نوع المستند : المقالة الأصلية
المؤلف
مدرس بکلية الالسن بجامعة عين شمس
المستخلص
الكلمات الرئيسية
المُقدِّمة
مثلّتْ التشکُّلاتُ الدرامیة لظاهرة الاغتراب –الحاضرة فی الطروحات الفکریة والفلسفیة والنفسیة والاجتماعیة والدینیة[i]- أحدَ المرتکزات الموضوعیة للخطاب الروائی العربی الحدیث، الذی استدرج الظاهرة إلى منطقة المراجعة وفقًا للشروط الجمالیة للسرد، واشتبک معها بغیة توطید غایاته فی إدانة الأطر الفکریة والثقافیة للآخر الغربی المُستعْمِر، أو لمُعادِلِه السلطوی الإقلیمی أو المحلی، وفی تبیان خداع بعض ما یکتسی المظهر البرّاق أو المثالی فی المرکزیتین الغربیة والشرقیة، وفی بناء نسق تاریخی للتحوّلات التی أصابت المجتمعات العربیة فی مواجهتها للغرب، أو فی استقبالها لجملة من التغیرات التی أعادتْ تشکیل بنیتها الداخلیة، وفی غیرها من القیم الوظیفیة ذات الأبعاد الأیدیولوجیة والأبیستمولوجیة، وأحیانًا الأثنیة، وإن ظلت هذه السرود –بطبیعة الحال- تسیِّج الفعل بأُطره الطبعیة المُباطِنة لأشکال العلاقات الإنسانیة، بطبیعتها المتشابکة وتأثیراتها المتبادلة.
وعلى الرغم من الطبیعة القلقة لمفهوم الاغتراب خاصة فی إطار علاقته بمفهوم الغربة[ii] فإن بعض الاستقرار قد تحقق فی التعاطی مع المفهومین – دون فصل- باعتبار أن الغربة تکرس لفعل المجاوزة المادیة للفضاء الأصیل، والاغتراب یرتبط بحالة الانفصال الشعوری والذهنی عن السیاق، والعجز عن التناغم مع منظومته القیمیة، وتدابیره السلوکیة المتجذرة فی وعی أفراده، فالغربة تشیر إلى الخارج الإنسانی ، کمعنى مجردٍ. أما الاغتراب فإنه یشیر إلى الداخل الإنسانی کشعور مرتبط بمن یشعر به.
غیر أن هذا الاستقرار لا ینفی العلاقة المنطقیة بین الحالتین فی الکثیر من الحالات، وهو ما یفسر حدوث التشابک الدرامی بینهما، فی العدید من المتون الروائیة، التی رأت فی غربة الشخصیة سبیلاً منطقیًا – فی أبسط الفرضیات وأقربها إلى الذهن- یرْشَح بحالة الاغتراب، فی إطار علاقة السبب بالنتیجة، فرهانات تحقق الحالة الاغترابیة للشخصیة المغتربة أکبر وأکثر تماسکًا، هذا من ناحیة، ومن ناحیة ثانیة فإن هذه الوضعیة یمکن استنطاقها جمالیًا بیسر بدفع الشخصیة للانفلات من واقعها الجدید الضاغط صوب فضاء الوطن المُغادَر، عبر ممارسة ذهنیة تنشط فیها الذاکرة، مما یهیئ لتنامی السرد وتطوره، وتوالد الأفضیة الزمنیة والمکانیة التی یمکن التنقل عبرها لإحداث المزید من التفاعلات الدرامیة.
وفی ظل مجتمع أبوی ترسخ أعرافه الثقافیة لنوع من التمییز بین الجنسین، وتکرِّس لثنائیة المتن والهامش، فقد ظلت الصیاغات الإبداعیة للاغتراب –خاصة المرتبط بفعل الخروج والارتحال- حکرًا على الرجل المؤلِّف أو الرجل الشخصیة، فأصبح من المألوف أن یکون بطل الروایات التی تتناول موضوع الاغتراب رجلاً بالمفهوم الجنسی الکامل.
ثم تدفقت المتون الروائیة النسویة محاولةً تعویض فترة تغییبها، وإعادة الاعتبار للفکر النسوی انطلاقًا من مواقف معینة تصوِّر شخصیة المرأة وعلاقتها بمحیطها، ومرکزیة دورها فی الحیاة وصولاً إلى رؤیتها للعالم، دون أن تغفل عن الانتقام من ذاک الذی أدَّى دورًا رئیسًا فی تهمیشها واضطهادها واستلاب حقوقها، لتتشکَّل عبر مسار تاریخی مضطرب حاضنةٌ ثقافیة للسرد النسوی تمارس سطوتها على الذات المُبدِعة، وتوجِّهها إلى الاستناد فی صیاغتها الفنیة إلى عدة مکونات أبرزها "نقد الثقافة الأبویة الذکوریة، واقتراح رؤیة أنثویة للعالم، والاحتفاء بالجسد الأنثوی"[iii].
تطرح روایة "بروکلین هایتس" للروائیة المصریة "میرال الطحاوی" نفسها بوصفها نصًا نسائیًا من حیث المصدر ونسویًا من حیث الموضوع، یستند إلى حالة الاغتراب التی تعیشها بطلة العمل وساردته، دون أن یبرح مقاربة القضایا التی عالجتها الروائیةُ فی أعمالها السابقة[iv]؛ کقضایا التنوُّع الثقافی، والهویات، والهجرة، وما بعد الکولونیالیة، من خلال سرد تجربة البطلة "هند" التی تسافر إلى الولایات المتحدة -وبالتحدید إلى حی "بروکلین هایتس" القدیم بنیویورک- بعد أن هجرها زوجُها الخائن، تسافر مخلفةً وراءها واقعًا مشحونًا بالفقد والخیانة والتفسُّخ، تهاجر إلى بلاد "العم سام" بمُصاحبة طفلها وذکریاتها، لتبحث عن العمل، والحب، والذات. تغوص فی تفاصیل حیاة القاطنین فی هذا الحی بأعراقهم المختلفة، وتستدعی فی الوقت نفسه سیاقها الشرقی، راصدة ما أصابه من تحوّلات اجتماعیة وسیاسیة وتاریخیة، أثَّرتْ فی علاقات أفراده ومصائرهم.
تنهض الدراسةُ على أربعة مبادئ أساسیة هی:
- النظر إلى التَشَکُّل بوصفه فعلاً إنتاجیًا ثنائی المصدر، یتمخض عن حالة تفاعل بین المُبدعِ ومتنه المُختزِل رؤاه الفکریة، وقناعاته الذهنیة من جانب، والمتلقی الذی یؤسِّس فی أثناء تعاطیه مع المسرود متنًا موازیًا لا یتطابق بالضرورة مع مقصدیة متن المبدع من جانب آخر، وما بین المقصدیة الإبداعیة والمقصدیة الاستقبالیة یحضر "التشکُّلُ" کما تعنیه الدراسةُ، ومن ثم فإن الرؤیة التحلیلیة لن تتوقَّف عن حدود مظاهر البناء وآلیات الهیکلة والتنظیم، وإنما ستتعدّاها إلى ما یرتبط بها من قیم جمالیة، ودلالیة، وأیدیولوجیة، تُمثِّل جوهر الظاهر النصی، خاصة فیما یتعلق بالجانب النسوی الذی لا یمکن مقاربته بمعزل عن سیاقاته الحضاریة والاجتماعیة والثقافیة، وما یرتبط بها من توافق مع الثقافة المهیمنة أو تخالف معها.
- یوظِّف السرد النسوی الاغتراب –بوصفه خطابًا- فی بناء صوره وتمثیلاته للآخر وللذات، فی إطار مفهوم مزدوج للتمثیل، یتشکل عبر مسافة التوتر السردی والمعرفی بین الأیدیولوجیا الذکوریة والمثالیة النسویة المناهضة، والتوظیف لا یعنی انخراط النص بکلیته فی هذا الحالة، فهو ینغمس حینًا، ویتماس حینًا، ویتوسل فی أحایین أخرى.
- الإیمان بأن الوصول لوعی أعمق ببنیة الخطاب النسوی[v] الإبداعی-فی اختلافاته وتآلفاته- یرتهن بتواصل الجهود التحلیلیة المعنیة بالقضایا الجزئیة التی تناولها هذا الخطاب، ومنها قضیة الاغتراب.
- الوعی بأن النسویة توثِّق حمولتها المعرفیة والفلسفیة فی مختلف تدابیرها، ومنها السرد، الذی هو سرد تعدُّد ولیس سرد صدام مع سرد الرجل، فالاختلاف البیولوجی بین الجنسین، وما ینتجه من فروقات هی فی حقیقتها عوامل مُحایدة تنعکس بصورة أو بأخرى –وبدرجات متباینة- على التقنیات التعبیریة، دون أن تتحوّل إلى معاییر تفاضلیة، لیصبح من التعسف تبریرُ أشکال التمظهر النصی لأیة ظاهرة أو قضیة مُحلَّلة، بوصفها انعکاسًا مباشرًا للتصنیف الجنسی، فمقاربة المنظور النسوی لا یفرض بداهة أن التمایز الجنسی سیؤدی إلى تمایز حاد على مستوى التشفیر الإبداعی وقیمه الجمالیة، وهو ما یفترض وجود مُشترکات فی الرؤى، ووجود تمایُزات تستجیب لمنطق الخصوصیات، وتتجلّى حینًا وتتوارى حینًا.
تتوزّع الدراسة على أربعة محاور هی:
أ. انفتاح السرد ..البنیة الدائریة.
ب. النص المؤنث...احکی یا شهرزاد.
ج. الفضاء الزمانی..الاستعارة الکبرى.
د. اللغة وتجلیات الاغتراب.
أ. انفتاح السَّرد ..البنیة الدائریة.
إذا کانت الرحلة بحثًا متواصِلاً عن حقیقة فی الخارج الغریب، فإنها فی المُتخیَّل السردی توغل فی دهالیز الداخل، ومتاهاته فی الوقت نفسه.
تُستهَلُّ الروایةُ بمشهد البطلة "هند" وهی تطالع المعلومات الغزیرة التی أتاحها لها محرک البحث الإلکترونی "جوجل" عن الشارع الذی ستقطنه فی منطقة "بروکلین هایتس".
"تراه على خرائط «الإنترنت» وهی تبحث عن غرفة واحدة تصلح للإیجار فی منطقة بروکلین، تراه فی عدسة البحث حارةً ضیقة ملیئة بالالتواءات، یتعامد على «بروکلین بریدج»، ذاک الجسر الممتد الطویل الذی یربط الجزیرتین"[vi].
یقیم هذا المشهدُ المُکْتنِز تناصًا مع الهیکل البنائی للروایة، وبالتحدید مع استراتیجیة الساردة فی تأسیس حکایتها بالاعتماد على الربط بین لحظات منصرمة وأخرى مُقْبِلة، والمزج بین السیرورة الزمنیة للماضی والمستقبل عبر لحظة واقعیة، فهند تنطلق إلى المستقبل وهی قابعة أمام شاشة جهازها محاولة ترسیم حدود هذا القادم المجهول، متکئةً على رصید معلوماتی ینتمی فی حقیقته إلى الماضی، لا إلى المستقبل، ویستمد مرجعیته من تجارب الآخرین، لا من تجربتها هی، وعلى هذا المنوال ستسیر الروایة، لتقدّم بانوراما شاملة عبر إطار زمانی مکانی منفتح، یعتمد على النمط الدائری، الذی لا یمکن معه الجزم بلحظة تدفُّق الفعل السردی أو توقّفه، باعتبار أن کل لحظة یمکن أن تکون بدایة لفعل لاحق أو نهایة لفعل سابق، أو بالأحرى قد تکون مُنتِجة للفعل أو مُنتَجة عبره فی إطار متوالیات حکائیة متداخلة.
وعلى الرغم من أن المسار الزمنی یضع حیاة البطلة فی "بروکلین هایتس" فی موقع لاحق لحیاتها فی بلدتها "تلال فرعون"، فإن المتلقی لا یستسلم لهذا الخط الطولی، فمع تطور الأحداث التی تمر بها البطلةُ فی هذا الفضاء الجدید، وتعدُّد التجارب یتطور وعیها، لیس بلحظتها الراهنة فحسب، وإنما بماضیها کذلک، بما یدفع للعودة إلى الماضی لا بوصفه دائمًا لحظات مُنفلتة من الذاکرة، وإنما بوصفه لحظات متولّدة عنها فی صیاغة جدیدة هیّأتها تجربة الاغتراب.
ویمکن اکتناز تجلیات هذا البناء الدائری فی عنصرین هما؛"الالتفات إلى الخارج" و"الهروب إلى الذاکرة".
أ.1. الالتفات إلى الخارج..جدل السارد والمؤلِّف.
ثمة مقولات فی حقل النقد الأدبی اکتسبتْ سطوةَ التداول والانتشار بفضل بلاغتها فی اختزال مفاهیم النظریة الأدبیة، أو تمثُّل إجراءاتها، وعلى الرغم من أن إدراک الحمولات المعرفیة لهذه المقولات التنظیریة یرتهن بالتبصُّر بأُسسها الفلسفیة وبمرافقة تجلِّیها، فإنها قد تحوَّلتْ - هذه المقولاتُ - من کونها وسیطًا للإدراک إلى کونها موضوعًا للفهم یُقدَّم على القراءة النقدیة، بل وفی بعض الأحیان على النص المقروء دون مراعاة لأهمیة التفاعل بین الأدب وتنظیراته، وما یتمخض عنه من حالة ثقافیة تجعل التفکیر المعرفی دائم التحوّل.
فمُنذ إطلاق "رولان بارت" دعوتَه الشهیرةَ المُحرِّضة على قتل المُؤلِّف[vii] - ومکافأة قاتله بنقل ملکیة النص الذهنیة والأیدیولوجیة لهذا القاتل/القارئ - والمتعاطون مع علم السرد معظمهم، یحاولون مقاومة رغبتهم فی الربط بین المؤلف الخارجی وعالمه السردی بشخصیاته المتخیلة، وعلى الرغم من محاولة البعض تفادی تهمة الخروقات المنهجیة بالتواری خلف بعض المفاهیم الإجرائیة التی لا تجرح الإطار المنهجی لعلم بارت، لتحقیق المواءمة بین الرؤیة الشکلانیة والرغبة الإنسانیة الفطریة فی التلصُّص على مُرسِل النص -عبر إخضاع نصة للتحلیلات اللاهثة خلف إنتاج قوائم المتشابهات بین مسار الشخصیات الحکائیة للنص ونظیراتها الواقعیة لمؤلفه – على الرغم من هذا فإن هذه المحاولات کثیرًا ما اصطدمت بدهاء السرد ومهارته فی الانفلات من براثن المتلقی المتحفز لصید الروابط واغتنام المتشابهات.
بید أن بعض النصوص الإبداعیة قد عمد ساردها أو بالأحرى مؤلفها إلى تفجیر هذه الطاقة المستنفرة فی ذهنیة المتلقی، وکأنه یدفعه إلى الاستمتاع بلذة الربط بین هذا المؤلف وبطل العمل، فتتجلى هذه النصوص بوصفها نصوصًا سیریّة تخاطب هذا الحس الفطری، وتحتفظ لذاتها بمذاق خاص صنعه الکاتب بتأسیسه ثنائیتی البطل/ المؤلف، والنص/ السیرة، ونذکر فی هذا المقام أیام طه حسین، وزهرة عمر توفیق الحکیم وسجنه، والخبز الحافی لمحمد شکری، وغیرها من الأعمال التی تماستْ- أو هکذا ظننا – مع ما نعرفه عن سیرة مؤلفیها دون أن یفطن المتلقی - فی کثیر من الأحیان – إلى أن هذا الربط قد یکون فی حقیقته لعبة سردیة، یتلذّذ المبدع بتذوق نتائجها عندما یجد الجمیع یلهثون خلف علاقات التشابه أو التطابق بینه وبطله، وما یرتبط بها من تحولات فی تفسیر الضمائر وعدولات فی فهم القیم الدلالیة بتأثیر هذا "الالتفات" إلى ما هو خارج النص.
فی حالة النص النسوی تستثار الطبیعة الهجینة للراویة بالتعبیر الباختینی[viii]، وتتضاعف محفزات هذا الالتفات، وتتصاعد رغبة المتلقی فی الربط بین المتنین الروائی والسیری، وهو ما یمکن أن نعوزه ببساطة إلى العبارة المألوفة "الممنوع مرغوب" المتجلیة فی ندرة الأعمال السیریة النسویة، والموقف العام غیر المُرحِّب بها، لما قد تتضمنه من اختراقات لمحاذیر اجتماعیة؛ باعتبار أن السیرة ستکشف عما هو أبعد من ذات الکاتبة إلى ذات الجماعة[ix]، بل یصل الأمر بالمتلقی فی بعض الأحیان إلى تفسیر أی انحراف بین مضمون النص الروائی وما یعلمه من وقائع خارجیة عن مؤلفته باعتباره –أی هذا الانحراف- إکراهًا من إکراهات النص السیری بطبیعته الانتقائیة التی مارسها الرقیبُ الأول، وهو صاحبُ العمل ذاته.
تعمل روایة "بروکلین هایتس" على استثارة حالة التماهی السیری بین شخصیة البطلة هند والمؤلفة میرال، فتترجم الروایة عوالم وأحداثًا وتفاصیلاً دقیقة من حیاة المؤلفة، لیبدو النص لبعض الوقت سیرةً منتقاة تتیح للکاتبة التخفُّف من بعض شروط السیرة الذاتیة.
فبطلة الروایة "هند" قادمةٌ من بیئة بدویة "تلال فرعون" تقدر قیمة الذکور وتعتبر أن "خلفة البنات مظلَمة، تسوِّد الوجه، وتخرب الجیب"[x] وهو ما یتوازى مع ما یعرفة المتلقی عن نشأة میرال فی بیئة بدویة، حیث وُلدت فی مدینة الحسینیة بمحافظة الشرقیة، وهی ابنة لقبیلة "الطحاویة" التی تعد من أهم القبائل البدویة المصریة وأکبرها، کما أن بطلة العمل مُتخصِّصة فی اللغة العربیة، ومیرال کذلک فقد حصلت على درجة الدکتوراه عن أطروحتها "روایات الصحراء فی الأدب العربی" وعملت مدرسةً بقسم النقد والأدب فی جامعة القاهرة، أما عن هجرة البطلة لأمریکا وعملها فی مجال تدریس اللغة العربیة للأجانب فالمتلقی یعلم جیدًا أن میرال فعلتْ الأمر عینه حیث تعمل منذ 2006م أستاذًا زائرًا فی العدید من الجامعات الأمریکیة. فهذه العلاقة المعلوماتیة المتجانسة بین المؤلفة والبطلة لابد وأن یکون لها أثر بالغ فی عملیة استقبال النص وتشکُّله فی ذهنیة المتلقی، فیحدث التوحد بین النص الروائی والنص السیری، وما یتبعه من توحُّد بین الأطراف الثلاثة؛ المؤلفة والساردة والبطلة، کما تتحول هذه العلاقة إلى مصفاة، تتحکم فی استقطار المواقف ورسم معالم الشخصیات من ناحیة، وفی تفسیر هذه المواقف وتأویلها من ناحیة ثانیة.
ومن زاویة أخرى یشکل دخول ذات المؤلف إلى النص الروائی باعتباره واقعًا مثبتًا خارج النص تجلیًا لأحد أبرز تحولات السرد العربی المرتبطة بعملیة التجنیس "إنه مظهر یخترق أغلب النصوص الروائیة العربیة، بنسب متفاوتة، غیر أنه یعبر عن انتقال المؤلف/الروائی العربی إلى مرحلة محاکمة ذاته ورهاناته، وتأمل طریقة تصریف أفکاره، عوضًا عن البقاء فی منطقة مواجهة الآخر"[xi].
إن هذا التداخل بین الداخل والخارج یجاوز حدود البنیة الشکلیة منغمسًا فی جوهر التأسیس النصی لفعل الاغتراب؛ فإذا کان الاغتراب یتبلور عبر عملیة التردد بین ثنائیات الماضی والحاضر، والهنا والهناک، والوطن والموطن، والذات والجماعة، فإن حالة التردد هذه تنتقل إلى داخل النص عبر موقع الساردة المضاعف الذی یمتزج فیه التخیلی بالاجتماعی، والذاتی بالعام، والشخصی بالسیاسی، ومن داخل النص إلى خارجه عبر المتلقی الذی یتأرجح –فی أثناء مقاربة النص- بین أطراف متعددة؛ کالبطلة والمؤلفة، المتخیل والواقعی، القص والتأریخ.
أ.2 الهروب إلى الذاکرة...تنازع الماضی والحاضر.
شکلت المرأة فی المرجعیات الذهنیة للثقافات المختلفة رمزًا للخصوبة المقرونة بالقدرة على الإنتاج والإکثار، التی تحفظ للجنس البشری بقاءه، لتغدو لحظة المیلاد -التی تحتل فیها المرأة دور البطولة- هی اللحظة التی تکمل دائرة السرد، بوصف الحیاة حکایة کبیرة یتنازعها فعلا الحضور والغیاب، بموازاة هذه الخصوبة المراوحة بین مظهرین، تأتی الروایة لتعتمد مبدأ التنازع بین ماضی الشخصیة وحاضرها من خلال توظیف تقنیة الاسترجاع[xii] الحاضرة بحضور الذاکرة.
یأتی اسم البطلة "هند" لیشکِّل أول القرائن على توظیف السرد لنشاط الذاکرة لإنتاج دلالته؛ فـ"هند" اسم عربی یضرب بجذور فی المرجعیة التاریخیة للذات ولذائقتها الإبداعیة التی ربطت بینه والحب وما یرافقه من مشاعر الفقد والاشتیاق کما یقول بشار:
طــــــــــــــال فی هنْــــــــــــدٍ عِتَابـــــــــی |
واشتیـــــــــــــــاقی وطـــــــــــــــــــــلابی |
أو ابن المعتز
یا هُندُ حَسبُکِ مِن مُصارَمَتی لا تَحکُمی فی الحُبِّ بِالظَنّ |
وکثیرٌ غیرهم من الشعراء، أو النحاة الذین اختاروا هذا الاسم لیکون أیقونةً للمرأة الحاضرة فی متون دستور التراکیب العربیة، وکأنهم یؤکدون بطریقة غیر مباشرة على حتمیة تحقیق التکافؤ بین الرجل/ المذکر (زید) والمرأة/ المؤنث (هند) وهم ینظِّرون لقواعد لغتهم، "هند" التی تحضر فی المعاجم صنوًا للعشق والمغازلة، ومقترنةً بالحسم والقطع.
فاختیار هذه القرینة الاسمیة یطرح من البدایة الجوهر الفنی للشخصیة بوصفها تشخیصًا جمالیًا یجسِّد المؤنث، وما یستتبعه هذا التجسید من انتقال الواقع المأزوم الذی ستعانیه الشخصیة إلى بنی جنسها.
وبالطبع فإن تفعیل القیم الجمالیة لهذه العلامة الاسمیة المستدعاة یرتهن بالتماهی مع الأیدیولوجیا الثاویة خلف النص، التی تنهض على مفهوم التنازع وما یتعلق به من قیم ثقافیة واجتماعیة وحضاریة "إذا کان الإرث أو المیراث هو عنوان اختفاء الأب وحلول الابن محله، فإن التراث قد أصبح بالنسبة للوعی العربی المعاصر عنوانًا على حضور الأب فی الابن، حضور السلف فی الخلف، حضور الماضی فی الحاضر"[xiii]، یُدْمَج الاسم العربی فی فضاء أجنبی مغایر یکشفه العنوان (بروکلین هایتس) الذی یمکن قراءته فی إطار تأویل حذفی أصله "هند فی بروکلین هایتس" بهذه المفارقة الاستباقیة یتحدد الإطار الدرامی للنص (حالة الاغتراب).
وهنا یتحول الاسترجاع إلى فعل مُنْتِج من ناحیتین؛ الأولى تبریر الرحلة، التی تتحوّل إلى غایة تمثل للذات حلاً سحریًا ظلت تبحث عنه طویلاً، إنه نوع من أنواع الکفر بماضٍ لم یمنح هند ما تستحقه، ماض سحق طموحها وبدّد أحلامها، ماض یجب الخلاص منه.
یهیِّئ الاسترجاعُ الساحةَ النصیة لاستقبال بذخ معلوماتی عن تاریخ البطلة، ومعاناتها مع زوجها الذی اختفى فجأة بعد أن أذلّها بخیاناته المتتالیة، وغیرها من الأمور، التی تستقطب تعاطف المتلقی مع البطلة المغتربة التی تعانی من وجودها فی عالم جدید لا تفهمه ولا یفهمها، وهو ما یدعم صورةَ المرأة الضحیة التی تمثل إحدى تیمات المسرود النسوی "فلا تکاد روایة عربیة تخلو من شخصیة المرأة الضحیة"[xiv].
أما الناحیة الثانیة فهی وضع الحاضر الجدید فی مقابل الماضی المنفلت منه، وإعادة قراءتهما فی ضوء بعضهما، بفعل ضغوطات حالة الاغتراب المرکبة من فعلی الوصل والفصل، فالفصل یتولد فی لحظات الوصل (مع الحیاة الجدیدة ومفرداتها) عبر شکل آخر من أشکال التواصل (الاسترجاع).
إنه تواصل الذات مع ذاتها، مع قیمها الخاص، ومفرداتها التاریخیة، التی خولت لها إنتاج صورة ثابتة للماضی، صورة تمتاح من تصورات الذات المختزلة لوعیها بالآخر، وتظل الذات متواصلة مع هذه الصورة التی صنعتها بنفسها عبر سیاج الذاکرة، حتى استحالت صورة ذهنیة تملک سطوة التجسد الحقیقی، وبقدر ما تحقق للذات استمتاعها الوهمی بصورتها اللائمة هذه، بقدر ما تسبب لها فجاعة صدمة الانغماس فی الواقع عندما تحدث المواجهة بین النمطین المتکون تاریخیًا والمتحقق واقعیًا بفضل تطور الوعی، وهی الصدمة الناتجة لا عن الفروق الجمالیة - بالمفهوم الواسع للجمال - ولکن عن اکتشاف الذات لاستبدالها الاغتراب الذهنی باغترابها المکانی.
لقد شکلت الذاکرة سندًا رئیسًا للتخییل الروائی منذ نشأته، غیر أن ما یمکن نعته بالاختلاف الإجرائی فی تعاطی السرود الراهنة مع الذاکرة یتجاوز دورها التقلیدی کصندوق مملوء بأحداث تستدعى من أجل توضیحها أو مقاومة نسیانها، لصالح قراءة الماضی بغیة إدراک أکثر عمقًا بالواقع ومعطیاته لتحقق الربط بین السیاقین الفائت والحاضر، وفتح الباب للوعی بالحاضر من بوابة الماضی فی إطار ثنائیة تقابلیة لا تُعارِض وإنما تستدعی؛ "فالمقبرة الخضراء" لمسیحی أمریکا تذکّر هند بجدتها المسیحیة الضیفة، "وکوکو بار" یذکّرها بأبیها المُحتسی للبیرة، وشارع "فلات بوش" یستثیر ذکریات شقة زوجها الخائن وکذا دوالیک، الغربی یستدعی نظیره الشرقی فی إطار حرکة التفاتیّة للسرد ولیست تنمویة، فلا یوجد حدث یمر بالبطلة الآن إلا ویُسْتَدعَی مُعادِلُه الماضوی، ولا توجد شخصیة تدخل البطلة فی علاقة معها إلا تُسْتدعی نظیرتُها السابقة، وکأننا بإزاء رحلة ذهنیة تعادل الرحلة الواقعیة، فالذات التی خرجت فعلیًا من واقعها القدیم تعود إلیه مرة ثانیة وبصورة متکررة على مدار الروایة، حتى إن الفضاءین الرئیسین على ما بینهما من اختلافات یبدوان فی أحایین کثیرة تجلیًا للمکان نفسه، فعندما نضع اسم المکان الجدید" بروکلین هایتس" فی مقابل اسم الفضاء القدیم "تلال فرعون" تتبدى عناصر المشابهة؛ الارتفاع حاضر فی معنى الفضاءین، وکذلک دلالات مجاوزة السائد والارتقاء فوق المعظم الاعتیادی، العلو الذی یتیح لنا النظر إلى ما یحیط بنا، إلى ماض مشوش نحتاج إلى مراجعته من حین لآخر، وإلى مستقبل ضبابی یظل فی حاجة دائمة إلى إمعان النظر فیه، الفراعنة رمز الانتماء إلى الجذور حیث الماضی، الذی تلجأ إلیه الذات بواسطة ذاکرتها الانتقائیة لتحقیق التکافؤ مع حاضر مفعم بمظاهر الاغتراب والحداثة.
على الرغم من تعدُّد الثنائیات المتقابلة داخل العالم الروائی، فإن شخصیتی "لیلیت" "والضیفة" فی تقاطعهما مع شخصیة "هند" تبرزان بوصفیهما نموذجین لقدرة اشتغال الذاکرة على طرح نماذج إنسانیة، قد تبدو متباینة على مستوى الأفضیة أو الهیئة الخارجیة، ولکنها تتماثل على مستوى التاریخ والمستقبل، بحیث تغدو إحدى هذه الشخصیات ومصیرها المعلوم بالضرورة نبوءةً لمصیر الشخصیة الأخرى.
أ-2-1 هند ولیلیت..البطولة الضائعة
تلتقی هند مدام "لیلت" أو "لیلى سعید" المصریة فی بروکلین، وتتعضّد علاقتهما، وتکتشف لاحقًا أن "لیلى" قد هجرتْ زوجَها وابنَها "عمر عزام" فی الماضی هربًا من حیاتها المُمِلّة، لتهاجر إلى أمریکا، لیکبر ابنُها بعیدًا عنها، وبعد سنوات طویلة تلتقی ابنَها بعدما بدأ المرض یزحف إلیها، وأخذت ذاکرتها تتلاشى تدریجیًا بسبب الزهایمر، قبل أن تموت.
وعلى الرغم من تغییب الموت للیلى فإن لحظة انسحابها من الأحداث، تصبح هی ذاتها لحظة تجلِّی علاقة المشابهة بینها وهند، وذلک عبر نماذج تجسیدیة لذکریات من ماضیها.
"إنها تنقل محتویات شقة سیدة عجوزة اسمها لیلیت ماتت منذ أیام، وعلیها أن تعبئ محتویات شقتها کلها فی صنادیق ورقیة، ثم تحملها لتصفّها على رصیف الأفنیو الرابع، بعد أن تترک فوقها تلک العبارة "خذنی لو أردت" یعبر المارة، یلتقطون ما یریدون، وما بقى ستحمله عربة الحی کنفایة لا حاجة لها..تعبث هند فی الکتب الکثیرة المکومة فی الصنادیق..قالت لأمیلیا أشعر أننی أعرف هذه الأشیاء، طقم الشربات الکُحلی المُذهب هذا کان فی جهاز أمی، واحد مثله..تقلّب هند الأوراق التی جمعت فیها أوراقًا ومذکرات وصورًا قدیمة...انظری کیف کانت لیلیت فی شبابها تشبهنی ألیس کذلک، ألیس هذا خدشًا قدیمًا أسفل جفنها مثلی؟"[xv].
تدرک هند فی اللحظات التی یتم تصویرها على أنها لحظات ضائعة علاقة التماثل بینها ولیلیت - التی وضعت على ظهرها وشمًا مکتوبا بالإنجلیزیة "أنا حرة" - من خلال هذه الأوراق المبعثرة التی تقرأ فیها ماضیها ومستقبلها، تحس (هند) إحساسًا غامضًا أنها هی نفسها (لیلیت) وأن هذا هو مصیرها المحتوم لیسیطر علیها الفزع من المستقبل.
یمکن الاستغراق فی رصد مظاهر التماثل بین الشخصیتین بدایة من الاسم، ومرورًا بعلاقتهما بمحیطهما الإنسانی والحضاری، غیر أن الأجدى – من وجهة نظر الدراسة- هو تبئیر القیمة الدلالیة لهذا التماثل، نقصد بذلک "البطولة الضائعة"؛ فالأحلام الکبیرة التی تحملها هند وهو تؤسّس حیاتها الجدیدة بعیدًا عن السلطة الذکوریة (الأب، والزوج) تبدأ فی التلاشی شیئًا فشیئا، عندما تصطدم بمعطیات الواقع الجدید، فتبقى أوراق الشاعرة کما هی دون أن تستطیع إنتاجها فی دیوان، وتصیر حیاتها مرهونة بحقیبتها التی تحملها وهی تدرِّس طلابَها بشکل نمطی، حتى عندما تحاول الخروج عن هذه النمطیة المفروضة علیها من خلال اشتراکها فی أداء دور فی فیلم الشاب الفلسطینی "زیاد" فیکون الدور ثانویًا[xvi] عن أم تحاول الإمساک بابنها الذی یفرّ منها فی إشارة رمزیة لانفلات المستقبل من بین یدیها.
إن انتقاء الساردة للحظة الموت (موت لیلیت) لتکون هی اللحظة التی یتفتح فیها وعی هند بحدود العلاقة بینهما، یرتبط فی جوهره بتجلی الحقیقة بعد تبدد الشوائب الزمنیة التی قد تحول دون الوصول إلیها، فی هذا التوقیت الفارق تدرک هند أن وعیها بذاتها الذی حملته أوراقًا مُعنْونة بـ "لا أشبه أحد" یحتاج إلى مراجعة، فثمة من کان (ولا یزال) یشبهها على مستوى التجربة الإنسانیة الواقعیة والتاریخیة، وأن الأمر یحتاج إلى تعدیل طفیف فی المنظور لإدراک هذه الحقیقة تمامًا کما یحدث عندما نجرّد اسم "لیلیت" من الإضافات الغربیة الشکلیة ونردّه إلى صیغته العربیة فیصیر "لیلى".
إن أسطورة لیلیت أو لیلیث[xvii] المتسربة فی تضاعیف المسرودات التاریخیة والدینیة والشعبیة تتناص فی نواح عدة مع شخصیة لیلیت فی الروایة، خاصة فیما یتعلق برد الفعل تجاه تمردها ورغبتها فی التخلص السلطة الذکوریة وتعریة تحیزاتها الأیدیولوجیة، وهو ما تم مواجهته بعنف تمثل فی شیطنتها، بما یعکس فی العمق عجزًا ثقافیًا وحیرة ذکوریة أمام سلطة المرأة الفریدة.
وعلى الرغم من الإغراءات التی یطرحها النص لدفع المتلقی للنظر إلى شخصیة "لیلیت" بوصفها إحدى تمثیلات "المرأة الضحیة" فی المسرود النسوی فإن الدراسة تنحاز إلى رؤیة معاکسة ترى فی "لیلیت" تمثیلاً لمفهوم آخر فی الکتابات النسویة وهو مفهوم المرأة الأخرى "وهی المرأة النقیض للمرأة الإیجابیة....المرأة النقیض المستکینة التی تقبل بظروفها المعیشة مهما کانت درجة الظلم الواقع علیها"[xviii] وهنا قد تتعدل قیمة الربط بین "لیلیت" وهند، لیغدو ربطًا ذا بعد تحذیری یرى فی لیلیت الصورة الممکنة لهند إذا استمرت فی طریقها، وتخلّتْ عن أحلامها، واستسلمت للروتین الیومی، بما یحولها فی النهایة إلى صورة ممسوخة استلب النسیانُ حقیقتَها.
أ-2-2 هند والضیفة..الأنا والآخر
قد تدفع مقارنة هند بین حالتها وحالة لیلیت إلى اعتبار الروایة إحدى حلقات روایات الصراع الحضاری التی تحذر المتلقی العربی من غوایة الغرب، وتقر بحتمیة الانفصال بینهما، حتى لا یتسبب أحدهما فی إقصاء الآخر وتدمیره، غیر أن المتلقی الحصیف یمکنه أن ینجو بذاته من حمأة هذه الدلالة المُضللة عندما یعید هیکلة الروایة ممارسًا التقنیة ذاتها التی اعتمدتها الروایة "تقنیة المقابلة" المقابلة بین الشخصیات، وأهمها شخصیة "هند والجدة".
"تدرک الآن أنها صارت جدتها أکثر من أمها، تذکرتْ کیف کانتْ تجلس دائمًا فی حِجر جدتها، مجرد طفلة صغیرة ضجرة..کانوا یسمونها الضیفة برغم أنها لم تغادر بیتهم قط، یقولون عنها الضیفة نامت، الضیفة قامت..الضیفة قرویة صغیرة ومنکمشة، على ذقنها وشم أخضر، وعلى ظهر یدیها مزید من النقوش. لغرفتها دائمًا رائحة شمع معطر. تقول أمها جدک مقاوی الله یرحمه کان طویلاً وعریضًا..تزوّج بنت العرب وبنت العجم، ولم ینجب إلا من تلک القرویة"[xix].
تستعید البطلة ذکریات طفولتها فتدرک الحدود الوهمیة التی کانت تظن أنها تفصل بینها وسیاقها الفائت، فیُسْتحضَر نموذجا الأم والجدة، وبعد أن یقدم لنا النص أسانید اقتناع البطلة بمفارقة الشخصیتین لها واختلاف طبیعتهما عنها، یتم تشظیة هذه المسافة بآلیة ناعمة تدفع البطلة إلى الإقرار بتشابهها مع أمها التی کانت تختلف معها کثیرًا، قبل أن تعترف بتشابهها أکثر مع جدتها التی کانت تحمل لقب "الضیفة" لأنها کانت غریبة –أو هکذا نظرتْ إلیها الجماعةُ المحیطة-تمامًا مثل هند، کانت لها حیاتها الخاصة التی تصنعها بعیدًا عن أعین المحیطین بها الذین ظلوا یتعاملون معها بحذر مثلما حدث معها فی بروکلین، الجدة التی لا تزال تعیش فی ماضیها أکثر من حاضرها وهو العالم الحقیقی الذی قررت هند - بمساعدة میرال الطحاوی- العیش فیه.
إن هذا الاعتراف یظل مرتبطًا بالحاضر، بالهنا، الذی کان "هناک" فی کثیر من الأحیان، باستبدال الرؤیة الواقعیة بالرؤیة الذهنیة التی ینسخها الخیالُ، بتبدد الأوهام والأسوار الذهنیة التی تفصل بین العوالم، إن التوحد بین هند والجدة "الضیفة" على مستوى تجربة الاغتراب التی تحضر هنا مُتجرّدة من طابعها المادی المرتبط بمغادرة المکان یکشف تأثیرات النظام العالمی الجدید فی تدمیر العدید من الأنساق التی ظلت راسخة لعقود طویلة، وإعادة هیکلة المفاهیم الإنسانیة بعیدًا عن النزعات المنغلقة، سواء أکانت نزعات دینیة أم جنسیة أم قومیة، فالعولمة بوجهها الحقیقی - بعیدًا عن طرائق توظیفها لتحقیق مطامع استعماریة جدیدة - قوضت فکرة الحدود وأحدثت تطورًا فی الوعی بمفهوم الانتماء، لیصبح الشعور بالوطن فی بلاد "العم سام" ممکنًا والشعور بالاغتراب فی "تلال فرعون" جائزًا، ومن ثم یغدو تماثل "هند" مع "الجدة" بشارةً بأحادیة الذات الإنسانیة على مستوى الأفعال والمشاعر، ونبوءة بتعدد تمثُّلات الجوهر الإنسانی الواحد فی کل زمان ومکان حتى وإن ظل لسنوات یعتقد أن ثمة فوارق تفصل بینه وبنی جنسه.
وتجدر الإشارة إلى أن وعی هند بمدى تشابهها مع جدتها لم یتم سوى بتوافر مساحة مکانیة وزمانیة تفصل بینهما، إنها فترة الابتعاد الضروریة لحفز الذات على مراجعة مواقفها وثوابتها، لوضع ماضیها نصب عینها والنظر إلیه بعیدًا عن ضغوطات الواقع التی تشوش على رؤیة الذات، وإذا کانت هذه المساحة لم تتحقق لهند سوى بالهجرة فإن الروایة تؤکد أن لدینا الفرصة المثالیة الآن لتحقیق هذه المراجعات بخلق مسافة ذهنیة بیننا والمواقف المتباینة قبل تبنی موقف محدد تجاهها بعیدً عن الحسابات الغیبیة والأنثروبولوجیة التی لا تحقق سوى الراحة النفسیة للذات.
إن تشابه هند والضیفة یؤکد أن کلاً منهما لیس سوى أحد مظاهر تجلی الآخر، هذا الآخر الإنسانی فی حضوره الواقعی الفطری لا المتخیل الذهنی الذی یتم إنتاجه بفضل خبرة معلوماتیة فردیة ومتناقضة ومضطربة فی کثیر من الأحیان، هذا المتخیل الذی یستحیل واقعًا بالاقتراب أکثر من الآخر وإن تم ذلک عبر تقنیة الابتعاد، إنها الدعوة الإبداعیة المفتوحة لفک قیود الألوان والأشکال والأجناس واللغات التی تعوق التواصل الإنسانی، لتغدو الرحابة الإنسانیة والقدرة على امتزاج الحضارات وإمکانیة التعایش بین السیاقات المختلفة هی البؤرة الدلالیة للنص.
ب-النص المُؤنَّث ...احکی یا شهرزاد
تعلن الکثیر من المبدعات موقفهن الرافض لمصطلح "الأدب النسوی" داعیات إلى ضرورة حذف هذا المصطلح من متون الکتب النقدیة، محتجات بما تختزله هذه المصطلحات من قیم عنصریة تجعل من الجنس معیارًا تفاضلیًا یتحکم فی تحدید قیمة النصوص ولو بشکل مبدئی، مما یجرد الممارسة النقدیة من طبیعتها المحایدة التی ینبغی أن تتحلّى بها، ویقدّم للمتلقی دعوةً غیر مباشرة للدخول إلى النص بتحفز شکَّلته رکاماتٌ ثقافیة واجتماعیة ومعرفیة وتاریخیة، مما سیؤثر حتمًا فی طبیعة مقرؤیته للنص وتعاطیه مع قیمه المختلفة وفقًا لموقفه المتشکل فعلیًا تجاه قضیة المرأة المبدعة ولیس النص الإبداعی.
على الرغم مما یستند إلیه هذا الموقف من أسانید منطقیة، فإن مقاربة النصوص الممهورة باسم أنثى، یؤکد أن ثمة عناصر مائزة فی هذه النصوص یؤدی التحامها وحضورها العفوی - أو المتعمد - فی إفعام النصوص التی أنتجتها المبدعات بنکهة خاصة نتیجة ما اکتسبته مُنتجتها من خبرة عمیقة فی استقبال النصوص وهضمها ثم إنتاجها وطبعها ببصمة أنثویة ناعمة وثائرة فی الآن ذاته.
وإذا کان الاغتراب هو القضیة التی تتمحور حولها روایة "بروکلین هایتس" فإن أسباب هذا الاغتراب وطبیعته وواقعه هی عناصر تستثمرها الساردة لتبنی مفارقات السرد ولتشکل إطارًا کلیًا لدلالات لأطراف مختلفة أبرزها طرفا الأنا والآخر الذی یتحرک بینهما السرد النسوی.
وتتجلى هذه البصمة النسویة داخل النص عبر عنصرین یبدوان متناقضین، ولکنه التناقض المترجم للغز المرأة – من منظور ذکوری - وهما؛ الوعی المُتشدِّد للمرأة، ورهافة حسَّها النسوی.
ب-1-الوعی المُتشدِّد للمرأة
ارتبط مصطلح "النسویة" فی تجلیه الإبداعی بالرغبة فی مواجهة الهیمنة الذکوریة على المنظومة الإبداعیة، وإعادة ضبط العلاقة بین الصورة النمطیة للمرأة کما تجلت فی إبداع الرجل ونظیرتها الواقعیة کما تتجلى فی مخیلة المرأة، عبر خطاب ینزع إلى تبنی صیاغة مظلومیة، تضع المرأة فی موقع المظلوم، فی وقت یحتل الرجل موقع الظالم، ویمکن الاستناد إلى هذه المرجعیة التفسیریة عند مقاربة ظاهرة تسلیب الرجل، أو بالأحرى تبخیسه على المستویات القیمیة والأخلاقیة داخل المتون الإبداعیة النسویة، بحیث یمکن أن نعزو الأمر إلى الرغبة فی الانتقام کاستجابة تلقائیة لمنطق البندولیة التمییزیة باعتبارها خطوة مهمة لتحقیق التوازن الکمی والکیفی بین التشویش السابق لصورة المرأة ومحاولة مواجهته بتشویش آنی مضاد لصورة الرجل.
وإذا کان من الممکن تبسیط المسارات الموجهة للسرد واختزالها فی مسارین؛ أولهما ینحاز للذکورة ویقهر المرأة فی تناغم مع السلطة الثقافیة والاجتماعیة، وثانیهما یقاوم على استحیاء، فی محاولة لنقل الأنثى من حیز الهامش إلى حیز المتن، إذا کان الأمر کذلک أصبح من المنطقی أن تتهیأ الأسباب لعدم استثناء روایة "بروکلین هایتس" من هذا التواطُؤ الفنی بین الساردة والمؤلفة لتقدیم صور مشوبة بمظاهر القبح والتشویه للرجال الذین تتراوح علاقتهم بالبطلة قربًا وبعدًا، وهو تشویه یعمد النص إلى تکثیفه بغیة خدش العرف السائد المتکلس لإیقاظ الوعی بمظاهر النفاق الاجتماعی والأدبی الراسخ.
ب-1-1 من الزوج إلى الأب
تأتی شخصیة الزوج لتکون واحدة من أکثر الشخصیات التی تعرّضت لعملیة التشویه النصی، إذ حشدت لها الساردة جملة من القرائن المغرقة فی السلبیة، وهو ما یمکن إدراکه عبر المقطعین التالیین:
"قالتْ إنها تتذکّر المرة الأولى التی رأتْ زوجها یغازل امرأة أخرى، کان ذلک فی بیتها، وکانت تلک المرأة صدیقتها، کل من عرفن الزوج کن صدیقاتها، أو خططن لیصبحن صدیقاتها، بعد ذلک لم تفهم حتى الآن ما الحکمة فی ذلک"[xx].
"ذات صباح وبعد أن أنهى زوجها حمامه الصباحی، وأراق کثیرًا من العطور، واختار ملابس داخلیة من القطن الأبیض التی ما زالت ناعمة ومخملیة کلیلة غرام أولى، ووضع بجامة من الحریر الأسود، وعددًا من الواقیات الذکریة، خرج ولم یعد ثانیة، بعد عدة أشهر وضعتْ "هند" فی عدة حقائب کل ما تبقى لها فی البیت، وغلّفتْ الأثاث بالواقیات البلاستیکیة، وجرَّتْ حقائبها ومضتْ، کل ما ترکه لها الزوجُ کانتْ تأشیرة سفر سمحتْ لها بدخول البلاد البعیدة، وطفلاً یجرّ بدوره حقیبتین"[xxi].
من الجلیّ أن الروایة تتناغم مع الرؤیة النسویة فیما یتعلق بالزوج البغیض کأحد تمثیلات الرجل السلبیة "عمومًا لا توجد تمثیلات إیجابیة للأزواج الذکور فی الروایات النسویة؛ لهذا تکثر العلاقات الزوجیة التی آلت إلى الطلاق بسبب هؤلاء الأزواج فی الدرجة الأولى، فتمثیلاتهم تتلخص فی الخیانة، والعنف، والمرض النفسی، والتدین المرضی، والبخل والاستسلام للعادات والتقالید، والعجز الجنسی، والأخلاق الدیّوثة"[xxii] ذلک فی مقابل الأنثى الضحیة، ضحیة الطبیعة الذکوریة المائلة إلى الانفصال لا الاتصال[xxiii].
شکل زواج "هند" من زوجها محاولة ثوریة للتمرُّد على سلطة الأخوة "سأتزوجه رضیتم أم أبیتم" وهی ثوریة استمدت فاعلیتها من عوامل خارجیة فلکیة، وربما وجودیة، جعلتها تتحوّل إلى فعل مضاد، ومنساق ولیس إلى فعل منتج، غیر أنها خسرت معرکة التمرد مبکرًا، وخاب رهانها منذ اللیلة الأولى للزفاف، فإذا کانت الخیانة هی الفعل المُغتال لکافة العلاقات الإنسانیة السویة، فإن تکرار فعل الخیانة یعکس اضمحلال المنظومة القیمیة للخائن، ویعکس فی الآن ذاته حجم المأساة التی عاشتها البطلة مع هذا الکائن، الذی تعمدت الساردة تجریده من علامته الاسمیة، فی محاوله للانتقام منه، ولتعمیم تجربته بوصفه نموذجًا محیلاً إلى المنتمین لجنسه اللاهثین خلف نزواتهم، التی قد تتأطر بسلوکیات اجتماعیة متماسکة، لیشکل الزواج هنا حیلة تتغیا التملُّک لا التشارک.
یتم دعم هذه الرمزیة دلالیًا بربط فعل الخیانة بالصدیقات، حیث المأساة تتضاعف والمسؤولیة تتوزع على الجانبین الذکوری والنسوی؛ فمشارکة الصدیقات فی هذه الممارسة المقیتة تتوازى مع سلبیة المرأة أحیانًا ورضوخها لسلطة الرجل، وعدم قدرتها على المثابرة فی أحایین کثیرة، مما یمهد للتعاطی مع وظیفتها بوصفها وظیفة ذکوریة فی مجملها، من خلال تحویل العلاقة بینهما إلى ثنائیة مفاضلة ترسخ لسلطة الذکر وتنمِّط لصورة المرأة کتابع له، یتبدى هذا التفکیک الرمزی من خلال التساؤل الختامی "ما الحکمة من ذلک؟" الذی یکشف فی عمقه عن درجة من درجات القصور المعرفی، فی إدانة واضحة لجنسها کما تجلى فی البطلة ذاتها التی تعاملت مع فعل الخیانة بسلبیة، خوّلت للزوج تکرارها، دون أن تحرّک ساکنًا، وانتهت به إلى حد الانسحاب من حیاتها ولیس العکس کما یُتوقَّع، وهی التی کانت تنتظر عودته.
یأتی فعل الانسحاب المقترن بفعل الخیانة الختامی لیؤشر لاستمراریة تأثیر السلطة الذکوریة فی النص وساردته، حتى وهی تقدم نصًا یسعى للنیل منه؛ فالزوج هو الفاعل دائما؛ فهو الخائن، وهو المُنْسحِب، بل وهو المانح، فلحظة الانسحاب على فجاعتها شکلت حافزًا للبطلة لإعادة رسم ملامح حیاة جدیدة تجاوز عبرها الرؤیة النمطیة التی تقسِّم البشر والقیم بین اللونین الأبیض والأسود الحاضرین فی النص، ینسحب الزوج الخائن الهارب المتخلی عن مسؤولیته تارکًا للزوجة تأشیرة تفتح لها الأبواب لعالم جدید، ستجاوز عبره قصورها المعرفی - أو على الأقل ستکتشفه- وابنًا هو امتداد له، ولجنسه ولمأساة المرأة المرتبطة به، ومخلفًا للمتلقی تساؤلاً حول رمزیة هذا الانسحاب المقرون بسیاسة الباب المفتوح.
تتواصل رحلة الساردة فی أمریکا، وتتواصل معها مهمتها فی تقدیم الشخصیات الرجالیة المقترنة بصفات سلبیة؛ کالفشل الذی یمثله "نجیب الخلیلی" الذی تمنى أن یکون فقیهًا فی علوم العربیة وأخذته "بروکلین" لیصبح صاحب فطائر "حلو العریس"، و"عبد الکریم الکردی" الذی هجرته زوجته المکسیکیة "جوجو" ضجرًا ومللاً من رائحته العربیة، واستغلال العلاقات الإنسانیة لتحقیق مکاسب دینیة، کما تجلى فی شخصیة سعید المصری سائق اللیموزین القبطی، الذی ارتاحت له ثم اکتشفت إنه یسعى إلى استمالتها إلى دینه محاولاً أن یضفی صورة المُخلِّص على حضوره الطفولی المثیر للضحک، أو استغلال المرأة لتحقیق مکاسب مادیة کزیاد الشاب الفلسطینی، الذی یصغر البطلة بسنوات عدیدة، والذی تقع فی غرامه، لیتبین لها لاحقَا أنه یرید منها أن تتطوّع لتمثیل دور صغیر فی فیلمه القصیر، الذی یحلم بإنجازه عن حیاة الأُسَر العربیة فی "بروکلین"، والذی استعدّ له بقراءة "إلیوت" و "ویتمان" وحفظ أشعار "لورکا"عن ضواحی هارلم وجسر بروکلین.
حاولت الساردة تنویع أدواتها فی النیل من الجماعة الذکوریة، فلجأت إلى توظف الجسد داخل المشهد السردی، بوصفه حاجة للتعبیر عن الذات والخصوصیة، من خلال حکایة البطلة مع مدرب الرقص الأمریکی الستینی ممشوق القوام "تشارلی" الذی - أوهمها أن "الرقص حیاة"، قبل أن تکتشف أنه یرید جسدها کسائر النساء اللاتی یصطحبهن إلى شقته لیمارس الجنس معهن فوق غرفة ابنها، وعندما ترفض یهین أنوثتها بالسخریة من جسدها غیر المتناسق، فی لحظة یتجلى فیها نصیًا التداخلُ بین الأنثى البیولوجیة الحاضرة بجسدها، والأنثى الاجتماعیة الخاضعة للواقع الاجتماعی، والأنثى الثقافیة التی شکلتها الأبنیةُ الثقافیة.
"لم یعد تشارلی یشبه البحارة أو المحبین والفرسان، عاد إلى شکله الإنسانی الذی تألفه، خارج النبیذ وحلبة الرقص، عاد کما کانت تشعر به ضفدعًا طینیًا لرجل لا تحبه..فانفلتت من بین یدیة اللتین أحاطتا بها، ورکضت بسرعة، وسمعته یخبط الباب وراءها وهو یلعنها، ویصف مقعدتها الممتلئة بکلمات موجزة وبسیطة ومعبرة "بیج فات آس" فی غرفتها بکت وحدها، وشعرت أن جسدها متعبًا"[xxiv].
إن موقف الساردة من "تشارلی" یکتسب أهمیة خاصة من ثلاث نواح؛ الأولى تتعلق بالکشف عن موقف الساردة من الشخصیة الذکوریة، وهی تؤسس عالمها الروائی، والبرهنة على أن الموقف الرافض لا یتوجّه إلى الذات الذکوریة العربیة بصورتها النمطیة التقلیدیة - بوصفها رمزًا للهیمنة - وإنما یتعداها إلى النموذج الغربی بصورته النمطیة المنفتحة المرحبة باستقلالیة المرأة، وهو ما یدعم فرضیة أن التشویة لا یرتبط بالواقع أو معادله المُتخیَّل، وإنما بمرجعیة الشخصیة الجنسیة بمفهومها المباشر.
أما الناحیة الثانیة فترتبط بالقیمة الدلالیة للعلاقة فی إطاریها الحضاری والرمزی، أو بصیغة أخرى تتماهى مع معطیات أدب ما بعد الکولونیالیة، خاصة فیما یتعلق بإعادة تمثیل الآخر والذات "التی تعد علامة على الهویة والصوت، ومن ثم امتلاک القوة"[xxv]؛ فالعلاقة بین "هند" و"تشارلی" وتباین ردود أفعال البطلة تجاهه من الخوف منه إلى الإعجاب به، ثم النفور منه، یمکن النظر إلیها بوصفها ترمیزًا تقلیدیًا لعلاقة السیاقین الشرقی والغربی، فالتعامل مع السیاق الغربی یتم عبر مرجعیة ذهنیة مشوشة ومضطربة، ولکنها مغرقة فی السلبیة فی کثیر من الأحیان، وباقترابنا الفعلی من هذا السیاق تتبدّل الرؤى، لتصل فی بعض الأحیان إلى حد الإعجاب والانبهار بهذا النموذج، وفی أحیان أخرى یتلاشى هذا الانبهار نتیجة التماس مع هذا العالم الجدید، وکسر الفواصل الذهنیة الفاصلة بیننا، فـ"هند" باقترابها الشدید من "تشارلی" تکتشف أنه معادل للنفعیة الغربیة التی تعطی لتأخذ، وتمنح لتحوز، لکل شیء عنده ثمن، و"تشارلی" نفسه عندما یبدأ فی الإنصات إلى "هند" وحکایاتها عن أبیها وأمها وتلال فرعون یصاب بالاندهاش والاستغراب ثم النفور منها باعتبارها قادمة من سیاق متخلّف ومختلف یتعارض مع سیاقه کما یظن، إن الساردة تطرح هنا قضیة بالغة الأهمیة، وهی أن الحوار قد یکون فی کثیر من الأحیان خطوة مهمة فی طریق التفاهم وائتلاف المختلفات، ولکنه قد یکون من حافة أخرى بدایةً للتأکد من استحالة التواصل وحتمیة الفراق، والأمر فی الحالتین یرتهن بنیات المتحاورین، واستعدادهما للتنازل فی سبیل قطف ثمار المُشترک الإنسانی، وأهمیة محاولة فهم الآخر أکثر من فرض الرؤیة الذاتیة، إنها أشبه بلعبة القرب والبعد، التی عجزت البطلة عن تعلمها بمدرسة الرقص على ید "تشارلی" ، فکلما حاولت التعلم ازدادت عثراتها، وأربکها تیبس جسدها، حتى بدت لها الرقصة المتکررة مثل حیاتها تمامًا.
أما الناحیة الثالثة فتتعلق بالقیمة الرمزیة للجسد هنا والتجلیات الدلالیة لتجاوز العلاقة الجنسیة کأحد أشکال التحریر "فالجسد یقوم بکل وظائفه الروحیة والحسیة، ولهذا لا بد من التحرر /تحریره من کل التقالید والمنظومات القیمیة، لأنها تشبه السجن، إذ نسعى إلى الحرمان من استخدام الجسد تعطیل الجسد"[xxvi]، وهو ما قد یفسر تکرار الإهانة نفسها على ید عبدول الأفغانی[xxvii].
إن لجوء الساردة إلى تسلیب الشخصیات الذکوریة السابقة یملک مبرراته الفنیة، من حیث إن علاقاتها بهذه الشخصیات اتسمت بطبیعتها المؤقتة، مما ینزع عنها قشرة المشاعر الدافقة کالفقد والندم، ولکن عندما یتعلق الأمر بشخصیة ذات ارتباط وثیق على المستویات الإنسانیة والاجتماعیة والتاریخیة مثل شخصیة "الأب" فإن الساردة لابد أن تعدّل من تعاطیها مع فعل التسلیب، حتى لا تحرم النص منطقَه، وهنا نلفیها تعمد إلى التلمیح بدیلاً عن التصریح، وتطلب العون من المتلقی للنهوض بدوره فی إنتاج الدلالة باعتبار أنه "لا یمکن الفصل بین النص وعملیة تلقیه، ولا یمکننا تنحیتها جانبًا، لأن العمل یولد فی إطار عَقْد للقراءة، یُعْقد بین الکاتب والقارئ، ویأخذ توقعات القارئ فی الاعتبار"[xxviii].
تمثل شخصیة "الأب الظالم" أحد التمثیلات الرجالیة الرئیسیة فی الوعی الثقافی النسوی "فالأب هو رب الأسرة، ومنه تشکلت الأبویة الذکوریة، وإلیه تعود سلطة العادات والتقالید الاجتماعیة الرئیسة فی إدارة شؤون رعیته بدکتاتوریة، وتعسف غالبًا"[xxix]غیر أن الروایة على النقیض من ذلک تطرح شخصیة الأب بوصفها الشخصیة الذکوریة الوحیدة التی نجت من عملیة التشویه المباشرة، بل على العکس فشخصیة الأب تبدو حالة استثنائیة من حیث عدم تأثرها بالتحوّلات التی أصابت بنیة المجتمع المصری، بسبب سیاسة الانفتاح الساداتیة، والهجرة إلى بلاد الخلیج، وما استتبعاه من تأثیرات جوهریة فی المنظومة القیمیة لأفراد المجتمع، فعلى الرغم من هجرة جمیع أصدقاء الأب، فإنه یبقى ویظل یقـاوم أشـکال الإغراء کافة التـی قدّمها ناصحوه مثـل صدیقه "الدکتور شـامل"، و"الناظر إمیل"، وحتى الزوجة التی راح کل شیء یتغیر حولها بفعل التدفق المادی المصاحب لعودة الجیران من بلاد النفط.
لماذا انتهکت الروایة إذن خطها الدرامی العامد إلى تشویه صورة الرجل؟ ولماذا اُستُثنی الأب من هذه الممارسة المتفشیة فی النص؟ یمکننا الإذعان للتساؤل والاستغراق فی تبریر هذه الممارسة باللجوء إلى داخل النص أو خارجه، ولکن ونحن نفعل ذلک علینا أن نعید النظر فی فکرة تخلی الساردة عن إستراتیجیتها، وأن نستبدل بهذا الاستسهال فی المقاربة رؤیة أخرى ترى أن الساردة قد مارست حقها فی المراوغة من خلال إیجاد بدیل لشخصیة الأب یتم تحمیله بالصفات السلبیة کافة، وتخضعه لمظاهر التقبیح کغیره من الشخصیات، یتحدّد هذا البدیل فی "محمود البقال" والد "نهى" صدیقة البطلة الذی یرى ﻓﻲ أﻟﻌﺎب اﻟﻔﺘﺎة کالحجلة عیبًا، ویصرّ على إخراج ابنته من المدرسة عقابًا لها على بزوغ تضاریس جسدها، وﻳﻨﺘﻬـﻲ به الأمر إلى تزویجها من رجل غریب یرتدی الغُترة والعقال.
"وسیکون صوت أبیها عم محمود البقال لیس کما یألفه زبائنه مسالمًا وطیبًا وواسع الصدر فی الشراء والبیع والفصال، تسمعه یفح بشراسة واصفًا زوجته " أنت طوبة یا بنت الکلب" تبکی أم نهى وتشکو آلامًا تحطم رأسها إلى نصفین"[xxx].
یبدو أن لجوء الساردة إلى التوسل بحیلة النموذج الأبوی البدیل لکی تفرغ عبره رغبتها الانتقامیة بعیدًا عن شخصیة والد البطلة لم یحقق للساردة الراحة الکافیة، ولم یقنع طموحها العفی فی الثأر من کل مذکر یستبد بسلطة ما، فنلفیها تعود إلى شخصیة والد البطلة لتنثر فی ثنایا حدیثها عنه بعض الإشارات التی یسهم جمعها فی إیصال الدلالة المستترة للمتلقی، فالأب الذی یبدو للوهلة الأولى محاطًا بأکالیل القرائن الإیجابیة یظهر على المستوى العمیق بوصفه شخصیة أخرى.
"تعرف أن أباها هوّن أشیاء کثیرة على المغتربین، أمثال إیمیل الناظر وشامل الصیدلی، وککثیرات من المغتربات أیضًا..اعتادت "هند" أن تحمل لهن صوانی الفطور والعشاء فی مقر إقامتهن فی المضیفة، کان أبوها أیضًا مولعًا بأعمال خیریة کثیرة، کحل قضایا النزاع العالقة بین العائلات، وکان یفعل ذلک بسعادة، وقدرة فائقة على الإقناع... ساعتها ستتحوّل الجلسة الهانئة إلى خلاف لا یمکن احتواؤه، سیغضب ویخرج من الباب الشرقی تارکًا مزیدًا من الکلمات المبعثرة عن الغم والهم والقرف، یخبط الباب الزجاجی عدة خبطات ویخرج ویبیت فی المضیفة البعیدة المطلة على تلال فرعون"[xxxi].
إننا هنا أمام شخصیة متناقضة تشبه شخصیة السید أحمد عبد الجواد، شخصیة تملک أفقین تتحرک عبرهما؛ أفق خارجی وأفق داخلی، داخل الأسرة - وهو ما یعنی البطلة والمتلقی على حد سواء - یظهر شرسًا قاهرًا للأم رمز السلطة الأمومیة، ومتحکمًا فی أدق الأمور بینهما محققًا الإقصاء الکامل لها، وهو خارج هذا الأفق یبدو متعاونًا مخلصًا للسیاق ومادًا ید المحبة للجمیع، إنها الازدواجیة المعیاریة التی ترصدها الساردة لتنال عبرها من الطبیعة البنائیة للمجتمع المؤسس على مفهوم العائلة "والعائلة العربیة أبویة هرمیة وصورة مصغرة للمجتمع العربی الطبقی الذی یقوم فی صلب تنظیمه الاجتماعی على التمییز وتوزیع العمل على أساس الجنس والعمر، فیتحکم الذکر بالأنثى، والکبیر بالصغیر"[xxxii]، والفرعون بالرعیة کما یتجسد اسم الفضاء المکانی المحتضن لماضی البطلة "تلال فرعون" الذی یصبح من الیسیر فهم الدلالات الرمزیة التی یطرحها الاسم – خاصة عندما ندرک أن هذا الماضی شکل معادلاً للقهر والبطش المادی والمعنوی بها- والتی تتعلق بالتجبر، والسلطة المطلقة، واستسلام المجتمع لها ووضع الحواجز تباعًا لحجب الرؤیة عمن یرغب فی رؤیة ما وراءها أو یحاول حتى تخطیها.
ب-1-2 الابن الضال
یحقق الاغتراب حضوره الجمالی عبر أدوات شتى منها الانفتاح على حالتی الفصل والوصل، فإذا کان اقتران الاغتراب بحالة الفصل أمرًا بدهیًا، فإن حضور الاغتراب فی أثناء الوصل یمثل الحالة الأکثر عمقًا والأشد وطأة على الذات.
تمثل علاقة هند بابنها صاحب السنوات الثمانیة تجلیًا لهذا المستوى العمیق من الاغتراب، فالعلاقة بینهما تجاوز ثنائیة المتبوع والتابع التقلیدیة، فالابن داخل الروایة لیس ذلک الکائن مسلوب الإرادة، الذی تستحضره الساردة لتستقطب تعاطف المتلقی مع الأم التی تتحمل مسؤولیة ابنها فی الغربة، تنعتق شخصیة الابن من أسیجة هذا المربع المحدود داخل الرقعة النصیة، لیصیر هو الصوت المُعبِّر عن مستقبل أسسته سیاسة عالمیة سعت إلى طمس الهویات، من خلال اختزال العالمَ إلى مفهوم، وتخطى حقیقتَه باعتباره تشکیلاً متنوعًا من القوى والإرادات والانتماءات والثقافات والتطلعات، إنه إنسان عصر العولمة - الذی تفشل الأم فی الاستجابة له ولتطلعاته مستسلمة له حینًا، وعاجزة عن استیعاب نمط تفکیره حینًا آخر- الذی لا ینتمی لشیء سوى لرؤیته الخاصة، وقد یکون فی ذلک تبریرًا لتجرید الشخصیة من اسمها، فی إشارة إلى تشظیها التکوینی وثرائها الدرامی عبر ما تحتمله من قراءات تأویلة تستدرج القارئ صوب احتمالات قصوى.
یسعى النص إلى تحقیق التکافؤ بین الشخصیتین عبر سُبل مختلفة، بعضها سیمیائی کحضور الابن على صفحة الغلاف مستندًا إلى أمه فی إحدى الطبعات، أو سائرًا بدراجته وحیدًا فوق جسر بروکلین فی طبعة ثانیة للروایة، وکترافق ظهور شخصیة البطلة مع ابنها، والمقاطع الحواریة التی تکشف أن الفوارق العمریة بین الشخصیتین، لا تحتم وجود فوارق على المستوى المعرفی، وذلک بفضل أدوات العصر الجدید التی استطاعت اختصار فجوة العمر والخبرة، بآلیات یجیدها هذا الجیل.
"خرج طفلها من تحت الأغطیة، وفتح عینیه متسائلاً:
-ماما إیه اللی حصل؟
- أوباما فاز.
ابتسم ثم أغمض عینیه ونام..فی الصباح هزها من کتفها، وسأل السؤال مرة ثانیة:
- أوباما فاز..صحیح یا ماما؟
- أیوه.
یرکض وراءها من الغرفة الضیقة إلى المطبخ الأضیق، وهو یعدد قائمة آماله التی علَّقها فی رقبة أوباما، تقف ساهمة أمامه، لأنها تخشى أن یتهمها بإهماله، وینهمک فی البکاء کعادته، تهز رأسها وتکتفی بکلمة أیوا التی صار یکرهها، وهی لم تعد تملک غیرها لأنها کلمة لا معنى لها، ولا تؤکد النفی أو الإیجاب، تعنی فقط وماذا بعد؟
- أنا لازم أقول لأوباما أن هناک أشیاء کثیرة لازم تتغیر.
- طیب.
- لازم یغیر الانفیرومنت والرین فورست وجوجرین إفری ویر ویغیر مصر..ممکن؟
- إن شاء الله کل حاجة ستصبح خضراء.
- أنا ممکن أعمل انتخابات وأفوز زی أوباما؟
- کل شیء جائز.
- وأکون رئیس الیونایتد ستیتس؟
- کل شیء جائز.
- الآن؟ ناو؟ NOW
- کل شیء بمیعاد یا حبیبی"[xxxiii]
یکشف الحوار بوضوح عن أمرین یبدوان متناقضین، لکنهما یترجمان فی الآن ذاته تناقضًا موازیًا یقبع فی عقلیة الساردة (المرأة) التی یتنازعها شعوران یحاول الأول ضم الابن إلى قائمة الرجال المُسلبین، ویسعى الثانی لاستثمار هذه العلاقة الأثیرة فی تولید المعنى والوصول بالنص إلى درجة عالیة من درجات التعبیر المستند إلى الترمیز.
فالابن هنا لیس طرفًا، بل هو طرف فاعل، أو بالأحرى هو الدافع على الحوار؛ من خلال ما یطرحه من رؤى تبدو على بساطتها عمیقة ودالة، إن التوازی بین الشخصیتین لا یتم عبر التوافق الذهنی، وإنما من خلال التعارض على مستویات الرؤى والطموحات وآلیات استقبال الأحداث، واستشراف المستقبل، وغیرها من المستویات التی تتجلّى للمتلقی مع أی حوار یحدث بین الشخصیتین.
لقد تسرب وعی المرأة المتشدد إلى روح الساردة وهی ترسم خیوط الشخصیة، بدایة من تغییب اسمه، مرورًا بتصویره طفلاً ساذجًا، غیر مدرک لطبیعة سیاقه الفائت، ومستجیبًا بصورة مبالغة لمفردات سیاقة الجدید، وصولاً إلى تحوله إلى نموذج ذکوری نفعی یتماس مع أبیه "إذا رافقها فإن تضحیاته دائمًا مشروطة بالمطالب...کلما کبر صار یذکرها بأبیه أکثر کلما عاشا معًا صارت متأکدة أن کلاً منهما یسیر باتجاه معاکس للآخر، وأن علیها أن تترکه فی مکان ما فی لحظة ما، لأنهما لیسا معا طوال الوقت"[xxxiv]، غیر أن هذا التطرف النسوی اصطدم بروح الفن، وقیمة السرد کأداة تعبیریة، فکان النتاج شخصیة یمکن قراءتها على نحو متناقض، بسیطة/شدیدة العمق، صاحبة رؤیة مشوشة/مستشرفة للمستقبل، حالمة/طموحة إلخ، فالطفل الذی یسمع خبر فوز رجل أسود برئاسة أمریکا یحتاج إلى فترة لاستیعاب الحدث الجلل، یدرک قیمة التغییر الذی أحدثه هذا الرجل ومن ثم یحاول أن یستجیب لهذه الفورة التغیریة بجملة من الطلبات التی علّقها فی رقبة أمه وهو یعید قراءة مشروع أوباما قاهر المستحیل، وبقدر طموح الابن تکون سلبیة الأم العاکسة لعجزها لا عن الاستجابة لطلباته فحسب، وإنما عن استیعاب هذه الطلبات التی تطاردها من غرفة إلى غرفة، لا تجدی مع الطفل الجدید عملیةُ التسویف المفضلة للشرقیّ، یرفضها بإصراره على مواصلة الحلم، حلم التغییر لیس على مستوى مُسْتقبَله فقط، وإنما على مستوى ماضیه الممثل فی وطنه الأم، یحلم الابن بإنجلیزیة تقابلها "أیوه" المصریة أو "جائز" العربیة التی لا تشبع طموحه، وهو الحالم أن یصبح رئیسًا آخر یحقق مستحیلاً ثانیًا دون تأجیل، وکأن الابن وفقًا لهذه القراءة هو أیقونة الخلاص من سلطة الماضی الثقافیة والاجتماعیة التی لاحقت البطلة التی حاولت تحقیق هذا الخلاص باسترجاع ماضیها.
"جلسا طویلاً أمام منضدة فقیرة، وتبادلا کؤوس الماء من وعاء صاجی وضع بإهمال على الطاولة، وکالعادة ترکته یتهور فی وصف طلباته التی لم تعد تدهشها، اکتفت بتأمله وهو ینطقها بسرعة وسلاسة، وبخبرة لا تعرف من أین اکتسبها "فیجی مشروم زوکینی نودلز" واکتفت بهز رأسها تأکیدًا على طلبه، تکوّمت هذه الأشیاء فی سلطانیة صغیرة، تناولها بانزعاج بعد أن سکب بعض صویا السوس الأسود، تهوّرت بفتح حبات التوفو وقضمت العجین الهش الذی لا طعم له، ثم لفظته بسرعة، وقالت إیه ده؟ ضحک الولد الصغیر وقهقه..ماما دی مش للأکل .ده تشوفی بختک جواه"[xxxv].
بمجرد استخدام النص لضمیر الغائب المحیل إلى شخصیة داخل الکادر السردی نلفی شعورًا قد تملّکنا بأننا فی حالة انتظار لتفجّر حالة سردیة تخص شخصیة ذات حضور باذخ، ویمکننا هنا الاستعانة بلعبة تقلیدیة ولکنها ناجزة، وهی أن نقرأ المقطع بعیدًا عن معرفتنا السابقة بعمر الطرف الثانی فیه، وسنجد أننا نستبعد احتمالیة أن یکون هذا المستدعى طفلاً (قبل أن ینطق بکلمة ماما)، إنها القدرة السردیة على القول دون التصریح، هذه القدرة المخاطبة لمهارات المتلقی فی استشراف الدلالة الخفیة التی ستؤکدها فی وقت لاحق دلائل نصیة.
یضطر المتلقی للتعاطی مع إدراک یصدّره له الابن بأن ثمة فارقًا بین جیل نشأ قبل أن تترسم حدود الخریطة العالمیة الجدیدة -بفردانیتها وهیمنة القطب الأوحد على مساحات غدت أشبه بحضانات تفرخ إنسانًا جدیدًا مهیأً للدخول فی أتون عالم یعی قیمه وتقالیده ومقتضیاته- وجیل نشأ فی قلب هذه الخریطة الجدیدة وصار أحد أدواتها الفاعلة.
تواجه الأم صعوبات جمة فی أثناء تعاملها مع ابنها، حتى إن أجوبة الابن تبدو بالنسبة لها أقرب إلى ما یسمیه علماء البلاغة بالأجوبة المسکتة التی تنضوی على قوة حجاجیة مستمدة من قوة التفنید، وفعالیة المناورة، وتحدی المؤسسات السلطویة، وهو ما یضاعف من مأزومیة الموقف التی لا تنبع فقط من عجزها المادی عن تلبیة احتیاجات ابنها، وإنما من عجزها عن تضیق الفجوة التی بدت کبیرة بینهما، عن فهم طرائق تفکیره وتفسیر ممارساته المتناغمة مع هذا العالم الجدید بنزعته الاستهلاکیة لیصیر السؤال الذی یؤرقها ویحیرها "کیف ومتى استطاع أن یعی کل هذه الأمور وهما فی بدایة طریقهما إلى أمریکا رمز العالم الجدید؟" العجز عن التفسیر والفهم یعکس حیرة الذات الشرقیة المغتربة التی خرجت من سیاقها وراء حلم یحتاج مساحة مکانیة وزمانیة جدیدة لتحقیقه - أو هکذا ظنت – لتجد نفسها موزعة بین مرکزیة شرقها المرجعی والتاریخی ومرکزیة الغرب الجدید بألقته وغوایته.
تستثمر الساردة سیاق الاغتراب الذی یجمع الأم وابنها لتشدید الحصار على الرجل المتجلی نصیًا، وما یختزله من قیم ذکوریة مترسخة؛ فالساردة حرصت على إظهار أن العلاقة غیر السویة بین الرجل والمرأة لا ترتبط بالشروط الاجتماعیة والثقافیة والحضاریة والأدوار الأسریة والحیاتیة المحددة لکل منهما وإنما تتعلق –فی رؤیة بالغة التعسف- بالطبیعة الذکوریة والدلیل على ذلک –کما یظهره النص- أن تبدل هذه الشروط والأدوار لم یؤد إلى تبدل فی طبیعة هذه العلاقة، فإذا کان المتوقع أن یبرهن النص عبر شخصیة الابن - الناشئ فی مجتمع یؤمِّن علاقة سویة بین الرجل والمرأة- على عدم مسؤولیة الرجل الکاملة عن طبیعة العلاقة المضطربة مع المرأة بمنطقها التمییزی باعتباره –مثله مثل المرأة- قد خضع لسیاقات حددت له مفاهیمه المغلوطة التی أنتجت وعیًا مغلوطًا بالتبعیة فإن النص المؤنث هنا لا یلتفت إلى هذا الأمر الذی التفتت إلیه العدید من الساردات.
کذلک تستغل الساردة شخصیة الابن لتسلیط بؤرة ضوئیة على منطقة معتمة فی نفسیة الذات المغتربة، فالابن الذی یحاول إقناعنا على مدار الروایة بقدرته المذهلة على الانفلات من حنایا الماضی والهروب منه لصالح التأقلم مع واقعه، هذا الابن نلفیه فی لحظة ما یعود إلى مرکزیته الشرقیة بطابعها الذکوری المعجون بعقدة أودیب، حین یرى فی بحث أمه عن ذاتها خیانةً له، لیغدو هذا الموقف المصنوع بإحکام هو موقف اختباری صنعته مخیلةُ الساردة لتضع الابن فی مواجهة ذاته، بغیة کشف زیف رؤیته وهشاشة الذات الإنسانیة فی مواجهة تقلبات الحیاة.
ب-2 الشغف بالتفاصیل
تحفل الروایة بتفاصیل کثیرة تتوزع على ثلاثة محاور رئیسة هی؛ هند وحیاتها الیومیة فی بلاد الغربة، وذکریات طفولتها وشبابها فی تلال فرعون، وحیاة المُغتربات فی هذا الحی الأمریکی، وعلى الرغم من العون الذی قدمته الخبرة الجمالیة للمؤلفة لإدماج هذه التفاصیل فی الجسد النصی، فإن الساردة قد انتهکت –فی بعض الأحیان- حدود وظیفتها وعملها متقمصة الدور غیر المُبرر للراوی العلیم التقلیدی.
والتفاصیل التی تعنیها الدراسة تتحدّد فی تلک الأمور التی لا یُلتفت إلیها فی السّرد الذکوری بوصفها هامشًا تتدنى قیمته أمام العناصر المرکزیة الأخرى فی أثناء عملیة الرصد السردی، والسؤال المشروع هنا یدور حول المسؤول عن إقامة الحدود بین الهامشی والمرکزی؟ إنها تقالید الحکی المتوارثة منذ فن الخبر القصصی المعتمد على أفعال مرکزیة تنقلنا بوتیرة متسارعة إلى العبرة، ومنْ الذی صاغ هذه التقالید؟ إنه الراوی، ومن أسّس للراوی؟ إنها السلطة الذکوریة التی منحت نفسها الحق فی الالتفات إلى ما تراه مهمًا فی مقابل إهمال ما لا تراه کذلک، أو ما یتعارض مع مصالحها أو مع صورتها المهیمنة، أو ما قد یمنح الآخر بریقًا ینال من بریقها، لتمارس أقصى درجات النفی الذی یصبح عرفًا سردیًا واجتماعیًا مشروعًا تحت ستار الوصایة من أجل الحمایة وغیرها من الذرائع الوهمیة.
یأتی النص النسوی لیلتفت إلى التفاصیل التی أهملها الرجل فی محاولة إلى وضع المتلقی على مقصلة الاختیار بین أن یتجاوز هذه المقاطع التفصیلیة - بوصفها هامشًا سردیًا - أو یتفاعل معها لتتجلّى له دلالتها فی التعبیر عن الوضع الاغترابی الذی تعیشه الأنثى.
لن نلتفت هنا للمرصودات المرتبطة بالطبیعة التشریحیة للمرأة، وإنما سنعتنی بالجانب الآخر الذی یشکل عنصرًا مشترکًا تتباین طرائق رصده وفقًا لطبیعة المنظور الراصد ذکوریًا کان أو أنثویًا.
امتاز سرد الطحاوی بتوظیفه العناصر الأنثروبولوجیة والاجتماعیة کالألعاب الطفولیة وما یرتبط بها من أهازیج لا لدعم المنظور الواقعی للنص فحسب، وإنما لضمان تفعیل القیم الدلالیة والجمالیة لهذه الرموز، ففی روایة بروکلین هایتس تستثمر الساردة هذه الألعاب - خاصة ألعاب جیل السبعینیات- للکشف عن طرائق إحکام الوعی الجمعی قبضته على عقل المرأة، ومحاولة قولبتها کعنصر هامشی لا یحق له التعبیر أو الاختیار أو حتى البوح.
ویمکن التمثیل بالمشهد التالی الذی تستدعیه البطلة فی سیاق تأکیدها على العثرات التی تعیق حرکتها فی أثناء مسیرتها البصریة مستعینة بالتناص البصری مع لعبة شعبیة شهیرة فتقول:
"فی الحلم ترى أصحابها، وأحیانًا الرجال الذین أحبتهم، فی صمت یضمون أیادیهم ویفردونها بفرح، یتحلقون حولها کل واحد یحاول لمسها، الدبة العمیا، لیست جمیلة وربما لا تستهوی الأیادی لمسها، هی فقط معصوبة العینین وحمقاء، وتلهث وراء خیالاتها التی تعکسها الظلمة المفرطة، تدور بحثًا عن الأیادی التی تدفعها من ظهرها، وتتابع الأصوات الصاخبة حولها دون أن تستطیع الإمساک بأحد، تحمل عصا غلیظة وتطوّحها فی الفضاء حولها لتستکشف المساحات الخالیة، الأیادی المتطفلة، لا تعجز عن مُغافلتها وتدفعها، لتسقط مرة بعد مرة، وفی نهایة اللعبة تستیقظ من الحلم منهارة، معلنة استسلامها والأطفال حولها یتحلقون معلنین هزیمتها "الدبة العمیا وقعت فی البیر"[xxxvi].
استعادة ذکریات الطفولة کغیرها من الذکریات لا تتم ببراءة کما تجلت فی الماضی، بل یتم خلطها بتراکمات تکوّنت عبر عشرات السنوات لتفعیل القیم الدلالیة داخل النص "فهی تصنع معالم هذه الطفولة على هواها الآن بمنظورها الناضج المنقوع فی أیدیولوجیا الحرکة النسائیة، فتخلع علیها دلالات جدیدة بأثر رجعی"[xxxvii]، لیصبح إدراک الماضی مشروطًا بالرغبة فی إفلات الأفکار والأحداث والمطامح من أسیجتها الثقافیة.
یبدو من العسیر تحدید أوَّلیة استخدام هذه الفقرات عن الألعاب الطفولیة داخل الروایة، فهل المسار الروائی هو الذی فرض استحضار هذه المشاهد المستعادة، أو أن هذه المشاهد هی التی فرضت نفسها على النص، ولعبت الدور الحاسم فی قولبة المُتخیّل عبر هذا الإطار، إن هذه الألعاب بطاقتها الأنثروبولوجیة تدعم مفهوم الاغتراب النسوی خاصة فیما یتعلق بالاغتراب النفسی داخل الحضانة الأصیلة للذات بفعل عوامل عدة أبرزها الهیمنة الذکوریة على الوعی الجمعی وطریقة تعامله من المرأة، التی تدخل فی لعبة تجردها من سیطرتها التامة على ذاتها وتضعها فی اختبارات تتأسس على الفقد، فقد السیطرة على قدمیها (کما فی لعبة الحجلة)[xxxviii] وتشویش الرؤیة (کما فی لعبة الدبة العمیا) وکأن الفقد سمة من سمات تعامل السیاق مع المرأة، غیر أن الساردة وهی ترصد تطور هذه الألعاب لا تغفل عن تأکید النجاح الذی یتحقق فی نهایتها على الرغم من هذه السلب المتعمد الذی تستمتع به المرأة دون وعی أو بوعی مرفود بیأس من الحصول على الأفضل.
هند تتقمصها شخصیة "الدبة العمیا" التی مارستها طفلة وحولها الأطفال یغنون "والدبة وقعت فی البیر" حیث الرؤیة القاصرة والعجز عن تحدید الاتجاهات وحساب الخطوات ومقاومة الدفع، الذی لا یوجِّه وإنما یعاقب، هذا الدفع الذی یقف خلفه الرجل، مما تسبب فی وقوعها فی البئر العمیقة مرات عدیدة، بئر الخیانة الزوجیة، بئر العلاقات العاطفیة الزائفة، بئر مشاعر الأمومة غیر المتبادلة، تحاول ألا تسقط، تستعین بأدوات لحمایة نفسها، ومنها التذرع بالعنف الإبداعی، وهی تصوغ تجربتها فی مواجهة الذکور، ومحاولتهم الدائمة لإسقاطها فی البئر، واستغلاله الغمامة التی وضعت على عینها بسبب طیبتها أو قلة خبرتها بالحیاة.
ج. الفضاء الزمانی..الاستعارة الکبرى
لیست الکتابة السردیة تسجیلاً نقیًا لأحداث مُعاشة، وإنما هی تضفیر لغوی لکینونة إبداعیة جدیدة مفعمة بالدلالة، ولا یمکن اختزال هذه القیمة الدلالیة فی مجرد استیعاب الأحداث أو فهم الشخصیات المصورة والمواقف الدرامیة، فالمتن السردی یأخذ طابعًا فکریًا ظاهرًا أو خفیًا تنعکس ظلاله فی اختیارات السارد کلها التی تمضی لتحقیق هذا الهدف، ومنها اختیاره الفضاء الزمانی.
فإذا کان للزمن فی الفن مسار مختلف عن الواقع فإن لاختیار الأفضیة الزمنیة فی النص المتخیل أدوارًا تؤسس المنظومة الدلالیة للنص، وإن توشّحت فی الأحیان معظمها بالعدید من الوسائل المراوغة، وأبرزها إغراق المتلقی فی أتون التفاصیل السردیة الخاصة بعلاقات الشخصیات وتفاعلها الدرامی مع مسارات الأحداث، وهو ما یمکن أن تفککه الممارسة التأویلیة "فمعلوم أن المؤول لا یؤول من الفراغ، بل لابد من تراکم مجموعة من المعارف لدیه، تجعله قادرًا على إنتاج المعنى الذی لیس قیمةً جاهزة سلفًا، وإنما هناک إشارات دالة فی النص تقود إلیه"[xxxix].
إن هذه العلاقة بین المعنى بوصفه قیمة کبرى، والمجاز بوصفه وسیلة استثاریة لإنتاج المعنى، تستدعی مفهوم الاستعارة البلاغیة، التی تتفعل وظیفتها الجمالیة بمجاوزة العلاقات المنطقیة فی حضورها المباشر، وبُمفاتشة العلاقات الذهنیة والالتفات إلى التفاصیل وإن بدت متناثرة متباعدة، وباستثمار الطاقات التأویلیة التی تبثها النصوص "التی لم تکن شکلاً مهادنًا، أو عبثیًا، أو جامدًا، بل هی فعل مفجر لوضعیات تحول مجتمع"[xl].
فی روایة "بروکلین هایتس" تدور الأحداث فی فضاءین زمنیین مختلفین، یتم الربط بینهما عبر تقنیة الاسترجاع التی تلجأ إلیها البطلة وتحول الروایة إلى مساحة زمنیة تتأرجح بین زمنی الطفولة فی تلال فرعون، والحیاة الجدیدة مع الابن فی بروکلین، وبصیغة أکثر دقة فی الفترة بین ستینیات وسبعینیات القرن المنصرم وبدایات الألفیة الجدیدة، تعید البطلة تصویر ماضیها وحاضرها وفی خلفیة هذا تاریخ یستعاد الوطن بتمفصلاته الحاسمة التی جعلت من هذه السیرة الفردیة تجلیًا له.
وما بین هاتین الفترتین تتوزع مظاهر متعددة للنساء المقهورات، اللائی تتباین ملامحهن وأعراقهن ودیانتهن وجنسیاتهن، فنساء تلال فرعون مثل هند والضیفة وزینب وأم حنان وفاطمة القرومیة، تتجسد مأساتهن فی القهر الاجتماعی الذی تُعانینه. فیما یمکن أن نسمیه الحزن الوجودی نتیجة حیاة مملوءة بالمنغصات والأسى والظلم، حیاة یحکمها الجهل والمعتقدات والخرافات القدیمة الموروثة، وکذلک النساء المهاجرات فی أمریکا – اللائی وقعن فی حیز رصد الساردة بفضل ما هیّأه فعل الاغتراب - کأمیلیا ونزاهات وفاطیما، یعانین تبعات النظام العالمی الرأسمالی الذی لا یرحم ویسعِّر کل شیء، ویجعله قابلاً للبیع والشراء بما یؤسس لمفهوم المکان المعادی الذی "یتخذ صفة المجتمع الأبوی بهرمیة السلطة فی داخله وعنفه الموجه لکل من یخالف التعلیمات، وتعسفه الذی یبدو وکأنه ذو طابع قدری"[xli].
یمکن تبین حدود هذه العلاقات ومن خلفهما القیمة الدلالیة الکبرى للفضاء الزمنی بمقاربة هذه المقاطع النصیة:
"بیت أم حنان صار یستقبل مزیدًا من الضیوف، بعضهم یرتدون هذا العقال والغترة البیضاء.. یحمل بعضهم بعد عدة أشهر صدیقتها (حنان) إلى بلاده البعیدة، البلاد التی هی أبعد من الأردن والعزبة الحمراء، وأبعد من کل ما یعرفنه من بلاد، ستعتزل أم حنان شغل الماکینة والخیاطة..النساء فی البلدة یطرقن بابها لیعاینّ البضاعة الجدیدة، العبایات السعودیة، والإیشاربات الخلیجیة، والإسدال الأسود، والجوارب الثقیلة للمحجبات، استبدلت لقبها من الست إلى الحاجة أم حنان"[xlii].
"ومع حرکة تنقلات الحقائب تغیرت حرکة الحیاة، فلم تعد فاطمة القرومیة تحمل فی یدها تلک البقجة القماش التی تجمع فیها قطع الملابس النسائیة الصغیرة..صارت تسیر فی الشارع حاملة حقیبة من الجلد فوق رأسها.. ارتدت إسدالاً أسود طویلاً یتناسب مع صنعتها الجدیدة، حیث افترشت الأرض أمام مسجد النور لتبیع المسک والسواک والمصاحف وطواقی الرجال، والکتب الدینیة، وبعض وصفات الطب النبوی لعلاج ضیق التنفس، ووجع الرأس، وما إلى ذلک من بضائع، أصبح جسد فاطمة القرومیة ضخماً، تفترش به الأرض، فتبدو مثل جمل بارک، أو کتلة من الشحم لکنها مازالت تهتز، وهی تشاکس العابرین"[xliii].
"وتناثر الناس الذین یعرفهم، بعضهم فی العراق وبعضهم فی الخلیج، وتطوحت على حبال الغسیل فوق البیوت ألوان البطانیات المورقة التی تأتی من الخارج، ناعمة وممتلئة بالدفء والرخاء، نشر البطانیة عادة ما یترافق مع ستریو من لیبیا، وتلیفزیون من بورسعید...یدخل (الأب) إلى حجرته بعد أن یقول اللی تأتی به ریح الشام تأخذه ریح الیمن، ربما کان یوجه تلک الجملة إلى الأم التی صارت تراقب بقلق أوضاع السقف والأغطیة البالیة والملابس التی تعید إصلاحها مرة بعد مرة"[xliv].
یمکننا ببساطة استثمار هذه المقاطع النصیة للتأکید على استراتیجیة خطاب المظلومیة الذی تتبعه المرأة فی أثناء صیاغة إبداعها، فی محاولة للانتقال من حالة المناهضة إلى حالة التمرد فالثوریة، ولیست هذه النماذج النسائیة سوى أدلة نصیة على هذا النمط الخطابی، غیر أن النص بقدر ما یوجّه إلى هذا الفهم، بقدر ما یوجه إلى تساؤل عن جدوى تصویر الشخصیات النسائیة داخل الروایة بوصفها شخصیات مستسلمة لمصیرها، ومتقبلة لقهر الرجل لها دون أدنى مقاومة – وهو ما یتعارض مع تیمة المقاومة التی تبنتها میرال فی أعمال سابقة کالخباء والباذنجانة الزرقاء – هنا یحضر الزمن أو بالأحرى الزمنان لیوجّها لفهم خاص -لهذه التناقضات کلها- یستمد شرعیته من الوعی "بأن اللغة تعید إنتاج الواقع، وینبغی أن نفهم ذلک بالطریقة الأکثر حرفیة، وهی أن الواقع یتم إنتاجه مرة أخرى من خلال اللغة"[xlv]، فالروایة تدور فی زمن ما بعد أحداث 11 سبتمبر، کما تستدعی البطلة بشکل دائم زمنًا فائتًا یمکن تحدیده بمنتصف السبعینیات، حیث سیاسة الانفتاح والخروج إلى بلاد النفط والعودة بأموال هذه البلاد، وجملة من الممارسات المستندة إلى نسق قیمی مغایر للنسق القیمی التقلیدی فی المجتمع المصری آنذاک، وبمزید من القراءة الاستقصائیة یمکن اکتشاف محاولات النص الدائمة الربط بین هذه الممارسات ومفهوم الأصولیة الدینیة[xlvi] التی استغلتها الدولة لتحیید قوى سیاسیة أخرى وضمان توازن لم یتحقق، فی الأصولیة یتقدم الرجل، وتتأخر المرأة التی تصیر هامشا فی مقابل المتن الذکوری المسیطر الذی مارس قمعه على مخالفیه بوسائل تختلف عن حقبة العهد الناصری، غیر أن هذا القمع اتسعت دائرته عبر فاعلین مباشرین جُدد بعد أحداث الحادی عشر من سبتمبر، التی جعلت العالم ینظر بتشکک إلى المنتمین للعالمین العربی والإسلامی، وازداد الأمر سوءًا باعتراف الأصولیین بمسؤولیتهم عن هذه الأحداث –حتى إن بعضهم فسر هجوم سبتمبر بأنه قد ورد ذکره فی القرآن الکریم مدللین على ذلک بعملیات حسابیة غریبة تثبت أن هذا الهول العظیم وقع کما حدده الله تعالى منذ أکثر من 14 قرنًا کما تذکر الروایة- مما جعلهم عرضة للقمع ولممارسات إقصائیة طالتهم کما طالت کل من ینتمی إلى عالمهم مما زاد من أعباء الجالیات العربیة والمسلمة فی المجتمعات الغربیة.
إن انتقال الأصولیین فی هذین الحیزین الزمنین بفضاءیهما الآنی والماضی من موقع الفاعل إلى موقع المفعول یشکل انتصارًا للساردة، أو بصیغة أخرى ترجمة لرغبة انتقامیة حققت بها الساردة شهوتها فی النیل لیس فقط من الطبیعة الذکوریة کقوة مهیمنة ولکن من کل الأنساق الثقافیة الزائفة، التی ترتبط بهذه القوة وتشرعن لها، وتکسبها مزیدًا من الرسوخ فی المنظومة القیمیة والسلوکیة للمجتمع - وهو ما دعمته الروایة عبر مشاهد عدیدة، تکشف عن موقف النص الأیدیولوجی من الأصولیة الدینیة ومظاهرها المختلفة- لیس فی مصر فقط ولکن فی أرجاء العالم الفسیح- التی تخضع للتبئیر النقدی لدورها البارز فی ترسیم حالة الاغتراب ولنهوضها بعملیة التمویه[xlvii] التی تشمل کل الجوانب الأیدیولوجیة السیاسیة والأخلاقیة والدینیة والعلمیة والفکریة.
إن هذا التصور للعلاقة بین المثقف والأصولی لا یمکن فهمهما بمعزل عن العلاقة بین المثقف والسلطة المؤسسة على إقامة تعارض جوهری بین منطلقات کل منهما وأهدافهما، فإذا کانت السلطة تسعى إلى تثبیت وجودها من خلال تسخیر قوى التقالید والعادات وبعض التفسیرات للنصوص المقدسة فی مواجهة کل تغییر محتمل أو تصور معارض، فإن المثقف یسعى إلى اجتراح أسئلة تحرج السلطة وتنتقد سلوکها وتکشف عن ضعف رؤیتها التی تسعى إلى فرضها على الجمیع.
د- اللغة وتجلیات الاغتراب
تمثل اللغة إحدى أدوات التشکیل النصی التی ترکن إلیها الساردة لضمان الکفایة الدلالیة والجمالیة للمسرود، ففی روایة بروکلین هایتس یعمد النص إلى تنشیط الوظیفة الرمزیة للغة، وبالتوازی استثارة الطاقة التأویلیة للمتلقی، الذی یدرک منذ الوهلة الأولى، أن الخطاب اللغوی المقدم له یختزل جملة من القیم الظاهرة والمضمرة، المرتبطة بفعل الاغتراب کما شکَّله الوعی النسوی.
یتحقق هذا التمثیل الخاص عبر عنصرین یترجمان بوضوح حساسیة المرأة فی تعاطیها مع اللغة وهما العنوان والنص الشعری وما یرتبط بهما من امتدادات نصیة.
د-1-العنوان..تضافر البنیة والدلالة
یمثل العنوان –بوصفه مجموعة من الدوال اللسانیة- نصًا موازیًا یحدد "وجهة التخییل ومن ثم العوالم الممکنة التی تبدأ فی تشکیل ذهنیة القارئ"[xlviii] بما یجعله أحد أبرز المُرشِّحات الدلالیة التی یعبِّد بها الساردُ السبیلَ القرائی لمتلقیه لتوجیهه إلى بؤرة النص الدلالیة، وبطبیعة الحال فإن طرائق التوجیه تتباین من سارد إلى آخر، وتتفاوت بین التصریح والتلمیح عبر أدوات لغویة متعددة یتم استثمارها لتحقیق الهدف نفسه.
یحیل العنوان (بروکلین هایتس) بصیغة مباشرة إلى مکان بعید عن عین المتلقی العربی، الذی یدرک منذ اللحظة الأولى لاستقبال العنوان أن المکان لیس عربیًا دون أن یحدّد على وجه الدقة مرجعیته، وهو أمر تتضاءل قیمته فی ضوء نهوض العنوان بدوره فی التمهید لظاهرة الاغتراب التی ستفیض الروایة فی تفاصیلها، خاصة عندما یدرک القارئ مع الصفحات الأولى أن المکان المشار إلیه عبر العنوان یرتبط بجسر بروکلین الذی یربط موقعه الجغرافی بین عالمین، وهو ما یحوّل هذا المکان إلى قیمة استعاریة أفاد منها روائیون اهتموا بقضیة الهجرة وتبعاتها المادیة والنفسیة[xlix].
ویستثمر السارد هذه العتبة النصیة لدعم البنیة الدلالیة للنص؛ وذلک حین یحوِّل العنوان إلى بنیة لغویة تحمل قیمًا رمزیة تتجلى بوضع التشکیل اللغوی فی توازٍ مع التشکیل الدرامی، فلیس من المألوف أن تجد روایة عربیة تحمل اسمًا أجنبیًا على هذا النحو الواضح، فبنیة العنوان الثنائیة تتشکل من منطوق أجنبی برسم عربی، وهو ما یحفز للنظر إلى هذا الثنائیة اللغویة بوصفها انعکاسًا لنظیرتها الدرامیة المتمحورة حول علاقة الأنا بالآخر، عبر صیغ متعددة تنفتح لتشمل ثنائیة العربی والغربی، رصد الغرب بعیون شرقیة، وصورة الشرق فی عقلیة الغرب، وقراءة الشرقی لذاته بعیون غربیة، ورغبة الشرقی الصغیر فی الانعتاق من أسر التقالید الشرقیة المصدّرة له عبر أمه، وعجز الشرقی عن الانفلات من ماضیة والانخراط فی مستقبله، ونجاح غیره فی تجاوز الراهن لصالح المستقبل عبر خطوات تدریجیة، وغیرها من الثنائیات التی یمکننا الاستمرار فی ثبتها بدعم من مجریات الأحداث، وحرکة الشخصیات داخل العمل، ولکن الدراسة تراهن على أن العنصر الأکثر أهمیة الذی نجح العنوان فی تجلیته هو "التنازع" الذی یحضر هنا بوصفه تنازعًا لغویًا یحیل إلى تنازع آخر على مستوى الهویة تفیض الروایة بتفاصیل کثیرة حوله، خاصة فیما یتعلق بالبطلة هند.
ویمثل المشهد الأخیر فی الفصل الحادی عشر أکثر المشاهد وضوحًا على حالة التنازع التی تتلبس البطلة؛ بحیث تذوب شخصیة هند فی مختلف أشکال الأعراق التی یموج بها حی بروکلین هایتس.
"تنظر إلى الأرض فیعتقد المارة فی الأفینو السابع أنها یهودیة متدینة، فیهدونها إعلانات بیت ألوهیم وینادونها بسیدتی الیهودیة الصغیرة..یتکهنون بأنها یهودیة مشرقیة، ومع ذلک یعتبرها اللاتینیون بامتلائها وبشعرها الأسود هسبانک، والهنود أیضا یهزون لها رؤوسهم..ویقولون لها کشمیری أی أنتِ من کشمیر... ثم تنظر فی المرآة فلا ترى روحها..ترى فقط مجرد امرأة وحیدة تشبهها"[l].
یعکس هذا التشویش أمرین، أولهما أن نمطًا آخر من أنماط التنازع الحضاری أثَّر فی التشکیل الإبداعی، ولا نقصد هنا نمط التنازع الحضاری التقلیدی بین الأنا والآخر –الذی اُختزل طویلاً فی الأوروبی ولاحقًا فی الأمریکی- وإنما نعنی تنازع الرؤیة الواحدة فی النظر إلى هذا الغربی، مما أنتج صیغتین متناقضتین فی التعامل معه، فهو الآخر المتطور کافل الحریات، وراعی العلم والمعرفة، وفی الوقت نفسه هو المستعمر المستلب القاهر، المؤسس حضارته على دماء الآخرین، فهو النموذج الذی ینبغی احتذاؤه، وهو المرفوض بسبب ممارساته التاریخیة، إننا أمام حالة تجاوزت مرحلة تحقّق الوعی ولم تصل بعد إلى مرحلة اکتماله لعجزها عن توحید موقفها تجاهه[li].
أما الأمر الثانی فیتمثل فی ضبط العلاقة بین المثقف وحالة الغربة المضاعفة التی یبدو ساعیًا إلیها باختیاره أن یکون حرًا ومستقلاً ومهمومًا بالبحث عن الحقیقة فهو "لا یکف عن الإحساس بأن المنفى یلازمه أینما حل، وأینما ارتحل، یشکل له مصدر مفارقات وقلق دائم، لا یستقیم معه العیش فی الوطن الجدید حتى فی ظل مراتب عُلیا..وذلک تحت تأثیر حضور الوطن الأصل، بکل ما یحیل إلیه من معنى فی الفکر والزمان والمکان والأهل، ومن جهة أخرى لشعوره بأن فکرة الشقاء فی المنفى تمنحه نوعًا من السعادة وتدفعه إلى اجتراح أسلوبه الخاص فی التفکیر ورؤیا العالم"[lii].
إذا کان العنوان بطبیعته المکتنزة ظل محتفظا بالجرس العربی للمفهوم الغربی فی إشارة إلى فحولة الثقافة العربیة القادرة على الهضم والاحتواء فإن المتن الروائی بمساحته الرحبة وتنوع شخصیاته - وخاصة شخصیة الابن المنفلت من حنایا المرجعیة العربیة صوب نظیرتها الغربیة – فضلاً عن الاحتفاظ بعناوین الفصول برسم عربی لأسماء أجنبیة[liii]، فإنه عمد إلى إثبات الحرف اللاتینی فی العدید من المواقع منطلقًا من الکلمة إلى الجملة وصولاً إلى مقاطع کاملة[liv]، مُدلّالاً على أن تنازع الهویة المنحاز إلى الماضی لدى الأم - غیر القادرة على الحدیث بالإنجلیزیة[lv]- لا ینطبق على الابن أو بالأحرى على الجیل الجدید.
فالکلمات الأجنبیة داخل الروایة، وصیاغة الجملة المستندة إلى التقطیع، لیست ترجمة لغویة لحالة الاغتراب المهیمنة على النص فحسب، وإنما تتحول إلى أداة لتضخیم حالة انشطار الهویة، التی لا تقف عند حدود الذات، وإنما تتعداها إلى حدود علاقتها بالآخر القریب والبعید کما یتجلى فی المشهد التالی:
"وبرغم أنها صارت تحذره کل لیلة من العابرین والجیران والغرباء وزملاء المدرسة الأکبر سنًا، من الأساتذة وغرف الدرس والحمامات المدرسیة، واشتباکات الکرة حین یسقط علیها أجساد کثیرة فوقه، صارت تقول له إنه رجل صغیر، وتحاول أن تشرح له مختصرًا للرجولة هو ألا یتقرب منک رجل آخر، وألا یلمسک رجل آخر بمحبة، أو عنف..وتصمت غیر قادرة على حسم إن کان یفهمها أم لا، فقط یقول لها fine"[lvi].
یشکل الاغتراب اللغوی الحاضر بحضور الکلمة الإنجلیزیةfine فی المشهد السابق تجلیًا لمفهوم انشطار الهویة الذی یحول دون قدرة الذات على التواصل مع امتدادها، وعدم التیقن من جدوى عملیة التواصل، التی تتخذ بُعدًا شکلیًا على مستویی تعدد الأصوات المتحاورة، والقیمة التأثیریة للخطاب؛ فعلى مستوى المتحاورین، یؤدی هذا الانفصال اللغوی إلى انفصال مواز على مستوى الطبیعة الحواریة التی تتقلص لتغدو أقرب إلى مونولوج تخاطب به الذات نفسها، وتسعى عبره إلى اختراق أضالیل من الذاکرة، وتفتیت بعض قیود المجتمع وأقانیمه؛ باللجوء إلى التمثیل المفارق، لیتضخم الصوت الفردی وتتقلِّص مساحة الصوت الآخر کمیًا وکیفیًا "لأن الحدث سیتعمّق فی بناء رأسی ینغلق دون الأصوات، لا فی بناء أفقی یتّسع للأصوات"[lvii].
أما على مستوى القوة التأثیریة للخطاب، فهو یستند إلى نظام ثقافی شرقی مشبع بالحدود والحصون العتیقة، التی ترهِّب من التعامل مع الغریب القابع فی المجهول، وعدم منح الثقة له إلا بعد تقدیم براهین استحقاقه لها، خاصة فی ظل اضمحلال للقانون الحامی بما یضاعف من مسؤولیة الذات فی حمایة ذاتها، وتحمُّل عواقب التهاون وعدم الحذر، هذه الهویة الشرقیة هی التی توجه الخطاب الوعظی التحذیری للأم، خطاب یعتمد مبدأ الترهیب، لیصطدم بخطاب آخر یناهضه عبر صیاغة لغویة مضادة على مستویی طبیعة الحرف الرمزیة وعدد الکلمات، لتصیر الحروف اللاتینیة مدلولات لسانیة، توزع على الطبقتین السطحیة الرافضة للخطاب المصبوغ بالنکهة الشرقیة، والعمیقة التی ترى فی کل هذا الکلام -وما یختزله من أنساق- هراء لا یستوجب المناقشة أو الاستفسار أو الاستعلام.
بقى أن نشیر إلى أن العنوان یحیل إلى نظیر فنی یرتبط بالغرب فی إطار التزام فنی واضح بالربط بین السیاقین الشرقی والغربی عبر أدوات متعددة، حیث تنشط ذاکرة المتلقی فور مقاربة العنوان لتنفتح على آفاق عالمیة تحیل إلى روایة أمیلی برونتی EMILY BRONTE الشهیرة وذرینج هایتس" WUTHREING HEIGHTS وهی إحالة تفید القراءة فی انتقالها من إطارها الشکلی إلى عمقها الدلالی؛ حیث تشکل تیمة الخروج العنصر المفصلی فی الروایتین، ویمثل استدعاء الماضی للثأر منه الممارسة المتکرر على مدار العمل، أما النهایة العاکسة لعدم شعور الذات الخارجة بعدم الراحة فإنه یتحقق فی النصین باعتبارها نتیجة حتمیة للتحرک عبر استراتیجیة النیل من السابق لا النظر إلى المستقبل، إن عملی برونتی ومیرال یرتکزان على عنصر رئیس وهو الانتقام، الانتقام من الذات الذکوریة فی عمل میرال ومن السیاق الاجتماعی المحیط فی عمل برونتی.
د-2- الشعر أیقونة تطور الوعی
هل تملک النسویة فائضًا دلالیًا یغوی بحصر القیم الشعریة – بمفهومها الواسع - للنص فیها دون غیرها؟
یبدو السؤال مفخخًا من ناحیة الانزلاق نحو الإجابة بالإثبات أو النفی، لا لأن الاختیار بینهما غیر مشروع، ولکن لأن العلاقة بین القیم الشعریة الکامنة فی النص والاتجاه المنتمی إلیه تبدو أکثر تعقیدًا من بساطة مقاربة أحدهما فی غیبة الآخر، کما أن النصوص لیست على المستوى نفسه الذی یسمح بتحیید مفهوم النسویة فی أثناء التعاطی معها، فبعض النصوص تعنى بتجنیس نفسها بوصفها نصوصًا نسویة - مفاخرة أو مناهضة- عبر وسائل تشکُّل متعددة.
ومن هذه الوسائل انتقاء عتبات نصیة توجه إلى المنظور النسوی فی قراءة العمل، وهو ما یتجلى فی الأبیات الشعریة التی صدرت بها الساردة روایتها مستعیرة لها من شاعرة أخرى هی الشاعرة الإیرانیة "فروغ فرخزاد"، التی تقول:
" مضى الزمن.. ودقت الساعة أربع دقات.
وها أنا امرأة وحیدة على عتبات فصل البرد.
بردانة أنا بردانة کأننی لن أدفأ أبدا.
عریانة أنا عریانة کفترات الصمت بین أحادیث الحب.
ثمة ریح فی الزقاق.
وأنا أفکر باقتران الزهور والبراعم ذات السیقان الرفیعة على عتبة فصل بارد"[lviii].
إذا کانت الکتابة کما یقول بارت "تظل ممتلئة بذکرى استعمالاتها السابقة، لأن اللغة لا تکون قط بریئة، فالکلمات لها ذاکرة ثانیة تمتد بغموض وسط دلالات جدیدة"[lix] فإن هذه العتبة النصیة تشی بالطبیعة النسویة للنص، لیس على مستوى التصنیف الجنسی للشاعرة –التی تجمعها ومؤلفة الروایة علاقات تشابه کثیرة[lx]- فحسب، وإنما على المستویات الموضوعیة والإنسانیة التی یطرحها النص الشعری بوصفه نصًا موازیًا للنص السردی من زوایا متعددة، أبرزها طبیعته الخاصة کمناجاة ذاتیة تتوسل بفعل البوح الذی تتردد أصداؤه فی الکثیر من مشاهد المتن الروائی، حیث تشتبک العین مع الذاکرة، وحیث یمتزج إیقاع السرد ولغته بروح الشعر وجمالیاته، وحیث تتحول الأنا الفردیة وتجربتها الأحادیة إلى أمثولة تتجسد عبرها مسیرة الذات الجمعیة وأحلامها وانکساراتها ورؤاها للعالم فی تجلیاته الماضیة والحاضرة والمستقبلیة، وحیث یتحول الاغتراب إلى حالة قدریة لا فکاک للذات منها فی تماس حاد مع الرؤیة الصوفیة[lxi].
ومع تطور فعل القراءة وتنامی وعی القارئ بالقیم التی تتضمنها الروایة یتکثف الوعی بالوظیفة الدلالیة للنص الشعری المُتناص معه، وتطغى على بقیة الوظائف، وذلک فی ظل محفزات نصیة تتشکل مع إعادة قراءة المتن الشعری الاستعاری فی ضوء متمخضات فعل القراءة التداولی، حیث یمکن للقارئ أن یستغرق فی الربط بین مضی الوقت والدقات الأربع وعمر بطلة العمل، ودخولها إلى مرحلة عمریة جدیدة، تتذرع فیها بوحدتها فی فضاء تاریخی جدید، تواجه فیه عالمًا مختلفًا یتسم بالبرودة الطبیعیة والإنسانیة على مستوى المشاعر، وما یترکه هذا التباین بین السیاق الأصیل والجدید من شعور بالیأس (لن أدفأ أبدا) مقرون بالخوف وعدم الشعور بالأمان (عریانة -بردانة) ، وإن ظل الرهان على المستقبل أو على عتبة "فصل بارد"[lxii] - أو بالأحرى الحلم بالقادم، مُتجسِّدًا فی الجیل الجدید أو تحقق أحلام الذات – حاضرًا بخفوت.
وعلى الرغم مما یمکن توقعه من تباین على مستوى القراءة فی هذا المفتتح الشعری، فإن العنصر المشترک بین هذه القراءات المتوقعة سیکون التعاطف مع هذه المرأة، التی تعلن وحدتها مستجدیةً تعاطف المتلقی الشرقی الذی یقرأ روایة مکتوبة بلغته، ومتکئة على حکمة متوارثة مفادها أن قوة المرأة فی ضعفها، هذا الضعف الذی تعمدت الساردةُ إظهارَه لاستقطاب المتلقی وضمان وقوفه إلى جانبها وهی تسرد.
والسؤال الذی نرى من الضروری طرحه هنا یتعلق بسبب افتتاح الروایة بهذا النص الشعری، والسؤال هنا یتخطى القیمة المضمونیة للنص –وهو ما عرجت علیه الدراسة فی الفقرات السابقة- متوجهًا إلى الطبیعة التجنیسیة له بوصفه نصَا شعریًا، أو بصیغة أخرى هل راوغت الساردة عبر هذه الافتتاحیة الشعریة لتمریر قناعاتها الذهنیة المتمخضة عن تبنیها المنظور النسوی فی مقاربة العدید من القضایا؟
یمکن اعتبار هذا النص الشعری مفتتحًا تأویلیًا یتوارى خلف السیاجات الدلالیة والموسیقیة للنص، فثمة معطیات نصیة متناثرة داخل المتن الروائی یمکن أن تتضافر مع القراءة التأولیة لتقدیم رؤیة واضحة تجاه هذا الأمر، فالبطلة تحمل اسمًا له رصید باذخ فی دیوان الشعریة العربیة التقلیدی بوصفها حافزةً (مبهمة) للإنتاج الشعری، والبطلة تحلم بأن تکون شاعرة تکتب دیوانها الأول- الذی لن تکتبه أبدًا- الذی یحمل عنوان (لا أشبه أحد)، غیر أن تطور وعی البطلة وتطور رؤیتها من وهم التفرد إلى حقیقة التماثل مع الکثیرات من بنی جنسها یتم معادلته داخل النص بالتمرد على النص الشعری لصالح السردی، لأن الشعر هو أیقونة تحکم المجتمع الأبوی، فی الذائقة الجمعیة ووضع شروط خاصة ترتبط بالقیمة فی المعلن، وبأهداف الهیمنة ومنح السلطة فی باطنها، إنه الصوت الواحد الذی لا یسمح بالتعدد، الذی یحوز سلطة الحدیث بلسان القبیلة والمجتمع والحبیبة وحتى العدو، بینما السرد بکل ما شمله من بولفونیة صوتیة وفکریة یظل بعیدًا عن الضوء وفق هذا المنظور، لهذا تبدأ هند بالشعر فی استجابة لسطوة التقالید التی ترفضها، ولکن تطور وعیها بذاتها وسیاقها یشجعها على اکتشاف روعة السرد وجمالیات القص وبلاغة التمثیل، لتترک دیوانها ناقصًا متمردة على الاستمرار فی ولوج عالم فرضه علیها الآخر، قبل أن تکتشف ذاتها وتکتشف معها بیتها الجدید الذی ستصیغه عبر الانخراط فی تجربة روائیة سردیة حرة وصادقة.
"تحلم هند ببیت یحتضن الشارع، تستطیع أن ترى ما بداخله دون أن تطرق بابه، تستطیع أن تفترش باحته وأن یحدثها المارة إذا عبروا، أن تشم رائحة الطبخ ومساحیق الغسیل، وعرق الغرباء الذی ینسکب أمام عتباته، لکن باب بیت أبیها کان دومًا عالیًا، ومغلقًا، تقف خلفه ویقف أمامها"[lxiii]
تتعدى قیمة البیت الروائی المقصود هنا الممارسة التعبیریة، لیتحول السرد إلى مدار تتحصن به الذات فی مواجهة السلطة الأبویة، مؤسسة مساحتها الذهنیة والروحیة الخاصة، التی تعترف بالحدس وتسمح بهضم التجارب الاجتماعیة لاکتشاف حقائق الواقع وأوهامه وکأنها تنتقل من حالة الضیاع إلى حالة الاستقرار.
إن هذا الوعی المتطور لا یعنی بالضرورة تحقیق الراحة المنشودة التی تظل حلمًا، یتجسد عبر خطوات متتابعة تُعبِّد له الطریق، وإن ظلت عملیة التعبید هذه مقترنة بالسقوط الذی لا یرتبط بمواجهة الآخر فحسب، وإنما من تلعثم الذات الذی هو نتاج الوعی الیقظ الساعی إلى تجنب السقطات تمامًا کما یحدث عندما نراقب حرکة قدمنا مما قد یقودنا إلى السقوط.
الخاتمة
یمکن إیجاز أبرز النتائج التی توصلت إلیها الدراسة فی النقاط التالیة:
- سعى النص إلى تحقیق الانسجام بین هیکلیه البنائی والموضوعی، من خلال دعم محفزات التشابک بین النصین السیریّ والروائی - على المستویین الإنتاجی والاستقبالی – وما یتمخض عنه من حالة تردد بین داخل النص وخارجه، فی تماس مقصود مع جوهر فعل الاغتراب.
- شکل استدعاء الماضی عبر ذاکرة البطلة إحدى الأدوات التی لجأت إلیها الساردة وهو تشکل معالم عالمها الاغترابی، وفضلاً عن دور الذاکرة فی التحکم فی أفعال الشخصیات الراهنة، وفی توقیع السرد، فقد غدت (الذاکرة) محورًا من محاور التوظیف الدلالی، بتفتیت الذاکرة الجماعیة من الصور الذهنیة النمطیة، وإعادة قراءة الماضی بجناحیه القریب والبعید، من أجل فهم أعمق للحاضر، وفی بعض الأحیان لعقد نوع من المصالحة مع التاریخ.
- دمغت الساردة ماضیها المُستعاد بنوع من الحزن المخلوط بمظاهر القهر المتوالی الذی لون معایشتها لواقعها الجدید ولونه باللون الرمادی، فکل مکان أو شخصیة أو حدث فی "بروکلین هایتس"، یقابله بصورة مباشرة مکان أو شخصیة أو حدث فی "تلال فرعون"، وکأن الذات لم تکن مخلصة فی رغبتها فی الانعتاق من هذا الماضی، وکأنها کذلک لم تکن صادقة عندما صرحت برغبتها فی اختراق سیاجات الوطن والبحث عن وطن جدید بحدود أرحب وسیاجات شفیفة.
- لجأ النص إلى تأسیس عدد من الثنائیات وهو یؤسس بنیته الدرامیة؛ کالتماثل بین شخصیة هند والضیفة، وهند ولیلیت، بغیة تأطیر السرد بانعکاسات الرؤیة السوداویة التی تعکس فی أعماقها شعورًا بالقهر، أو ربما برغبة فی التحذیر من أن التاریخ قد یکرر نفسه إذا ما سرنا فی الطریق نفسها.
- ساعد اختیار اسم "هند" فی نقل الأنثى النصیة من طبیعتها الفردیة إلى رمزیتها الجماعیة، التی جعلت الشخصیة فی النص ﺘﻠﺨﻴﺼﹰﺎ للأنثى فی المجتمع الشرقی، بکل ما یحیط به من أعراف وتقالید حاصرتها ولا تزال تقیِّد حرکتها.
- انطبعت الروایة بتأثیرات الوعی المتشدد للمرأة، التی استثمرت قضیة الاغتراب – کغیرها من القضایا – فی إیقاظ الوعی الخامل للمجتمع، بتعریضه لجملة من الصدمات، وأبرزها تحقیق مرکزیة المرأة فی مسرودها، وهو ما یعنی أن ینتقل الرجل إلى دور هامشی، یتطور فی مراحل لاحقة لیخضع إلى مظاهر الابتذال والاستلاب، والتمثیلات السلبیة، وهو ما تجلى فی الصور التی قدم بها السرد الشخصیات الذکوریة.
- على الرغم من محاولات الساردة الهروب من التناول المباشر لتسلیب صورة الأب، فإن إکراهات السطوة الفکریة، قد جعلتها تجرد الأب من مفهوم الأبوة الاجتماعیة لیغدو رمزًا للسلطة البطریریکیة یخضع - کغیره من الفاعلین الذین مارسوا قهرهم السابق على المرأة - لإعادة رسم معالمه عبر ممارسة انتقامیة تثأر من الأنساق الاجتماعیة الجائرة، محققة بهذا شکلاً من أشکال التوازن بین الماضی والآنی، والمذکر والمؤنث، والغائب والحاضر، والتاریخی والسردی، والواقعی والمتخیل.
- ساعدت شخصیة الابن کما رسمها النص فی الکشف عن حالة الاغتراب النفسی الذی تعانیه البطلة، بفضل ما تمتعت به الشخصیة من حمولات دلالیة عمقت هوة هذا النمط الاغترابی.
- إذ کانت علاقة الأنا بالآخر إحدى تیمات السرود المعنیة بقضیة الاغتراب، فإن الروایة النسویة أضافت إلى هذا التیمة بعدًا آخر، عندما وسعت مفهوم الآخر، لیشمل الرجل الذی تحول إلى آخر خاضعًا کغیره من المفاهیم المألوفة للرؤیة النقدیة لکتابة المرأة التی أنتجت تصورات جدیدة حول المفاهیم التقلیدیة.
- تمخض عن اختزال السیاق تجسید التجربة الإنسانیة فی النموذج الذکوری الأوحد تهمیشٌ لخصوصیة الذات النسویة، وما تنتجه من أسئلة خاصة تعکسها تفاصیل تتخلل المنظومة السردیة، ومنها استدعاء الألعاب الطفولیة التی مثلت إحدى حیل الذات النسویة فی تمثیل اغترابها لا عن طریق خلق واقع جدید، وإنما عبر إعادة الاعتبار لهذه العناصر الأنثروبولوجیة، کنتاج طبیعی لتعدد مظاهر التخییل، وما یتمخض عنه من إنتاج تصورات جدیدة حول الأشیاء نفسها بإعطائها نظرة جدیدة أو بالأحرى بإعادة الالتفات إلیها بعدما أهملتها العین الذکوریة.
- استثمر النص الفضاء الزمانی الروائی الممتد من فترة الستینیات إلى بدایة الألفیة الجدیدة وما تضمنه من نماذج نسائیة مقهورة فی الداخل والخارج، للکشف عن طبیعة العلاقة المضطربة بین المثقف والسلطة، وفضح الأنساق الثقافیة الزائفة التی ترتبط بهذه السلطة وتدعمها، رابطًا بین الفکر الذکوری والأصولی.
- مثلت اللغة إحدى أدوات التشکیل الفنی لظاهرة الاغتراب؛ من خلال تمثّلها مجموعة من القیم المضمرة والظاهرة المرتبطة بالاغتراب، کاستخدام الکلمات والجمل برسمها اللاتینی.
- کان للافتتاحیة الشعریة التی اُستهلت بها الروایة دورٌ فی دعم القیم الدلالیة للنص، بالاتکاء على الفحولة الترمیزیة التی هیأت الربط بین الشعر والفکر الذکوری المهیمن من جانب، والسرد بوصفه مساحة لتعدد الأحداث والأفکار والأصوات من جانب آخر.
[i] - لمزید من التفاصیل حول علاقة الاغتراب بالحقول المعرفیة المختلفة کعلم النفسی الوجودی والمعرفی والأشکال المتعددة للاغتراب یمکن العودة إلى حسن حنفی، الهویة والاغتراب فی الوعی العربی، مجلة تبیُّن، المرکز العربی للدراسات، الدوحة، العدد الأول، صیف 2012، ص 9 وما بعدها.
[ii]-لا تسعى الدراسة إلى صوغ نسیج مفاهیمی یعید رسم "الاغتراب" ومن ثم یمکن القول - بمزید من الاختزال- إنه على الرغم شمولیة دلالة المفهوم لسیاقات حضاریة عـدة، منـها : الدینی، والثقافی، والنفسی، والسیاسی، لکنها تظل معبرة عن حالة القطیعة بین الذات ومحیطها، حیث تعیش الذات فی عالم لا تسیطر علیه، وتشعر بالعجز عن ممارسة حریتها. ولمزید من التفاصیل حول المصطلح یمکن العودة إلى محمود رجب، الاغتراب سیرة ومصطلح، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانیة، 1986م.
وفیما یتعلق بعلاقة الاغتراب والغربة فإن الدلالة المعجمیة للکلمة تجمع بین المستویین المادی والمعنوی، ففی معجم العین "والغربة : الاغتراب من الوطن، وغرب فلان عنا یغرب غرباً، أی تنحى، وأغربتُه وغرَّبته، أی نحیته، والغربة: النوى والبعد" الخلیل بن أحمد الفراهیدی، کتاب العین، تحقیق عبدالحمید هنداوی ـ منشورات محمد على بیضون، دار الکتب العلمیة، بیروت، لبنان، ط1 2003 م، المجلد 3، ص 271. ویعرفه ابن منظور فی لسان العرب فیقول: "الغربُ: الذهاب والتنحی عن الناس، وقد غرب عنا، یغربُ، غربًا.. وغَربَ وأغرب وأغربَه أی نحَّاه، والغربة والغرب: النزوح عن الوطن والاغتراب" ابن منظور الأفریقی، لسان العرب، دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الثانیة 1981 م ـ ـ الجزء الخامس ـ باب العین ـ مادة غ ر ب ـ ص 3225 .
[iii] - عبد الله إبراهیم، السرد النسوی – الثقافة الأبویة.. الهویة الأنثویة..الجسد –المؤسسة العربیة للدراسات والنشر، بیروت، الطبعة الأولى، 2011، ص5.
[iv] - أصدرت میرال الطحاوی ثلاث روایات قبل "بروکلین هایتس" هی على الترتیب "الخباء"، و "الباذنجانة الزرقاء"، و"نقرات الظباء".
[v] - یمثل الأدب النسوی مثالاً جیدًا لکون شیوع المصطلح لا یعنی بالضرورة وضوح حدوده المعرفیة، فقد تعددت التعریفات الخاصة به واکتسب میوعة دفعت یل هوکس إلى القول: "یبدو أن النسویة حالیاً مصطلح لیس له معنى محدد، فقد أدى منهج قبول أی شیء المستخدم لتعریف هذه الکلمة إلى تفریغها من المعنى تماماً" انظر سارة جامبل، النسویة وما بعد النسویة، ترجمة: أحمد الشامی، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2002م، ص77.
[vi] - میرال الطحاوی، بروکلین هایتس، دار الآداب، بیروت، الطبعة الأولى، 2010م، ص7.
[vii] -نشرت مقالة بارت المتضمنة هذا المفهوم سنة 1968، وترجمت إلى الإنجلیزیة فی مجلة aspen فی العدد المزدوج5/6، لمزید من الاستقصاء حول المفهوم وصیاغته عند رولان بارت ت 1980م وتعالقاته المتشعبة بمجمل مشروع بارت خاصة ومجمل الخطاب النقدی المعاصر عامة، یمکن العودة إلى بحث هاشم میرغنی الحاج إبراهیم، من المؤلف إلى النص ..مقاربة نقدیة لمفهوم موت المؤلف لرولان بارت، مجلة العلوم العربیة، جامعة الإمام محمد بن سعود، المملکة العربیة السعودیة العدد 26، محرم1434، ص171-211.
[viii] - میخائیل باختین، الخطاب الروائی، ترجمة محمد برادة، دار الفکر للدراسات والنشر، القاهرة، 1987، ص 73 وما بعدها.
[ix] - انظر حاتم الصکر، السیرة الذاتیة النسویة، البوح والترمیز القهری، مجلة فصول، الهیئة المصریة العامة للکتاب، القاهرة، العدد 63 ص 214.
[x] - بروکلین هایتس، ص190.
[xi] - زهور کرام، نحو الوعی بتحولات السرد الروائی، مؤسسة کتارا، الدوحة، الطبعة الأولى، 2017، ص33.
[xii] یقصد بالاسترجاع "مُفارقة زمنیة تعیدنا إلى الماضی بالنسبة للحظة الراهنة، ..استعادة لواقعة أو وقائع حدثتْ قبل اللحظة الراهنة" جیرالد برنس، المصطلح السردی، ترجمة: عابد خزندار، مراجعة: محمد بریری، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومی للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2003، ص25.
[xiii] - محمد عابد الجابری: التراث ومشکل المنهج، ضمن کتاب المنهجیة فی الأدب والعلوم الإنسانیة، دار توبقال للنشر، المغرب، الطبعة الثانیة، 1993 ص75.
[xiv] - حسین المناصرة، الوعی الثقافی بالذات النسویة فی الروایة العربیة المعاصرة، ضمن کتاب الروایة العربیة المعاصرة –ثوابت ومتغیرات-مؤسسة کتارا، الدوحة، الطبعة الأولى، 2017م، ص 305.
[xv] بروکلین هایتس، ص 272.
[xvi] - المرجع السابق نفسه، ص239.
[xvii] - برزت شخصیة (لیلیث) للمرة الأولى حوالی عام 3000 ق.م بوصفها شیطانة، أو روح مرتبطة بالریاح والعواصف، فعرفت باسم (لیلیتو) لدى (السومریین) باللغة الأکادیة، فی حین أن لفظ (لیلیث) قد ظهر للوجود حوالی عام 700 ق.م فی المعارف الیهودیة باللغة العبریة..حیث ظهرت فی طبعة الکتاب المقدس(العهد القدیم) الخاص بالملک (جیمس) باعتبارها شیطان اللیل، واتخذت شکل بومة نائحة..وقد أشار لها النص باعتبارها روح أو ریح حاملة للأمراض.. ذکر فی الإصحاح 1و2 من سفر التکوین فی قصة بدایة الخلق أن المرأة الأولى المخلوقة التی لا اسم لها(من باب التحقیر ویقصد (لیلیث)) یزودها (یهوه)* بأجنحة تمکنها من الهروب من جنة عدن لتفارق (آدم) إلا أنها لم تتوقع أن یقتفی أثرها ثلاثة من الملائکة هم (سینوئی) و(سنسنوئی) و (سامینجیلوف) فیجدونها عند البحر الأحمر ویطلبون منها العودة، لکنها تأبى ذلک وترتبط بالشیطان وتلد منه 100 طفل فی کل یوم، فتتوعدها الملائکة بقتل أولادها، فتحقد على (حواء) وذریتها وتقتل أبناء حواء من البشر لأنها غارت منها لأن (حواء) خلقت من طین لتکون بدیلاً لها مع آدم.
[xviii] الوعی الثقافی بالذات النسویة فی الروایة العربیة المعاصرة، ص 318.
[xix] بروکلین هایتس، ص42.
[xx] -المرجع السابق نفسه، ص99.
[xxi] المرجع السابق نفسه ، ص 20-21.
[xxii] الوعی الثقافی بالذات النسویة فی الروایة العربیة المعاصرة، ص 342.
[xxiii] "إﻥ ﺍلنساء ﻤﺠﺒﻭﻻﺕ ﻋﻠﻰ ﻓﺤﻭﻯ ﺍﻻﺘﺼﺎل. ﻭﻓﻲ ﻤﻘﺎﺒل تأکید الرﺠل ﻋﻠﻰ ﺍﻻﻨﻔﺼﺎلیة ﻭﺍﻻﺴﺘﻘﻼل ﺍلذﺍﺘﻲ، ﺘﻤﻴل المرأة إلى ﺘﺤﺩﻴﺩ ﺫﺍﺘﻬﺎ ﻓﻲ ﺴﻴﺎﻕ العلاﻗﺎﺕ، ﻭﺒﻴﻨﻤﺎ ﻴﻤﻴل الرﺠﺎل إلى ﺍلإقصاء ﻷﻨﻬﻡ ﻴﺭﻓﻌﻭﻥ ﻤﻥ ﻗﻴﻤﺔ ﺍﻻﻨﻔﺼﺎل ﻭﺍﻻﺴﺘﻘﻼل الذاﺘﻲ، ﺘﻤﻴل النساء إلى الاحتواء" لیندا ﺠﻴﻥ ﺸﻴﻔﺭﺩ، ﺃﻨﺜﻭﻴﺔ العلم/العلم ﻤﻥ منظور الفلسفة النسویة :ترجمة ﻴﻤﻨﻰ طریف الخولی، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الأعلى للثقافة والفنون والتراث، الکویت، 2004م، ص62.
[xxiv] - بروکلین هایتس، ص 128-129.
[xxv] - هیلین جیلبرت وآخرون، الدراما ما بعد الکولونیالیة: النظریة والممارسة، ترجمة سامح فکری، مرکز اللغات والترجمة، أکادیمیة الفنون القاهرة، ص6.
[xxvi] شکری عزیز الماضی، أنماط الروایة العربیة الجدیدة، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الأعلى للثقافة والفنون والتراث، الکویت، 2008م، ص240.
[xxvii] "تعطیه ظهرها، فیکمل موضحًا ثم إنک ممتلئة جدًا من الخلف، وأنا لا أحب النسائی اللواتی، یملکن مؤخرة بحجم جبل أُحُد" بروکلین هایتس، ص 169.
[xxviii] - نزفیتان تودروف، تطور النظریة الأدبیة، ترجمة مها جلال أبو العلا، مجلة ألف، الجامعة الأمریکیة، القاهرة، العدد الأول، 1981، ص15.
[xxix] - الوعی الثقافی بالذات النسویة فی الروایة العربیة المعاصرة، ص 335.
[xxx] - بروکلین هایتس، ص141
[xxxi] المرجع السابق نفسه، ص 68-69.
[xxxii] حلیم برکات، الهویة :أزمة الحداثة والوعی التقلیدی، ریاض الریس للنشر، بیروت، 2004 ص110.
[xxxiii] بروکلین هایتس ص 15-16.
[xxxiv] المرجع السابق نفسه، ص26.
[xxxv] المرجع السابق نفسه، ص 10-11.
[xxxvi] المرجع السابق نفسه، 120.
[xxxvii] - صلاح فضل، قراءة الصورة وصور القراءة، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1997م، ص169-170.
[xxxviii] - بروکلین هایتس ص36.
[xxxix] - محمد المتقن، فی مفهومی القراءة والتأویل، مجلة عالم الفکر، المجلس الوطنی للثقافة والفنون والآداب، الکویت، 2004م، المجلد 33، العدد 2، ص 18.
[xl] - نحو الوعی بتحولات السرد الروائی ص 26.
[xli] غالب هالسا، المکان فی الروایة العربیة، فصل من کتاب: الروایة واقع وآفاق، دار ابـن رشد، بیروت، 1981، ص226.
[xlii] بروکلین هایتس ص 151-152.
[xliii] المرجع السابق نفسه، ص 184 و ص 258.
[xliv] المرجع السابق نفسه، ص 183.
[xlv] - خوسیه ماریا بوثویلو إیفانکوس، نظریة اللغة الأدبیة، ترجمة حامد أبو أحمد، مکتبة غریب، القاهرة، د.ت ص248.
[xlvi] - یتجلى ذلک فی التغیرات التی ستطرأ على سلوکیات نهى، ومدرس اللغة العربیة ص167، وهند نفسها ص87-88.
[xlvii] - یرى هشام شرابی أنه یمکن اعتبار التمویه Mystificationأحد مصادر الاغتراب فی المجتمع العربی، ومفهوم التمویه مستمد من علم النفس ویعنی حجب حقیقة شیء أو واقع ما بمختلف الوسائل والطرق .وتبدأ عملیة التمویه مع الطفل فی البیت وتستمر معه فی المدرسة، ویمارسها المجتمع فی مؤسساته وعلاقاته کافة، ویشمل التمویه کافة الجوانب الأیدیولوجیة السیاسیة والأخلاقیة والدینیة والعلمیة والفکریة، ومن خلال التمویه تتمکن الثقافة الاجتماعیة المهیمنة من فرض أفکارها وقیمها وأهدافها .ویصبح الأفراد سجناء وراضخین لأفکار وآراء القوى المسیطرة فی المجتمع البعیدة عنهم مما یزید من حدة اغترابهم.تبدأ وتورث عملیة التثقیف الاجتماعی للطفل من والدیه ومن کافة المؤسسات التی یتعامل معها فی المجتمع، فتجعله یرى الأشیاء والأفکار والمفاهیم من خلال هذه المؤسسات وأفرادها .والتعبیر السلوکی للتمویه یظهر فی سلوک یقبل الأمر الواقع کما هو ودون تساؤلات أو تشکیک، وإلا تعرض الفرد للعقاب والنبذ الاجتماعی. وعلیه، فالتمویه یساهم فی تشکیل الوعی الخاطئ، وتحطیم التمویه یمر بفترات انتقالیة تتخلـلـها فترات من الفوضى والصدام، ولکنها ضروریة لنشر المعرفة النقدیة والذاتیة، من اجل وعی اجتماعی صحیح وضروری لأفراد منتمین إلى مجتمعاتهم ومساهمین فی تقدمها.انظر هشام شرابی، مقدمات لدراسة المجتمع العربی، دار الطلیعة، بیروت 1991م .
[xlviii] - لولوة حسن العبد الله، العوالم الممکنة فی الروایة التاریخیة، مجلة أنساق، جامعة قطر، المجلد 1، العدد2، أکتوبر 2017، ص82.
[xlix] - صدرت روایة عربیة أخرى للکاتب عز الدین شکری فیشر تحمل عنوان "عناق على جسر بروکلین" تتناول قضیة الهجرة إلى أمریکا.عناق عند جسر بروکلین، دار عین، القاهرة ، الطبعة الأولى، 2014.
[l] - بروکلین هایتس ص255.
[li] - انظر إدوارد سعید، الاستشراق –المفاهیم الغربیة للشرق- ترجمة محمد عنانی، رؤیة للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 2006، ص 21
[lii] - إدوارد سعید، المثقف والسلطة، ترجمة محمد عنانی، دار رؤیة للنشر والتوزیع، القاهرة، الطبعة الأولى 2006، ص 99.
[liii] - تتکون الروایة من اثنی عشر فصلاً، تعنون تسعة فصول منها بعناوین أجنبیة صریحة (فلات بوش، بای ریدج، ویندسور تراس، کوکو بار، تانجو، اتلانتیک أفنیو، فولتون ستریت، بروسبکت بارک، بروکلین بریدج)
[liv] - من أمثلة ذلک هذه المقاطع المکتوبة بحروف لاتینیة:
" I am so in love with you, please love me what ever else you do, just love me "
بروکلین هایتس ص 235
"The tables are empty - The dance floor's deserted
You play the same love song - it's the tenth time you've heard it
That's the beginning - just one of the clues
You've had your first lesson - in learnin' the blues” بروکلین هایتس ص 231
[lv] تقول هند "لا أشعر بالضبط لماذا أحاول تعلم الإنجلیزیة، أحب اللغة العربیة، أدرِّسها، أشعر أنها فقط لم تعد کافیة، أشعر بالخجل کلما کان علی أن أتکلم بالإنجلیزیة" بروکلین هایتس ص23
[lvi] المرجع السابق نفسه، ص112
[lvii] - محمد نجیب التلاوی، وجهة النظر فی روایة الأصوات العربیة فی مصر، مطبعة إکسبریس، المنیا، الطبعة الأولى، 1996م.ص63.
[lviii] - بروکلین هایتس ص 5.
[lix] - رولان بارت، الدرجة الصفر للکتابة، ترجمة محمد برادة، الشرکة المغربیة للناشرین المتحدین، الطبعة الثالثة، 1985، ص39.
[lx]- لا یمکن أن نغفل هنا ملامح التشابه بین سیرة بطلة الروایة، والشاعرة، فکل منهما صاحبة طفل وحید، وعانت من إحباطات زوجیة، وهرعت إلى الغرب تلمسًا للدفء وتضمید الجراح.
[lxi] یقول ابن عربی "إن أول غربة اغتربناها وجوداً حسیاً عن وطننا غربتنا عن وطن القبضة عند الإشهاد بالربوبیة الله علینا، ثم عمرنا بطون الأمهات، فکانت الأرحام وطننا، فاغتربنا عنها بالولادة" - ابن عربی، الفتوحات المکیة، دار صادر، بیروت، د.ت، مجلد2، ص528.
[lxii] - "فصل بارد" هو عنوان الفصل الأخیر فی الروایة.