فضاء الوعي الشعري عند عوشه بنت خليفة

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

أستاذ النقد الأدبي المشارک والعميد المساعد لکلية الآداب والعلوم

المستخلص

لقد کانت صورة المرأة في الأدب العربي المکتوب والشفوي المحفوظ صورة نمطية بوصفها موضوعًا يشغل به الرجل، ومصدر إلهام شعري له.  إما الدراسة العلمية لشعر النساء فقليلة ونادرة، وبخاصة إذا کانت تحکمها اللهجة التي تقف عائقًا تواصليًا أمام کثير من الدارسين والمتلقين.
تدور إشکالية هذا البحث وأسئلته حول قضية غزل الأنثى بالأنثى. وتنقسم الدراسة إلى عدة محاور تکتشف الرؤية والأداة في شعر عوشه بنت خليفة ما بين بنية الاستهلال في مطالع القصيدة إلى التشکيل الصوري في الشغف بالأنثى ثم وضوح حالة التماهي بالمحبوب کتجربة ذاتية.
لتخلص الدراسة بأن غزل عوشه أقرب إلى لغة المناجاة الروحية والوجد الصوفي منه إلى أيّ باب آخر من أبواب الشعر وأغراضه، فمنبع شعرها هو الإعجاب بالجمال وما يترکه في النفس من أثر وجداني من شأنه أن يهزّ النفس بعاطفة "الحب"، والمحب-بلا شک- أميل إلى الذوبان والفناء في المحبوب، فلم يکن -قطعًا- في وسع الشاعرة إقصاء المرأة بأن تکون الثيمة المرکزية، وهي الکائن ذو الجاذبية سريعة الأثر، الذي يطلق في النفس دوافعها الحيوية واستجابتها بلذة مباشرة، بيد أنها-في الوقت ذاته- تحمل کبرياء المرأة العربية التي ترى في الحب جناح العزّ لا جناح الذلة.
تمکنت الشاعرة أن تکسر قيدًا عتيدًا في مفهوم الحب والغزل منذ العصر الجاهلي حتى الوقت الحاضر، واستطاعت أن تکسر قيودًا أعتى وأشد شراسة وهو البيئة القبلية التي تعيش فيها، وذلک بما أُوتيت من يقظة في الفکر ورهافة في الحس حين تصدت لموضوع الغزل في شعرها، وتحمّلت الصعاب في ذلک، فالتغير في المجتمعات أسهل من تغيّر العقليات، التي يعزّزها بوسائل الضبط الاجتماعي (کلام الناس ولغطهم، والحلال والحرام) ولذلک يصعب -في المجتمعات المحافظة - تغيير رواسخ الناس ونمط تفکيرهم.
لقد انفتح وعي الشاعرة على" المثال في الشعر" فصار مثالًا ورمزًا حيًّا لوعي الأنثى بالحياة وسط ثقافة تقليدية صعبة ومقيّدة.

الكلمات الرئيسية


1 - مفتتح:

تنطلق هذه الدراسة من بُعد جوهری یتمثل فی تفعیل التواصل مع الموروث الشعبی بتجذره الثقافی والتاریخی فی الذاکرة العربیة، والکشف عن ثقافة حیّة نشطة تزخر بشحناتها العاطفیة والإبداعیة. وفی الوقت ذاته تتجاوز الطروحات النمطیة والوصفیة التقلیدیة، التی تُفقد شعرنا العربی الشعبی قیمته الحضاریة وقدرته على المواکبة الفنیة، وتُفقد بریقه الذی مازال یلفه الإهمال والغموض.

وفی الأدب العربی المکتوب والشفوی المحفوظ بدت صورة المرأة -فی معظم الأحوال مطروحة-بوصفها موضوعا یشغل به الرجل، ومصدر إلهام شعری، وعنصرًا حماسیًّا له فی میادین الفروسیة والقتال. وبقی الجانب الآخر، أو الجوانب الأخرى، فی شعر المرأة وکأنّما توارت فی منطقة الظل، أو کأنّها کمّ مهمل إلاّ فی حدود الإطار الأوّل. فإذا ما ورد الإطار الثانی بدت النظرة فیه خاطفة وسریعة متمثلة فی أبیات أو مقطوعات قصیرة تحفظها الذاکرة أمثالًا تضرب فی المناسبات.

أما الدراسة العلمیة لشعر النساء فقلیلة قد تصل إلى حد الندرة، وبخاصة إذا کانت تحکمها اللهجات الشعبیة التی تقف عائقًا تواصلیًا أمام کثیر من الدارسین والمتلقین. ولذلک أزعم أن هذا البحث هو قراءة جدیدة لشعر شعبیّ نسویّ. تدور إشکالیة هذا البحث وأسئلته حول قضیة أظنها - فی حدود ما نعلم -لم تطرح  من قبل وهی قضیة شعریة الغزل الأحادی أو الفردی أو التجانسی وهو الذی یعنى بالغزل القائم على  الجنس الواحد ونعنی به فی هذا الموضع ( غزل الأنثى بالأنثى) فی دیوان الشاعرة عوشه بنت خلیفة عام 1990 ویضم مائة وست عشرة قصیدة[i].

(2)إن الشاعرة عوشه بنت خلیفة السویدی هی ابنة الشیخ خلیفة بن أحمد السویدی، وأخت الشیخ أحمد بن خلیفة وزیر خارجیة الإمارات العربیة المتحدة والممثل الشخصی للشیخ زاید بن سلطان آل نهیان- رحمه الله -ومؤسس المجمع الثقافی فی أبو ظبی. ولهذه العائلة مکانة سامیة فی منطقة الخلیج، وتربطها علاقة قربى بالعائلات الحاکمة فی دولة الإمارات مثل آل نهیان وآل مکتوم. وعاشت الشاعرة فی بیئة تهتم بالعلم وتحرص على تعلیم الأبناء الذکور ولا تدّخر جهدًا فی الارتقاء بهم، أما الإناث فلا تسمح لهن بتعلّم القراءة إلا فی أضیق الحدود وتحجب عن المرأة کل وسائل الظهور والکتابة والإبداع. وقد مثّلت السیدة عوشه استثناء بفضل إرادتها القویة وبفضل صراعها لإثبات ذاتها من خلال إبداعاتها الشعریة.

فی هذا المجتمع البدوی المحافظ لم یکن درب الفن والإبداع ممهدًا أمام الشاعرة وموهبتها، ولکن بفضل یقظة الفکر، ورهافة الإحساس لدى الشاعرة وتفتح ذهنها ووعیها بطاقاتها الإبداعیة، استطاعت إثبات ذاتها بعد حالات من الإخفاق المریر. ففی مثل هذه البیئة الشرقیة المحافظة لم یسمح المجتمع للمرأة أن تستخدم اللغة إلا أداة تواصل اجتماعی، ولم یسمح لها بأن تعبّر عن نفس حبیسة داخلیة، فما بالک بنشوة تتولد عن ذاتها الکامنة! وهکذا ضرب المجتمع الخلیجی التقلیدی حتى بدایة الستینیات بأطنابه على بوح المرأة شعرًا، فلم یحفظ للنساء إلا بضع أبیات تأتی عرضًا فی أحادیث الرجال. وأصبحت الشاعرة وغیرها من النساء بمثابة الوتر الأخرس.

والشعر کثیرًا ما یتجاوز حدود الشاعر إلى الآخرین، وهنا یکمن خطر ظهور النساء الشواعر فی المجتمع، حیث تنتقل الشحنات الانفعالیة فی کلمات عابرة من شخص إلى آخر، أو کما یقول ابن طباطبا " إذا ورد علیک الشعر اللطیف المعنى، الحلو اللفظ، مازج الروح وخالط الفهم، وکان أنفذ من نفث السحر وأخفى دبیبًا من الرقی "[ii]. ولذلک کان خطر شعر الشاعرة یهدد مجتمعًا یقمع لسان المرأة، لتظل فؤادًا مفردًا ینفّس عن مکنونه فی نفثات، احتالت لها بشتى الوسائل لنشرها بین الناس فی حین أعرض الرجال الشعراء عن حفظها وتداولها، ناهیک بالرد علیها واستجابة لمطلبها. فتشتکی حالها قائلة: 

یا ونتى ونّاتْ من وَنْ..  مضروب من یمنى طلیبه

یزقر بصوته غیر لکنْ..  ما حدْ لو یعزی  یثیبه[iii]

لقد ظل طموحها یدفع بها إلى عالم الشعراء، بینما ظل الرجل یتجاهل وجودها، ولا یعترف لها بالشعر، وظلت مجالس شعراء القبائل التی تذاع فی الإذاعة والتلیفزیون لا یورد لها ذکرًا أو شعرًا، حتى جاءت مرحلة الخلاص! وهی مرحلة الظهور والانتشار للشاعرة

وکعادة المرأة فی الخلیج-إلى وقت قریب-تبعث برسائلها وإبداعاتها باسم مستعار.. وهکذا ظلت «عوشة بنت خلیفة» تبعث بقصائدها إلى جریدة البیان الملحق الثقافی الذی یصدر کل یوم سبت باسم (فتاة الخلیج) لتدخل کل بیت دون استئذان الرجل الذی تجاهل وجودها. وهکذا بدأت المرحلة الثانیة فی الظهور.

أما الشهرة فقد نالتها على ید الشیخ محمد بن راشد المکتوم، فکانت مساندته بمثابة المخلّص الذی انتشلها من مزالق الواقع وإلیه تدین بالفضل فی ظهور أول دیوان لها، فقد أمر بطباعة دیوانها وسمّاها (فتاة العرب) وقلّدها وسام إمارة الشعر الشعبی استحقاقًا لشاعریتها.

وهکذا ظهر دیوان "فتاة العرب" إلى النور. جمع أشعاره الشاعر حمد خلیفة بوشهاب عام 1991. وعمد إلى اختیار القصائد حسب رؤیته الشخصیة، جاعلا اهتمامه متمرکزا حول المدیح، فقد قسّم الدیوان بحسب الشخصیات وقوة سلطتها الحاکمة؛ فالقسم الأول هو ردود الشاعرة على قصائد الشیخ محمد بن راشد، والقسم الثانی مدائح الشاعرة فی الشیخة میثاء بنت محمد آل نهیان، والثالث ردود عامة، وأشعار متنوعة، والقسم الأخیر خصصه للغزلیات. وقد أغفل الشاعر حمد بو شهاب (جامع الدیوان) ذکر مناسبات القصائد، والأهم من کل ذلک أنه أغفل تأریخ أشعارها. ولذا کان عصیًا على الدرس تتبع التطور الفنی لشعر الشاعرة عوشه بنت خلیفة.

من هذا المنطلق یدور شعر عوشه بنت خلیفة فی معظمه فی محاور الشعر الکلاسیکی الرئیسة وهی، المدیح، والغزل والوصف والوطنیات. لکننا نعنى فی هذا الموضع بقضیة جوهریة فی شعر الشاعرة وهی غزل الأنثى بالأنثى، ولمزید من التحوط والحرص فی حق هذه السیدة الجلیلة من أی شبهة تسیء لها - وأکرمها أن یستریب مریب –فإن غزل عوشه أقرب إلى لغة المناجاة الروحیة والوجد الصوفی منه إلى أیّ باب آخر من أبواب الشعر وأغراضه،فمنبع شعرها هو الإعجاب بالجمال وما یترکه فی النفس من أثر وجدانی من شأنه أن یهزّ النفس بعاطفة "الحب"، والمحب-بلا شک- أمیل إلى الذوبان والفناء فی المحبوب، فلم یکن -قطعًا- فی وسع الشاعرة إقصاء المرأة بأن تکون الثیمة المرکزیة، وهی الکائن ذو الجاذبیة سریعة الأثر، الذی یطلق فی النفس دوافعها الحیویة واستجابتها بلذة مباشرة، بید أنها-فی الوقت ذاته- تحمل کبریاء المرأة العربیة التی ترى فی الحب جناح العزّ لا جناح الذلة. وانطلاقًا من هذا المعطى. تدور الدراسة حول مجموعة من المحاور هی:

المحور الأول: شعریة الغزل والاستهلال النصی

المحور الثانی: شعریة الغزل والتشکیل اللغوی

المحور الثالث: شعریة الأنثى والتشکیل الصوری

المحور الرابع: شعریة الوعی بین الواقع والمثال

 

 

 

المحور الأول: شعریة الغزل والاستهلال النصی:

(1 -1)

تعد الشعریة من مرتکزات المناهج النقدیة الحدیثة رغم تداخل مصطلح الشعریة والأدبیة زمنًا طویلًا إلا أن الشعریة هی التی تسعى إلى کشف مکونات النص الأدبی وکیفیة تحقیق وظیفتیه الاتصالیة والجمالیة، أی إنها "تعنى بشکل عام بقوانین الإبداع الفنی، وتبحث بشکل أساس عن هذه القوانین داخل الأدب ذاته، فالشعریة؛ مقاربة للأدب (مجردة) و(باطنیة) فی الآن نفسه"[iv]. ولا تقف الشعریة عند القوانین الأدبیة والمکونات الإبداعیة للنص لکنها شملت الأنساق اللغویة أیضا " ومن الذین توسعوا فی مفهوم الشعریة جان کوهن الذی بنى شعریته على (الانزیاح)، وتتمحور نظریته حول الفرق بین الشعر والنثر من خلال الشکل ولیس المادة أی من خلال المعطیات اللغویة المصوغة ولیس من خلال التصورات التی تعبر عن تلک المعطیات، وعدّ الشعر (انزیاحا) عن معیار یشکل (قانون اللغة)"[v].

کما تعددت زوایا المقولات فی الشعریة؛ فیرى رومان یاکبسون دراسة الشعریة من حیث علاقتها بالعلم عامة وباللسانیات على وجه الخصوص. " فالشعریة جزء لا یتجزأ من اللسانیات کما أنه أکد مرارًا أن الشعریة لا تُعنى بفهم مضامین النص وأبعاده النفسیة والاجتماعیة والفکریة وغیرها بقدر ما تُعنى بمعرفة القوانین التی تحکم بنیته وتشکّله. ولکن ذلک لا یعنی انعزالیة الفن إنما یؤکد استقلالیة الوظیفة الجمالیة، فمحتوى مفهوم الشعر–کما یرى –غیر ثابت وهو یتغیر مع الزمن، إلا أنّ الوظیفة الشعریة هی عنصر فرید لا یمکن اختزاله ولکن ینبغی تعریته والکشف عن استقلال أدواته".[vi]

ومن ثمّ فإن شعریة الغزل عند عوشه نعنی بها الخصیصة الأدبیة المهیمنة فی النص الشعری التی تشکل مقاربة أدبیة نوعیة وتجسد الأسس النصیة الجمالیة والفنیة فی شعرها، والمتتبع لشعر عوشه بنت خلیفة یجد أن الغزل قد شکل محورًا جوهریًا فی دیوانها الشعری، وشکل قیمة نوعیة مهیمنة فیه، ومثّلَ الغزل والفناء فی الجمال جوهرًا إنسانیًا ووجدانیًا واحدًا، نقیًا ومتجانسًا لا أثر فیه للاختلاف بین الرجل والمرأة فی المرجعیات الرمزیة المعروفة فی هذا الشأن. فالوله بالمحبوب حقیقة مطلقة ومجردة عن القیم الحسیة کالذکورة والأنوثة رجلا کان الواله المتیم أم امرأة ومذکرًا جاء المحبوب فی لغة الشاعر أم مؤنثًا. فتذکیر المحبوب وتأنیثه فی شعر المتیَّمین لا یکون دائما حقیقیًا، بل هو إلى نمط الرمز والإشارة أقرب منه إلى الحقیقة هذا فی صنعة شعراء الحب الإلهی أبین منه فی غیره.

والشاعرة عوشه بنت خلیفة کغیرها من المبدعین والمبدعات على مرّ الأزمان وتعدد البیئات تستهدف تصویر الفکرة والمثل الأعلى فی شعرها، تدعمها رؤیة ذاتیة تؤمن بقوامة الوجدان والعاطفة على الروح، تغمس محیطها بلمسة وجدانیة، فمن الحب تنشأ الحیاة، وهو جوهر الأشیاء، وجوهر الدیوان، وهذا ما تصرّح به:

فلا عیش إلا لذّة الحب والصفا           ویا ضیعة الخلاّن إن صاروا أضدادی[vii]

إن الإدراک الجمالی للأشیاء یبعث فی النفس لذة مباشرة، وأما الشعر ففیه لذة غیر مباشرة تطلق فی النفس الحیویة والانتشاء، لأن من غایاته "التأثیر ویتحقق ذلک بضرب بارع من الصیاغة، ینطوی على قدر من التمویه تتخذ معه الحقائق أشکالًا تخلب الألباب وتسحر العقول".[viii]

(1 -2)

الاستهلال هو أول مفاتیح النص، وهو یتمیز بقوة دلالیة یکتسبها من موقعه الفنی الخاص به، وهو بدء الکلام، وهو أول ما یطرق السمع من الکلام کما قال ابن رشیق ومن قبله أرسطو الذی اهتم به اهتمامًا خاصًا. و"للاستهلال بنیة فنیة وأسلوبیة خاصة به تجعله متمیزًا عن بقیة عناصر النص، وهذه البنیة الخاصة یستمدها من أن محتوى وأسلوب النص هما اللذان یولّدان مفردات الاستهلال، کما أن هذه المفردات سوف تمتد داخل النص لتولّد صوره وأخیلته"[ix]؛ ولذلک حرص النقاد القدماء "على أن الشاعر الحاذق یجتهد فی تحسین الاستهلال. فإنها المواقف التی تستعطف أسماع الجمهور، وتستمیلهم إلى الإصغاء"[x]. وبدایة القصیدة، هی البدایة المولّدة والمهیمنة فی النص وهی التی تمثل بعدًا جوهریًا فی شعریة الغزل، والبدایة تشکل " الحال القلقة ولحظة تحویل الحدس أو التجربة التخیلیة واللاشعور إلى کلمات. هی کیفیة حال المبدع قبل مرحلة إنتاج العملیة الإبداعیة"[xi]. ویتمحور الاستهلال أو فن البدایات عند الشاعرة عوشة بنت خلیفة فی عنصرین اثنین هما؛ أ-الذاتیة والمطالع الغزلیة، ب- الممدوح والتراسل الترحیبی.

1 -   2 –أ - الذاتیة والمطالع الغزلیة

لقد شغلت المطالع الغزلیة فی الإرث الشعری العربی حیزًا واسعًا، حتى کاد أن یکوّن الجزء الأعظم من التراث الحضاری الأدبی، یمتزج فی کل قصائده منذ العصر الجاهلی وبشکل متواتر فلا تکاد تخلو القصائد من مطالع الغزل والوجد والوصل والهجر، حتى أُطلق على الخلیّ منها کما یقول ابن منظور فی لسان العرب:"الخصیّ من الشعر وهو ما لم یُتغزل فیه"[xii]. وفی ذلک تنافس الشعراء بتصویر عواطفهم الغضة تجاه المرأة.

لکن الشاعرة عوشه بنت خلیفة استطاعت أن تشق دربًا لم یسلکه غیرها، وأن تکون علامة فارقة فی عالم شعر الغزل بشقیّه الفصیح والشعبی. وفی هذه الدراسة لا أقصد الشاعر بکونه ممثلًا لتیار فنی بقدر ما هی استثناء فارق، لا یمثل ظاهرة ولکنه تفّرد لا تخطئه العین ولا ینکره العقل، لقد تمکنت أن تکسر قیدًا عتیدًا فی مفهوم الحب والغزل منذ العصر الجاهلی حتى الوقت الحاضر، واستطاعت أن تکسر قیودًا أعتى وأشد شراسة وهو البیئة القبلیة التی تعیش فیها، وذلک بما أُوتیت من یقظة فی الفکر ورهافة فی الحس حین تصدت لموضوع الغزل فی شعرها، وهو غرض کانت المرأة موضوعًا له. ومما لا شک أنها تحمّلت الصعاب فی ذلک، فالتغیر فی المجتمعات أسهل من تغیّر العقلیات، لأنه المکوّن المرتبط بالعناصر المعنویة والثقافیة، وهی قیم ثابتة وراسخة من قِبل أجیال سابقة لا تتزعزع.

ومما یعزّز هذه العقلیات وسائل الضبط الاجتماعی (کلام الناس ولغطهم، والحلال والحرام) ولذلک یصعب -فی المجتمعات المحافظة - تغییر رواسخ الناس ونمط تفکیرهم. وهذا ما واجه عوشه بنت خلیفة فی مجتمعها المحافظ، وبخاصة فی موضوع یتسم بطابع ذکوری کفن الغزل. هی من جانب لا تجرؤ على التغزل فی رجل ولم نجد لها شعرًا فی ذلک. فتقع الشاعرة المبدعة فی فخ المحذور وعدم القدرة على الانسجام مع نمط التفکیر وواقع الحال، فتتخذ منحنى إبداعیًا جدیدًا تعبّر فیه عن ذاتها وابتکاریتها التی لم یسبقها إلیه أحد. تقول فی مطلع قصیدة المدیح متغزلة فی أنثى:

حمامْ یللّی باللّعی موجِعِنّی                        أرقّتْ جفْنٍ بات لیله صحاوی

یسمع بکایْ وفوق عوده یغنّی                    یشدو وأنا حالی بعظم البلاوی

ما ادْری طرب لو من شقا بهْ یونّی           لیْ منْ لفا وامْسى على العشّ ضاوی

أشکی حبیبٍ باعد الزول عنی               إلاّ لنا بین القلوب النجاوی

أشتاق شوفه لو یفید التمنی                  لو کونْ لهْ بین الرعایین شاوی

وإنْ الصبا نسنس هواها وْذَنّی              بهْدیهْ من شوقی وغزلی غناوی

تَوَهْ صغیرٍ ما کمَلْ زودْ سنّی               عمر الزهور بخمس عشرٍ حراوی

بیتٍ قدیمٍ فی المثل معجبنّی                 وصفٍ رواه من الشعر کل راوی

لو یکثرون اللّی بهمْ مستظنی               بو زید ما یسواه عندی إمْساوی

لو من حیاتی ینْعطى ما محنّی               عمری وروحی عن حیاته فداوی

یا حامل المرسول والخطّ منی              بأبیاتْ شعْرٍ ما نظمها الخلاوی

قم.. یممْ محمد وخلّ التعنّی                  لبوْ جْسیْم و بلغَهْ قولْ هاوی     [xiii]

تبدأ القصیدة بمنولوج خفی وتفجع مریر من ألم الفراق وهجر الحبیبة للشاعرة، وتظهر صورة الحمام فی أیکه یغنی ویطرب مثیرًا لواعج شوق وجفوة وصال. ولطالما نسبت العرب الشوق والبکاء إلیه[xiv]. وتظهر المقابلة بین صورتین إحداهما للشاعرة وأرقها فی مکابدة الحب وصبوته وعناء الفراق والوجد، وصورة الحمامة التی تغنی طربًا وشوقًا، وتزیدها الجمل الفعلیة (یسمع، یشدو) حیویة، فتعتمد على تفعیل حاسة الصوت فی رسم الصورة وإنْطاقها. أما الجمل الإنشائیة فتحقق التوزان بین رتابة الوصف، وتناسق النبر الذی تعتمد علیه فی إحداث الموسیقى الداخلیة. ولابد أنها تدرک-وبوعی منها- أن شعرها مسموع ومغنّى، فلابد أن تجمع بین قوة إیحاءات البیت الشعری بالامتدادات الزمنیة (ما أدری طرب.. أو من حالة الشقاء یئن)، ویبرز الاستفهام منکرًا حال من یعود إلى إلفه کل مساء، بینما تواجه هی الصد والحرمان فی کل مرة، فقد عزمت الحبیبة على ذلک الهجر، واستساغت منهج القطیعة (ﭼنک على یدّان حبلی مثنّی)، وفی المقابل یظهر الرجاء (یا صاحب المعروف) ویزداد الطلب والتذلل فی مدّ حبال الوصل دون أن یستجیب لضعفها قلب صدّه الجفاء، ویظهر التمنی أن تکون لها من سائر الخدم (ولو کنت له من بین الرعیان شاوی) وهی أدنى المراتب فی الخدمة.



[i] فتاة العرب، عوشة بنت خلیفة: الدیوان، جمع وتقدیم: حمد خلیفة بو شهاب، الإمارات العربیة المتحدة.1991

[ii] العلوی، ابن طباطبا: عیار الشعر، لبنان، دار الشمال،1988، ص16.

[iii] فتاة العرب،عوشه بنت خلیفة: المصدر السابق ص 265. یزقر: ینادی.. ما حد: لا أحد. یثیبه: یرد علیه.أی أنها تأن أنینًا موجعًا من شدة تجاهل المجتمع للرد على أشعارها، فقد کانت ظاهرة التراسل الشعری بین الشعراء رکنًا مکینًا فی الحیاة الأدبیة.

[iv] طودوروف، تزفیطان: الشعریة، ترجمة: شکری المبخوت ورجاء بن سلامة، ط 2، المغرب، دار توبقال، 1990، ص23.

[v] کوهین، جان: بنیة اللغة الشعریة، ترجمة: محمد الولی ومحمد العمری، المغرب، دار توبقال، 1986، ص191.

[vi] یاکبسون، رومان: قضایا الشعریة، ترجمة: محمد الوالی ومبارک حنون، المغرب، دار توبقال، 1988، ص 19 وما بعدها.

[vii] الدیوان، ص 259.

[viii] عصفور، جابر: مفهوم الشعر، دراسة فی التراث النقدی، ط 3،بیروت، دار التنویر، 1983،ص 46.

[ix] النصیر، یاسین: الاستهلال فن البدایات فی النص الأدبی،ط4،دمشق، دار نینوى، 2017، ص33.

[x] الجرجانی، علی بن عبدالعزیز: الوساطة بین المتنبی وخصومه، تحقیق: محمد أبو الفضل إبراهیم ومحمد البجاوی، مصر، مکتبة البابی الحلبی،1966،ص48.

[xi] الاستهلال فن البدایات فی النص الأدبی،ص26.

[xii] ابن منظور، محمد بن مکرم جمال الدین:لسان العرب،ج14،بیروت،دار صادر،1990،صـ231.

[xiii] الدیوان، ص 32. اللعی: صوت هدیل الحمام، یونی: الأنین، ضاوی: حضر مساء، جنک: کأنک، یذان: قطع حبال الوصل، مثنی: اعتادت تکرار الفعل مثنى وأکثر. الزول: الرؤیة والوصل. النجاوی: مناجاة القلوب. الرعیین: رعاة الغنم، الشاوی: محتقر الرعیان. توه: لایزال. حراوی: الظن والتوهم. التحنی: الخضاب. سحاوی: السیح منطقة منبسطة. بوزید: کنایة عن الشخص الکامل فی کل شیء. الخلاوی: من أشهر شعراء الشعر الشعبی. بلّغه: أبلغه. بوجسیم: أبو القاسم تصغیر محبة ودلال للممدوح

[xiv] شاهمردان، أبو محمد عبید الله بن محمد: کتاب حدائق الأدب، تحقیق: محمد بن سلیمان السدیس، الریاض، (د.م)، 1989،ص179.

         §            دیوان الشاعرة فتاة العرب: جمع وتقدیم حمد خلیفة بو شهاب، الإمارات العربیة المتحدة.1991
         §            الأعشى: میمون بن قیس
                     الدیوان:شرح محمد محمد حسین، مکتبة الآداب، القاهرة، 1950
         §            الأندلسی: ابن عبد ربه
               العقد الفرید، شرح أحمد أمین وآخرون، بیروت، دار الکتاب العربی، 1982
         §            التیمیّ: عمر بن لجأ
                شعره؛جمع وتحقیق یحیى الجبوری،ط 3، دار القلم، الکویت 1983
         §            الجرجانی: عبد القاهر
أسرار البلاغة فی علم البیان، تحقیق السید محمدرشید رضا،دار المعرفة، بیروت، 1982
         §            الجرجانی،علی بن عبدالعزیز
الوساطة بین المتنبی وخصومه،تحقیق محمدأبوالفضل إبراهیم ومحمد البجاوی،مکتبة البابی الحلبی.مصر1966
           §          جمیل بثینة
     دیوان جمیل شاعر الحب العذری: تحقیق حسین نصار، ط2، مکتبة مصر، القاهرة 1967
           §          الحاتم،عبدالله بن خالد
خیار ما یلتقط من الشعر النبط(جمع)، ط3،منشورات ذات السلاسل،الکویت.1981
           §          الدارمی،مسکین
الدیوان: تحقیق عبدالله الجبوری وخلیل العطیة، مطبعة دار البصری،بغداد1970
           §          الذبیانی، النابغة
الدیوان: تحقیق محمد أبو الفضل إبراهیم ط3، القاهرة، دار المعارف 1990
           §          شاهمردان،أبو محمد عبید الله بن محمد
کتاب حدائق الأدب، تحقیق محمد بن سلیمان السدیس، الریاض،1989
           §          الصویان،سعد العبدالله
الشعر النبطی ذائقة الشعب وسلطة النص، دار الساقی.بیروت 2000
           §          الطربلسی،محمد الهادی
خصائص الأسلوب فی الشوقیات، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 1996
           §          طودورف،تزفیطان:
الشعریة، ترجمة شکری المبخوت ورجاء بن سلامة، دار توبقال، المغرب ط2 1990
           §          عصفور،جابر
مفهوم الشعر، دراسة فی التراث النقدی، ط 3، دار التنویر،بیروت 1983
           §          العلوی،ابن طباطبا
عیار الشعر، لبنان، دار الشمال،1988
           §          طودورف،تزفیطان:
الشعریة،ترجمة شکری المبخوت ورجاء بن سلامة، دار توبقال، المغرب ط2 1990
           §          فاخر،أمین:
اللهجة القطریة الحدیثة،مطبعة حسان. القاهرة 1983
           §          القیروانی،الحصری
زهر الآداب وثمر الألباب، شرح زکی مبارک،ط 4، دار الجیل، بیروت 1972
           §          کوهین،جون
 -بنیة اللغة الشعریة، ترجمة محمد الوالی ومحمد العمری، الرباط، دار توبقال،1986
-بناء لغة الشعر: ترجمة أحمد درویش، دار المعارف.مصر،ط1993،3
           §          مطر، عبد العزیز:
ظواهر نادرة فی لهجات الخلیج العربی. مطبعة دار العلوم. الدوحة.1976:
           §          المکتوم، الشیخ محمد بن راشد
دیوانه جمع وتحقیق حمد بوشهاب، مطبعة دبی، الإمارات العربیة المتحدة1989
           §          الملوح: قیس
 دیوان مجنون لیلى: تحقیق عبد الستار أحمد فراج،مکتبة مصر 1965
           §          ابن منظور:
لسان العرب، دار صادر،بیروت1990.
           §          النصیر، یاسین:
الاستهلال فن البدایات فی النص الأدبی، دار نینوى، دمشق. 2017. ط4
           §          یاکبسون،رومان:
          قضایا الشعریة ترجمة محمد الوالی ومبارک حنون دار توبقال المغرب 1988