماء فمسخت کوکبا وهی الزهرة»([19]).

یشرح صاحب «العجاب» هنا آلیة عمل الحکی الخرافی – إن صح التعبیر – فی السرد التراثی بل وهدفه کذلک؛ ألا وهو ملء الفراغ السردی (Ellipsis) – من وجهة نظر السارد الشعبی/ القصاص (Storyteller) – بأحداث «مستملحة.. عجیبة».. ثم، ولا یجب أن ننسى، «کاذبة». غیر أن هذا الوعی القصصی بالفجوات السردیة هو ما کان یجعل عمل القاص الشعبی أقرب إلى حالة التناص (Intertextualiy)، أو بالأحرى عبر النصیة (Transtextuality).

ومن مثل الخرافات/ الحکایات التراثیة ما یرد فی قصص الأنبیاء وأحوال الأمم الغابرة من غرائب تعتمد المبالغة والخیال (Fiction)، مثلما یحکى مثلا عن «عوج بن عناق وهو حدیث خرافة لما فیه من التهاویل الباطلة»([20]). أو أن سبعین رجلاً من قوم موسى استظلوا «فى قحف رجل من العمالقة. وأخرج البیهقى فى شعب الایمان عن زید بن أسلم قال: بلغنى أنه رؤیت ضبع وأولادها رابضة فى فجاج عین رجل منهم.. إلى غیر ذلک من الأخبار. وهى عندى کأخبار عوج بن عنق وهى حدیث خرافة»([21]).

ومن تلک التفسیرات القصصیة – إن صح التعبیر – التی تهدف إلى ملء ثغرات السرد القصصی القرآنی، ما کان یؤخذ مما سمی «تواریخ العجم»، کما روی عن شخصیة ذی القرنین الذی ورد ذکره فی آخر سورة الکهف، فقد «اختلف المفسرون فی تعیین المسمى بذی القرنین اختلافاً کثیراً تفرقت بهم فیه أخبار قصصیة وأخبار تاریخیة واسترواح من الاشتقاقات اللفظیة، ولعل اختلافهم له مزید اتصال باختلاف القصّاصین الذین عُنوا بأحوال الفاتحین عنایة تخلیط لا عنایة تحقیق فراموا تطبیق هذه القصة علیها»([22]).

على أن النشاط القصصی أحیانا ما کان یتجاوز القصة الواحدة أو الشخصیة الواحدة إلى أکثر من قصة أو شخصیة فی محاولة للربط (Mixing) بین أحداث أو شخصیات مختلفة، مکانا أو زمانا أو الاثنین، ومن ذلک ما روی من «زعم بعض علماء الإسلام» من أن الخضر لقی النبی وعُدّ من صحابته. وهو ما حکم علیه الطاهر ابن عاشور (ت 1973م) صاحب «التحریر والتنویر» بأنه «توهم وتتبع لخیال القصاصین»([23]).

وأحیانا ما کان الغموض (Weirdness) فی بعض القصص مما یستفز النشاط القصصی لدى بعض القصاصین، فیقوم بـ«اختلاق» (Fabrication)([24]) تفاصیل قصصیة، لا یرضاها أحیانا رجل الدین، وهو ما یمکن مطالعته مثلا فی قصة نبی الله موسى، عندما طلب من الله رؤیته عند جبل الطور، فأخبره الله بأنه لن یستطیع ذلک.. «فلما تجلى ربه للجبل جعله دکا وخر موسى صعقا» (الأعراف/ 143). فقد توقف المفسرون/ القصاصون عند: کیف خر موسى، ثم کیفیة صعقه؟.. ففرق بعضهم بین السقوط والخرور بأن الأول مطلق والثانی سقوط له صوت کالخریر.. (صعقًا) أی صاعقًا وصائحًا من الصعقة. والمراد أنه سقط مغشیًا علیه عند ابن عباس والحسن رضی الله تعالى عنهما، ومیتًا عند قتادة..

ثم یستطرد الألوسی فی سرد قصصی بحت، قائلا:

«روی أنه بقی کذلک مقدار جمعة.. وعن ابن عباس أنه علیه السلام أخذته الغشیة عشیة یوم الخمیس یوم عرفة إلى عشیة یوم الجمعة.. ونقل بعض القصاصین أن الملائکة کانت تمر علیه حینئذ فیلکزونه بأرجلهم ویقولون یا ابن النساء الحیض أطمعت فی رؤیة رب العزة»..

ثم یعقب الألوسی بأن هذا السرد إنما «هو کلام ساقط لا یعول علیه»([25]).. والسقوط وانعدام التعویل هنا یتسق مع ما وصفت به هذه الروایات بالکذب والباطل.. على الرغم من أن مثل هذه الأکاذیب (الخرافیة) هی التی جسرت الهوة أحیانًا بین ما هو دینی (Religious) وما هو شعبی (Folk)، لتضعهما معا فی سیاقات واحدة من القداسة (Sacrist).

ولعل کلام الشوکانی (ت 1250هـ) عن عوج بن عنق یکون دالا، فقد اختصر فیه الکلام، مکذبا کل ما ذکر عنه: «.. لم یأت فى أمر هذا الرجل ما یقتضى تطویل الکلام فى شأنه وما هذا بأول کذبة اشتهرت فی الناس ولسنا بملزومین بدفع الأکاذیب التى (وضعها القصاص) ونفقت عند من لا یمیز بین الصحیح والسقیم فکم فی بطون دفاتر التفاسیر من أکاذیب وبلایا وأقاصیص کلها حدیث خرافة وما أحق من لا تمییز عنده لفن الروایة ولا معرفة به أن یدع التعرض لتفسیر کتاب الله ویضع هذه الحماقات والأضحوکات فی المواضع المناسبة لها من کتب»([26]).

یربط الشوکانی هنا بین الخرافة وأحادیثها والقصاص والأقاصیص. ویستخدم فی ذلک مصطلحات من قبیل الکذب، والصحیح والسقیم، وانعدام التمییز وفن الروایة، والحماقات والأضحوکات. ثم لا یجب أن تفوتنا تعبیراته الدالة عن الکذب الذی اشتهر فی الناس، ونفقت عند من لا یمیز.. إلخ.

وهناک من کان یتعاطى مع هذه الموضوعات من قبیل الدفاع عن الدین، ومن أوضح الأمثلة على ذلک فی العصر الحدیث محمد أبو شهبة فی کتابه عن «الإسرائیلیات والموضوعات»، حیث رأى فی بعض الموضوعات خطرا على الإسلام والنبی.. «وذلک مثل ما وضعه الزنادقة وأعداء الإسلام من یهود ومجوس ونصارى وغیرهم، من قصص وروایات تقدح فی عصمة النبی وتظهر الإسلام بمظهر الدین الساذج الذی یشتمل على الخرافات»([27]).

یطرح الدکتور أبو شهبة جانبًا آخر فی هذا السیاق وهو سذاجة ما یحکى من قصص فی کتب التفسیر تنتمی لعالم الخرافة، وهو ما یراه الرجل عیبًا ینال من عصمة النبی ووقار الدین الإسلامی. ویبدو أن سمة السذاجة التی حاول الشیخ أبو شهبة دفعها عن الدین بإثبات عدم صلته بمثل هذه الحکایات الخرافیة، هی السمة الأساسیة التی تشیر إلى واحد من الفوارق الجوهریة بین الخرافة والحکی الشعبی (Superstition & Tall story) من جهة، والدیانات والأساطیر (Religions & Myths) من جهة ثانیة. ولیست هناک مشکلة تحتاج حلا إلا عند من یرى مثل هذه الحکایات دینا ولیست خرافة.

بالإضافة إلى ما سبق هناک ما یمکن تسمیته النوادر الشعبیة (anecdote) التی تشبه نوادر جحا، أو «الخرافات» – بتعبیر إحسان عباس – التی تذکرها کتب التراث العربی، ومنها مثلا مناظرة بین دیک وبازی([28]). وهی من المناظرات والنوادر الشائعة فی کتب التراث العربی. وتدور الحکایة حول أبی أیوب المرزبانی وهو وزیر الخلیفة العباسی المنصور (ت 158هـ). وکان المنصور کلما دعا أبا أیوب للمثول بین یدیه اصفر وجهه ورعد، فإذا خرج من عنده عاد لونه، فسئل: «إنا نراک مع کثرة دخولک إلى أمیر المؤمنین وأنسه بک تتغیر إذا دخلت علیه؟».

فقال:

«مثلی ومثلکم فی هذا مثل بازی ودیک تناظرا، فقال البازی للدیک: ما أعرف أقل وفاء منک..

قال: وکیف؟

قال: تؤخذ بیضة فیحضنک أهلک وتخرج على أیدیهم فیطعمونک بأکفهم حتى إذا کبرت صار لا یدنى منک إلا طرت ههنا وصحت ههنا، فإن علوت حائطًا کنت فیها سنین طرت منها وترکتها وصرت إلى غیرها. وأنا أوخذ من الجبال وقد کبر سنی فأطعم الشیء الیسیر وأوثق یوماً أو یومین ثم أطلق على الصید فأطیر وحدی فآخذه وأجیء به لصاحبی..

فقال له الدیک: ذهبتْ عنک الحجة، أما إنک لو رأیت بازیین فی سفود([29]) ما عدت إلیهم أبداً، وأنا کل وقت أرى السفافید مملوءة دیوکاً وأبیت معهم؛ فأنا أوفى منک.. ولکن لو عرفتم من المنصور ما أعرف لکنتم أسوأ حالاً منی عند طلبه إیاکم».

تشیر هذه النادرة ضبطًا إلى ما نریده من تحدید سمات الخرافة واختلافها عن الدین/ الأسطورة. یعرف الراوی/ أبو أیوب، والمستمع أن أصل القصة مختلق (Fabricated) فلا بازی ناظر دیکًا ولا دیک رأى دیوکًا آخرین فی السفافید، لکن التواطؤ، بالمعنى الفنی، (Party) هو ما مرر تفاصیل القصة (المستملحة الکاذبة) لما وراءها، وتکمن المشکلة هنا لو أن مستمعًا صدّق تفاصیل القصة دون الالتفات إلى ما وراءها، وهو ما حدث مع کثیر من القصص الدینی الذی وضعه القصاص لملء فراغات القصص الدینی فإذا بمن یصدقها من ناحیة أو من یکذبها ویتهمها بالسذاجة من ناحیة ثانیة.

أما الوجه الثانی الذی استدعى «الخرافة» فهو کما قدمنا تفسیر الظواهر الکونیة سواء فی الطبیعة أو فی الکائنات. ومثل ذلک کثیرًا ما وصف بأنه «حدیث خرافة»، وذلک مثل ما حکاه النیسابوری (ت 318هـ) فی تفسیر سورة التکویر عن الکلبی (204هـ) من أن «الکواکب هی قنادیل معلقة بین السماء والأرض بسلاسل من نور وتلک السلاسل بأیدی الملائکة علیهم السلام، وهو مما یکذبه الظاهر ولا أراه إلا حدیث خرافة. وأما ما ذهب إلیه جل الفلاسفة من أن القمر وحده فی السماء الدنیا وعطارد فی السماء الثانیة والزهرة فی الثالثة والشمس فی الرابعة والمریخ فی الخامسة والمشتری فی السادسة وزحل فی السابعة والثوابت فی فلک فوق السابعة هو الکرسی بلسان الشرع، فمما لا یقوم علیه برهان یفید الیقین، وعلى فرض صحته لا یقدح فی الآیة لأنه یکفی لصحة کون السماء الدنیا مزینة بالکواکب کونها کذلک فی رأی العین»([30]). لقد وصف الألوسی (ت 1854م) بعض ما جاء فی هذا التفسیر بأنه «حدیث خرافة»، وفی مکان آخر من الکتاب نفسه بأنه «حدیث خرافة ورجم بظنون فاسدة»([31]).

أما تفسیر طبیعة الحیوانات وسرد قصص (خرافیة) عنها فهو ما اشتهر فی السرد التراثی إلى حد بعید، وهو یعز عن الحصر. ولعل أشهره ما نقله الجاحظ (ت 255هـ) فی کتاب «الحیوان»، ومن أمثلته ما ذکره عن الضفدع الذی «تزعم الأعراب» أنه «کان ذا ذنب، وأن الضّبّ سلبه إیاه وذلک فی خرافة من خرافات الأعراب، ویقول آخرون: إن الضفدع إذا کان صغیرًا کان ذا ذنب، فإذا خرجتْ له یدان أو رجلان سقط»([32]).

وقد أشار الجاحظ إلى منهجه فی إیراد مثل هذه السردیات بقوله إن هذا الکلام «لیس فیه جد إلا وفیه خلط من هزل. ولیس فیه کلام صحیح إلا وإلى جنبه خرافة.. لأن هذا الباب هکذا یقع»([33]).

یشیر الجاحظ هنا إلى علامة (Sign) من علامات الخرافة وهی التواطؤ على الکذب، أو بعض الکذب، بین الراوی والمتلقی، فإن ما یقال لم یقع، لکن ما وراءه صدق تام، یؤمن به طرفا الرسالة؛ المرسل والمستقبل.

إن هذا «الخلط السردی المتعمد» من قبل الجاحظ، هو شکل من أشکال الخلط الفکری قبل السردی، فی الأدبیات التراثیة، وهو اختلاط اضطراری ولیس اختیاریا، وأحیانا ما حاول السارد – مفسرا أو مؤرخا – تبریره. ومن ذلک ما روی عن ابن عباس أن النبی سلیمان اتخذ تماثیل من نحاس «فقال: یا رب انفخ فیها الروح فإنها أقوى على الخدمة فینفخ الله تعالى فیها الروح فکانت تخدمه (...) وهذا من العجب العجاب ولا ینبغی اعتقاد صحته، وما هو إلا حدیث خرافة، وأما ما روی من أنهم عملوا له علیه السلام أسدین فی أسفل کرسیه ونسرین فوقه فإذا أراد أن یصعد بسط الأسدان له ذراعیهما وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما، فأمر غیر مستبعد فإن ذلک یکون بآلات تتحرک عند الصعود وعند القعود فتحرک الذراعین والأجنحة، وقد انتهت صنائع البشر إلى مثل ذلک فی الغرابة»([34]).

هنا وظف الراوی/ القصاص العلم لیبرر الخرافة/ الفلکلور، ووظف الخرافة لسد ثغرات السرد الدینی من وجهة نظره.

لیس سد ثغرات السرد الدینی، أو اختراع ثغرات سردیة لملئها هی التفسیر الوحید الذی نعتمده، فهناک من یرى غیر ذلک، خاصة إذا ما نظر من زاویة فقهیة أو شرعیة، ومن هؤلاء قدیمًا ابن قتیبة (ت 276هـ)، الذی رأی فی ما فعله القصاصون وبعض المفسرین «أحادیث خرافة کانت مشهورة فی الجاهلیة ألصقت بالحدیث بقصد الإفساد»([35]). وهو التوجه نفسه تقریبًا الذی سار علیه الشیخ أبو شهبة (ت 1983م) وإن کان من خلال مناقشة «الإسرائیلیات».

وبغض النظر عن الفکرة العامة المسیطرة والموجهة لعمل الشیخ أبو شهبة فی هذا الکتاب المهم، فإنه یطرح فکرتین فی غایة من الأهمیة اتصالا بما نحن بصدده:

أولاهما: أن الروایة قد تکون صحیحة السند لکنها لیست من الدین بل من الخرافة أو من المعارف التقلیدیة (Traditional knowledge) المتداولة فی عصر من العصور.. یقول: «ولعل قائلا یقول: أما ما ذکرت من احتمال أن تکون هذه الروایات الإسرائیلیة مختلقة، موضوعة على بعض الصحابة والتابعین، فهو إنما یتجه فی الروایات التی فی سندها ضعیف أو مجهول، أو وضّاع، أو متهم بالکذب، أو سیئ الحفظ، یخلط بین المرویات، ولا یمیز، أو نحو ذلک، ولکن بعض هذه الروایات حکم علیها بعض حفاظ الحدیث بأنها صحیحة السند أو حسنة السند، أو إسنادها جید، أو ثابت، ونحو ذلک، فماذا تقول فیها؟!

والجواب أنه لا منافاة بین کونها صحیحة السند، أو حسنة السند أو ثابتة السند، وبین کونها من إسرائیلیات بنی إسرائیل، وخرافاتهم، وأکاذیبهم؛ فهی صحیحة السند إلى ابن عباس، أو عبد الله بن عمرو بن العاص، أو إلى مجاهد، أو عکرمة، أو سعید بن جبیر وغیرهم، ولکنها لیست متلقاة عن النبی، لا بالذات، ولا بالواسطة ولکنها متلقاة عن أهل الکتاب الذین أسلموا، فثبوتها إلى من رویت عنه شیء، وکونها مکذوبة فی نفسها، أو باطلة، أو خرافة، شیء آخر»([36]).

أی أن الراوی ربما استقى (خرافته) من مصدر لا یعتد به دینیًا. وقد مر بنا حدیث النبی نفسه عن «خرافة» وما شرحناه فیه کفایة.

لکن اللافت فی هذه النقطة أنه نسب الخرافات والأکاذیب إلى بنی إسرائیل (إسرائیلیات بنی إسرائیل، وخرافاتهم، وأکاذیبهم) وهی نظرة طبیعیة من فقیه یبتغی أقصى درجات الحیطة فی التثبت من صحة الروایات ونسبها. على الرغم من تنبهه إلى عدم الربط بین صحة الروایة على شروط علم الحدیث ومنافاتها لصحیح الدین بشکل عام.

ثانیتهما: أن بعض الرواة المعروفین ربما داخلهم الوهم فی الروایة سواء من قبیل مرویات بنی إسرائیل أو من خرافات العرب فی الجاهلیة. یقول أبو شهبة: «قیل لعبد الرحمن بن زید بن أسلم: حدثک أبوک عن جدک: أن رسول الله صلى الله علیه وسلم قال: إن سفینة نوح طافت بالبیت، وصلت خلف المقام رکعتین؟!! قال: نعم. وقد عرف عبد الرحمن بمثل هذه العجائب المخالفة للعقل وتندر به العلماء». إن هذه العجائب لیست من الإسرائیلیات وهی بالقطع لیست من العلم، فقد «قال الشافعی فیما نقل فی التهذیب أیضا: ذکر رجل لمالک حدیثًا منقطعًا، فقال: اذهب إلى عبد الرحمن بن زید یحدثک عن أبیه، عن نوح!! وأنه لما رست السفینة على الجودی وکان یوم عاشوراء صام نوح، وأمر جمیع من معه من الوحش والدواب فصاموا شکرا لله، إلى غیر ذلک من التخریفات والأباطیل التی لا نزال نسمعها، وأمثالها من العوام والعجائز».

وعلى الرغم من ترکیز أبو شهبة على الإسرائیلیات والوضع من أهل الکتاب فإنه لا یستطیع أن یبتعد عما لا نزال نسمعه من «العوام والعجائز» من الخرافات التی «کانت شائعة مشهورة فی الجاهلیة»([37]).

إشارة أبو شهبة للعوام والعجائز هی فی الحقیقة إشارة لفضاء من المعرفة الإنسانیة لم نزل نجهل حدود أثره وتأثره فی الثقافة العربیة الإسلامیة، وهو فضاء الثقافة الشعبیة. ولا نکاد نتلمس أثره بوضوح إلا عند الحدیث عن عالم القصاصین الذی یکون من المناسب هنا عرض ملامحه المکتنزة بالمعرفة المهملة إلى حد کبیر حتى الآن فی الدرس العلمی، وهو أقرب الفضاءات من عالم «الخرافة» موضوع کتابنا هذا، بل یکاد یکون الرابط الأهم بین عوالم الخرافة والثقافة الشعبیة من جهة والدین من جهة ثانیة.

وعند الاقتراب من عالم القص فی الأدبیات التراثیة العربیة فلن تخطئنا مفردات من مثل الحکی والوعظ والتتبع والأثر والخبر وروایة الأخبار. کما لن نستغرق وقتا حتى نلتقی بدلالات الزینة فی قص الشعر والظُفر، أو قُصّة الشعر. هکذا تدور بنا دلالات ودوال المعجم العربی فی سیاقات تقترب من عالم القص، لکنها لا تذهب بنا أبعد من ذلک، خاصة ما یمکن أن نطالعه فی الفضاء الدینی والفقهی، حین یحکم الدین على القصاصین أحکامًا لا تبتعد کثیرًا عن أحکام أطلقها سابقًا على «الخرافة».



([1]) الفرقان، آیة 5، مکیة.

([2]) الألوسی: مصدر سابق. ج 7. ص 126.

([3]) محمد الطاهر ابن عاشور: تفسیر التحریر والتنویر - الطبعة التونسیة، دار سحنون للنشر والتوزیع، تونس، 1997م. ج 26، ص 39.

([4]) مصطفى صادق الرافعی: تاریخ آداب العرب، مکتبة الإیمان، 1997، ج 1، ص 314.

([5]) انظر: عبد الله محمد عبید البغدادی أبو بکر ابن أبی الدنیا: ذم البغی. موقع جامع الحدیث (alsunnah.com) ج 1: ص 39.

([6]) المناوی: مصدر سابق. ج 14، ص 51.

([7]) المصدر السابق: ج 14، ص 52.

([8]) المتقی الهندی: مصدر سابق. ج 3، ص 1138.

([9]) علی بن أبی بکر الهیثمی نور الدین: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. دار الفکر، بیروت - 1412 هـ. ج 10، ص 71.

([10]) ابن أبی الدنیا: مصدر سابق. ج 1، ص 39.

([11]) الهیثمی: مصدر سابق. ج 10، ص 71.

([12]) جواد علی: المفصل فى تاریخ العرب قبل الإسلام. دار الساقی،

الطبعة الرابعة 1422هـ/ 2001م، ج 12، ص 398.

 

([13]) المقصود بالعلامة هنا: العلامة اللغویة. انظر: محمد عنانی (دکتور): المصطلحات الأدبیة الحدیثة. الشرکة المصریة العالمیة للنشر- لونجمان، الطبعة الثانیة 2003، ص 23.

([14]) یقول أبو هلال العسکری فی جمهرة الأمثال: «وزعم بعضهم أن خرافة اسم مشتق من اختراف السمر». انظر: أبو هلال العسکری: جمهرة الأمثال. تحقیق: محمد أبو الفضل إبراهیم، وعبد المجید قطامش، دار الفکر، الطبعة الثانیة ، 1988. ج 2، ص 295. وشبیه به ما ذکر فی «المفصل» من أنه «یقال أیضًا للخرافات الموضوعة من حدیث اللیل: حدیث خرافة». انظر: جواد علی: مرجع سابق. ج 12: ص 398.

([15]) محمود بن عمر الزمخشری: المستقصى فی أمثال العرب. دارالکتب العلمیة، بیروت، الطبعة الثانیة، 1987. ج 1، ص 361.

([16]) انظر: علی بن الحسین بن علی المسعودی: مروج الذهب ومعادن الجوهر، موقع الوراق. ج 1: ص 271. وانظر أیضًا: یوسف إلیان سرکیس: معجم المطبوعات العربیة والمعربة. منشورات مکتبة آیة الله العظمى المرعشی النجفی (د.ت) ج 4، ص 84.

([17]) المسعودی: مصدر سابق. ج 1: ص 271.

([18]) الألوسی: مصدر سابق. ج 19، ص 197.

 

([19]) أحمد بن علی بن حجر العسقلانی: مصدر سابق. ج 1، ص 144.

([20]) جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بکر الجزائری: أیسر التفاسیر لکلام العلی الکبیر. مکتبة العلوم والحکم، المدینة المنورة، المملکة العربیة السعودیة، الطبعة : الخامسة، 1424هـ/2003م

 ج 2: ص 310.

([21]) الألوسی: مصدر سابق، ج 6، ص 106.

([22]) الطاهر ابن عاشور: مصدر سابق، ج 16، ص 18.

([23]) المصدر السابق: ج 15: ص 364.

([24]) کان اللفظ الإنجلیزی الأقرب للمعنى هنا (Creation)، غیر أن المراد أن هناک شیئا غیر قلیل من التلفیق على ما هو موجود من قصص دینی أو تراثی، ولیس مجرد الإبداع.

([25]) الألوسی: مصدر سابق. ج 9: ص 46.

([26]) محمد الشوکانی: مصدر سابق. ج 2، ص 27.

([27]) محمد بن محمد أبو شهبة: مصدر سابق: ص 7.

([28]) إحسان عباس (دکتور): ملامح یونانیة فی الأدب العربی. المؤسسة العربیة للدراسات والنشر، بیروت، 1977، ج 1: ص 76. وعلى ذکر إحسان عباس فقد ذکر ما سماها: «خرافة أخلاقیة ذات مغزى» على رؤیة بترارک للإنیادة. انظر: ستانلی هایمن: النقد الأدبی ومدارسه الحدیثة، ترجمة: إحسان عباس، دار الثقافة، بیروت، لبنان، الطبعة الأولى، الجزء الأول (1958م)، الجزء الثانی (1960م)، نشر بالاشتراک مع مؤسسة فرنکلین المساهمة للطباعة والنشر بیروت - القاهرة - نیویورک 1958. ج 1، ص 56.

([29]) السفود: سیخ من حدید یوضع فیه اللحم لیشوى.

([30])الألوسی: مصدر سابق. (ج 23 / ص 68)

([31]) انظر تفسیر الألوسی لآیة (ولقد زینا السماء الدنیا بمصابیح). ج29: ص9.

([32]) عمرو بن بحر الجاحظ: الحیوان. ج 1، ص 494.

([33]) المصدر السابق: ج 2: ص 53.

([34]) الألوسی: مصدر سابق. ج 22، ص ص: 118 – 119.

([35]) محمد بن محمد أبو شهبة: مرجع سابق، ص 186.

([36]) المرجع السابق: ص 96.

([37]) المرجع السابق: ص 218.

 

  1. إحسان عباس (دکتور): ملامح یونانیة فی الأدب العربی. المؤسسة العربیة للدراسات والنشر، بیروت، 1977.
  2. البهاء العاملی: الکشکول، موقع الوراق alwarraq.com.
  3. جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بکر الجزائری: أیسر التفاسیر لکلام العلی الکبیر. مکتبة العلوم والحکم، المدینة المنورة، المملکة العربیة السعودیة، الطبعة : الخامسة، 1424هـ/2003م.
  4. جواد علی: المفصل فى تاریخ العرب قبل الإسلام. دار الساقی، الطبعة الرابعة 1422هـ/ 2001م.
  5. الحسن بن عبد الله، أبو هلال العسکری: جمهرة الأمثال. تحقیق: محمد أبو الفضل إبراهیم، وعبد المجید قطامش، دار الفکر، الطبعة الثانیة، 1988.
  6. خیر الدین الزرکلی: الأعلام. دار العلم للملایین، بیروت، لبنان، الطبعة الخامسة عشر مایو 2002.
  7. ستانلی هایمن: النقد الأدبی ومدارسه الحدیثة، ترجمة: إحسان عباس، دار الثقافة، بیروت، لبنان، الطبعة الأولى، الجزء الأول (1958م)، الجزء الثانی (1960م)، نشر بالاشتراک مع مؤسسة فرنکلین المساهمة للطباعة والنشر بیروت - القاهرة - نیویورک 1958.
  8. عبد الرؤوف بن تاج العارفین بن علی بن زین العابدین الحدادی المناوی: فیض القدیر شرح الجامع الصغیر، ضبطه وصححه أحمد عبد السلام، دار الکتب العلمیة بیروت – لبنان، الطبعة الاولى 1415ه‍ - 1994م.
  9. عبد الله محمد عبید البغدادی أبو بکر ابن أبی الدنیا: ذم البغی. موقع جامع الحدیث (alsunnah.com).

10.عبد الله محمد عبید البغدادی أبو بکر ابن أبی الدنیا: ذم البغی. موقع جامع الحدیث (alsunnah.com).

11.علی بن أبی بکر الهیثمی نور الدین: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. دار الفکر، بیروت - 1412هـ.

12.علی بن الحسین بن علی المسعودی: مروج الذهب ومعادن الجوهر، موقع الوراق.

13.علی بن الحسین بن علی المسعودی: مروج الذهب ومعادن الجوهر، موقع الوراق.

14.علی بن حسام الدین المتقی الهندی: کنز العمال فی سنن الأقوال والأفعال. مؤسسة الرسالة، بیروت 1989م.

15.محمد الطاهر ابن عاشور: تفسیر التحریر والتنویر - الطبعة التونسیة، دار سحنون للنشر والتوزیع، تونس، 1997م.

16.محمد بن عبد الله التبریزی المبارکفوری: مرعاة المفاتیح شرح مشکاة المصابیح. موقع شبکة مشکاة الإسلامیة almeshkat.net.

17.محمد بن علی الشوکانی: فتح القدیر الجامع بین فنی الروایة والدرایة من علم التفسیر (تفسیر الشوکانی)، عالم الکتب. (د.ت).

18.محمد بن محمد أبو شهبة (دکتور): الإسرائیلیات والموضوعات فی کتب التفسیر. مکتبة السنة، الطبعة الرابعة، 1408هـ.

19.محمد رشید رضا: مجلة المنار. ج 5، ص 678. عدد غرة رمضان 1320هـ.

20.محمد عبده: کتب المغازی وأحادیث القصاصین. مجلة المنار: عدد غرة شوال 1318هـ.

21.محمد عنانی: المصطلحات الأدبیة الحدیثة. الشرکة المصریة العالمیة للنشر- لونجمان، الطبعة الثانیة 2003.

22.محمود بن عمر الزمخشری: المستقصى فی أمثال العرب. دارالکتب العلمیة، بیروت، الطبعة الثانیة، 1987.

23.محمود شهاب الدین أبو الثناء الحسینی الألوسی: روح المعانی فی تفسیر القرآن العظیم والسبع المثانی (تفسیر الألوسی)، دار إحیاء التراث العربی، بیروت. (د.ت).

24.مصطفى صادق الرافعی: تاریخ آداب العرب، مکتبة الإیمان، 1997.

25.مقبل بن هادی الوادعی أبو عبد الرحمن: المقترح فی أجوبة أسئلة المصطلح. موقع روح الإسلام islamspirit.com.

26.ناصر الدین الأسد: مصادر الشعر الجاهلی، دار المعارف بمصر، الطبعة السابعة 1988.

27. یوسف إلیان سرکیس: معجم المطبوعات العربیة والمعربة. منشورات مکتبة آیة الله العظمى المرعشی النجفی (د.ت).