نوع المستند : المقالة الأصلية
المؤلف
مدرس الفلسفة اليونانية کلية الآداب ــــ جامعة بني سويف
المستخلص
الكلمات الرئيسية
تتلاقى الأفکار عبر الحضارات وعبر العصور، فالفکر لیس حکرًا على أحد، أو أمة دون غیرها، ویبدو أن الأوان قد آن لوجود فلسفة عالمیة، حتى نکف عن اتخاذ الغرب منارًا للقیاس، والواجب هو وضع نموذج جدید یتخذ صورة نسیج من التعارف والتحادث الراقی بین الثقافات، یلتقی فیه أناس من ألوان وخبرات وثقافات مختلفة، یختلط بعضهم ببعض.
وقد أتیحت - فی هذا البحث - فرصة حقیقیة للباحثة حتى تقدم نموذجًا للفلسفة الشرقیة ممثلة فی الفلسفة الهندیة وبخاصة الفلسفة الهندوسیة « Hundism » عاقدة بینها وبین نظیرتها الفلسفة الیونانیة وبخاصة الفلسفة الرواقیة « Stocism » مقارنة، ولعل الفلسفتین لو تعلمنا التحادث بلسانهما الشرقی والغربی لأمکنا تسخیر معرفتهما الجیدة بالفلسفة للنهوض بتقدیم فلسفة عالمیة حقیقیة.
وسوف یدور هذا البحث حول عرض مصطلح وحدة الوجود «Pantheism» ثم تأصیل جذوره، وذلک بالبحث عن مصدره وبیان کیف ظهر هذا المفهوم أولاً عند الفلسفة الهندوسیة ثم نرصد کیف تطور هذا المفهوم عند الفلسفة الیونانیة بوجه عام، وعند الفلسفة الرواقیة بوجه خاص، وبیان أوجه الاتفاق والاختلاف بینهما.
هذا، وقد استعانت الباحثة بالمنهج التاریخی، ثم منهج علم الأفکار، ومقارنة المصطلحات، حیث یعتمد البحث على دراسة طولیة سردیة قلیلة للفکرة فی سیاقها التاریخی، وتتبع تطورها فی الثقافات المتعاقبة، ثم دراسة عرضیة عند کلتا الفلسفتین، وتوضیح مواضع الاتفاق والاختلاف بینهما، والغرض من المقارنة هو إعادة النظر فی ذلک التاریخ لفهمه أکثر وأفضل، وبالتالی للانتفاع الأوعى منه، وإثراء التجربة هو الغرض إذن.
إشکالیة البحث :
یُثیر البحث مصطلح وحدة الوجود «Pantheism » کمذهب فلسفی ظهر أولاً عند الفلسفة الهندوسیة « Hundu Philosophy »، ثم ظهر بفعل التأثیر والتأثر عند الفلسفة الیونانیة، وبخاصة عند الفلسفة الرواقیة « Stoic Philosophy » وبیان کیف تأثرت الفلسفة الرواقیة بمذهب وحدة الوجود، وکیف عللت کل من الفلسفة الهندوسیة والرواقیة فکرة التعدد والتجسید، أو مبدأ الکثرة وکیف علا الإله الواحد الذی یکمن خلف الکثرة وتجسد فی الکون، وبیان کیف أن هذا الکون یسوده فکرة الغائیة، فما وجد الکون بأکمله إلا من أجل الإله، وکیف سادت فکرة السببیة والحتمیة التی تحکم الکون بنظام حتمی صارم عند کلتا الفلسفتین وذلک من خلال مبدأ التناسخ عند الفلسفة الهندوسیة، ومبدأ العود الأبدی – أو الرجعیة الأبدیة – عند الرواقیة أو ما یسمى بعجلة المیلاد.
وبیان کیف تماثل المبدآن الفعال والمنفعل عندهما. هذان المبدأن اللذان بدورهما یرجعان لأصل واحد وهو الإله. وأخیرًا بیان کیف فهمت کل منهما مفهوم النفس الکونیة المنبثة فی جمیع آرجاء الکون. التی هی أیضًا بدورها هی الإله المنبث فی جمیع أرجاء العالم.
أولاً : المعنى الاصطلاحی لمفهوم وحدة الوجود Pantheism :
الوحدة Unity فی المعجم الفلسفی لها ثلاثة معانی، فهی إما :
1) تعنی عدم الانقسام.
2) أو صفة لما هو واحد مثل: وحدة الأنا أو الوحدة الدینیة أو الاجتماعیة.
3) أو هی جزء من کل، ووحدة الأصل وما یقابلها تعدد الأصل.
ولعل المعنى الثالث هو المقصود بوحدة الوجود Pantheism عند کل من الهندوسیة والرواقیة([i]).
ووحدة الوجود کمذهب فلسفی کان الهنود أول شعب ظهر فیه هذا المذهب، ومصطلح وحدة الوجود فی الهندوسیة یعنی «الإله محایث فی العالم Pan-en- theism» ولا یمکن الفصل بینهما وهی تعنی عقیدة کل شیء فی الإله، وتترجم إلى العربیة دون دقة کافیة بوحدة الوجود، ثم تأثر بهم الفلاسفة المادیین فی الفلسفة الیونانیة، فآثر کل منهم مادة جعل منها الأصل الذی تتکون منه الأشیاء باجتماع بعضه عن بعض، أو بالتکاثف، وتفسد بافتراق بعضه عن بعض أو بالتخلخل، وقد آثر Thales
« طالیس » (640 ق.م) «الماء»، و« انکسمنیس » Anaximenes (585-528 ق.م) «الهواء» و« هراقلیطس » Heraclitus (530-475 ق.م) «النار»، واعتقد کل منهم فی مادیة الحیاة والفکر، فبمقتضى هذا التصور کان الوجود واحدًا، ثم ظهرت عند المدرسة الرواقیة فی نظریتهم الطبیعیة والإلهیة([ii]). وبمقارنة المصطلح عند کلتا الفلسفتین نجد هناک مجالاً غنیًا للتشبیه بین أفکار تلک المدرستین.
ولکنه فی أحیان کثیرة یقترب أکثر من الأخذ والاستقاء، مما دفع بعض المؤرخین إلى رد الفلسفة الیونانیة برمتها إلى الهند أمثال: «روس» «Ross» وغلادیش «Gladisch»([iii]).
وعلى ذلک ففی ثنایا البحث سوف نعمد على مقارنة النصوص الهندوسیة بمثیلتها الرواقیة تبعًا لظهور المصطلح وتطوره عند کلتا المدرستین.
ثانیًا : عقیدة وحدة الوجود بین الهندوسیة والرواقیة :
خلاصة عقیدة « وحدة الوجود » عند کل من المدرسة الهندوسیة، والمدرسة الرواقیة إن الإله «God»، والعالم «World» وسائر موجوداته یمثلون الوجود الذی لا یمکن فصل أجزائه عن بعضها مع القدرة على التمییز بینها بعد تنافرها، أو انفصالها عن الروح الکلی الذی یمثله روح الإله([iv]).
وقد صورت الترانیم الهندیة المقدسة، وکذلک الأساطیر هذه العقیدة خیر تصویر.
ویبدو أن تعالیم الفیدا الساذجة لم تدم طویلاً، فسرعان ما أدرک أصحابها، بأن تعالیمها فی حاجة لأثواب أسطوریة لتحفظها من جهة، وتیسر تعالیمها من جهة أخرى، فظهرت «الأوبانیشاد» وهی جوهر فلسفة وصفوة التفکیر الحدسی الهندوسی، وقمة الأسرار الصوفیة، وبذلک تعنی مناجیات واتصالات بالنفس الکونیة الجامعة «براهمان» بالذات الفردیة «أتمان»، ثم الاتحاد بها، فکأننا هنا ننطلق من جلوس المرید جانب المعلم، بغیة الانتفاع منه، والأخذ عنه والاهتداء به([v]).
وعلى ذلک تمثلت عقیدة وحدة الوجود عند الهندوسیة فی بدایة الحیاة وفی نهایتها، فمن «براهما» انطلق العالم، وإلى «براهما» یعود بالاتحاد معه.
ونجد نصوص الأوبانیشاد([vi]) تفیض بالعدید من صور الوحدة ونجد ذلک فی : «أنا ینبوع وأصل العالم، وسبب انحلاله أیضًا، لا یوجد ما هو أعلى منی، کل شیء هنا یلتصق بی، أنا الذوق فی المیاه، أنا النور فی القمر والشمس، أنا المقطع (أوم) فی (الفیدا) کلها، أنا الصوت فی الأثیر، والرجولة فی الرجال»([vii]).
وفی قول آخر : «هذا الکون ینتشر بی، ویتوزع من خلال شکلی الذی لا یظهر کل الکائنات تسکن فی، ولکننی لا أسکن فیها»([viii]).
یتضح فی النصین السابقین أن الإله براهما متحد ومنبث فی جمیع أجزاء الکون فی وحدة متشابکة.
وفی «الباجافاد جیتا»نجد النص التالی الذی یدعم فکرة وحدة الوجود : «تحدث الرب قائلاً: رغم الثبات فی الطبیعة، ورغم الولادة، ورغم أننی إله الموجودات، فإننی أقیم ذاتی فی الطبیعة (التی لی) وأجیء إلى الوجود بقوتی غیر المرئیة»([ix]).
ونص آخر: «أنا أصل کل شیء، وکل شیء انبثق منی، والصالحون الذین یعبدوننی یعلمون ذلک، ویمتلئون بالحب»([x]).
فی الکتاب الأول من «الأوبانیشاد» : «إن کتب الفیدا قد بلغتنا أن أساس کل نضال للتعبد هو (أووم) ذلک المقطع اللفظی هو البراهمان، إنه یقینًا الأعلى من یدرک معنى أووم یلغ کل أمانیه، أووم هی السند الأقوى ... أووم هی صورة الذات، الإله، الواحد الذی لم یولد، أبدیة، لا تفسد، تسکن کل القلوب إلى الأبد ...» ([xi]).
وآخر: «الإله والکون واحد، بحیث یمکن توحیدهما معًا، یمکن للإنسان الوصول لهذا التصور من خلال العمل والنشاط الدائم»([xii]).
أما بخصوص الأساطیر التی وردت فی «الفیدا» و«الأوبانیشاد»، فتدور جمیعها رغم تعدد صیغها حول صورة رئیسیة هی إن الإله، کان فی البدء فریدًا وحیدًا، فأصابه الضجر والحزن، فمل وحدته، وتمرد علیها، فاقتلع من ذاته جزءً، ثم شطر هذا الجزء نصفین ذکرًا، وأنثى، فتزوجا، وأنجب البشر، ثم تجسدت الأنثى فی صورة بقرة فتبعها الذکر فی صورة ثور. وهکذا وجدت جمیع الموجودات([xiii]).
غیر أن الإله «براجاباتی» سرعان ما أفاق من سکرته، وأسف على ما أحدثه، والمصیر الذی آل إلیه جزؤه المقطوع، فأراد أن یعیده إلى ذاته، وتحقیق وحدته، وهذا هو سر التجاذب الخفی فی أن جمیع عناصر الکون لدیها علة شوق الکائنات إلى الاتحاد مرة ثانیة بأصولها الإلهیة. ولکن حال ذلک بین الإله، وهذا الجزء المقطوع دنس الخطیئة الذی حاق بالموجودات التی خلقت منه، فراح یناشدها أن تطهر ذواتها لترقى إلى درجة الکمال حتى یتسنى لها الفناء والاتحاد به مرة ثانیة([xiv]).
وقد أدرک الإنسان هذه الحقیقة بوصفه أحد هذه الأجزاء، فراح یقدم القرابین من لحم وخمر ولبن وأرز، وخبز للنار المقدسة لتوصلها لعالم الآلهة مستجدیًا إیاها أن تجمع شتاته وتعیده لعالم الخلود([xv]).
وبمقارنة تاریخ الأفکار والمصطلحات نجد فکرة الوحدة ومصطلح وحدة الوجود قد ظهر بوضوح فی فلسفة الرواقیة، بل إن أساس المذهب الرواقی قائم على فکرة الوحدة، وقد ظهر ذلک مع جمیع فرق الرواقیة الثلاثة بدء من الرواقیة القدیمة وزعیمها زینون «Zeno» وکلیانتس «Cleanthes» الذی أقر بأن هناک وحدة وتعاطف وجدانی بین جمیع أجزاء الکون کله فی سلسلة علیة واحدة، وهو کل متماسک، ومتداخل تداخلاً «coherence» تامًا بین جمیع أجزائه، یحفظه من التبدد والتشتت، وإن کل قوى العالم تظهر من أصل واحد، هو ما تثبته وحدة الکون «the unity of world»، فالکون عندهم وعند کریسبوس «chrysippos» لیس إلا کل جمیع أجزائه من کل واحد رائع، ومذهل جسده هو الطبیعة، وروحه هو الإله([xvi]).
وهذا ما أکد علیه بوسیدونیوس «Posidonius» - الرواقیة الوسطى – حینما حاول أن یکشف عن الوحدة المتحرکة فی الطبیعة بالتفصیل، والتی نشأت عنها ظاهرة المد والجزر التی یسببها القمر عن تعاطف منبث بین أجزاء النظام الکونی، والکون عبارة عن نظام تصاعدی من مراتب الوجود، ابتداء من الکائنات اللاعضویة کما هو الحال فی مملکة المعادن، ثم صعد إلى النبات والحیوان حتى نصل إلى الإنسان، ثم دائرة ما فوق العضوی إلى دائرة ما هو إلهی، حیث یرتبط الکل معًا فی نسق واحد عظیم، وترتبط تفصیلات الوجود بواسطة العنایة الإلهیة وهذا الانسجام الکلی والتنظیم البنائی للکون یفترض وجود عقل مطلق هو الإله «God» على قمة هذا النظام التصاعدی، ویبعث فی الکل نشاطًا عقلیًا، فالقوة الحیة المتغلغلة فی الکون تبدأ من الشمس([xvii]).
ویصور «بوسیدونیوس» الإله نفسه، وهو فی ذلک متبعًا خطى الرواقیة المحافظة بوصفه نفسًا عاقلاً ملتهبًا، وهذا ما یؤکد الطابع الوجدانی للکون([xviii]).
ولم تختلف الرواقیة الرومانیة کثیرًا عن سبقیها، حیث أکد سینکا «Seneca» «على أن هذا العالم المحیط بنا لیس إلا شیئًا واحدًا، وهو الإله، فنحن قرناؤه وأعضاؤه»([xix]).
وقوله : «هناک أربعة أنواع من الطبیعة طبیعة الأشجار، وطبیعة الوحش، وطبیعة الإنسان، وطبیعة الإله، فالنوعان الأولان لا عقل لهما، وبذلک یتفقان، والاثنان الآخران عاقلان مختلفان عن بعضهما إذ لا یموت الإله ویموت الإنسان، فتحوى طبیعة الإله خیرها فی نفسها، وینال الإنسان خیره بسعیه»([xx]).
وأیضًا: «یشتق کل شیء من الإله، ومن المادة، والإله هو السائس، وما من شیء حوله إلا ویتبع هدایته العلیا، فالکائن الفاعل الذی هو الإله هو أکثر قدرة وکمال من المادة المفعولة التی تطیع ناموسه، وإن مقام النفس فی الإنسان کمقام الإله فی العالم، فالمادة فی نظر الإله هی کالجسم فی نظرنا»([xxi]).
وظهر أیضًا مصطلح وحدة الوجود عند مارکوس أوریلیوس الذی یرى العالم وحدة کونیة متناغمة ویظهر ذلک فی قوله: « إن الکون هو کائن حی واحد له جوهر واحد، ونفس واحدة، ولاحظ أن هذه الأشیاء راجعة إلى إدراک واحد، وهذه الحیاة یتبعها حرکة واحدة، وهذا کله هو علة مشارکة هذه الأشیاء »([xxii]).
إن الإله الرواقی إذن مباطن فی العالم، ولیس مفارقًا أو متعالیًا علیه.
إن الرواقیین واقعیین؛ بل ومادیین، ومع ذلک اعتبروا حین تطلبت مبادئ الأخلاق إن ذلک العالم من صنع العقل « mind »، والعقل المطلق أو العقل الإلهی هو المبدأ الأول للعالم، وهو یشکل وحدة مع العالم فالکل عندهم فی واحد، وقد تطور هذا المبدأ « الواحدی ».
لیصبح اتجاهًا فی « وحدة الوجود »، فالإله الخالد الموجود فی المادة هو الصانع « The Artificer» لکل شیء محدثًا التماسک والترابط بین جمیع أجزائه وعلة تماسکه « Penuma » أو النفس الکونیة التی تنفذ فی کل الأشیاء من حیث هی النفس، أو النار الاصطناعیة « Artifical Fire » التی تحییها، وتحوی فی داخلها کل الصور محدثة التوتر « tonos » الذی یحدث داخل الهواء والنار الذی یضمن تماسکها ویحقق وحدة النفس والکون معًا، الذی تطور بعد ذلک تحت مسمى
« المجال » أو المدى من نظریة الکوانتم([xxiii]).
الذی ذکره « کریسبوس » عندما قال: أن کل الحالات الفیزیائیة ما هی إلا نفوس لأن الأجسام مترابطة مع بعضها البعض، والهواء هو الرابط الذی یربطهم بعضهم البعض هذه الأنفس المشبعة ببعض الکیفیات هی التی تسمى « الصلابة » فی الحدید، و« الصرامة » فی الحجر و« السطوع » فی الفضة، فالمادة تظل خامدة جامدة، إلى أن تأتی البنوما وتعطی لها الفاعلیة([xxiv]).
إذن لقد بدأت وحدة الوجود أول ما بدأت فی الفلسفة الهندوسیة، ثم ظهرت فی سیاق آخر عند الفلسفة الرواقیة، وبرصد المصطلح عند کلتا المدرستین فقد ظهرت بوضوح عند الرواقیة فی فتراتها الثلاث، دون التسرع بالحکم على الثانیة بالنقل المباشر، وإن کان الکثیر من الشواهد التاریخیة والوثائقیة توحی بالتأثر المباشر.
یُشیر " جورج لونج " فی التقدیم لکتاب " مارکوس أوریلیوس " إلى إمکانیة تأثر مارکوس أوریلیوس المباشر بالمذهب البراهمی الهندوسی وذلک فی قوله بمصطلح البذور ووحدة الوجود([xxv]).
کما ظهر أیضًا مصطلح وحدة الوجود بوضوح فی فلسفة أفلوطین «Plotinus» الذی کان مولعًا بالفلسفة الهندوسیة والبوذیة، وهذا هو السبب فی طلبه مصاحبة الإمبراطور « جوردیان » « Gordian » فی حملاته العسکریة ضد « ساجور » ملک إیران عام 242م لکی یتیح له الفرصة المباشرة للاتصال الشخصی بالهنود ومدارس وحدة الوجود والبهاکتیة والیوجیة، وأدخل مبادئ هذه الفلسفات جمیعًا على الأفلاطونیة المحدثة، ولذلک تجلت فلسفته فی صورة مشابهة لوحدة الوجود الهندوسیة، واستطاع تفسیر الروح على الطریقة الهندوسیة بأنها فی النهایة القوة الحقیقیة العالمیة وهی الإله.
ولعل السؤال الذی یطرح نفسه الآن هو : إذا ما کان هناک وحدة کونیة عند کلاً من المدرسة الهندوسیة ثم المدرسة الرواقیة فعلى أی نحو ظهرت وما فعل هذا الإله المنبث فی جمیع أنحاء الوجود بهذا العالم ؟؟
ولعل الإجابة على هذا السؤال تقودنا إلى العنصر التالی :
ثالثًا : النفس الکونیة :
« العلاقة بین المبدأ الفعال والمبدأ المنفعل عند کل من الهندوسیة والرواقیة ».
لعب مصطلح « النفس الکونیة » دورًا مهمًا ومؤثرًا فی کل من المذهب الهندوسی والرواقی. فعلى أساس فهم کل منهما مصطلح النفس الکونیة فسرتا عقیدة وحدة الوجود وقد تجلى ذلک أولاً مع الفلسفة الهندوسیة وذلک من خلال تفرقتها بین
1) الواقع الداخلی. 2) الواقع الخارجی، أو ما یسمى العلاقة بین أتمان وبراهمان.
حیث إن فقهاء الهندوس یرون أن العلاقة بین سائر الموجودات و« براهمان » « الإله المطلق » هی علاقة انبثاق الضوء عن الشمس، والصلة بین الروح الإنسانی والروح الإلهی هی الصلة التی تربط بین البذرة والشجرة.
وهذا أیضًا ما قاد الهندوسیة إلى التفرقة بین مبدأین: الأول هو: الواقع المطلق، والثانی هو: الواقع الخارجی المطلق، أی: العلاقة ما بین « Atman » «أتمان»([xxvi]).وهو الواقع الداخلی، وبراهمان « Brahman »([xxvii]). وهو الواقع الخارجی المطلق.
وما هذان المبدآن إلا مبدأ یعبر عن حقیقة واحدة، وهی: إن « أتمان » لیس إلا « براهما »، فهناک واقع مطلق واحد یمکن الدنو منه، إما من خلال النظر إلى خارج نفس المرء، أو بالنظر فی أعماق نفسه، وتُعد وحدة أتمان وبراهمان هی أعظم اکتشاف فی « الأوبانیشاد »، وهذه الوحدة هی قبل کل شیء السر والتعالیم المقدسة فی الأوبانیشاد([xxviii]).
حیث تفرض « الأوبانیشاد » وحدة الواقع وهویة الذات مع الواقع ونجد ذلک فی الفقرات الآتیة: « لم یکن فی البدء سوى الوجود، کان واحد لا ثانی له »([xxix]). « کل شیء هو أتمان، وعندما یُعرف الأتمان یعرف کل شیء»([xxx]). « کل شیء هو براهمان، وهذه الذات هی براهمان وأنا براهما »([xxxi]).
إذن، لقد فسرت الفلسفة الهندوسیة مصطلح النفس الکونیة بثلاث خطوات:
الخطوة الأولى : إن جوهر النفس فینا لیس هو الجسم ولا العقل، ولا هو الذات الفریدة، ولکنه الوجود العمیق الصامت الذی لا صورة له، الکامن فی دخیلة أنفسنا، إنه « أتمان ».
الخطوة الثانیة : إن « براهما » وهو جوهر العالم الواحد الشامل الذی هو لا ذکر، ولا أنثى غیر المشخص فی صفاته، المحتوى بکل شیء، والکامن فی کل شیء، الذی لا تدرکه الحواس، فهو حقیقة الحقائق، وهو الروح الذی لم یولد، ولا یتحلل، ولا یموت، وتمیز الأوبانیشاد بین هذا « الإله » الذی هو براهمان بذاته الذی یتعالى على الظهور والإدراک، وبین « براهمان » فی الکون الذی یتحقق فی الکون وفینا([xxxii]).
إن أتمان الذی هو روح الأشیاء کلها هو روح الأرواح کلها، هو القوة الواحدة التی وراء جمیع القوى، وجمیع الآلهة، وتحت القوى، وفوق جمیع القوى([xxxiii]).
الخطوة الثالثة : أهم الخطوات جمیعًا، وهی: إن أتمان وبراهمان إن هما إلا وحدة أی: واحد بعینه، إن الروح اللافردیة، أو القوة الکامنة فینا هی هی بعینها روح العالم غیر المشخص، إن أسفار « الأوبانیشاد » ترکز دائمًا على حقیقة واحدة هی إن الصور الکثیرة ترتد إلى الوحدة، فأتمان هو براهمان، هو هو بعینه الإله باعتباره جوهر الکائنات جمیعًا([xxxiv]).
وعلى ذلک فنفوس الکائنات الحیة وجمیع الأشیاء مماثلة للنفس الکونیة الشاملة « universial » وتلک هی الدلالة العمیقة للمقولة « هذا هو أنت » تات تفام أسى
« tat tvam asi ».
والسؤال الآن :
کیف یتوافق الإنسان مع المطلق ؟ وما الذی یمثله المبدأ المطلق، والعالم المحیط للإنسان ؟ ومن أیة ثمة یتحد مع جوهر الکون ذاته ؟
وصل حکماء الأوبانیشاد إلى أننا فی أعمق أغوار وجودنا متحدون مع الطبیعة المطلقة، والمشکلة هنا: هی کیفیة إدراک هذه الذات الداخلیة، وعلى ذلک فجمیع مدارس الهندوسیة الستة([xxxv]). تسعى کلاً منها جاهدة على تعلیل فکرة التوحید ما بین الأتمان والبراهمان، ولعل أشهر مدارسها وهی: مدرسة « الفیدانتا » قد رسمت لوحة التألیة للعالم على النحو التالی : إن مبدأ کل شیء هو الإله الواحد، لیس ثمة شیء، ثمة فقط العالم المرئی الذی صنعه الإله بقوته السحریة « مایی » الذی تبعث منه، ولیس العالم الذی یدرکه الإنسان سوى عالم وهمی، أما العالم الحقیقی أی: العالم الواقعی، فهو « البراهمان » الذی لا یدرکه سوى الفلاسفة والحکماء، ولکن إدراکهم له لیس ذهنیًا، لأنه لا یتحدد بالکلمات فروح الإنسان فی العالم المعتاد « الوهمی » تنسى جوهرها الحقیقی الإلهی، ولا یعید روح الإنسان إلى الاتحاد مع الإله الکلی – القدرة الکلیة البراهمان سوى انعتاقها الحقیقی من عجلة المیلاد([xxxvi]).
« فنفس المخلوقات واحدة، وهی ماثلة فی کل مخلوق، إنها فی الوقت عینه وحدة وتعدد، إنها مسکن بجمیع الکائنات قاطبة، وهی تسکن فی جمیع الکائنات، أنا فی جمیع الکائنات، وجمیع الکائنات فی ذاتی، بهذا فأنا والنفس الجامعة شیء واحد»([xxxvii]).
« الذات هی الحوذى أو السائق للجسم، إنه لیس هذا ولا ذاک، لا یتجزأ، لا یفنى، لا یصاب بسوء، إنه ما بعد عالم الحواس والعقل، الحکیم فقط یجده فی داخله، ولا یبلغه العقل هو العامل الفعال فی کل الحواس، الإنسان موناد (جوهر فرد) حی»([xxxviii]).
« نفس الإنسان لا تخضع للعالم، ولا تتقید به. لذلک لها أن تتزهد، وتتخلى من الواقع، وعن کل ما هو مادی بغیة الانکباب على اللامادی، الذی یؤدی وحدته بها إلى الخلود، یعنی ذلک أنه على الإنسان استئصال شهواته والامتناع عن اللذائذ کی یشرع لنفسه باب الفلاح والخلود، أما من یبقى عند الطقوس واقفًا عند الشعائر من الأضاحی وأنواع التعبد، فلن یصل إلى شیء، التضحیة الحقیقیة هی أن نضحی بالنفس ذاتها »([xxxix]).
وعلى ذلک ففی البدء کان هذا العالم براهما فحسب، ومن یعرف الأمر على هذا النحو " أنا البراهمان " أهام براهمان أس Aham Brahman Asi فإنه یصبح کله([xl]).
وقد اتفقت المدرسة الشانکاریة([xli])، ومدرسة رامانوجا([xlii])، وهما إحدى مدارس الفیدانتا على الوحدة بین أتمان وبراهما وقد اختلفت عنهما مدرسة « مادفا »([xliii]) «Nadhva» وهی المدرسة الثالثة للفیدانتا حیث یقول « مادفا » بثنائیة أساسیة فی العالم، فالعالم على نحو ما یتم معایشته على صعید تجریبی، وأساسه هو «براهمان» هما متمایزان أحدهما عن الآخر على نحو أبدی وأساسی، والنفس ینظر إلیهما على أنها متمیزة عن کل من « براهمان » والأشیاء المادیة التی تشکل العالم التجریبی([xliv]).
وبمقارنة مفهوم النفس الکونیة عند الهندوسیة ونظیرتها المدرسة الرواقیة، نجد الرواقیین أطلقوا علیها مصطلح « البنوما » « Penuma » حیث نظروا إلى الکون واعتبروا أن الإله هو نفسه، وجسد الإله هو الکون، وإذا ما کان السابقون علیهم من الفلاسفة الیونان أطلقوا على النفس مصطلح « Psuhe »، فإن الرواقیین نظروا إلى النفس الإنسانیة أنها « أسبرما Sperma» فالنفس عندهم – الرواقیین – هی المبدأ الإیجابی فی الکون، ولکنها من طبیعة جسمانیة([xlv]).
وعلى ذلک فالنفس البشریة هی فیض من المصدر القدسی الإلهی، وإن الإنسان إذا کان له جسدًا، فإن له إلى جانب ذلک عقلاً، وبه ذکاء، وهما من صفات الإله، وإذا ما أردنا أن نعرف شیئًا عن حقیقة الصفات الإلهیة فعلینا أن نعرف هذه الصفات بالفطرة، فالإنسان بفطرته لا یمکن إلا أن یدرک وجود هذا الکائن فیه وهذا ما أکده «إبکتیتیوس Epictetus » فی محاوراته([xlvi]).
وأکده أیضًا مارکوس أوریلیوس عندما قال : « إن النفس البشریة هی قسمة من الإله، وبالنفس وحدها یکون لدینا معرفة عن الإله »([xlvii]).
وقوله أیضًا : « النفس الإنسانیة Soul هی قبس من النفس الکونیة Penuma فهی إن کانت ذات طبیعة مادیة تکونت مع الجسد فی نفس لحظة الإخصاب الجسمیة، إلا أنها اختلفت عن الجسد بأنها أنقى وأنبل، حیث إنها جزء من النار الإلهیة، تنزل من الأثیر إلى أجسام البشر لحظة تکونهم، وتنتقل من الآباء إلى الأبناء، کفرع من نفوس الأولین، تتغذى على نار النفس هذه على الدم موقعها القلب، ومن القلب استنبطت فروعها السبعة، أی: الحواس الخمسة، القدرة على النطق والحس المشترک، وإذا ما کان الإله نفسه هو النطق، وإذا ما کان الإله نفسه هو نفس عاقلة ملتهبة، إذن فالنفس هی جزء من هذه النفس الإلهیة »، کان هذا رأی کلاً من «زینون وکلیانتس» و« بوسیدونیوس » والکلام للأخیر الذی کان یسمح بالثنائیة ما بین النفس والبدن، إلا أن الغالب على فلسفته النزعة الواحدیة([xlviii]).
إن الثنائیة عند الرواقیین هی ثنائیة ظاهریة فقط، وهی غیر ثنائیة المادة والصورة عند أفلاطون وأرسطو.
فالمبدأ الفعال عندهم هو مبدأ مؤثرًا فی الأشیاء. فیه تتماسک أجزاؤه، وبه کذلک تبدو صورته، وهذا التماسک الذی لا ینفصل فیه المبدأ الفعال عن المبدأ المنفعل فی فلسفة الرواقیة هو مبدأ وحدة الوجود، فبالرغم من قولهم بمبدأین للوجود – إلا أن المبدأین عندها یجسدها شیئ واحد، وهو: الجسم « body »، فالشیء لم یکن حقیقیًا ما لم یکن جسمانیًا، وما لا جسم له، لا حقیقة له([xlix]).
إن المبدأ العامل أو الفعال « active » هو العقل المحایث أو هو الإله « God » الذی یظهر الجمال والغائیة فی الطبیعة، وهو مبدأ الفکر « thought »، وهو الذی رتب بعنایته کل شیء لصالح الإنسان، أما المبدأ المنفعل « passive » هو المادة matter أو « الهیولی » الخالیة من الصفات، أو الکیفیات، ومادام الإنسان هو الظاهرة العلیا فی الطبیعة، وهو یمتلک وعیًا، فلیس فی استطاعتنا أن نفترض إن العالم ککل یخلو من الوعی، لأن الکل لا یمکن أن یکون أقل کمالاً من الجزء، ومن ثمة فالإله هو وعی العالم([l]).
وعمل الإله فی الکون یسری بفعل القانون والنظام الحتمی الصارم وهو ما یقابله من الفلسفة الهندوسیة « الریتا Rita »، فهذا الوجود الواحد عند کلتا المدرستین یسری بفعل ما فیه من نظام وحتمیة أبدیة.
ولعل هذا ما یدفعنا لإثارة السؤال التالی: إذا ما کان الإله أوجد العالم وفق القانون والنظام، فکیف تم ذلک ؟ فکیف أوجده ؟
هذا ما یقودنا للعنصر التالی :
رابعًا : نشأة العالم :
إذا ما انتقلنا إلى مناقشة نشأة العالم عند کلتا المدرستین: الهندوسیة والرواقیة، فسوف نجده مکملاً لفکرة وحدة الوجود من جهة، ومفسرًا ومبررًا لها من ناحیة أخرى. وسوف یتبدى ذلک على النحو التالی :
أ ) نشأة العالم عند الفلسفة الهندوسیة :
تعددت الأساطیر الهندوسیة عن نشأة الکون، وعن موجده ومبدعه، ولعل أشهر هذه الأساطیر – تلک الأسطورة التی أشرنا إلیها من قبل، وهی: إن الإله المجرد، الروح الخالصة السرمدیة قد ظهر من البیضة الکونیة الذهبیة التی تعد رمزًا للنار
" Fire "، وقد اتخذ شکل الإنسان " بوروشا Purusha " الذی ظل وقتًا طویلاً جدًا وحیدًا، ثم شطر نفسه إلى قسمین: مذکر، ومؤنث، ثم ظهر لهما أبناء من إناث وذکور، وبالتالی ظهرت بعد ذلک البشریة([li]).
والحق، هناک تنوع حول أصل المادة، أو المبدأ الأول الذی تشکل منه الکون على مختلف مدارس الهندوسیة الستة. حیث ترى المدرسة " الفاشیسکیة " إن العالم مؤلف من الذرات " atomS " الذی یبلغ عدد أنواعها، عدد العناصر المختلفة([lii]).
وهناک تصور آخر فی الهندوسیة لنشأة العالم ذُکر فی قصیدة " الریج فیدا " من الأوبانیشاد یرى إن العالم أصله هو البذور seeds.
ویظهر ذلک من النص التالی : " ... لم یوجد سواه – الإله – منذ ذلک الحین حتى الیوم – کانت هناک ظلمة، وکان کل شیء فی البدایة تحت ستار من الحر الحرور، ثم أضیف إلى الطبیعة " الحب " – البذرة " Seed "، وهو الینبوع الجدید للعقل، نعم، إن الشعراء فی أعماقهم یدرکون إذ هم یتأملون هذه الرابطة بین ما خلق، وما لم یخلق، فهل جاءت هذه الشرارة من الأرض، تتخلل کل شیء، وتشمل کل شیء، أم جاءت من السماء، ثم بذرت الحبوب، وتشمل کل شیء، أم جاءت من السماء ثم بذرت الحبوب، ونهضت الجبابرة القوى، فالطبیعة فی أسفل، والقوة والإرادة أعلى من ذا یعلم السر الدفین ؟ من ذا أعلنه ها هنا، من أین جاءت هذه الکائنات على اختلافها ؟
إن الآلهة أنفسها جاءت متأخرة من مراحل الوجود – من ذا یعلم متى أتى هذا الوجود ؟ إن من صدر عنه هذا الخلق العظیم، سواء خلقه بإراته، أو صدر عنه، وهو ساکن، أنه الإله([liii]).
أشارت الهندوسیة فی هذا النص القیم إلى أصل نشأة الکون هی البذور، وهی بذلک قد سبقت کلاً من " أنکساجوراس Anxagoras " (500 ق.م – 428 ق.م) فی قوله بأن أصل العالم یرجع إلى البذور الحیة والجامدة التی کانت کامنة فی عقل الإله([liv]).
وهی ذات الفکرة التی رآها مارکوس أوریلیوس فی "تأملاته" عندما أشار إلى أن أصل العالم ربما یرجع إلى الذرات " atoms " أو إلى البذور " Seeds " وهو فی ذلک مختلفًا بعض الشیء الکثیر عن الطبیعیات الرواقیة التی أرجعت نشأة العالم إلى النار الکلیة([lv]).
وهذا إن دل فإنما یدل على مدى التأثر الذی ظهر واضحًا وجلیًا بین الأفکار الفلسفیة الهندوسیة، والأفکار الفلسفیة الیونانیة بوجه عام، والرواقیة بوجه خاص، وقد أخذ هذا التأثر أشکال عدیدة، فتارة اقتباس مباشرة، وتارة تفاعل، وأخرى تنظار بین الأفکار، وهذا إن دل فإنما یدل على إن الفلسفة لا وطن لها، وإنما هی لغة جمیع الشعوب، وهی لیست حکرًا على أمة دون غیرها، فمن الثوابت التاریخیة والقراءة الدقیقة فی النصوص ثبت ظهور المصطلحات العدیدة وآثارها فلسفیًا عند الهندوسیة – بحکم أسبقیتها زمانیًا، ثم تأثر وتفاعل ونقل الفلسفة الیونانیة على وجه العموم، والفلسفة الرواقیة على وجه الخصوص.
ویتضح ذلک التأثر على وجه أکثر فی تفسیر الأسطورة الهندوسیة التالیة، وبیان ما یقابلها فی الفلسفة الرواقیة. وهی: " إن العالم وإیجاده تم بفعل الإله المجرد الذی أدرک بأن العالم لم یتحقق وجوده الکامل، بعد فأخرجه من الظلمة " chaos " إلى النور، فجعله مرئیًا، ثم ظهرت المیاه – الماء " water " من الکاوس، وأنجب بدوره النار " Fire "، ثم خلقت الدفء الجبارة بیضة ذهبیة. یبدو أن الزمن لم یکن له شاطئ، ولا قاع وبعد عام مقداره « ملیون و320 سنة أرضیة استیقظ الوالد الأول "براهما" من البیضة وکسرها، فانشطرت إلى قسمین، تشکلت السماء فی القسم الأعلى، والأرض فی القسم الأسفل، ووضع " براهما " الغلاف الجوی بینهما وبدأ حساب الزمان منذ تلک اللحظة، ویدعى براهما بـــ " الموجود بذاته "، لأنه کان موجودًا منذ الأزل، ولم یخلقه آخر([lvi])، ولعلنا نجد توارد مصطلح " الموجود بذاته " عند أرسطو([lvii]) فی وصفه للإله أیضًا بأنه المحرک الأول الموجود بذاته.
وهو أیضًا الإله الرواقی – الموجود بذاته الواحد، الذی لم یخلقه أحد، وهو الکامن والمنبث فی جمیع أجزاء العالم.
والإله الهندوسی أو " براهما " الذی لم یخلقه أحد وضع روحًا حیًا، وذلک بفعل عقل الإله – فکر الإله، وهی عینها کما سبق الإشارة إلى ذلک فکرة إنکساجوراس التی ترى بأن العالم نشأ بفعل البذور التی کانت کامنة فی عقل الإله، وهی عینها صفة العقل الخالص للمحرک الأول عند أرسطو([lviii])، وهی أیضًا فکرة العقل الکونی عند الفلسفة الرواقیة.
ثم أوجد الإله الهندوسی العناصر الخمسة وهی: ( الهواء والنار والماء والتراب والأثیر، ثم خلق الآلهة " Gods " والذبیحة الأزلیة والفیدات الثلاث، والکواکب والأنهار، والکون عند الهندوسیة غیر متناه، ویتألف من کثرة من العوالم، ولکل عالم بدایته، ووجوده ونهایته، وحیاة الکون شبیهة بسلسلة متصلة من العوالم التی تظهر وتسود،
Universiad time is a never ending cycle of both cteation and des truction,
إن هذا العالم تستمر دورته ألف سنة برهمیة ثم یعود فی نهایة الفترة إلى " براهما " نفسه مرة أخرى بکل محتویاته من الآلهة والدیمون " demons " والبشر، والمادة تنحل فیه([lix]).
وبالمقارنة بین فناء العالم وتجدده عند الهندوسیة أو ما یسمى مذهب التناسخ، نجد ظهور المصطلح جلیًا أیضًا عند الهندوسیة تحت مصطلح " الرجعیة الأبدیة " أو العود الأبدی، فالإله الرواقی الکامن والمنبث فی جمیع أجزاء العالم، والذی أوجده من النار وهو الذی یجدده ویدمره عبر سلسلة مستمرة ومتعاقبة من الولادة والفناء فی النار الکونیة، أو الاحتراق العالمی " The Cosmic Confligrgtion " هذا المصطلح الذی تأثرت به الرواقیة من " هراقلیطس Heraclitus " الذی کان بدوره أحد مواطنی مدینة " أفسوس " تلک المدینة التی یغلب علیها الطابع الشرقی. وجدت أیضًا فکرة "النار" فی الفلسفة الهندوسیة، وقد ظهر ذلک فی الفکر الفیدی المبکر، فالإله " آجنی Agni " وهو أحد الآلهة الفیدیة الرئیسیة، وهو رمز لقوة النار " Fire " الرهیبة، التی تخرج من ألسنة اللهب المندلعة عن نطاق السیطرة، فإنها تدمر المنازل والغابات، وتقتل البشر والحیوانات، ولکن النار عندما تکون تحت السیطرة فی الفرن، فإنها تحول اللحم النیء والخضروات إلى طعام، وتزودنا بالطاقة الضروریة للحیاة.
والنار کالبرق تخترق السماء والأرض وتضمها فی وحدة کونیة، والنار رهیبة وغامضة بحیث أن " آجنی " أصبح سید الطقوس العظمى المتعلقة باحتفالات التضحیة، والتی ترمز إلى تجدد الوجود – وتشهد ترانیم " الریح فیدا " الموجهة إلى "آجنی" على الأهمیة المرتبطة بقوة التحول التی حظیت بها النار فی العهود الفیدیة([lx]).
ویُعتقد أیضًا بأن الإیمان بــــــ " آجنی " یمثل التحول الذی حصل من عبادة النار فی العهود القدیمة – الزرادشتیة – الفارسیة – إلى الهندوسیة فی شکلها الحدیث([lxi]).
ونجد فکرة النار ذکرت أیضًا فی " الباجا فاد جیتا " : " القرابین لبراهمان، فهو زبد الأضاحی وهو فی النار، والوقود المقدم منه إلى النار، براهما یحب أن یتأمل فقط وبأعماله "([lxii]).
یقول زرادشت أیضًا : " بعض النساک یراقبون الأضاحی المقدمة للآلهة والآخرون یقدمون الأضاحی فی نار براهمان بالأضاحی نفسها "([lxiii]).
والسؤال الآن : کیف انبثق هذا العالم عن الإله، وما علاقته بالعالم الطبیعی ؟
إن فکرة خالق Creative منفصل عن الکون ذاته - الوجود ذاته – هی فکرة غریبة على کل من الفلسفة الهندوسیة، والفلسفة الرواقیة.
فعلى الرغم من أن الآلهة الفیدیة ترمز کلاً منها لقوى الوجود، إلا أنها لیست خالقة للوجود، فکل من العقل " Mind "، ومادة " Matter " الکون ینظر إلیهما بأنهما متضامنان فی الوجود ذاته، ولا سبیل إلى فصل أحدهما عن الآخر، لأن الوجود کان ینظر إلیه على أنه یحوی الإله العاقل، والوجود أیضًا یتصف بأنه عاقل ومنظم والنظام " Rita " منبث فی جمیع أرجائه، وهذه الآلهة نفسها خاضعة لهذا النظام. والریتا أساسیة أکثر من الآلهة([lxiv]).
ولذلک اهتمت الهندوسیة أکثر بالسؤال عن کیف یعمل الوجود، ولیس بالسؤال عن مصدر الوجود، وعندما حاول حکماء " الفیدا " الإجابة على السؤال عن هذا المصدر الأول، لم یجدوا کلمات أو أفکار لیصوغوا بها ردًا، إذا قیل: إن الوجود قد جاء من وجود سابق، فإن السؤال عن الأصول فی هذه الحالة لا تتم الإجابة عنه، وإنما یرد إلى مرحلة أسبق، أما الزعم بأن الوجود قد نبع فی العدم، فهو یناقض الخبرة والفطرة، وهذا ما ظهر فی ترنیمة الخلق فی " بریهادارنکیا " الجزء العاشر " إن الحکیم یُنهى سؤاله عن أصل الوجود، بأنه یجب ترکه ورائنا، حیث إن المصدر الأصلی ربما لا یمکن معرفته "([lxv]).
ولعل هذه الفکرة وردت أیضًا مع الرواقیة التی أشارت إلى إن هذا العالم قدیم، لیس له خالق، ولکن له موجدًا، وهو الإله الواحد – لوجوس Logos العالم، أو عقله، هذا الإله أوجد العالم من مادة قدیمة سابقة فی الوجود على نشأته وهی النار Fire " هذه النار المحایثة([lxvi]) فی الکون عند کل من الفلسفة الهندوسیة، والفلسفة الرواقیة هی فی الوقت ذاته المصدر الأول الذی خرجت منه العناصر الغلیظة التی صنع منها العالم المادی – وهذه النار التی تسیر من الإله وفی نهایة المطاف تنحل فیه من جدید.
وهکذا فکل ما هو موجود إما أن یکون النار الأولى، وهی الإله فی ذاته، أو الإله فی حالاته المختلفة – فعندما یوجد الإله العالم، یقف الإله منه موقف الروح - النفس من الجسم – أی: جسده، وعلى ذلک فهو نفسه مادة أشد دقة. وهو المبدأ الصانع أو المحرک للعالم.
إن الإله عند کل من الهندوسیة والرواقیة واحد، وإن اختلفت مسمیاته فهو
( براهما وشیفا وکریشنا ) وهو أیضًا " اللوجوس Logos، النار العاقلة، النار الکلیة، زیوس Zeus)، فهو الإله الواحد، أو العقل النشط الذی یحوی داخل ذاته صور فعالة نشطة لجمیع الأشیاء التی یمکن أن توجد - وهذه الصور أو الأشکال هی البذور الکامنة – کما سبق الإشارة إلى ذلک.
السؤال الآن : إذا ما کانت هذه الصور - البذور - منذ البدایة کامنة فی عقل الإله، والعلاقة بین الإله والعالم هی علاقة وحدة لا انفصال بینهما، فکیف تم الاتحاد، أو الرجوع مرة أخرى للإله ؟ هذا ما سوف نعرضه على النحو التالی.
خامسًا : عجلة المیلاد والفناء ( العود الأبدی ) :
أضافت کل من الهندوسیة والرواقیة لفکرة إیجاد العالم – فکرة القدر " Fate "، أو السببیة " Cause " التی بمقتضاها یشکل الإله العالم، ثم یعیده مرة أخرى إلى ذاته، وذلک من خلال فکرة الفناء، أو الاحتراق.
والسؤال الآن: بأیة وسیلة یتم الفناء ؟ أو على أی نحو یتم عجلة المیلاد والفناء، عند کل من الهندوسیة والرواقیة ؟!
أ ) التناسخ والکارما عند الهندوسیة :
سبق وأن أشرنا من قبل أسطورة الخلق – إن الإله الواحد الذی بتر جزء منه لیأنس به ولکن لتورط الإنسان فی الشرور والآثام فی الحیاة الأرضیة ودنس هذا الجزء الإلهی – فأسف الإله على هذا الجزء المبتور وقرر رجوع هذا الجزء إلى ذاته، وتم ذلک برحلة التطهیر والجزاء – الکارما حیث لابد للإنسان أن یکفر عن أفعاله الآثمة بموجب قانون الکارما Krama وذلک بدورات " التناسخ " السمسارا Samsara المستمرة – حیث لا یفهم التناسخ بدون ربطه بعقیدة الکارما "، فأعمال الفرد الآن تجلب ما سیفعله فی المستقبل الذی یلیه، وبذلک تتوحد السمسارا مع الکارما([lxvii]) الذی یبدو وکأنه قانون السببیة والحتمیة عند الرواقیة.
وفی ذلک یقول یوجى راما شارکا : " لیس فی الکون مکان لا الجبال والسموات ولا البحار یفر إلیه المرء من جزاء أعماله البشریة، لابد وأن یجازى المرء بالثواب والعقاب طبقًا لناموس العدل الصارم فنظام الکون قضى بالجزاء لکل عمل، وإن فی الطبیعة نوعًا من النظام لا یترک صغیرة ولا کبیرة من أعمال الناس بدون إحصاء، وبعد إحصائها ینال کل شخص جزاءه على عمله، ویکون الجزاء فی هذه الحیاة..."([lxviii]).
حیث اعتبرت الهندوسیة کل دورة تناسخ منعزلة تمامًا عن الدورة السابقة، وبالتالی الدورة التی یُکفر بها الإنسان عن ذنبه، یوجد فی الدورة الجدیدة وهو نفسه هذا الإنسان، ولکنه لا یعرف الذنب الذی ارتکبه، ویلزمه التکفیر عنه، فالکل عندهم یجنی ما یفعل، وما هو مرسوم.
وهذا التناسخ الهندوسی ناتج عن سطوة طبقة الکهنوت التی أقرت حتى لا تتطلع طبقة إلى أخرى، وتظل طبقة الکهنوت محتفظة بسلطتها کاملة([lxix]).
وهذا ما أثار غضب وحقد الطبقات الأدنى وهذا ما حاولت البوذیة رفضه والتخلص منه. ورفض بوذا مبدأ التناسخ، کما عارض نظام الطبقات، کما ظهرت الدیانة الجینیة کرد فعل عنیف ضد عقیدة التناسخ الکهنوتیة التی ظهرت فی الأساس للتفرقة بین البشر([lxx]).
ب ) العود الأبدی عند الرواقیة - النظریة الدوریة :
جعلت الرواقیة عجلة مستمرة فمن ولادة العالم وفنائه، وتجدد العالم بالنار الکونیة أو من الاحتراق الکونی، ثم دماره وفنائه أیضًا فی الاحتراق الکونی، فی نظام حتمی صارم من التعاقبات المستمرة من الأحداث فجعلته نظامًا مغلقًا دوریًا لا یسیر إلى الأمام، فالأحداث مستمرة فی سلسلة أبدیة محکمة، والأحداث واحدة والأشخاص متغیرون، یشبهون الممثل على خشبة المسرح، فأحداث المسرحیة واحدة، والذی یتغیر هم الممثلون فقط، فهم یؤدون الدور المرسوم لهم مسبقًا([lxxi]).
والتشابه هنا واضحًا من خلال مقارنة الأفکار، فقد فرضت الرواقیة نظامًا حتمیًا سببیًا صارمًا لا سبیل للخروج علیه وطبعت النظریة الدوریة لیس على الأحداث الکونیة فحسب، وإنما على الأحداث التاریخیة وأغلقت الطریق أمام التقدم العلمی الذی یسعى دائمًا لاکتشاف الجدید ویسعى دائمًا للمستقبل.
ویبدو هدف الرواقیة من ذلک کان تبریرًا لأسلوب الرضا بالحیاة وتحقیق الطمأنینة الداخلیة " الأباثیا " " " Apathy ".
فقد دعت کل من الهندوسیة والرواقیة لمبدأ الحتمیة الطبیعیة والتاریخیة.
والسؤال الآن: کیف السبیل إلى الاتحاد بالإله ؟
والإجابة على هذا السؤال یقودنا إلى النقطة التالیة.
سادسًا : عقیدة الاتحاد أو ( الانعتاق ) بین الهندوسیة والرواقیة :
کانت عقیدة الاتحاد بالإله عند کل من الهندوسیة والرواقیة متممة لعقیدة وحدة الوجود، فربطت الهندوسیة بین الاتحاد، أو « الموکشا moshka » کوسیلة للتخلص من التناسخ، وبین المذهب البرهمی الصوفی، أی: الاتحاد مع براهما، الذی بدوره یوافق الموکشا فی إن النفوس کل الأشیاء، جمیعها من البراهمة ذاتها، لکن الاختلاف أعمق، فالبراهمة ترى فی الذات الأسمى مصدر کل شیء والمطاف الأخیر، والذی به یعود إلیه کل شیء، کالشرر المتولد من النار، والذی یعود إلیه([lxxii]).
إن وحدة الوجود الواقعیة المسیطرة فی الأوبانیشاد غالبًا ما یتم تجاوزها من خلال النزعة المثالیة التی ترفض عالم الوعی الیقظ کعالم حقیقی، والذی یعتمد حالة النوم بلا أحلام أو من التأمل المحض کإدراک للوحدة المطلقة والواقع أنه فی حالة النوم یتم إدراک للذات، وبذلک تتحقق السعادة العلیا کهدف نهائی، وعلى ذلک فإن البحث عن الوحدة بشکل واقعی خارج النفس لیس سوى الذات التی قد تستعصى على الإدراک کموضوع للوعی لا یمکن أن یصبح کائنًا غیر مرئی، ولذلک فإن وحدة أتمان وبراهمان وحدة کاملة وذلک فی القول "أنا جزء منه" " هذا العالم لیس سوى ذاتی"([lxxiii]).
ثم إن البراهمیة قبل تبنیها « السمسارا samsara » « الانعتاق » من العالم، کانت تبحث فی التغلب على هذا العالم بواسطة الاتحاد، ضمن مفهوم آخر جدید یرى کل تناسخ جدید للکائن یدفعه بالأخلاق « السمادهی Samadhi »، وعمل الخیر والواجبات خطوة للأمام، وهکذا یترقى عبر کل تناسخ، وبسلوکه کل الفضائل کلها إلى أن یبلغ الاتحاد بالنفس الکونیة، والتی بمثابة الکیان الأسمى – الإله – أی أنه أشبه بالمهاجر إلى الإله الذی یتسامى ویتسامى حتى یصبح هو والإله شیئًا واحدًا([lxxiv]).
وهو أیضًا یشبه عقیدة الاتحاد بالإله التی وجدت عند الرواقیة حیث تحولت الوحدة إلى عقیدة فی الاتحاد أو الحلول، ویوحد کلیانتس بین زیوس والإله فی " ترتنیمة التوحید. وما أشبه الإنسان والعالم بالکون الصغیر فی الکون الکبیر، فهو أیضًا کائن حی ذو جسم مادی ونفسه مادیة. ذو نسیم ناری تتخللها النفس الکونثیة المبثة فی جمیع العالم. وهی تبقى بعد الجسم إذا مات على هیئة طاقة غیر شخصیة. وحین یحدث اللهب الأخیر تمتص الروح مرة أخرى فی محیط الطاقة وهو الإله کما یمتص أتمان فی براهمان. ویظهر ذلک أیضًا عند سینکا فی قوله : " لیس هذا العالم المحیط بنا إلا شیئًا واحدًا هو الإله، فنحن فناؤه وأعضاءه"([lxxv]).
وقوله : « ربما عُجبت من أن الإنسان یمکنه الوصول إلى مأوى الآلهة، ولکن لا غرابة فی ذلک، فالإله نفسه ینزل إلى البشر، بل إلى باطن البشر، فلیس هناک نفس فاضلة، إلا والإله فیها »([lxxvi]).
وقول أوریلیوس : « جمیع الأشیاء متعلقة ببعضها البعض، وتعلقها مقدس لأن الأشیاء نسقت نسقًا، وهی تشترک بعضها ببعض فی انسجام العالم الواحد، لأن هناک عالمًا واحدًا یشمل الکل، وإلهًا واحدًا منتشرًا فی الکل، ومادة واحدة، وعقلاً واحدًا»([lxxvii]).
نستنتج من جمیع ما سبق إن عقیدة وحدة الوجود عند کل من الفلسفة الهندوسیة، والفلسفة الرواقیة کانت بمثابة حجر الزاویة، أو الأساس الذی أقامت کلاً منهما علیه مذهبهما الفلسفی القائم من الإله وإلى الإله.
وهذه الرحلة – ( من وإلى ) – قوامها إن العالم والإله شیئًا واحدًا – وهذا ما بینته کلتا المدرستین من خلال الأطر الوجودیة والمعرفیة عندهما، تلک الأطر التی اتخذت کلتاهما نفس المصطلحات والمفاهیم مع اختلاف المسمى وفقًا لاختلاف العصر والظروف التاریخیة والثقافیة والتراثیة الخاصة بطبیعة الثقافة والحضارة عند کل منهما.
سابعًا : تطور نظریة وحدة الوجود فی ظل علم تاریخ الأفکار :
بتطبیق علم تاریخ الأفکار على مصطلح وحدة الوجود عند کل من الفلسفة الهندوسیة والفلسفة الرواقیة نجد إن المصطلح وبنیة الفکرة تطورها وظهر جلیًا فی العدید من المدارس والعصور الفلسفیة المختلفة.
فقد تطور مصطلح وحدةالوجود على اتجاهیین اتجاه روحانی یُمثل تجسد الإله وحلوله، واتحاده فی العالم یُمثل تطورًا للفلسفة الهندوسیة، وکل اتحاد، أو وحدة کونیة – عالمیة – یُمثل تطورًا للفلسفة الرواقیة، وهو یُمثل الاتجاه المادی، أو تطورًا للدین الطبیعی. وهذا ما سوف نوضحه على الوجه التالی.
1) الفلسفة الهندوسیة : أثر وحدة الوجود الصوفیة على الفلسفات اللاحقة :
أ) أثر وحدة الوجود الهندوسیة على الفلسفة التاویة :
تجلت وحدة الوجود أیضًا فی الفلسفة التاویة على ید مؤسسها (لأوتس) فی القرن الرابع قبل المیلاد. والذی نقل مرکز اهتمام البحث الفلسفی عکس البناء الکونفوش الذی یقوم على المجتمع الإنسانی، وعلاقات الأفراد بعضهم البعض، نظر لاؤتسی إلى کیان آخر غیر مرئی، إن هذا الکیان لم یکن قائمًا فوق الأرض، ولا حتى فی السماء، بل فی غیب الوجود، فالتاو یصعب تعریفه، إذ لا مکان له ولا زمان، فهو سابق على الزمان، وقبل بدء الوجود. فربما معناه " الطریق " لکن التقدیر السائد لدى الباحثین والمتخصصین بالفلسفة الصینیة یُشیر إلى إن " التاو " فلسفة صوفیة بالمعنى الطبیعی، ولیس بالمعنى الدینی، فلئن کان متصوفة الفلسفة الهندوسیة والمسیحیة والإسلامیة یبحثون عن الاتحاد الجمعی بروح الله، فإن التصوف التاوی یبحث عن الاتحاد الجمعی بالطبیعة المطلقة. وهو بذلک یقترب من مفهوم – الروح – الکامنة فی الطبیعة([lxxviii]).
رأى لاؤتسی أن أیة معرفة أصلیة حقیقیة نافذة إلى جوهر طبیعة الأشیاء یمکن تحققها فقط بواسطة الحدس الصوفی، وأی محاولة لأعمال الذهن لیست إلا انتهاکًا لقدس أقداس التاو([lxxix]).
ب) وحدة الوجود الهندوسی وأثر فکرة التثلث والتجسد الهندوسیة على الثالوث المسیحی ومقارنته بالثالوث المصری والرومانی :
فکرة التثلیث :
بتطبیق علم تاریخ الأفکار على فکرة التثلیث الهندوسیة وتجلیه فی الثالوث الهندوسی (براهما وشیفا وفشنو)، حیث یرمز (براهما) إلى الإله المطلق السرمدی أو الأب، و(فشنو) هو الطاقة الکونیة الخلاقة أو اللوجوس، وهو الابن الذی لدیه القدرة على التجسد فی صور عدیدة، و(شیفا) هو الروح القدسی الذی لدیه القدرة على الخلق والإفناء، وهو الذی ینفخ من روحه فی الأرحام فیمنح الأجنة الحیاة، وهو أیضًا المخلص الذی هبط إلى الأرض فی صورة (کریشنا) وقد أطلق على هذا الثالوث الإلهی مصطلح (trimurti) وکانو یرکزون إلیه بثلاثة أحرف هی (الألف والمیم والواو) ( أوم )([lxxx]).
وقد انتقلت فکرة الثالوث المقدس إلى الفلسفة البوذیة، وکذلک التاویة، وأشهر الآلهة ذات الأقانیم الثلاثة فی الأساطیر الصینیة هو المکون من (شانج تی) و( الإمبراطور جاد) و(لاوستوبان) خالق العالم، ولا یُستبعد أصحاب هذا الرأی تأثر الدیانات السریة بالمعتقدات الهندوسیة والصینیة فی ظل العولمة الثقافیةالتی سادت العصر الهلینستی الأمر یبرر تواجد فکرة التثلیث فی معظم الدیانات الوضعیة فی هذه الحقبة([lxxxi]).
کما نلمح فکرة التثلیث أیضًا فی الفکر المصری القدیم (أوزوریس) إله الخیر، والآلهة (إیزیس) زوجته، والإله (حورس) وهو ابن (أوزوریس) و(إیزیس)، وهو الإله المخلص الذی ولدته أمة لیقضی على مملکة الشر، وهو إله النور وحامی أرواح الآلهة الذین تجسدوا فی صور بشریة على الأرض.
وهو نفسه الثالث الرومانی (سیرابیس – إیزیس – هادبوکراتس) الذی عملت الإمبراطوریة الرومانیة على التوفیق والدمج بینه وبین الثالوث المصری لتضمن ولاء العوام لإخضاعهم لقوانین الإمبراطوریة([lxxxii]).
وهی نفسها الفکرة أو الثالوث التی تبنته المسیحیة تحت مسمى ( الأب والابن والروح القدس ) حیث یمثل الأب الله، وتجلیه فی صورة المسیح أو الابن، بواسطة الروح القدس.
فکرة التجسید :
ظهرت بوضوح فکرة التجسید وفکرة الإله المخلص أو الفادی فی الفلسفة الهندوسیة التی تمثلت فی الإله (کریشنا) الذی هبط إلى الأرض فی صورة بشریة، وولد من العذراء النقیة (دیناکی) والملقبة بأم الإله. وقد نُسبت للإله کریشنا العدید من الأقوال التی تکشف عن المهمة التی تجسد من أجلها ألا وهی خلاص العالم من الشرور([lxxxiii]).
وقد ظهرت فکرة التجسید فی الفلسفة البوذیة فقد تجسد (بوذا) على إنه الإله المخلص الذی تجسد فی رحم ( مایه ) لیخلص الجنس البشری من عجلة المیلاد وتناسخ الأرواح وهی نفسها عقیدة المخلص (السیرابیسیة) و(الدیونیسیوسیة) التی کانت تبعث الأمل فی قلوب المعدومین وتشد من أزر العبید الحالمین بالبطل المنقذ، وهی عینها عقیدة المخلص، أو المهد المنتظر عند کلاً من الیهودیة والمسیحیة([lxxxiv]).
ج) أثر وحدة الوجود الهندوسیة وظهور الاتجاهات الثیوصوفیة فی العصر الهلینستی :
نلمح آثار التأثر بالفلسفة الهندوسیة والفلسفة الرواقیة على ظهور الاتجاه الصوفی فی مدرسة الإسکندریة الذی ظل سائدًا حتى القرن الثالث المیلادی، والذی یجمع بین الادعاءات الصوفیة الدینیة والقضایا العلمیة والفلسفییة الغامضة وهی مزیج أیضًا من الفلسفة والدین والتصوف تلک التعالیم التی تجمع وحدة الوجود الرواقیة التی تقتضی وحدة الکل، وتتخلل النفس الکونیة (البنوما Peneuma) من جمیع أنحاء الکون ظهر هذا الاتجاه على المدرسة الطبیة فی مدرسة الإسکندریة فی أواخر القرن الثالث ق.م. وتبنى فکرة الحضور الإلهی فی الکون، وانتشاره فی جمیع أجزاء العالم، هذه الروح هی التی تحمی البدن، وتحقق بین أجزائه الوحدة الکاملة. ولذلک تکونت فی الإسکندریة مدرسة طبیة تلفیفیة تجمع بین سیادة النظرة العلمیة البحثیة وبین المبادئ المیتافیزیقیة التی تجمع بین صوفیة الروح التی لها جذور شرقیة هندوسیة والاتجاه العلمی([lxxxv]).
کما نلمح أثر وحودة الوجود الهندوسیة على فیلون Phileo (20 ق.م - 45 ق.م) حیث یرى فیلون أن غایة النفس هی الوصول إلى الإله والاتحاد به على غرار الاتحاد الهندوسی والرواقی، ولکن فیلون یزید على ذلک بتصوره وسائط بین الإله والعالم إلى جانب اللوغوس والحکمة الإلهیة والملائکة والروح الإلهی. ویبدو أن فیلون قد أدخل فی مذهبه هذه الوسائط لیوفق بین الحلول الرواقی والتنزیه الواجب للإله([lxxxvi]).
وجدت الفکرة على نحو أکثر تطورًا مع أفلوطین (Plotinus) (205 – 270م) الذی ذهب إلى أن منزلة الشیء متوقفة على مدى تماسکه، ووحدة أجزائه کما ذهبت إلى ذلک الفلسفة الرواقیة. فمن وحدة کومة الطوب الناتجة عن تلاصق مفرداتها إلى وحدة الجیش إلى وحدة الکائن الحی التی ترجع إلى وحدة النفس البشریة إلى وحدة العلم الذی ینطوی الناحیة النظریة فیه على بقیة النظریات بالقوة. وتکون الوحدة فی الروحانیات والمجردات أقوى منها فی الجسمانیات. وکل وحدة غیر مکتملة ولا مطلقة تفترض فوقها وحدة أشد اکتمالاً([lxxxvii]).
کما یتعمق الإحساس بالنزعة الصوفیة عنده عند مصطلح (extasis) والذی یعبر عن حالة الاتحاد بالمطلق أی حالة فناء ذات الإنسان فی ذات الإله([lxxxviii]).
أما المبدأ الصوفی الثانی هو مبدأ الاتحاد بالإله الذی غالت الهندوسیة فی الاعتقاد فیه، فقد اعتنقه أفلوطین والتزم به من ناحیة واعتدل من ناحیة أخرى، فقد اعتبر أن إنطفاء الشعور بذاتیة الفرد ومادیته منتهى العملیة الإحتکاکیة التی یرمی إلیها الإنسان عند انبلاج الحضور الإلهی فیه مؤکدًا على الرؤیة الباطنیة على غرار بعض المتصوفین المتطرفین لکن لم یجعله قبل البراهمانیین الهنود هذا الفناء (نرفانیا) أی لم یُعتبر حصول الاتحاد (ذوبانًا) مطلقًا للشخص الإنسانی فی براهمان بل جعله اتحادًا بین راء ومرئی یحتفظ فیه کل منهما بهویته الخاصة([lxxxix]).
ظهرت أیضًا وحدة الوجود المتأثرة بوحدة الوجود الهندوسیة عند (یامبلیخوس Iamplichus 250-325م) حیث جمع بین التصوف الهندوسی وفلسفة فیثاغورس وأفلاطون وأرسطو، وسمی هذا الخلیط اللاهوتی علمًا. والوحدة عنده ثلاثیة تصدر من غیر إنقسام من الواحد إلى العقل ثم إلى النفس وهکذا إلى مالانهایة([xc]).
کما ظهر أیضًا مذهب وحدة الوجود عند الفیلسوف (براقلس Prcles) (410-485م) حیث قدم مذهبه على فکرة التثلیث الهندوسیة، آمن أیضًا بفکرة وحدة الوجود بمراحلها الثلاثة وحة ثم إنفصال ثم عودة إلى الوحدة، وهکذا([xci]).
د) أثر وحدة الوجود على متصوفة المسیحیة والإسلام :
نلمح أیضًا مبدأ التصوف أو التجربة الصوفیة الهندوسیة مؤثرًا على متصوفة المسیحیة أمثال القدیس أوغسطین (Augustin) (354م-430م). یظهر ذلک فی قوله : متى أفوز بالاسراحة فی جنبک، وأی یوم یا ترى تجعل منزلک فی قلبی وتسکره من خمرة حبک، فیلتصق بک بجملته، فیا خیری الوحید، قل لی بحقک ماذا لک أنت فی، وماذا لی أنا فیک، حتى أمرتنی بأن أحبک([xcii]).
حیث طور أوغسطین مبدأ وحدة الوجود – ومبدأ الأخوة – المواطنة – العالمیة – الرواقی التی روجت الیهودیة فی سفر التکوین أو الخروج والمسیحیة فی رسائل القدیس (بولس) إلى فکرة الحب (love) فی کتابه (الاعترافات)([xciii]).
أما عن متصوفة الإسلام فقد أعتنقدوا مذهب وحدة الوجود الهندوسی، الذی ظهر جلیًا فی مصطلح (الانطفاء) أو (الفناء) و(الإنطلاق) من وإلى النفس الکونیة وقد وجدت هذه الفکرة عند الحلاج، الذی یقول فی شعره :
عجبت منک ومنی أفنتنی بک عنی
أدنتنی منک حتى ظننت أنک منی([xciv])
وعند ابن الفارض فی نظریة الحب الإلهی حیث یقول : " وعن مذهبی فی الحب مالی مذهب وإن ملت یومًا عنه فارقت ملتی "([xcv]).
وظهرت وحدة الوجود ووحدة الأدیان أیضًا عند ابن عربی فی قوله : "تجلى – الله – لکم وأنتم موجودون فی علمه بلا واسطة بقوله الأزلی وکلامه السرمدی، کذلک تجلى لکم وأنتم موجودون فی علمه، فأبصر بقوة ببصرکم الثبوتی، فظهر لکم بصورکم على اختلافها وتنوعاتها کما یبصر أحدکم الشیء الأبیض([xcvi]).
کما ظهرت أیضًا وحدة الوجود عند ابن سبعین([xcvii]).
وأیضًا عند بعض فرق الشیعة عندما ذکر ابن سبا مرة لعلی بن أبی طالب قوله : أنت أنت أی أنت الله، فقام بنفیه([xcviii]).
ه) الثیوصوفیة فی الفکر الأوربی الحدیث والمعاصر :
ارجع الکثیر من المؤرخین للفلسفة إلى تأثر الثیوصوفیة الأوربیة بوحدة الوجود الهندوسیة وتصوف الهندوس، فأرجع البعض نظریة (مالبرانش Malebranche) (1638-1715م) فی أننا نتأمل ونرى کل شیء فی الله إلى الفیدانتا([xcix]).
وأرجع أوربیون قارنوا بین نظریات الخلق عند دیکارت Descartes (1596-1650م) واسبنوزا de Spinoza (1632-1677م) مع مثیل لها عند الهندوس، الذی یقول: " أن الله والعالم وسیر الطبیعة شیئًا واحدًا "، ثم تجربة ولیم جمیس الدینیة W. James (1842-1910) تذکرنا بحدس برجسون Bergson (1859-1941م) الذی یرى أن الدین الحق هو الذی یجمع بین الأخلاق والدین. یمکن أن نجد عنده نوعًا من المعرفة الصوفیة الذوقیة حیث أن التطور الخالق الذی یقول به برجسون یقودنا حتمًا إلى فکرة إله مرید، خالق للمادة والروح معًا، وباعتث للحیاة فی الأنواع والأرواح([c]).
2) وحدة الوجود عند الرواقیین وأثرها على الدین الطبیعی :
تطورت وحدة الوجود عند الرواقیة لتصبح تعبیرًا عن الدین الطبیعی عند أنصار المذهب المادی عند (فولتیر Voltaire) (1694-1778م) و(روسو Rousseau) (1412-1778م) و(دیفید هیوم Hume) (1711-1776م) فأصبح الله عندهم هو العقل الکلی الکامن فی الطبیعة. کما خرج من عباءة الرواقیة أیضًا فلسفة البیئة والعولمة فی الفکر الماسونی والبوذیة الحدیثة (الزن Zen).
أهم نتائج البحث :
1) استطاعت الفلسفة الهندوسیة أن تبنی مذهبها على أساس نظری عقلی صرف، قصدت منه تفسیر مشکلة الوجود الإنسانی فی الکون، وذلک بغیر الاستناد إلى أی مصدر دینی، أو قوى غیبیة، ومن هنا کان أساس منهجهم فلسفیًا، أما أن تکون تعالیمهم قد تحولت فیما بعد إلى عقائد دینیة، أو أن ترتفع إلى مصاف الأنبیاء أو الآلهة، فهذا أمر آخر لا یرجع إلى تفکیرهم بقدر ما یرجع إلى عقلیة مجتمعهم والروح السائدة فی حضارة بلادهم.
2) ما من شک بعد ما ظهر لنا تعدد المذاهب الفلسفیة فی الهند، أن یکون لهذا المصدر الهندی أثرًا فی تطور الفلسفة الیونانیة بصفة عامة، والفلسفة الرواقیة على وجه الخصوص.
3) الرد على أدعیاء المعجزة الیونانیة سواء أکانوا مؤرخین غربیین أو شرقیین من تصریحهم أنه إذا ما کان للتأثر من بد، فإن الفلسفة الیونانیة هی التی أثرت فی الفلسفة الهندوسیة، قولاً مردود علیه، فإذا ما أمعنا النظر الفلسفی فی نصوص الأوبانیشاد بخاصة قصیدة « المونداکا » و« الریج فیدا » سوف یظهر له جلیًا کیف تجلت العدید والعدید من المصطلحات الفلسفیة والإشکالات الفلسفیة واضحة مثل: عقیدة وحدة الوجود، نشأة الوجود، النفس الکونیة، التناسخ، الرجعیة الأبدیة.
4) استطاعت الباحثة بعد التعمق فی فهم النصوص الفلسفیة عند کل من الفلسفة الهندوسیة والفلسفة الرواقیة توضیح نقاط اتفاق وتلاقی کثیرة بین الفلسفتین وظهر ذلک على النحو التالی :
أ) عقیدة وحدة الوجود التی بدأت مع الفلسفة الهندوسیة، تأثرت بها الفلسفة الرواقیة ومع مقارنة المصطلح عند کلتا المدرستین یتبین تأثر الرواقیة بسابقتها الفلسفة الهندوسیة، حیث صرحت کلاهما بأن الإله والعالم یشکلان وحدة واحدة، والإله منبث فی جمیع أنحاء الکون.
ب) عقیدة وحدة الوجود یقترن بها عقیدة الاتحاد – مع الإله – وهذا ما ظهر عند کلتا المدرستین، حیث تطور المصطلح لیصبح الوحدة أشبه بالحلول – أو إن الإله والعالم واحدًا أی: الموقف الأحادی.
ج) اقترب الإله الرواقی کثیرًا من صورة الإله الهندوسی « براهما » واختلف کثیرًا عن إله الیونانیین، فلا هو الإله السعید الذی یجهل العالم، وهو الإله الشعبی فی « المیثولوجیا الیونانیة » وإنما هو إله واحد وحید فریدً فی تفرده.
د) کل من الإله الهندوسی والرواقی کان عقلاً یحیا فی مجتمع البشر، ویعنی بأمورهم ویصرفها، بل ویشکل وحدة کاملة لا فکاک فیها، وبین العالم.
ه) بنت کل من الهندوسیة والرواقیة مذهبهما فی الوجود على أساس غائی، فالکون کله منظم ومبدع من أجل غایة واحدة، وهی الإله.
و) أتمان وبرهمان فی الهندوسیة یمثلان وحدة واحدة، وهی نفسها مبدأ انبثاث النفس الکونیة فی جمیع أجزاء الکون « بنوما ».
ز) فکرة الاحتراق الکونی وتجدد العالم والعود الأبدی عند الرواقیة هی نفسها فکرة السنة الکبرى عند الهندوسیة التی کان الکلدانیون أول من توصل لها من القدماء لتعمقهم فی التنجیم.
ح) التقت الرواقیة مع الهندوسیة فی قولها بالقدر « Fate » والسببیة، والحتمیة التاریخیة التی لا تسمح بخروج الإنسان من عجلة التناسخ عند الهندوسیة، أو الدور المرسوم على خشبة المسرح فی المسرحیة عند الرواقیة.
5) وقفت کل من الهندوسیة والرواقیة حجر عثرة فی سبیل التقدم العلمی والسیر بمقولات التاریخ إلى الإمام، وانحسرت فی القول إما بالتناسح الدوری، أو الدوریة التاریخیة، وفی قولهما بوحودة الوجود، فلا سبیل للخروج من هذا النظام الحتمی الصارم فلیس الحاضر أو المستقبل بالجدید، وإنما هو تکرار لما حدث فی الماضی.
6) أثرت وحدة الوجود الهندوسیة على الاتجاهات الروحیة والصوفیة أو ما یسمى بالثیوصوفیة فی العصر الهلینتستی والأوربی، کما أثرت وحدة الوجود الرواقیة على الاتجاهات المادیة وأنصار الدین الطبیعی فی الفلسفة الحدیثة والمعاصرة وظهور مصطلح فلسفة البیئة.