التَّلقي في الشِّعر والنَّقد العربي القَديم

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

جامعة القاهرة

المستخلص

لقد اهتم العالم بنظرية التلقي، التي ظهرت في العصر الحديث على يد الألمانيين ياوس وآيزر، وضج الوطن العربي بهذه النظرية ومدحها، وقد تغافل العالم دور القدماء من الشعراء والنقاد العرب، مع ما تمتعوا به من فهم واسع لعملية التلقي: أهميتها ومستوياتها، ولم يغفلوا دور المتلقي في إثراء العمل الأدبي، وإن کانت أرائهم لم تأخذ شکل التنظير الحديث، وإنما جاءت آرائهم متفرقة هنا وهناک، فهل من الممکن جمع هذا الفکر المتفرق واکتشاف مفهوم عربي خاص للتلقي، يحتفظ بهويته، ويخرج من إطار التبعية، کان ذلک التساؤل دافعا طموحًا وراء ذلک البحث.    

الكلمات الرئيسية


مقدمة

اهتم العرب مُنذ قدیم الأزل بالجُمهور؛ ولذلک  کانوا یحتفون  بظُهور شاعر فی القبیلة کاحتفائهم بظُهور نَجمٍ فی السَّماء المُظلمة؛ وما کان ذلک إلا إیمانًا بدور الشَّاعر، وقیمة ما یقدمه من شِعر؛ فهو یُرهِب الأعداء فی الحرب النَّفسیة، التی تنشأ قبل حمل السیوف، وهو ینشر الحکمة فیسمو بعقول الناس لنیل حظ من العلم والفهم ، و یُحَقِّرُ من شأن من یستحق التَّقدیر، ویرفع من یستحق التَّحقیر؛ فالشِّعر حیاة العرب إن جاز التعبیر،وهو مصدر معارفهم، إذ کانوا یعتبرونه علمًا، والعرب یقدرون الفرق بین الظُلمة والنُّور، وبین أوقات سکون الریح وشدتها، ویتأملون الطبیعة من حولهم، والشِّعر: ما هو إلا مرآة تعکس هذه الطبیعة وما یدور فیها من تفاعلات.

      وقد ظهرت فی العصر الحدیث نظریة نقدیة غربیة – وبالتحدید فی جامعة کونستانس الألمانیة- تُسمى نظریة التَّلقی، والتی قد حاولت أن تجمع بین أرکان الظاهرة الأدبیة – المُبدع، النص، المتلقی- فرفضت حصر المعنى فی النص فقط، ولم تجعل دور القارئ محصورًا فی الکشف عن المعنى، بل بناءه وإنتاجه انطلاقًا من مرجعیَّات ذاتیة قائمة على فعل الفهم من لدن القارئ، وبذلک تنبذ هذه النظریة القول بأن کل معرفة محددة سلفًا فی ذهن القارئ، وتعوِّض عنها بعلاقة حواریة بین النص والقارئ، والفرق بین المعرفة الجاهزة والمعرفة التی ینشدها القارئ کالفرق بین الاکتشاف والاختراع.

      من أبرز أعلام نظریة التلقی: یاوس، وأیزر، وقد طرح "یاوس" مفهوم أفق التوقع أو " أفق انتظار القارئ" ویقصد به الفضاء الذی یتم من خلاله بناء المعنى، ودور القارئ فی ذلک یکون من خلال التأویل الأدبی باعتبار النص هو الوسیط الذی یتم تلقیه، وقد نبه یاوس لفکرة " تغیر الأفق" و " بناء الأفق الجدید" وذلک من خلال اکتساب وعی جدید، أی المسافة الفاصلة بین الانتظار الموجود سلفًا، والعمل الجدید، حیث تتم عملیة بناء المعنى وإنتاجه داخل مفهوم أفق الانتظار بتفاعل تاریخ الأدب والخبرة الجمالیة عند المتلقی.أمَّا "أیزر" فقد أسهم فی صیاغة مبادئ هذه النظریة، حیث رکَّز على إشراک الذَّات المتلقیة فی بناء المعنى من خلال الوعی والإدراک، أی القصدیة؛ فالقراءة لدیه نشاط ذاتی نتاجه المعنى، الذی رشَّحه الفهم والإدراک، وقد ابتدع "أیزر" ما أسماه القارئ الضمنی، عوضًا عن القارئ  الحقیقی.

 قد اعتبر النقاد هذه النظریة واحدة من أهم المناهج النقدیة الحدیثة فی دراسة الأدب ونقده؛ ذلک لأنها أضافت عنصرًا جدیدًا لمکونات العملیة الإبداعیة- المبدع ، النص- والکشف عن أمور جوهریة عند تفسیر وتأویل النَّص من خلال ترکیزها على محور أساسی وهو القارئ، ومن ثم فإنَّ هذه النظریة تُؤسس بُعدًا جمالیًا للنص . والغریب أن الدراسات النقدیة العربیة ، لا شأن لها فی کل آونة إلا تلقی النظریات الغربیة بثورة من المقارنات بین التراث النقدی العربی، وبین الجدید الوافد إلینا من هذه النظریات، أو محاولات لتطبیق هذه النظریات على نصوصنا الأدبیة العربیة قدیمها وحدیثها، وهی محاولات محمودة حینما تتسم بالموضوعیة، والغریب أن نقادنا العرب نسوا أو تناسوا الفارق الزمنی الکبیر بین تراثنا العربی والنظریات الحدیثة، ثم أنه ثمة خصوصیة لکل أدب من الآداب على الرغم من التقاء الفنون العالمیة فی نقاط مُشترکة، ولکن ثمَّة أیضا مفاجآت فی هذا التراث العریق، الذی یسعى أهلُه لبیان قصوره والنَّیل منه بتلک المقارنات المُجحفة، ومع ذلک فالدارس المتبحِّر فی أعماق ذلک الخضم الواسع من التراث، سیجد ملامح حضارة فکریة متفردة، تتضح تفاصیلها بالبحث المستفیض.

إن اهتمام العرب بعملیة التلقی هذه، قد بدت فی الحرص على روایة الشِّعر، وفی إعداد الأجواء المناسبة لعملیة الإلقاء والاستماع، وذلک بإقامة الأسواق الأدبیة ومجالس الخلفاء وغیرها، وقد بدت أیضًا فی اهتمام الشُّعراء بعملیة التَّنقیح ، إذ کانوا دائمًا ما یفترضون وجود مستمع أثناء عملیة الإبداع ، وهو ما کان یدفعهم إلى أقصى حالات التجوید، بل وقد عبَّر الشعراء عن ذلک الاهتمام، وتلک الآراء التی تتعلق بهذه العملیة شِعرًا یحمل ملامح نظریة تناولها النقاد القدامى بالصیاغة والإضافة والتحلیل، ومما ساعد على تکامل الفکر الأدبی النقدی فی أغلب الأحیان، أن مجموعة من النقاد کانوا فی أصلهم شعراء، نمت علومهم لحد التألیف والتنظیر.

لم یختلف الشُّعراء وجمهورهم بکل طبقاته على أهمیة الشعر ومدى قیمته التی یقدمها للفرد والمجتمع؛ فهو "علم" یستقون منه کل أنواع المعارف، قال عمر بن الخطاب- رضی الله عنه وأرضاه-:"کان الشعر علم قوم، لم یکن لهم علم أصح منه"(1).

والعلم یظل بلا قیمة إذا بقی قید الصدور " فکل علم محتاج إلى السَّماع وأحوجه إلى ذلک علم الدین ثم الشعر"(2)، وهکذا یجعل ابن قتیبة قیمة علم الشعر فی مرتبة هامة تتلو العلم الدینی، وقد برر ذلک بمدى الفائدة التی نحصل علیها من تَعلُّم الشعر" لما فیه من الألفاظ الغریبة واللغات المختلفة، والکلام الوحشی وأسماء الشجر والنبات والمواضع والمیاه"(3).

قد کانت العرب تحرص على تعلم الشعر فهم بین عالم ومتعلم. یقول أبو الفضل الرَّیاشی:

طلبـت یوما مثلا سائـرا       فکنت فی الشِّعر له ناظما

لا خیر فی المرء إذا ما غدا     لا طالب علم ولا مُتعلمـا(4)

فالشِّعر یُورث المتعلم عذوبة فی اللسان، وفصاحةَ القول، وحسنًا للخُلق، ومنطقًا فی التفکیر، لذا قالت السیدة عائشة -رضی الله عنها وأرضاها-روُّوا أولادکم الشعر
تعذب ألسنتهم"(5).

وقال عبد الملک بن مروان لمؤدب ولده: " روِّهم الشعر یمجدوا وینجدوا"(6).

فالشعر فیض من العقول الحکیمة التی، تنقل تجربتها للوجود، فتسمو بالأخلاق، وتقضی فی الحُکم. یقول أبو تمام:

ولا سبیل سنها الشعر ما درى     بغاة العلا من أین تؤتى المکارمُ

یُرى حکمة ما فیه وهو فکاهةٌ      ویُرضى بما یقضی وهو ظالمُ(7)

ولا تنظر العرب لقائل الشعر بقدر ما تنظر إلى عقله الواضح فی ثنایا الأبیات. یقول ابن جنِّی:" إن النفس للشعر أحفظ، وإلیه أسرع، ألا ترى أن الشاعر قد یکون راعیًا جِلفًا، فلأجل قبوله، وما یُوردُه علیه من طلاوته، وعذوبة مستمَعه ما یُصَیِّر قوله حُکمًا یُرجعُ إلیه ویُقاس"(8).

      والشاعر إنسان قد مرَّ بخبرات وجدانیة، وعقلیة، ونفسیة، وروحیة أیضًا، وهو فی قصائده یخلِّد تلک التجارب والخبرات، التی عانى فی الوصول إلیها من خلال أبیاته، وذلک هو ما یُبقی القصائد أزمانا طویلة یَمرُّ علیها ما یمرُّ من الزمن، وهی شاهدة على فکر صاحبها . یقول أبو تمَّام:

ولو کان یفنى الشعر أفنته ما قرت    حیاضک منه فی العصور الذواهـبِ

ولکنَّه فیضُ العُقـولِ إذا انجَلَـت     سحائبٌ منـه أُعقِبـت بسحـائبِ(9)

والشعر دیوان العرب، وسجل أخبارهم وأیامهم" وقد ظلَّ مَعینًا ینهل منه الناس لتهذیب النفوس، وصقل الأذواق، وتثقیف الأبناء بتجارب السابقین، ووقائعهم"(10).

فالقصائد حیز ناقل لحقائق الأقوام وأمجادهم، وحُسن أو سُوء أخلاقهم.یقول دِعبل الخُزاعی فی ذلک:

من کل قافیة تحتل ثاویـة      فی صدر راویة أو کفِّ ورَّاقِ

خوابرُ بأمور الناس تخبرنا     عن لؤم قومٍ وعن مجدٍ بتصداق(11)

وبما أن أمجاد القوم تُخلَّد فی الأبیات، فهذه الأبیات هی سجِلُّ المجد والحسب،
یقول البحتری:

أیغضبُ أن یُعاتبَ بالقوافی     وفیها المجدُ والحسبُ الحسیبُ(12)

والشعر هو عزٍّ وشرف وصیت کما یقول أبو المکارم المطهر بن محمد البصری:

رأیتُ الشعر للسادات عزًّا     ومنقبة وصیتًا وارتفاعا(13)

إن مجد الشعراء وقبائلهم یتأتى من خلال توارث تلک الکلمات المحفورة على جدران الزمن من خلال تلک اللغة وذلک النظم الفرید. یقول ابن الرومی:

أرى الشِّعر یُحیى الناس والمجد    بالذی تبقیه أرواح له عطراتُ

وما المجد لولا الشِّعر إلا معاهد    وما الناس إلا أعظـمٌ  نَخراتُ(14)

وقد کانت العرب ترى فی الشعر سؤددا مُجددًا لهم على مرِّ الزمن، یقول أبو تمام:نظرًا لارتباط موضوع الإبداع بعملیة التلقی، کان من الطبعی أن یتناول هذا الفصل تلک المسألة الهامة فی حیاة المبدع، وهی وصول عمله بشکل جید للجمهور، فهاهنا تکمن لذة الإبداع، وهى أن یصل کل من الشَّاعر ومستمع الشِّعر، أو قارئه إلى لحظة المُتعة الرُّوحیة والنَّفسیة والعقلیة. والعرب قد اهتموا مُنذ قدیم الأزل بالجُمهور؛ ولذا کانت تحتفی بظُهور شاعر فی القبیلة کاحتفائها بظُهور نَجمٍ فی السَّماء المُظلمة؛ وما کان ذلک إلا إیمانًا بدور الشَّاعر، وقیمة ما یقدمه من شِعر؛ فهو یُرهِب الأعداء فی الحرب النَّفسیة، التی تنشأ قبل حمل السیوف، وهو ینشر الحکمة فیسمو بعقول الناس لنیل حظ من العلم والفهم ، و یُحَقِّرُ من شأن من یستحق التَّقدیر، ویرفع من یستحق التَّحقیر؛ فالشِّعر حیاة العرب إن جاز التعبیر،وهو مصدر معارفهم، إذ کانوا یعتبرونه علمًا، والعرب یقدرون الفرق بین الظُلمة والنُّور، وبین أوقات سکون الریح وشدتها، ویتأملون الطبیعة من حولهم، والشِّعر: ما هو إلا مرآة تعکس هذه الطبیعة وما یدور فیها من تفاعلات.

وقد کانت العرب ترى فی الشعر سؤددا مُجددًا لهم على مرِّ الزمن، یقول أبو تمام:

إن القوافی والمسـاعی لم تزل    مثل النظام إذا أصاب فریـدا

هی جوهـر نثر فـإن ألَّفتـه     فی الشعر کان  قلائدًا وعقودا

من أجل ذلک کانت العرب الأُلى    یدعون هـذا  سؤددا مجدودا

وتندُّ عنــدهمُ العُــلا إلا إذا     جعلت لها مِرَرُ القصید قیودا(29)

إن الشَّاعر حینما یذکر مکارم الآخرین وأمجادهم فإن ذلک یحثهم على الاقتداء بها، وحینما یذکر عیوب المهجو فهو یُنَفِّر المُجتمع من تَمَثَُّل صِفاته " وبذلک یصبح الهجاء الصحیفة التربویة المقابلة للمدیح؛ فالمدیح یرسم المثالیة الخُلُقیة لهذه التربیة، والهجاء یرسم المساوئ الفردیة والاجتماعیة، التی ینبغی أن یتخلص منها المُجتمع"(30).

 یقول المتنبی مُخاطبا سیف الدولة:

أحییت للشُّعراء الشِّعر فامتدحـوا     جمیع مـن مدحوا بالذی فیکـا 

وعلَّموا الناس منک المجد واقتدروا    على دقیق المعانی من معانیکا(31)

وللشُّعراء أیضًا مهمة أخلاقیة کما یرى کثیر من الفلاسفة والنقاد، یقول عمر بن الخطاب- رضی الله عنه-: " تعلَّموا الشعر فإن فیه محاسن تُبتَغى، ومساوئ تُتَّقى"(32)

وقد کان الشِّعرُ یُستخدم فی تعلیم النشء المعارف النظریة بالإضافة لغرس الفضائل وتهذیب الأخلاق فی هذه النفوس کی تُصبح نافعة لذاتها ومجتمعها فهو"  یساعد العامة على أن یرتقوا بإنسانیتهم إلى الحال الأفضل؛ لما له من تأثیر مباشر على السلوک الإنسانی والأخلاقی"(33).

والشعر باعتباره یُمَثِّل حدثًا وجدانیًا عاطفیًا یخرج من نفس صاحبه، ومن عقله وکل دخائله النفسیة والفکریة، فإن ذلک یعنی أن الأبیات ما هی إلا مرآة لفکر ونفس صاحبها ، فإما هی ذات قیمة فعلیة، أو مجرد تعبیر عن نفس لاهیة عابثة، ولذلک تنبَّه الشُّعراء والنقاد لهذه المسألة حین استماعهم له.

یقول أحمد بن یوسف الکاتب ناصحًا:

أبا حسن عان الدرایة قبل ما    تُریغ من الشِّعر الذی أنت قائلهُ

ففی الشِّعر آداب کثیر فنونها    وباطلُ لهوٍ إن تعنَّـاک باطلـه(34)

إذن لقد انقسمت قیمة الشِّعر وفقًا لطباع الشُّعراء" فذوو النفوس النبیلة حاکوا الفِعال النبیلة وأعمال الفُضلاء، وذوو النفوس الخسیسة حاکوا فِعال الأدنیاء فأنشئوا الأهاجی، بینما أنشأ الآخرون الأناشید والمدائح"(35).

ولأن النفوس جُبِلَت على محبة القیم العلیا والمُطْلَقة، خاصةً قیم الجلال والعظمة والکمال والسمو الأخلاقی، التی تستقبلها الذات المستشرفة للرقی، فإن النقد العربی قد وضع الحکمة معیارًا جمالیا ؛ لحثِّها على معالی الأمور وترک سَفسافها " کما أن الحکمة معیارٌ
له حضوره فی تحدید منزلة شِعر الشَّاعر ...وقد غدت الحکمة من أنجح طرق تلقین
علم الشِّعر"(36).

وبما أن جودة الشعر وبلوغه أعلى درجات الکمال هی أقصى طموح للشاعر، لذا فقد کان یحرص على تبنی تلک القیم من خلال أبیاته یقول ابن عبد ربه:

ومعشرٌ تنطـق أقلامهـم    بحکمة تلقنها الأعینُ

تلفظُها فی الصک أقلامهم     کأن أقلامهـم ألسنُ(37)

والشِّعر زاد یتزود به المُسافرون فی أسفارهم؛ فهو غذاء العُقول التی تتمتع بالفکر الحکیم المجرب، یقول السَّری الرفاء:

والشِّعرُ نُزهةُ قاطنٍ     حطَّ الرِّحال وزاد راحلِ

فاشرب على ریحانه    إذ راح  غضًّا غیر ذابلِ

واعلم بأن کلَّ بدیعةٍ     لُبُّ الألبـاء الأفاضـلِ(38)

قال رسول الله – صلى الله علیه وسلم_ : " إن من البیان لسِحرا"(39).

وقال:"إنَّ مِن الشِّعر لحکمة"(40).

وعلى الرغم من تلک النظرة الراقیة للشِّعر، إلا أن البعض کان یبالغ فی حکمه على الشِّعر، وهناک من اتسموا بالعدالة والموضوعیة فی الحکم علیه، وتقسیمه إلى نوعین منطقیین، یقول أبو العلاء المعری:

إن بعضًا من القریض هراءٌ      لیس شیئًا وبعضه أحکامُ

منه ما یجلبُ البراعة والفضل    ومنه ما یجلبُ البرسام(41)

إذن فالشِّعرُ منه ما یحمل المستمع على الفصاحة، ومنه ما یُعدُّ ضِربًا من الهذیان؛ ولذلک أخرج أفلاطون الشُّعراء من المدینة الفاضلة، وکان یعترض على الشِّعر؛ نظرًا لتأثیره السَّیئ فی الطبیعة البشریة بما یقدمه من نماذج ضارة" فهو یزیف صورة الواقع، ویقدم لنا نموذجًا مشوها له"(42).

وبالطبع فقد تأثر النَّقد العربی بما قرأه من کتب مُترجمة، إلا أن ذلک لا یعنی
التبعیة مطلقًا.

فنجد الجرجانی یرفض أن یرد على هؤلاء المُغالین فی نظرتهم للشِّعر یقول:" أما الشِّعر فخُیِّل إلیهم أنه لیس فیه کثیر طائل ، وأنه لیس إلا مُلحة أو فُکاهة، أو بُکاء منزل أو وصف طلل، أو نعت ناقة أو جمل، أو إسراف قول فی مدح أو هجاء، وأنه لیس بشیء تمَسُّ الحاجةُ إلیه فی صلاح دین أو دنیا"(43).

وراح یفَنِّدُ الأدلة على قیمة الشِّعر، والتی جعلت الإمام الحسن البصری یتمثل به فی مواعظه، بالإضافة لقول النبی صلى الله علیه وسلم  لکعب بن زهیر" ما نسی ربک وما کان ربک نسیًّا شعرا قلته"(44).

ثم تناول وصفًا لأهمیة الشِّعر عند الناس فقال: " إن فیه الحق والصدق، والحکمة وفصل الخطاب، وأن کان مجنى ثمر العقول والألباب، والذی قیَّد على الناس المعانی الشَّریفة، وأفادهم الفوائد الجلیلة، وترسَّل بین الماضی والغابر، ینقل مکارم الأخلاق إلى الولد عن الوالد، ویؤدی ودائع الشَّرف عن الغائب إلى الشَّاهد، حتى یُرى به آثار الماضین، مُخلدةً فی الباقین ، وعقول الأولین مردودة فی الآخرین، وترى لکل من رام الأدب، وابتغى الشَّرف، وطلب محاسن القول والفعل منارًا مرفوعًا منصوبًا، وهادیًا ومرشدا، ومَعلمًا مسدِّدًا ، وتجد فیه للنائی عن طلب المآثر، والزاهد فی اکتساب المحامد، داعیًا ومحرِّضًا، وباعثًا ، ومُحضِّضًا، ومذکِّرًا، ومُعرِّفًا ، وواعِظًا ، ومُثقِّفًا"(45).

 وقد تناول أیضًا القلقشندی أسباب تعظیم الشِّعر عند العرب، فأشار إلى ما یمیزه من أدوات تؤثر فی الناس على مدار الأزمان فقال:" اعلم أنَّ الشِّعر وإنْ کان له فضلة تُحصیه، ومیزة لا یُشارکه فیها غیره، من حیث تفرُّده باعتدال أقسامه، وتوازن أجزائه،وتساوی قوافی قصائده، مما لا یوجد فی غیره من سائر أنواع الکلام، مع بقائه على مرِّ الدُّهور، وتعاقب الأزمان، وتداوله على ألسنة الرُّواة وأفواه النَّقلة؛ لتمکُّن القوة الحافظة منه بارتباط أجزائه، وتعلُّق بعضها ببعض، مع شیوعه واستفاضته، وسرعة انتشاره، وبُعد مسیره، وما یُؤثره من الرِّفعة والصَّنعة باعتبار المدح والهجاء، وما یُحدثه من الأریحیة، وقبوله لما یرد علیه من الألحان المُطربة المؤثِّرة فی النُّفوس والطِّباع الرَّقیقة، وما اشتمل علیه من شواهد اللغة، والنحو، وغیرها من العلوم الأدبیة وما یجری مجراها، وما یُستَدَلُّ به منها فی تفسیر القرآن الکریم، وکلام من أُوتی جوامع الکَلِم- صلى الله علیه وسلَّم – وکونه دیوان العرب، ومُجتمع تمکُّنها والمُحیط بتواریخ أیامها، وذِکر وقائعها، وسائر أحوالها"(46).

أما قُدامة بن جعفر، فقد کان یرى أن الغایة النهائیة للشِّعر هی الغایة الأخلاقیة، وذلک بتأکید مفهوم الفضائل فی نفس المُتلقی، وکان یرى" أن الشِّعر یوصِّل القیم توصیلاً متمیزًا ، بمعنى أن الشِّعر لا یُقدم الفضائل تقدیمًا حرفیًا، وإنما تقدیمًا شِعریًا"(47).

ولا یکون ذلک إلا من خلال طریقة الصیاغة الشِّعریة المؤثرة، التی تتناول القیم وتقدمها بأسلوب معین یعتمد على إبرازها عن طریق المقارنة، أو بیان مظاهرها التی تتبدى فیها، وتکمن أهمیة الشِّعر عند البعض فی تعلُّم اللغة والفصاحة وأسالیب البیان، بالإضافة لکونه خِزانة الحکمة ومُستودع العلوم، وأنساب العرب، وأیامهم، ووقائعهم، وتواریخهم، وهو أیضًا"من المصادر التی تضبط من خلالها اللغة"(48).

وقد تمیز العرب بفصاحة فطریة، وذوق عالٍ وکانت طبیعتهم شِعریة؛ لأنهم " ذوو نفوس حساسة، وشعور دقیق، تقعدهم الکلمة، وتقیمهم"(49).

وکانوا أیضًا أصحاب حافظة قویة، إذا أعجبهم البیت حفظوه، وتناقلوه، ولکن
ذلک یعتمد على مدى تأثرهم بالشِّعر وإیمانهم بجماله وقیمته. یقول السَّری الرَّفَّاء ممتدحًا
بعض الأبیات:

وفصاحةٌ لو أنه ناجـى بها     سَحبانَ أو قسَّ الفصاحة أفحما

لفظٌ یُریک بدیعُه حَلْىُ الدُّمى     وطلقًـا ونوَّار الرُّبـا مُتبسِّما(50)

وقد کان العرب یُسمون الشِّعر العجیب" السِّحر الحلال، واللفظ الجمیل " وما کان تشبیه الشِّعر بالسِّحر إلا لفعل وتأثیر کل منهما فی النفس الإنسانیة، وقد ربط العرب أیضًا بین تأثیر الشعر والخمر فکلاهما مُسکِر للروح مُشعر لنفوسهم وأجسادهم باللذة والمُتعة.یقول
أحد الشُّعراء:

ببیانه السِّحر قد أخفى معاقده     لکن أرانا لسرِّ الفصل إنشاءَ

إذا أراد أدار الرَّاح منطقُـهُ      نظمًا ویُطربُنا بالنثر إن شاءَ(51)

إنَّ المتعة هی أهم غایات الشِّعر؛ فإذا لم تتحقق المتعة فلا یمکن الوصول إلى حالة التأثیر فی المُتلقی، هذه المتعة متعددة الجوانب، فأحدها یتأتی من الصورة الموسیقیة المتکاملة التی تقدمها القصیدة" فهى صورة متکاملة من الإیقاع، الذی یُساعد المتلقی على تنسیق مشاعره وأحاسیسه المُشتتة "(52)، إن هذا التأثیر الذی تحدثه الموسیقى فی نفس المتلقی یرجع إلى حدوث حالة من التنغیم تحدثها حالة انفعال داخلی بتجربة الشَّاعر التی یتقن اختیار الموسیقى المناسبة لها، یرى شوقی ضیف أنَّ هذه الموسیقى فی الأبیات هی التی تؤثِّر فی العاطفة ولیس صوت الشَّاعر وقت إنشاده، یقول:" کل نغمة فی تجربة فنیة، تؤثر فی إدراکنا، وترتفع معها نغمات عاطفیة فی قلوبنا، وآیة ذلک أننا نتأثَّر بالشِّعر حین نقرؤه صامتین، کما نتأثَّر به حین نقرؤه مُنشدین، ولو أنَّ تأثُّرنا به یرجع إلى موجات صوتیة منتظمة تنتشر على أجسادنا لَبَطُل تأثُّرنا به حین نقرؤه فی صمتٍ وهدوء" (53).

یوجد أیضًا نوع آخر من المتعة هو: المتعة الذهنیة بما تقدمه الأبیات من حِکَم ومواعظ ومعارف أیضًا، تلک اللذة العلمیة کان یُستفاد بها فی تعلیم النشء المعارف النظریة "ویسهم فی  تأدیبهم وتهذیبهم؛ لیرتقی بهم إلى الحال الأفضل، وذلک بغرس الفضائل والصناعات العملیة فیهم؛ حتى یؤدوا أفعالها التی تقودهم إلى أن یصبحوا أفرادًا نافعین فی المُجتمع الفاضل"(54).

ولعل تلک المهمة السامیة- نقل المعرفة - التی حملها الشِّعر على عاتقه هى التی شجَّعت شعراء العصر العباسی أن" یفتحوا صفحة لم تکن تخطر لأسلافهم على بال، وهى صفحة الشِّعر التعلیمی، الذی صاغوا فیه المعارف، والتاریخ والأمثال والقصص الحیوانی منظومات"(55) ولکن هذا لا یعنی أنَّ الشَّاعر کالمؤرخ، فالتأریخ یعنی ذکر الأحداث کما هى أما الشَّاعر فإنه یکشف عن قوانین العالم الأساسیة، یُحاکی الطبیعة ویجسِّد الشُّعور، ولا یمکن أن یخضع عمله الأدبی للتجرید" وبالتَّالی یصبح الشَّاعر أقرب إلى الفیلسوف، وأسمى مقامًا من المؤرخ"(56).

یتمتع الشِّعر بأدوات متعددة للتأثیر على المتلقی، وقد کان الشُّعراء یبذلون قصارى جهدهم فی الصیاغة الفنیة، فالتأثیر کان عملیة مُنظمة یقوم بها الشَّاعر؛ فهو یعرف الطرق التی یستمیل بها الجمهور، خاصة أنه إنسان یعیش معهم فی حیاة واحدة، کانت العاطفة من أهم المواطن التی یعمد الشعراء إلى استمالتها وتحریکها فی الجمهور، والصدق کان أقرب الطرق لعقل وقلب الجمهور، یقول عامر بن عبد قیس:"الکلمة إذا خرجت من القلب، وقعت فی القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان"(57).

إن للشِّعر تأثیر على عاطفة الإنسان، وبالتالی یؤثر تأثیرًا مباشرًا على السلوک الإنسانی والأخلاقی، ویساعد البشر أن یرتقوا بإنسانیتهم" وهو الذی یُفلح فی تحقیق إثارة انفعالیة ما للعوام، تدفعهم وتحثهم بدورها على إیثار الفِعل الجمیل، وتجنب الفعل القبیح" (58)  ترى ألفت الروبی أن السبب فی هذا التأثیر، هو تلک الطبیعة التخییلیة. إن التصویر الذی یستخدمه الشَّاعر حینما یجسِّد انفعالاته وخبراته یعتبر أحد اللذات الجمالیة التی یستمتع بها المتلقی، بغض النظر عن جدلیة الصدق والکذب التی نشأت حول قضیة التخییل، إلا أن إعطاء المساحة للمتلقی فی الفهم والتخیل یعد متعة کبیرة له، فالإنسان مقید فی الزمان والمکان، ولا یستطیع أن یخرج من قیدهما إلا بالخیال، فهو یمنح أجنحة للإنسان کی یحلِّق فی عوالم جدیدة، یرسمها الشَّاعر ویلونها، ویبعث فیها من أنفاسه الإبداعیة حیاة کاملة، مزروعة بألوان الفِکر والجمال، وهنا تحدث المتعة الرُّوحیة التی لا تحدث بسهولة، إلا باجتماع جمالیات متعددة فی العمل الإبداعی، بالإضافة لعملیة التخییل.

وتعتبر لذِّة الفضیلة التی تتطلع إلیها النفس الإنسانیة إحدى أنواع الجمال الأخلاقی، تلک التی یبحث عنها فی طیَّات القصائد الشِّعریة" فإن غایة الفن أن یوجه النَّاس نحو الخیر، ویبث فیهم کُره الشَّر، ویُصلح عاداتهم، ویقوِّم أخلاقهم" (59) تعتبر هذه هى النظرة المثالیة للفن بشکل عام، إلا أن هذا لا ینفی وجود الأفکار القبیحة، وبالتالی اللذة المبنیة على أساس من الفساد الأخلاقی والمعرفی؛ فالشُّعراء لیسوا على طول الخط مثالیین، فمنهم أصحاف علم وأخلاق فاضلة، ومنهم أصحاب رزیلة یعمدون لترویج الشَّر والقبح الأخلاقی، یرى الأصمعی أنَّ الشِّعر مجاله الشَّر؛ ویبرر ذلک بقوله عن الشِّعر:" إذا تناول الموضوعات الأخلاقیة والدینیة( الخیر) ضعف وتهافت"(60) وقد یکون ذلک صحیحًا لکنه لیس مبرِّرًا  لجعل الشر مجالا لذلک الفن الجمیل؛ فإذا حدث ذلک فقد الشِّعر أهمیته ودوره فی تربیة الجماهیر، ونشر المُثل العلیا، والمعرفة فی إطار من الجمال ممثلاً فی ذلک التشکیل اللغوی الفرید.

لقد استخدم ابن طباطبا مصطلح " اللذة"  لیبرر الإدراک الجمالی، الذی یصیب المتلقی أثناء تذوقه للعمل الأدبی، وهو مصطلح انتشر فی الکتابات الفلسفیة، التی انتشرت فی القرن الثالث للهجرة، وقد استخدم الشعراء هذا المصطلح کثیرًا للتعبیر عن حالة الاستمتاع التی یشعر بها المتلقی حین سماعه لقصیدة جمیلة. یصف الجرجانی الشّعر فیقول:

أتتنا العذارى فی حُلل النُّهـى     تنشر عن علمٍ وتطوى على سِحرِ

ألذُّ من البُشرى أتت بعد غیبةٍ     وأحسن مـن نُعمى تُقابَلُ بالشُّکرِ(61)

یرى ابن طباطبا أن اللذة لا تحدث للمتلقی إلا إذا أعجب العقل بالقیمة الجمالیة والمعرفیة التی یقدمها" فقدرة الشِّعر على تغییر سلوک المتلقی، لا یمکن أن تتم دون حالة إدراکیة متمیزة یفرضها الشِّعر على المتلقی..ومن هذه الزاویة یحقق الشِّعر للمتلقی أثرًا معرفیًّا لا یمکن تجاهله، ویتجلى ذلک الأثر فیما یقوله ابن طباطبا عن قدرة الشِّعر – الصادق – على اقتناص الأشیاء الکامنة فی النفوس والعقول، وإظهار ما یکمن فی الضمائر منها، وما یصاحب ذلک من أثر یتجلَّى فی ابتهاج النَّفس لانتفاعها من الخفی من العلوم، أو ما یسمیه ابن طباطبا" بانکشاف غطاء الفهم"(62).

وهکذا تکمن أهمیة الشِّعر فی تلک اللذة الدائمة والمتجددة عبر الزمن، لذة مطلقة تبدأ من مجرد الاستمتاع الموسیقی، الذی یحرک الوجدان، ثم لذة الإدراک والمعرفة، والسعادة الروحیة التی تحدث للإنسان وقت التحلیق فی سماء الخیال والصدق والجمال المطلق، وإذا کان کل نوع من أنواع الفن، یمثل متعة جمالیة خاصة، فإن الشِّعر یشتمل على کل أنواع الاستمتاع؛ لما یسمح به تعدد أدوات الشِّعر، ووسائل تأثیره على المتلقی؛ ولذلک کان من الطبعی أن یظل الشِّعر معینًا لا ینفد، ینهل منه العرب فی کل زمان ومکان، یستخدمونه فی تهذیب النفوس والأخلاق، وصقل الأذواق، والاستفادة من تجارب السابقین ووقائعهم، وفهم وسائل بیانهم وبلاغتهم، ومعرفة التقالید الفنیة والأدبیة فی أشعارهم، والتعرف على معجم فصاحتهم.یُعرِّف محمود الحسینی المرسی الشّعر من خلال مهمته فیقول:" إنه فن، بل أسمى الفنون جمیعًا، یعبِّر فیه الشَّاعر عن شعوره فی محاولات منه لخلق أشکال سارَّة تثیر اللذة، وتوصِّل العواطف والانفعالات إلى القارئین والسَّامعین"(63).

لیس کل الشِّعر جیِّد، وعلى ذلک فإن هذه اللذة لا تحدث دائمًا، وإذا حدثت  فهى متفاوتة"  فما دامت الأشعار مختلفة فاللذة الناتجة عنها مختلفة  بالضرورة، إلا أنَّ الاختلاف مردود- فی النهایة- إلى عملیة التوافق التی تتم بین نوع المتلقی وحالته، ونوع القصیدة التی یُؤثرها وکیفیاتها"(64).

لقد لعب الشِّعر دورًا محوریًا فی حیاة العرب؛ فقد کان الشَّاعر هو الذی  یحمی قبیلته ویدافع عنها، وقد کان رجل الصحافة الذی ینشر محاسنها، ویدافع عن مساوئها، یهجو أعدائها، ویمدح سیاستها، وفی العصر الإسلامی کان الشِّعر نصیرًا لدین الإسلام، ومُدافعًا عن نبیه الکریم– صلى الله علیه وسلَّم- وقد کان مصدر لذتهم واستمتاعهم، فهو فنهم الوحید وعلمهم الوحید، کانوا یقاسون الحیاة ومتاعبها، ثم یجمعهم اللیل فی حالة من السمر، والتحدث والاستماع والمدارسة والتأمل. علموه أولادهم للتهذیب، وحفظ الأنساب، والمحافظة على فصاحة اللسان ونطق البیان. ومنذ العصر الأموی حین بدأت العُجمة تتسرب إلى ألسنة العرب لجئوا لنهر الشِّعر المتدفق؛ للمحافظة على اللغة وفهم ما استغلق من الحدیث والقرآن.. فلیست هناک مبالغة إذا عرِّف الشِّعر بأنه أعظم حضارات العرب الفنیة.

بیئة العرب کانت تتمتع بمستویات مختلفة من عملیة التلقی؛ تختلف باختلاف الفکر، والذوق، والثقافة، والحالة الشُّعوریة. عند کل فرد من أفراد الجُمهور" فکل سامع له ذوقه الخاص الذی تکوَّن لدیه بالفطرة ، والتعلُّم والصَّقل، ومُعاشرة النُّصوص، وتلقیها، والتنازع فی الأشعر محکٌّ ینبئ عن مدى تباین تلقینا للنصوص، فما یجده هذا المتلقی فی شعر هذا الشاعر من الأثر النفسی والارتیاح، قد لا یکون کذلک مع متلقٍّ آخر"(65).

التلقی النقدی:

ولأن الشَّاعر یصطدم بطبقة العامة التی لا تُجید فهم شعره بالمستوى الذی یشعر فیه بالتقدیر نتیجة معاناته الإبداعیة، وجهوده فی الابتکار؛ فهو لذلک یُصرُّ على ألاَّ یجعل عملیة التلقی عملیة خاضعة للصُدفة، التی کثیرًا ما تُهینه، وإنما کان یهیئ الجو المناسب لعملیة نقدیة جادة من خلال مُحکِّمین مشهود لهم، وفی حضور جُمهور مثقَّف واعٍ، یرتضی حُکمه وفهمه" فاستقبال النَّص من لدن الشَّاعر الُحکِّم، توسیع لرقعة التَّلقی، وتحریض علیه بإصرار"(66).

وقد اتفق کل من الشَّاعر والمتلقِّی على قواعد عامة وتقالید توصیل، فرضتها الظروف.هذه القواعد هی:" الإبلاغُ، والإفهامُ، والإیضاحُ، والصدقُ الواقعی للشِّعر"(67)وعملیة فهم الشِّعر أمرُ فیه جدل بین الشُّعراء، والنُّقاد یرون أنهم الأولى بفهم الشِّعر، وتقدیر الجید والردئ منه، یقول ابن سلاَّم الجُمحی:" وجدنا رواة العلم یغلطون فی الشِّعر، ولا یضبط الشِّعر إلا أهلُه"(68).

    فالشِّعر عند ابن سلاَّم :" صناعة وثقافة یعرفها أهل العلم کسائر أصناف العلم والصناعات، منها ما تثقفه الأذن ، ومنها ما تُثقفه الید، ومنها ما یُثقفه اللسان"(69) والصناعة لا یُدرکها إلا الخبیر بها الذی یستطیع تقییم المصنوع وتقویمه، یقول ابن سلاَّم :" من ذلک اللؤلؤ والیاقوت، لا تعرفه بصفة ولا وزن دون المعاینة ممن یُبصره، ومن ذلک الجهبذة بالدینار والدرهم لا تعرف جودتها بلونٍ ولا مسٍ، ولا طِراز ولا وسمٍ، ولا صُنعة، ویعرفه الناقد عند المعاینة، فیعرف بهرجها وزائفها، وستوقها ومُفرَغها" (70).

والعلم أحد أهم الأسلحة التی یجب أن یتسلَّح بها الناقد یقول أبو العتاهیة:

لکلِّ داءٍ دواءُ عند عالمـه      من لم یکن عالمًا لم یدرِ ما الدَّاء(71).

وعلى الرغم من اعتراف الشُّعراء بعض الوقت بأهمیة النقاد، إلا أن جُلَّ کلام النقاد یذهب فی اتجاه واحد، یجعل النقد کعلم منفرد عن علم الشِّعر؛ ولذلک یحتاج إلى مُتخصص فیه، یقول المرزوقی:" ولو أن نقد الشِّعر کان یُدرک بقوله، لکان من یقول الشِّعر من العلماء أشعر الناس، ویکشف هذا أنه قد یمیز الشِّعر من لا یقوله، ویقول الشِّعر الجید من
لا یعرف نقده"(72).

وللناقد خبرة وبصیرة تجعله یعرف مواضع الاستحسان فیذکرها، ومواضع النقیصة فیجبرها، قال الشاعر:

ما یتساوى من الکلام على الآ     ذان مصنوعه وساذَجُـهُ

وإنما الشِّعـر کالدراهــم لا     یجوزُ عند النَّقَّاد زابَجُه(73).

ولقد تنبهت مُعظمُ النَّظریات النقدیة إلى أهمیة الوعی الذاتی للجُمهور، ولکنَّ نظریة الاستقبال تدور حول هذا المفصل دون غیره من أجزاء العملیة الإبداعیة؛ فقد اهتمت بالقارئ، ومدى قدرته على التذوق من خلال خبرته الثقافیة وجهده المعرفی الخاص" وعلى هذا یمکن القول أن القارئ الفائق الذی یستطیع فک شفرات النص، وملء فجواته التی وُضِعَت فیه قصدا، مما یعنی أن النظریات المعاصرة فی القراءة والتلقی تنظر نظرة جدیدة إلى العمل الذی یقوم به الناقد، وقد تساوی بینه وبین المتلقین، فالخبرة الحقیقیة هی خبرة القارئ ناقدًا کان أم متلقیًا عادیًا، إذ یتساوى الطرفان فی مقدار الجهد المبذول لتذوق النَّص، وعلى هذا فإن العامل الثقافی یُعدُّ جوهریًا ومهمًا فی تذوق النَّص"(74).

وقد سبق للناقد العربی القدیم الاهتمام بالمتلقی، حتى إنه جعله مقیاسًا لبراعة الشَّاعر، أو إخفاقه، بل راح لأبعد من ذلک، فجعل من المُتلقی جواز مرور للاعتراف بکون المرء شاعرًا أم لا؛ لذا دعا الشُّعراء لمُراعاة الجُمهور، والاهتمام بردود أفعالهم، یقول الجاحظ:" فإن أردت أن تتکلَّف هذه الصِّناعة، وتُنسَب إلى هذا الأدب، فقرضتَ قصیدةً، أو حبًّرت خُطبةً، أو ألَّفت رسالةً، فإیاک أن تدعوک ثقتک بنفسک، أو یدعوک عجبک بثمرة عقلک إلى أن تنتحله وتدَّعیه، ولکن اعرضه على العلماء فی عرض رسائل أو أشعار، أو خطب، فإن رأیت الأسماع تُصغی له، والعیون تُحدِّجُ إلیه، ورأیت من یطلبه ویستحسنه فانتحله...فإذا عاودت أمثال ذلک مِرارًا،

ویرى ابن طباطبا أن فساد الطَّبع مَدعاةٌ للخطأ العروضی فی صناعة الشِّعر" فمن صحَّ طبعه وذوقه لم یحتج إلى الاستعانة بالعروض التی هی میزانه، ومن اضطرب علیه الذوق لم یستغن تصحیحه وتقویمه بمعرفة العروض والحذَق به، حتى تُعتبر معرفته المستفادة کالطبع الذی لا تکلّف فیه"(75).

وهنا دعوة لإتقان صناعة الشِّعر بتوسیع دائرة العلم والمعرفة بشتى أدوات الصناعة، وکانت تلک المعرفة مدعاة للفخر بین الشُّعراء فوجدت الأسماع عنه منصرفة ، والقلوب لاهیة، فخُذ فی غیر هذه الصناعة، واجعل رائدک الذی لا یکذبک حرصهم علیه أو زهدهم فیه"(76).

وقد خَلقت ظروف عملیة التلقی قواعدًا ومعاییرًا لعملیة النظم بحیث تعتبر مخالفتها مصدرًا للذم، فالشِّعر کما یقول ابن طباطبا" کلامٌ منظوم، بائنٌ عن المنثور، الذی یستعملهُ الناس فی مُخاطباتهم، بما خُصَّ به من النظم الذی إن عُدِلَ عن جهته مَجَّتهُ الأسماعُ"(77) یقول الخالدی ممتدحا صفة غُلام له:

ویعـرف الشِّعـر معـرفتی     وهو على أن یزید مُجتهدُ

وصیرفی القریض وازن دینار    المعانی الدِّقـاق منتقـدُ(78)

ومن هنا یبدو أن العلم بالشِّعر متطوِّر قابلٌ للإضافة، عن طریق توسیع دائرة العلم. والنقد أحد الفنون التی تظهر عند الشُّعراء بقوة، خاصةً إذا نمَت موهبتهم بمزید من
الثقافة والمعرفة.

قد کانت معرفة مساوئ الشِّعر وعیوبه لا تقل أهمیة ، عن معرفة محاسنه؛ لأن معرفة الردئ تؤدی لتجنبه، یقول المرزوقی:" واعلم أنه لا یعرف الجیِّد من یجهل الردئ ، والواجب أن تعرف المقابح المتسخَّطَة ، کما عرفت المحاسن المُرتضاة..کأن یکون اللفظ وحشیًا أو غیر مستقیم، أو لا یکون مُستعملا فی المعنى المطلوب..أو یکون فیه زیادة تفسد المعنى، أو نُقصان، أو لا یکون بین أجزاء البیت التئام، أو معیبة فی نفسها، أو یکون فی القَسْم أو التقابل، أو فی التفسیر فساد، أو فی المعنى تناقض وخروج إلى ما لیس فی العادة والطبع، أو یکون الوصف غیر لائق بالموصوف ، أو یکون فی البیت حشو لا طائل فیه، إلى غیر ذلک مما یُحصِّله لک تأملک جُمَل المحاسن وتفصیلها، وتتبعک ما یضادها وینافیها، وهذا هیِّن قریب"(79).

ومعرفة تلک المقابح والقدرة على الفصل بین الجید والردئ ، تُعدُّ من المؤهلات التی یجب سلوکها لمعرفة علم النقد، یقول الجرجانی:" ولستَ تُعدُّ من جهابذة الکلام، ونقاد الشِّعر حتى تمیِّز بین أصنافه وأقسامه، وتحیط علمًا برتبه ومنازله، فتفصل بین السرق والغصب، وبین الإغارة والاختلاس، وتعرف الإلمام من الملاحظة، وتفرِّق بین المُشترک، الذی لا یجوز ادعاء السَّرق فیه، والمبتذل الذی لیس أحدٌ أولى به، وبین المختص الذی حازه المبتدئ فملکه "(80)

وقد تکون هذه المواصفات التی طرحها الجرجانی هی الحدُّ الفاصل بین الشَّاعر والناقد فلیس کل شاعر ناقد، وکما أنه لیس کل ناقد شاعر، ولکن العرب کانت تعرف أن الشُّعراء مؤهلون للنقد أکثر من غیرهم، خاصةً وأنهم یعرفون أن القدرة على التذوق الجمالی کامنة فی کل شخص، وهذه القدرة قابلة للنمو والزیادة" فکل خبرة جمالیة مُهیأة لخبرة جدیدة، أی کل کشف جدید تمهید لکشف آخر"(81).

والشُّعراء أصحاب ذوق جمالی  فطری، حیث أن عملیة الإبداع فی ذاتها تفترض عملیة النقد، ومن ثمَّ فإن الشَّاعر یهذِّب قصائده فی المرحلة الثانیة من حالة الإبداع، فإن کانت صناعة الشِّعر تتضمن مرحلة الإلهام واللاوعی؛ فهناک مرحلة واعیة تالیة للإبداع، مرحلة یتسیدها العقل" ففی الأولى یعبِّر عن تجربة حالت فی کیانه، وفی الثانیة یحاول تقدیر ما أفرغ من التجربة فی النص المبدع، والعملان مختلفان، أولهما إحساس وخیال ونشاط مؤلف، والآخر فکر وقیاس"(83).

والشَّاعر المُتمیز دائما ما یکون فی حالة عدم رضا عن عمله، فهو دائم النظر فیه، یحاول أن یحذف، وأن یضیف، ویُجمِّل أبیاته بما یرتضیه طبعه من البلاغة، وما یرتضیه ذوقه الفکری الذی اکتسبه من خلال سماع الأشعار وحفظها" وعلى مقدار جودة المحفوظ أو المسموع تکون جودة الاستعمال من بعده، ثم إجادة الملکة من بعدها"(83).

وهنا تکمن تلک الإشارة اللطیفة التی حملها القدر إلى الشُّعراء؛ فهم إلى جانب إبداعهم نقادٌ لأنفسهم یتخللون صفوف الجُمهور، ویمثلون أحد أهم طبقاته.

وبما أن الناقد الذی یستمتع بقصیدة أو یحکم علیها، لا یختلف فی الظاهر عن الشَّاعر نفسه حینما یقف عند العمل الأدبی" فکلاهما یلمس جمالاً، أو قبحًا، أو ینفعل به، هذا یسجِّله، وذاک یقدِّره"(84).

ولذلک فإن عملیة النَّقد تحتاج لبذل الجهد من النَّاقد بقدر یعادل تقریبًا المعاناة التی یعیشها الشَّاعر أثناء عملیة الإبداع" فلم یعد دور المتلقی دورًا سلبیًا استهلاکیًا فی صلته بالنص، ولم تعد استجابته للنص استجابة عفویة، تُرضِی تعطشه الجمالی، وتُشبع فیه نزوعه إلى التلقی الشخصی الممعن فی کثافته وفردیته فی آن واحد، بل أصبح هذا القارئ مُشارکًا فی صُنعِ النص. تُشکِّل استجابته للنص نسیج الموقف النقدی برُمَّته، مؤثرة فی النصوص القادمة؛ لأن عملیات التلقی المستمر تشکِّل وجدان المُبدع والقارئ معًا"(85).

فالناقد الناجح هو الذی یستطیع أن یکون صاحب قدرة ذوقیة وحسیة جیدة، ویستطیع أن یحیا التجربة، ویدخل منطقة الشَّاعر فی مجال الإحساس، ویخرج من ذلک بمرحلة الفهم والتفکیر والقیاس. والحقیقة إن تلک المرحلة بدأت أن تکون أکثر وضوحًا فی المستویات التالیة للنقد الذوقی عند العامة، خاصةً وأن الأدب أجبر عملیة النقد على التطور بشکل مصاحب أو تالٍ له" فتطوُّر الأدب لابد أن یتبعه تطور فی الحُکم علیه، سواء عند الأدباء الذین ینتجونه، أم عند القرَّاء الذین یقرءونه ویتمتعون به، ثم یحاولون تقدیره وتقویمه"(86).

وکما بدأ الشِّعر ذوقیًّا، بدأ النقد ذوقیًّا غیر مبنی على قواعد؛ وذلک بطبیعة البیئة، وظروف الحیاة بکلِّ تفاصیلها الثقافیة التی تعتمد على الفطرة کأساس للمعرفة. أمَّا النقد المنهجی، فلم یتکون إلا بعد أن نما عقل الشُّعراء، وتعمَّقت معارفهم وثقافاتهم، وبدء وضع قواعد لصناعة الشِّعر بینهم؛ إذ أن وضع القواعد یحتاج إلى عقلٍ راقٍ، أو عقلٍ متفلسف، یُحسنُ تصنیف الأشیاء وتبویبها"(87).

ولا شکَّ أن عقل الإنسان فی تطور مستمر على مرِّ العصور، والشَّاعر إنسان متطور بتطور الزمن وتغیره، وقد بدأ النقد على أیدی الشُّعراء " ذوقیًّا جزئیًّا مُسرِفًا فی التعمیم" (88).

أما النقد المنهجی، فقد جاء بعد نمو الفکر الذی مهَّد للشاعر والناقد أن یُخضِعا ذوقهما لنظر العقل. وبعد مرحلة الشُّعراء، وعامة الناس، جاءت مرحلة تطوُّر العلم وظهور النحو بین علماء اللغة، لم یختلف فکرهم – سواء فی العصر الأموی أو العباسی- فقد کان همهم الأول هو جمع الشواهد اللغویة والنحویة، وقد کان نقدهم ذوقیًّا أیضًا " أی لیس للنقد عندهم قواعد محددة، بل هو موکول إلى الذوق، والذوق یتبع المزاج لطافةً وکثافةً، ویجری معه اعتدالاً وإغراقًا، وما وکل أمر العلم إلى الذوق إلاّ اضطرب، وکثر الافتراق فیه، ألم تر أنک تؤثر الشیء الآن وتمقته بعد حین"(89).

وعلى الرغم من عیوب تلک الطبقة، إلا أن التاریخ الأدبی لم ینکر أنها" قادت الحرکتین العلمیة والأدبیة قیادة خِصبة باهرة"(90) لکن الشعراء کانوا فی خِلاف مع نقد کثیر من هؤلاء النقاد؛ ولذلک کانوا یُعوِّلون ذلک على سوء فهمهم للشعر، وعدم تقدیره تقدیرًا جیِّدًا، یقول البحتری:

علیَّ نحت القوافی من أماکنها      ومـا علیَّ أن یفـهم البقـرُ

إذا محاسنی اللآلئ أدلُّ بـها       کانت ذنوبی فقلِّی کیف أعتذرُ(91)

فالبحتری یکتفی بالمعاناة الإبداعیة عن محاولة إفهام هؤلاء الذین ینتقدونه، ویرون هذه اللآلئ التی ینتجها هی نفس عیوبه التی یحتسبونها علیه. ویشکو ابن عبد ربه من بعض الذین لا یفهمون اللغة ، وکأنهم من العَجم، لا یدرکون ماذا یقول؛ فتألَّم لضیاع شِعره
بینهم، یقول:

یا ضیعة الشِّعرِ فی بُلهٍ جرامِقَةٍ      تشابهت منهم فی اللؤم أخلاقُ(92)

ویرى بعض الشُّعراء عملیة عدم فهم الشِّعر، وبالتالی سوء تقدیره عند النقاد  قد نشأ من عدم الفهم لصناعة الشِّعر وقواعدها، یقول علی بن محمد الشمشاطی:

أغراک جهلکَ بالقریضِ ورثِّهِ     حتى انتحاک بمخلبٍ عطَاطِ

لفظٌ تراهُ عقاربًـا مبثوثــةً     ویراهُ غیرک جوهرَ الأسفاطِ(93)

وینتقد ابن الرُّومی أبا قُرَّة  لعدم معرفته بفنون النَّقد ، یقول:

ینتقدُ الشِّعرَ ولا یعْرفهُ     أکثر من قوله هذا النمطْ (94)

وقد اعترف الجاحظ ببعض جوانب القُصور عند النقاد بشکل موضوعی مُنصِف، قال" ولم أر غایة النحویین إلا کل شِعرٍ فیه إغراب، ولم أر غایة رواة الأشعار إلا کل شعر فیه غریب، أو معنى صعب یحتاج إلى الاستخراج، ولم أر غایة رواة الأخبار إلا کل شعر فیه الشاهد والمثل، ورأیت عامتهم- فقد طالت مشاهدتی لهم- لا یقفون  إلا على الألفاظ المُتخیرة، والمعانی المُنتخبة، وعلى الألفاظ العذبة والمخارج السهلة، والدیباجة الکریمة، وعلى الطبع المتمکن، وعلى السَّبک الجیِّد، وعلى کل کلام له ماء ورونق، وعلى المعانی، التی إذا صارت فی الصدور عمرتها وأصلحتها من الفساد القدیم، وفتحت للسان باب البلاغة، ودلَّت الأقلام على مدافن الألفاظ، وأشارت إلى حِسان المعانی"(95).

ویرى الجاحظ أن هؤلاء اللغویین، والنحویین لا یجیدون النقد، لکن هناک فئة قد تمیزت بذلک یقول:" ورأیت البصر بهذا الجوهر من الکلام فی رواة الکتاب أعم، وعلى ألسنة حُذَّاق الأشعار أظهر"(96)إذن فالجاحظ فی صف الشُّعراء ولیس ضدهم، بل إنه یرى أن الحاذقین منهم ماهرون بالنقد وهم الأولى به، یقول:

"والحق أن الجمهور، وکثیرًا من المتعلمین فی کل عصر متطلعون إلى الشِّعر فیما یتصل بالحکم على الشِّعر ؛ لعلمهم أنهم رجاله، وأنه نتاج تجاربهم ومعاناتهم، فهو بضاعتهم، وهم لذلک لابد أن یکونوا أقدر على فهمه ، وتذوقه، والحُکم علیه، وفی رأیهم إنه صناعتهم التی لا یُجید صنعها غیرهم"(97).

وقد کانت الملاحظات العابرة لهؤلاء الشُّعراء عبارة عن إشارات ذکیة بلیغة، وقد تعتبر معیارًا نقدیًا بالغ الأهمیة. ومن أحد أسباب قدرة الشُّعراء على النقد کونهم على صلة دائمة به، فالشَّاعر کالتاجر، وصاحب البضائع ، فهو على معرفة دائمة ومستمرة بکل جدید من آراء الجمهور فیما یخص مواصفات إقبالهم على الشِّعر أو أسباب نفورهم منه" وصلته الوثیقة هذه بالجمهور والنقاد، قد تقفه على تیارات النقد وأزیاء الأذواق المعاصرة له، وما یُنفق لدى عِلیة القوم من أفانین القول. وقد یؤثر هذا کله فی نتاجه تأثیرًا مباشرًا ، أو غیر مبشر، فإن کان متعدد المواهب، أو کانت له مع موهبته الفنیة موهبة نقدیة، فقد تجد
هذه الموهبة من وقوفه على تیارات النقد ومذاهبه، وأفانینه ینبهها ویشحذها ، ویعدها
للحکم والتقدیر"(98).

التلقی البلاغی:

وعلى الرغم من مساندة الجاحظ للشُّعراء واعترافه بأنهم ماهرون فی النقد، فإنه أشار إلى عدم قدرة بعض الشُّعراء علیه؛ مما یجعلهم موضع انتقاد النُّقاد یقول:" فلا تثق فی کلامک برأی نفسک، فإنی ربما رأیت الرجل متماسکًا وفوق المتماسک، حتى إذا صار إلى رأیه فی شِعره، وفی کلامه ، وفی ابنه، رأیته متهافتًا وفوق المتهافت"(99).

على أیة حال فإن تلک النظرة الموضوعیة من الجاحظ قد أصلحت من نظرة خلف الأحمر المتحیزة تمامًا لإثبات قدرة اللغوی الناقد على غیره من الناس، فقد قال قائل لخلف :" إذا سمعتُ أنا بالشعر أستحسنهُ، فما أبالی ما قلت فیه وأصحابک، قال: إذا أخذت درهمًا فاستحسنتهُ، فقال لک الصرَّافُ: إنه ردئ فهل ینفعک استحسانک إیاه"(100).

وهنا یظهر تفضیل خلف للعلم على الذوق بشکل عام، وهو أمر یُخالف المنطق، الذی یشهد ببلاغة العرب وفصاحتهم وقدرتهم الفطریة على النقد والفهم والتحلیل، مما لم یسمح باقتصار النقد  على اللغویین والشعراء فقط.

وقد أید ابن سلام الرأی القائل بقدرة العلماء على النقد أکثر من غیرهم ، یقول:" وإن کثرة المدارسة لتعدی على العلم به؛ فکذلک الشعر، یعلمه أهل العلم به"(101).

إذن فالنقد یحتاج إلى عالم یُکدُّ ذهنه فی الدِّارسة والفهم ، ولیس الأمر مشروطًا بمجرد المعرفة اللغویة، أو النحویة. إن المسألة بین المتلقی والشاعر تقوم على الفهم والإفهام کما یقول الجاحظ، فالقدرة على تحلیل الشِّعر وفهمه تعود إلى الإدراک وبالطبع فإن الإدراک متعدد کتعدد قدرة الشُّعراء على الشِّعر، بل کتعدد حالات الشَّاعر الواحد أثناء عملیة النظم؛ " فالأدب مِرآة لنفس صاحبه، وهو مِرآة لعصره وبیئته، کلما عظم حظه من الجودة والإتقان، وهو بحکم هذا متغیر متطور، قابل للتجدید... ومتفاوت بطبعه فی الحظ من الجودة والرداءة "(102).

ولیس التفاوت فی حالات الجودة والرداءة عائدًا على النفس وحدها، بل إلى فکره أیضًا" فشعر الرجل قطعة من کلامه، وظنه قطعة من علمه، واختیاره قطعة من عقله" (103)والعقل متفاوت بین البشر فی مستویات الذکاء، والفهم، والعلم، کما أن النفس متأرجحة بین حالاتها الانفعالیة، وعدم استقرارها على حال واحدة من الهدوء، والقدرة على الاستیعاب.

تلقی الجمهور العام:

وکما تتفاوت عقول الشُّعراء، تتفاوت عقول النقاد بین حین وآخر، وبین قصیدة وأخرى، ولذلک یعانی بعض الشُّعراء من تضارب الآراء فیما یروه جیدا من قصائدهم، التی قد بذلوا فیها جهدًا، من حیث الإبداع والتثقیف، بحکم أنهم الناقد الأول للقصیدة ، ولذلک کثیرا  ما تکون قصائدهم  واضحة المعانی کوضوح الشمس المضیئة، وذلک لما بُذل فیها من مجهود، ومع ذلک یصطدمون بمن ینتقد هذه القصائد ، وذالک  ما أثار عجب أحد هؤلاء وهو المتنبی، یقول:

فلیس یصحُّ فی الإفهامِ شیءٌ     إذا احتاج النهارُ إلى دلیل(104)

ویصف المتنبی هؤلاء بالجهلاء، فإذا ما عابوا شِعره، فهو یعتبر ذلک شهادة
فضل له، یقول:

ما نال أهل الجاهلیة کلـهم      شِعری ولا سمعت بسحری بابِلُ

وإذا أتتک مذمتی من ناقصٍ      فهی الشهادةُ لی بأنـی فـاضل(105)

فهکذا یعیب الجهلاء الناقصون شِعره مع أنه أجود الأشَّعار، وأرقُّ من السِّحر، ولا یحدث ذلک إلا لعدم الفهم لفنون الشِّعر، یقول السَّری الرَّفاء هاجیًا متهکِّمًا:

وعارفٌ بفنون الشعر ینقدها     نقدَ الصیارفة الأوراق والذهبا

طاف الذکاء به یومًا یکلِّفـهُ     فکاد یُضرِمُ فی أثـوابه اللهبا

لو أن صاحبـه یومًا یُکلِّفـه    ثقل الجبال إذا مـا عدَّهُ تعبـا(106)

ویعدُّ الجهل هو السبب الأوضح فی کل انتقادات الشُّعراء لتفسیرات النقاد الخاطئة لأشعارهم، وتزداد صفة الجهل للحد ،الذی جعل مروان بن أبی حفصة یصف هؤلاء الجهلاء بالبعیر التی یحمل علیها الرجل زاده ومتاعه، لکنها لا تدری ماذا وضع فوق ظهرها مهما طال الزمن:

زوامل للأشعار لا عِلم عندهم    بجیدهـا إلا کعلـم الأبــاعرِ

لَعَمرُکَ ما یدری إذا ما غـدا     بأوساقه أو راح ما فی الغرائر(107)

کانت مجالس الخلفاء کعبة أغلب الشُّعراء، إذ أنهم من خلالها یطلبون الشُّهرة، إلى جانب ما ینالونه من المال، وقد لاحظ السَّری الرَّفاء أن هذه المجالس کانت تمتلئ بذکر عیوب الشُّعراء، وقصائدهم أکثر من ذکرها محاسنهم، یقول:

أما القریض فما تحظى محاسنه    عند الملوک کما تحظـى معائبـُه

وربمـا ظلم الدینـار ناقــدهُ     وقد کساه ضروب الحسن صاحبُه

کأننی بنجیب الشِّعـر قد رحلت    عنهم إلى الشرف الأعلى نجائبُـه(108)

فیبدو من کلام السَّری أن استعداد الناقد لعملیة التلقی یجب أن یتمیز بالموضوعیة والاعتدال، بما أن النقد یعنی ذکر المحاسن والعیوب، فلا یجب أن یکون قرار الناقد موجَّهًا نحو طرف دون آخر، ویشیر السَّری أیضًا إلى اختلاف نقد الناقد بین وقت وآخر على نفس الشَّاعر، وهو ما ینطق بالجور، وتحکُّم الأهواء فی هذه العملیة، یقول عاتبًا لأحد النقاد:

وعاد رأیک لی سودًا مشارقه      وکنتُ أعهدهُ بِیضًا مغاربُهُ

الشِّعر وشی برودٍ أنت ساحبهُ     فهمًا ودرُّ عقودٍ أنت ثاقبه(109)

ودخول المیول فی عملیة النَّقد أمر قد اعترف به الآمدی فی موازنته بین أبی تمام والبحتری، وقد جاء ذلک من خلال تبریراته التی ذکرها فی تفضیل المتلقی لواحد منهما دون الآخر، یقول:" فإن کنت – أدام الله سلامتک- ممن یفضل سهل الکلام وقربه، ویُؤثر صحة السَّبک، وحسن اللفظ، وکثرة الماء والرونق، فالبحتری أشعر عندک ضرورة، وإنْ کنت تمیل إلى الصنعة، والمعانی الغامضة، التی تُستخرج بالغوص والفکرة، ولا تلوی على ما سوى ذلک، فأبو تمام أشعر عندک لا محالة"(110).

التلقی الفلسفی:

 وقد فاضل أیضًا فی تلقی المتخصصین من أهل البلاغة، والنقاد، والکتاب، والشُّعراء والفلاسفة، وأهل المعانی، فقال:"ووجدتهم وقع التفضیل بینهم من شُعراء الجاهلیة والإسلام، والمتأخرین، وذلک لمیل من فضَّل البحتری، ونسبه إلى حلاوة اللفظ ، وحُسن التّخلص، ووضع الکلام فی مواضعه،وصحَّة العبارة، وقرب المآتی، وانکشاف المعنى، وهم الکتاب والأعراب والشُّعراء المطبوعون، وأهل البلاغة، ومیل من فضَّل أبا تمام، ونسبه إلى غُموض المعانی، ودقتها، وکثرة ما یورده مما یحتاج إلى استنباط، وشرح واستخراج، وهؤلاء أهل المعانی، والشُّعراء وأصحاب الصُّنعة، ومن یمیل إلى التدقیق وفلسفی الکلام"(111).

وقد کان هؤلاء المُعتدلون من النقاد یعترفون باحتمالیة الغلوِّ فی الرأی، أو إتِّباع الهوى وسطحیة الهوى، وسطحیة الفهم، لذلک نجد عبد القاهر الجرجانی یستعرض أربع خُطوات، یخطوها الناقد قبل النظر فی مواضع الاستحسان، أو خلافها، یقول:" ارجع فکرتک، واشحذ بصیرتک، وأحسن التأمل، ودع عنک التجوُّز فی الرأی، ثم انظر هل تجد لاستحسانهم وحمدهم وثنائهم مُنْصَرَفا"(112).

وعلى الناقد إتباع هذه الخطوات مع الإیمان بأن الشِّعر موئل احتمالاتٍ عِدَّة، وقد یراه القرَّاء والسَّامعون بأوجه نظر مختلفة، ومُتعددة، تفرضها الدُربة وریاضة الکلام وغیرها من القدرات، التی یتمیز بها کلُّ ناقد عن الآخر، والتی تساعد فی اکتشاف الظاهر من معنى النص، والآخر المتواری خلف الکلمات والأسلوب والفکرة. وصحیح أن عقل الناقد  یختلف عن عقل المتلقی العادی ، وبالتالی فإن له مستوى أفضل فی الفهم، لکن المشکلة لا تنتهی عند هذا الحد؛ لأن الاختلافات قائمة بین القراء نقادًا وغیر نقاد"(113).

والحقیقة إن تأثیر الشَّاعر فی المتلقی، لا یتم إلا عبر مساحة من التوافق مع رغباته" ومرجع ذلک إلى أن حرکات النفس الباطنة ومشاعرها وظلالها لا حصر لها، وإذا کان الشِّعر تعبیرًا عن وقع الحیاة والکون على نفس الشَّاعر، وکان هذا الوقع یثیر فیه مالا یُحصى من الأحاسیس، والمشاعر، والذکریات، والآمال، والمخاوف، والرؤى، والأحلام، ویسجِّل ذلک فی شعره فإننا حین نأخذ بدورنا فی قراءة هذا الشِّعر، نجدنا وقد اختلجت فینا هذه الخلجات، وترادفت علیها أشتات من داخلنا، وکأنه یُطلق علینا من ألفاظه ومعانیه، ما یحرِّک الخلجات الکامنة فینا"(114).

والناقد حینما یقرأ الشِّعر لا یکون مُنفصلاً عنه، ولکنه یقرأه من خلال مشاعره، وأحاسیسه، ومن أجل ذلک یکثر فیه التأویل؛ لأن کل ناقد یعبر برأیه من خلال صدى القصیدة فی نفسه، وما أثارته فیه من هواجس وخواطر، ولهذا السبب طالبَ بِشر بن المُعتمِر" بالملائمة بین الکلام وأحوال السامعین ونفسیاتهم"(115).

وإذا کان العامل النفسی عنصرًا مهمًا، فإن العامل الاجتماعی لا یقل أهمیة عنه" ونقصد بالعامل الاجتماعی الأساس النفسی، الذی یُساعد الجمهور على تقبُّل العمل الأدبی والتفاعل معه، أو رفضه، أو الانفصال عنه"(116) فالمتلقی یکون فی حالتین أثناء الاستماع إلى العمل الأدبی: الأولى أن یکون متجاوبا معه؛ لتطابق حالته وفکره وخبراته مع ما یسمعه من أبیات، وبذلک تحدث  له حالة التأثر والإعجاب والدهشة، والثانیة: یکون العمل الأدبی مناقضًا لتوقع المتلقی فیخیب ظنه، وهذا ما یُعرف "بخیبة الانتظار"، أو خیبة الأفق". یقول أبو هلال العسکری:" وینبغی أن تعرف أقدار المعانی، فتوازن بینها وبین أقدار المُستمعین، وبین أقدار الحالات؛ فتجعل لکلِّ طبقة کلامًا، ولکلِّ حالٍ مقامًا، حتى تقسِّم أقدار المعانی على أقدار المقامات، وأقدار المستمعین على أقدار الحالات(117) واعلم أنَّ المنفعة مع موافقة الحال، وما یجب لکلِّ مقامٍ من المقال."

إنَّ حفاظ المتلقی على مستوی الاعتدال فی النقد أمر لا یأتی محض الصدفة، إنما هو نتیجة مجهود یبذله فی محاولات الفهم والتحلیل، وقراءة ما وراء الأبیات، ثم فی تفهُّم عقلیة الشَّاعر ومستواه الفنِّی، الذی لا یثبت عند حد " فلا یوجد شاعر أشمل للإحسان والإصابة، والتنقیح والإجادة شعره أجمع، بل قلما تجد ذلک فی القصیدة الواحدة، ولابدَّ لکل صانع من فترة والخاطر لا تستمر به الأوقات على حال، ولا یدوم فی الأحوال على نهج"(118).

وإذا کان على المتلقی فهم حالة التذبذب فی الإبداع بین حین وحین، فعلى المبدع احترام فکر المتلقی، ودوره الذی یقوم به؛ فهو إلى جانب تحلیله وفهمه للقصیدة، یقوم بملأ الفراغات، وتوقُّع الناقص وتقدیره، یقارن طه حسین بین أبی تمام وابن الرومی  فیقول :" أما ابن الرومی فشاعرٌ مُطیل ومطیل جدًا یبلغ بقصیدته المئات من الأبیات، وهذا الاختلاف بین الشَّاعرین فی إطالة القصیدة مصدره واضح جدًا، وهو أنَّ الشَّاعرین وإن اتَّفقا فی الغوص على المعانی، فهما یختلفان فی مقدار هذا الغوص، أو بعبارة أدق، فی مقدار البسط  والتفصیل قی المعانی، التی یظفران بها، أمَّا أبو تمام فهو یبحث عن المعنى ویجدُّ فی التماسه، ویظفر به، ویعرضه علیک عرضًا متوسِّطًا، لا یُطیل فیه ولا یُسرف، بل فی نفسه شیء من الاحترام لک والاعتراف بأنَّ لک عقلاً، یستطیع أن یُتمَّ ما لم یُتمه هو"(119) ویوضِّح طه حُسین سبب الإطالة عند ابن الرومی فیقول:" هو یمضی مع أبی تمَّام فی الغوص على المعانی والتَّفتیش والجد فد طلبه حتى یبلغ المعنى الجیِّد، فإذا ظفر بهذا المعنى ساء ظنُّه بالناس فی الأدب، کما یسوء ظنُّه بهم فی الحیاة، فکما أنه یعتقد أن الناس من الذکاء لیس بحیث یُمکنه من أن یطمئن إلیهم فی فهم المعانی"(120) ولا شک أن المتلقی یتفهم کلتی الطریقتین، وأنَّ بعضهم یتقبَّل إحداهما، ولا یتقبَّل الأخرى.

وکما یتغیر مستوى الإبداع فی القصیدة الواحدة کذلک فإنه یتغیر، ویتطور بمُضِی الزمن،فقد اهتم الشُّعراء فی العصر الجاهلی والأموی بجزالة الألفاظ، ورصانة اللغة، ثم استمر ذلک الاهتمام فی العصر العباسی إلا أن فِکر الإنسان المتغیر الذی بدأ ینفتح على الثقافات المختلفة، ویهتم بالتعلیم، قد خلق مستوً جدیدًا من مستویات التلقی سواء عند العامة أو عند النقاد، وقد وصل اهتمام العرب بالتعلیم حتى أنه" قد کانت عادة أهل العراق والبلاد التی غلبت فیها اللغة العربیة - لعهد أبی العلاء- أن  یبدأ الناشئون فیها بدرس علوم اللسان والدین، حتى إذا بلغوا من ذلک ما أرادوا سما من شاء منهم إلى درس ما أحب من العلوم العقلیة والفلسفیة"(121).

واکب ذلک نمو مذهب البدیع الذی بدأ منذ العصر الجاهلی، لکنه ازداد وانتشر على ید أبی تمام" والکلام البدیع إنما هو استعارة الکلمة لشیء لم یُعرف بها من شیء قد عُرف بها.. ومن البدیع أیضًا التجنیس والمطابقة، وقد سبق إلیهما المتقدمون، ولم یبتکرها المحدثون"(122).

وهکذا ظهر النقاد من الفلاسفة والشُّعراء، وأصحاب المعانی، الذین اعتبروا الشِّعر أداة من أدوات المنطق، ولیس أداة للتعلیم فقط، وبذلک کان هناک خطان متوازیان من النقاد، أولهما: من الرواة واللغویین الذین لا یتصلون بالثقافة الحدیثة، وبالتالی کرهوا التجدید  ورفضوه، ولکنهم تمسکوا بالقدیم ، وکل ما اتصل بعمود الشِّعر، وثانیهما من أصحاب المعانی والفلسفة، والثقافة الحدیثة عن القدیم.

وهکذا لم یعد المُتلقی أسیرًا للأفکار القدیمة، ولکن تفتحت أمامه طرق الاختیار، ینتقی منها ما یناسب فکره، ویُرضی وجدانه. وقد تقبَّل المجتمع العربی عملیة التعدد هذه، فجهر مُحِبُّوا القدیم بحبهم لعمود الشِّعر، وانتصر أصحاب المعانی لمنطق حبهم للفلسفة.

 

الخاتمة:

تعتبر نظریة التلقی من أحدث النظریات النقدیة الغربیة، التی ذاع صیتها فی الآونة الأخیرة، إلا أن تلک النظریة لم یغفلها الشعر والنقد العربی القدیم، وإن کان ذلک الاهتمام لم یکن فی شکل نظریة من الممکن أن تجدها بین ضفتی کتاب، ولکن المتلقی کان الهم الأول عند الشعراء والنقاد العرب فی العصور القدیمة، وهو لا یغفل دور الشعر فی حیاة الفرد والمجتمع، ومن ثم کان یتفاعل مع ما یلقى إلیه بالتحلیل والفهم والنقد. وقد شهد المجتمع العربی مستویات متعددة من التلقی؛ فقد تنوع الجمهور القدیم حیث احتوى على فئات متعددة: العوام والمثقفون، والنقاد والأدباء واللغویون...ولم یقف دور المتلقی عند حدِّ الاستماع، وإنما لإکمال النص والتحلیل والنقد، وهکذا شهدت العصور القدیمة بما یتمیز به العقل العربی من الهوامش.

  • البحتری: " دیوانه "، عُنى بتحقیقه وشرحه والتعلیق علیه: حسن کامل الصیرفی، دار المعارف، ط3 ،1963م.
  • البخاری (أبو عبد الله محمد بن إسماعیل): " صحیح البخاری "، مؤسسة زاد للنشر والتوزیع، ط1 ، 1434هـ ،2012م
  • §        الجرجانی (أبو الحسن علی بن عبد العزیز):

1-" الوساطة بین المتنبی وخصومه "،تحقیق وشرح: محمد أبو الفضل     إبراهیم ، علی محمد البجاوی ،مطبعة عیسى البابی الحلبی وشرکاه،1386هـ،1966م.

   2- دیوانه ،  أشرف علیه وراجعه: إبراهیم صالح ،جمع وتحقیق ودراسة: سمیح إبراهیم صالح، دار البشائر(دمشق،  سوریا)، ط1 ،  1424هـ ، 2003م.

  • جُورجی زیدان: " تاریخ آداب لغة عربیة "،  دار الهلال، 1911م.
  • السَّری الرَّفاء(أبو الحسن السری أحمد السری الکندی):" دیوانه " تقدیم: کرم البستانی، مراجعة: ناهد جبر، دار صادر (بیروت)، ط1 ، 1996م.
  • الصولی (أبو بکر محمد بن یحیی)  : أخبار أبی تمَّام، حققه وعلق علیه: خلیل محمود عساکر، محمد عبده غرام، نظیر الإسلام الهندی، قدَّم له: أحمد أمین: دار الآفاق الجدیدة (بیروت) ، ط3،  1400هـ ، 1980م.
  • أبو العباس أحمد القلقشندى :" صبح الأعشى"،  دار الکتب المصریة، 1340هـ ، 1922م.
  • أبو العتاهیة : " دیوانه "،  دار بیروت للطباعة والنشر،  1406هـ، 1976م.
  • §        ابن عبد ربه:

   1- "دیوانه"، تحقیق وشرح: محمد رضوان الدَّایة، مؤسسة الرسالة، ط1، 1299هـ، 1979م.

   2– "العقد الفرید "،  تحقیق: مفید قمیحة، دار الکتب العلمیة (بیروت،  لبنان)، ط1، 1404هـ ، 1983م.

  • أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ : " البیان والتبیین "، تحقیق وشرح: عبد الله السلام محمد هارون،مکتبة الخانجی (القاهرة)،  ط7 ، 1418هـ، 1998م.
  • عبد الرحمن بن محمد بن خلدون: " مقدمة بن خلدون "، تحقیق:  عبد الله محمد الدرویش، ط1،  1425هـ ، 2004م.
  • §        عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجانی:

1-  " أسرار البلاغة "، قرأه وعلَّق علیه: محمود محمد شاکر، مطبعة المدنی (القاهرة)، دار المدنی (جدة)،  1412هـ، 1991م.

2- " دلائل الإعجاز "، قرأه وعلق علیه: محمود محمد شاکر، مکتبة الخانجی(القاهرة)، مطبعة المدنی (السعودیة)، 1404هـ،1984م.

  • أبو العلاء المعری: "شرح دیوان أبی الطیب المتنبی (مُعجز أحمد)"،تحقیق ودراسة: عبد المجید جاد،  دار المعارف، ط2 ، 1413هـ، 1992م.
  • أبو علی بن محمد بن الحسن المرزوقی:" شرح دیوان الحماسة لأبی تمَّام"،  علق علیه وکتب حواشیه: فرید الشیخ، ووضع فهارسه العامة: إبراهیم شمس الدین، دار الکتب العلمیة (بیروت ،  لبنان)، ط1 ، 1424هـ، 2003م
  • أبو الفتح عثمان بن جِنِّی : " الخصائص "،  تحقیق: محمد علی النجار، دار الکتب المصریة،  1371هـ ، 1952م.
  • أبو القاسم بن بشر الآمدی :" الموازنة " ،  تحقیق:أحمد صقر، دار المعارف، ط4 ، 1982م.
  • ابن قتیبة الدینوری: " الشعر والشعراء "، تحقیق/ مفید قمیحة، محمد أمین الصناوی، دار الکتب العلمیة(بیروت،  لبنان)، ط1 ، 1421هـ، 2000م.
  • المتنبی :" دیوانه "، دار بیروت للطباعة والنشر، 1403هـ، 1983م.
  • محمد بن سلاَّم الجُمحی:"  طبقات فحول الشعراء "، قرأه وعلَّق علیه:محمود محمد شاکر،  دار المدنی(جدَّة)، 1400هـ، 1980م.
  • محمد بن طَباطِبا العلوی : " عیار الشعر "،  شرح وتحقیق: عباس عبد الساتر، مراجعة: نعیم زرزور، دار الکتب العلمیة (بیروت،  لبنان)، ط2، 1426هـ ، 2005م.
  • ابن المعتز: "البدیع"، اعتنى بنشره وتعلیق المقدمة: اغناطیوس کراتشقوفیسکى، مکتبة المثنى ( بغداد )، ط2 ، 1399هـ ، 1979م.
  • أبو منصور عبد الملک الثعالبی النیسابوری: " یتیمة الدهر فی محاسن أهل العصر "، شرح وتحقیق: مفید قمیحة،  دار الکتب العلمیة (لبنان)، ط1،  1403هـ ، 1983م.
  • §        أبو هلال العسکری:

1- " دیوان المعانی "، شرحه وضبط نصه: أحمد حسن بسج،دار الکتب العلمیة(بیروت – لبنان)،ط1 ، 1414هـ ، 1994م.

2- " الصناعتین(الکتابة والشعر) "، تحقیق: علی محمد البجاوی، محمد أبو الفضل إبراهیم،  دار إحیاء الکتب العربیة، ط1،1371هـ، 1952م.

المراجع:

  • أُلفت کمال الرُّوبی: " نظریة الشِّعر عند الفلاسفة المسلمین(من الکندی حتى ابن رشد) "، دار التنویر للطباعة والنشر(بیروت، لبنان)، ط1 ، 1983م.
  • §       جابر عصفور:

1-       " الصورة الفنیة (فی التراث النقدی والبلاغی عند العرب) "، المرکز الثقافی العربی(بیروت)، ط3 ، 1992م.

2-       " مفهوم الشُّعراء (دراسة فی التراث النقدی) "، الهیئة المصریة العامة للکتاب، ط5 ، 1995م.

  • شوقی ضیف:

1-    "تاریخ الأدب العربی (العصر العباسی الأول)"، دار المعارف، ط13 ، 1966م.

2- " النَّقد "، دار المعارف، ط5 ، 1954م.

3- " فی النقد الأدبی "،  دار المعارف،ط9 ، 1962م.

  • §       طه حسین:

1-       "مِن حدیث الشعر والنَّثر "،  دار المعارف، ط12، 2004م.

2-       "تجدید ذکرى أبی العلاء "، ط6 ،  1963م.

  • §  عبد الجبار یوسف المطلبى : " الشعراء نقادًا "، عصمی للنشر والتوزیع، ط2، 1999م.
  • §        عز الدین إسماعیل:

1-    " التفسیر النفسی للأدب "، مَکتبة غریب، ط4 ،  1969م.

 " الأُسس الجمالیة للنقد العربی "، دار الفکر العربی،ط3 ،1974م

  • مصطفى السویف: " الأسس النفسیة للإبداع الفنی (فی الشعر خاصة) "، دار -المعارف، ط4 ، 1996م.