النظام العالمي للرواية

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

مدرس بالجامعة الأمريکية بالقاهرة

المستخلص

تکشف هذه الدراسة  عن أثر التناقض الجوهري  للعولمة على الأيديولوجات الجمالية للرواية، وذلک بالوقوف على مفهوم مرتبط بسياق العولمة وما بعد الحداثة وهو "أممية الرواية" أو "أدب العالم"، وکيف يتم تقديمه بشکل مغلوط لترسيخ ثنائية "المرکز والهامش"، وهي الثنائية التي تتناقض مع ادعاء العولمة ومؤسساتها وشبکاتها أن غايتها هوية عالمية.هذا المفهوم تأسست عليه الأيديولوجيات الجمالية للرواية على اختلافها تاريخيًا متأثرة بالعلاقة بين ثقافة المرکز وثقافات الأطراف  وتغيرها من نظام اقتصادي اشتراکي نجح لفترة في بلورة أيديولوجية جمالية للرواية ذات طابع أممي يحضر فيها الفقراء المهمشون بقوة، إلى نظام آخر جديد ينجح في إزاحة النظام الاقتصادي القديم وما صاحبه من أيديولوجية جمالية للرواية ليقدم أيديولوجية جمالية للرواية تحضر فيها الأقليات وهوياتها الثقافية بقوة، وعلى أساسها يتحدد تصور عالمي جديد للرواية.

إن جوهر العولمة الثقافی هو الانتشار والتدفق الثقافی المذهل للثقافات المختلفة بعد تسلیعها توزیعها  على مستوى العالم، ورغم وجود تفاوتات واضحة فی أسهم کل منطقة من مناطق العالم فی المطروح فی السوق الثقافی العولمی، فإن المعترضین على هذه التفاوتات لا یمکن أن یقفوا عقبة أمام روابط الاتصال القویة بین کل ما هو محلی وکل ما هو عالمی. لقد أصبح التداخل بین ما هو محلی وما هو عالمی حتمیًا من منظور مؤسسات العولمة وشبکاتها التسویقیة ومنصاتها الالکترونیة"فما یحدث على المستوى الاجتماعی المحلی لا یستطیع أن یتخلص من تأثیرات العالمی وضغوطه، وما یحدث على المستوى العالمی لا یکاد یخلو من آثار المحلی"[1].وحمایة هذا الانتشار والتدفق والارتباط الوثیق بین المحلی العالمی أصبحت تکفلها مواثیق واتفاقات ومعاهدات صدَّقت علیها الدول، کما أن الانتشار والتدفق للمنتجات الثقافیة أو للثقافات بعد تسلیعها تکفله تکنولوجیا الاتصال المتطورة التی لا تملک الکثیر من الدول غیر الغربیة القدرة على منافستها أو الحد من توغلها فی أذهان مواطنیها والتأثیر على عملیة تشکیل الهویة الثقافیة. الأمر الذی یعنی أن الدولة الوطنیة أصبحت مسئولة عن مساعدة مؤسسات العولمة وشرکاتها وشبکاتها فی أداء مهمتها على المستوى الاقتصادی والثقافی ، وأن وجودها الفیزیقی قد یکون مرهونًا فی کثیر من الحالات بمدى استجابتها لأداء هذا الدور من خلال ما تقدمه من قوانین تشجیع الاستثمار الأجنبی بالصیغة التی تحقق مصالح المستثمرین العابرین للحدود ، و دون وجود أیة ضمانة للخروج من دائرة التبعیة الاقتصادیة والثقافیة فی المستقبل، فضلا عن إمکانیة الحلم بتحقیق تنمیة متوازنة على المستوى الاقتصادی ونظام وطنی لتشکیل الهویات الثقافیة بشکل عادل بین المواطنین.

فالدولة الوطنیة المتکیفة وظیفیًا مع دورها الجدید فی نظام العولمة تمثل بعدًا أساسیًا من أبعاد العولمة الأساسیة، والتی هی : " نظام الدولة الوطنیة، ونظام التقسیم الدولی للعمل، ونظام الاقتصاد الرأسمالی الدولی، والنظام العسکری العالمی. وتتمثل المهمة الأساسیة لأنصار العولمة فی البحث فی کیفیات خلق الانسجام بین هذه الأبعاد الأربعة، من خلال توحید معالم الدولة الوطنیة، وإخضاعها لمعاییر وقیم وحتى لمنظومة قانونیة مشترکة وموحدة، عن طریق دفع الدولة الوطنیة إلى المصادقة على الاتفاقات الدولیة[2]".

یمکن القول إن الفرد فی العالم العربی والذی أوضحت دراسات میدانیة کثیرة أن ثمة تهدیدًا قد طال نظام القیم الأصیل من قبل نظام قیم غربی معولم، هو فرد یواجه التدفق الثقافی العولمی بمفرده دون نظام حمایة تکفله الدولة الوطنیة بعد التحول الذی طرأ على دورها فی النظام مابعد الحداثی/ العولمی، ومن ثم تتضاءل سلطة المجتمع فی الضیط الاجتماعی لأفراد کلما أوغلت الدولة الوطنیة فی الولاء لمؤسسات العولمة، وکلما أوغلت الدولة الوطنیة فی هذا الولاء زادت عزلة الفرد العربی اجتماعیًا وتفاوض على هویته الثقافیة فی سیاق عولمی یحفز الأفراد على التحرر من ولاءاتهم القومیة والوطنیة لصالح هویة عالمیة متجانسة بفعل ما یتم فی السوق العولمی الثقافی من عملیات تجانس للرغبات، وتحکم لیس فی الأسعار فحسب، بل وتحکم فی الأفکار. ولعل الفارق المذهل بین الدول المالکة لوسائل الإعلام والتواصل فی الغرب والدول العربیة المستهلکة لهذه المنتجات والثقافات بعد تسلیعها وتحفیز الفرد العربی لاستهلاکها بنهمٍ، یکشف عن المسار الأرجح الذی تسیر نحوه عملیة التفاوض على الهویة الثقافیة الجاریة فی العالم العربی. ومن هنا فإنه إذا ما عرفنا أن ما ما یستقبله العالم من مواد إعلامیة بشکل یومی تتحکم الولایات المتحدة فی نسبة 65% منه، فإن من الطبیعی أن تکون المنظومة القیمیة الأمریکیة هی المرجعیة الأساسیة للتغییر فی بلدان العالم[3].

إن امتلاک القدرات الهائلة فی مجال الإعلام والاتصالات والتکنولوجیة هو أمر حاسم فی سوق العولمة، وعلى أساسه تتحدد أسهم کل منتج من منتجی السلع والثقافات، لکن لیس ثمة فرصة أمام جمهور المستهلکین سوى طاعة أوامر السوق العولمی والتشکل وفقًا لما یقدمه من حوافز للتجانس فی الرغبات تیسیرًا على منتجی السلع وموزعیها من أجل الوصول لمواطن متحرر من ولاءاته القومیة  ومنحاز لرغباته الفردیة.إن النظر فی التدفق الثقافی والاعلامی على مستوى العالم یکشف عن أن الاحتکار هو الملمح الأساسی للسوق الثقافی والاعلامی العولمی، وأن صناعة العقول وصیاغة الرأی العام العالمی وخلق المعتقدات لدى الأفراد بل وخلق جمهور متعصب لفکرة أو لعقیدة صارت مهمة محتکری هذا السوق دون غیرهم، "فهناک 4 وکالات أنباء عالمیة معروفة باسم الأربعة الکبار تحتکر80% من فیض المعلومات"[4] ، وعلى شبکة الانترنت "یستولی مائة موقع على 80% من إجمالی الزوار، بینما تتنافس ملایین المواقع على الخمس الباقی"[5].

إن التجانس الثقافی المزعوم کهدف لمؤسسات العولمة وشبکاتها للوصول لمواطن عالمی مخلص لرغباته الاستهلاکیة لیس فی جوهره سوى عملیة تجنیس ثقافی یتم فیها خلق متعصبین بشدة لأفکار وسلع مطلوب ترویجها على مستوى عالمی ودون إعمال للعقل بشکل نقدی فی مدى جدواها أو مدى الحاجة لها. ویستلزم لنجاح عملیة التجنیس الثقافی تلک أن تکون محاطة بفوضى ثقافیة تشتت انتباه الأفراد عما یتم لهم من تجنیس ثقافی وهم یتفاوضون على هویته الثقافیة بصدق وجدیة وببطولة فردیة بعد أن تخلت الدولة الوطنیة الحداثیة عن دورها التقلیدی وبعد أن صارت الأصر والجماعات ذات وشائج واهیة لا تحمی أفرادها من العزلة الاجتماعیة والاغتراب. فالعولمة من خلال التدفق الثقافی الهائل تسعى "لإفراز تجانس ثقافی وفوضى ثقافیة فی آن، حیث ردود أفعال دائمة للقومیات، وإفراز ثقافات عابرة للقومیات، وفی هذا تتشکل ثقافة تتجه إلى ما وراء الحدود القومیة"[6].

وفی المقابل، لم یعد متاحًا أمام الفرد العربی المدعو للتفاوض على هویته الثقافیة بشکل یومی سوى أن یخلص لرغباته الاستهلاکیة کی تتحول لأوامر شراء فعلیة، ومن ثم لم یعد یرى سبیلا لتحقیق ذلک سوى بتکریس حل النجاح الفردی أو الخلاص الفردی، مما یزید من العزلة والاعتراب فی المجتمع وبالتالی بناء الهویة بشکل مشوه لأنها عملیة بناء تفتقر للحد الأدنی من الإحساس بالآخر فی المجتمع فضلا عن بناء مشاعر سیاسیة متبادلة معه تکفل لهم بناء هویة سیاسیة مشترکة یخلصون لهم ویحمونها  لتکفل لهم سبیلاً آمنا لبناء هویات ثقافیة متنوعة فی مجتمع متماسک ینعم بولاء أبنائه له ویتمتع بقدرته على ممارسة سلطة الضبط الاجتماعی علیهم برضا متبادل بین الفرد والجماعة. فالمجتمعات اللیبرالیة التی تطمح إلى العدالة وتکافؤ الفرص تحرص على تربیة المشاعر السیاسیة بین المواطنین حتى یمکنها ان  تحررهم من مشاریعهم الشخصیة النرجسیة لیلتزموا بالمهام التی تستحق جهدًا کبیرًا مثل مهمة إدماج المجموعات المهمشة والدفاع عن الوطن، والأهم من ذلک أن تجعلهم یحمون أنفسهم من أن یصبحوا ذواتًا هشة لا تستطیع أن تحمی نفسها إلا بتشویه الآخر.[7]

إن مثل هذه المجتمعات – فی الغالب- تعلن أنها لا تعادی التنوع داخلها ولا تفرض التجنیس الثقافی على مواطنیها، وأنها تعرف کیف تتعامل معه بحکمة وإنسانیة فتفرض التجانس فی الهویة السیاسیة التی هی هویة الدولة اللیبرالیة، وتربى فی نفوس مواطنیها المشاعر السیاسیة التی تمکنها من ذلک، لکن العولمة تعادی التنوع وتفرض التجنیس الثقافی وإن ادعى أنصارها أن غایتها تشکیل هویة إنسانیة عالمیة عابرة للحدود والقومیات، لأنها تتعصب للعالمیة کهویة لمؤسساتها وکهویة مرغوبة لزبائنها بینما یصیبها الذعر من أی طرح أممی أو عالمی آخر لهویة إنسانیة، وفی الوقت نفسه تسوّق لزبائنها انتهاء عصر الإیمان بالهویات القومیة والوطنیة.

 إن الطرح الأممی أو العالمی لصیق الصلة بالأدیان لأن الألوهیة إن لم تکن عالمیة فهی منقوصة، والألوهیة المنقوصة لم یقدمها دین یستهدف أن یکون دینًا عالمیًا للإنسانیة، ومن هنا تسمح العولمة أو ما بعد الحداثة بوجود الأدیان لکن لا تسمح لأیٍ منها بمنافستها فی  طرح الهویة العالمیة الإنسانیة من على أرضیة غیر أرضیتها الاقتصادیة.إن الذعر من الهویات القومیة المتماسکة والزعم فی الوقت نفسه بانتهاء عصر السردیات الکبرى واحدة من تناقضات العولمة بحسب ما یلاحظ تیری إیجلتون." فما بعد الحداثة، مع ذلک، یصیبها الذعر إلى حد بعید من کل الأممیین، بالرغم أن ادعائها أن السردیات الکبرى قد اختفت من على وجه الأرض، أو أنه أینما ینظر المرء لن  یجد هویات مستقرة."[8]

وفی الوقت نفسه، تدعم العولمة ومؤسساتها وشبکاتها بصوت عالٍ الولاءات العرقیة والانتماءات الطائفیة للاقلیات داخل الدول القومیة والوطنیة لیس حبًا فی الهویة المحلیة الطائفیة أو العرقیة، وإنما کراهیة فی وجود إمکانیة لکیان سیاسی قومی أو وطنی مستند لسردیة من السردیات الکبرى ولم یتم إخضاعه بعد لیکون جندیًا ملحقًا بمؤسسات العولمة. ومن ثم فدعم الأقلیات العرقیة والدینیة مشروطٌ بأن یکون مضادًا لمشروع یحمل طرحًا مخالفًا للهویة العالمیة التی تستهدفها مؤسسات العولمة، ومشروط کذلک بألا تتحول واحدة من أقلیات الیوم العرقیة أو الدینیة إلى کیان سیاسی مستند لسردیة کبرى تحمی أفرادها من الاستغراق فی سردیات العولمة الصغری والمتمثلة فی نزعات الاستهلاک اللامحدودة کمشترک وحید بین مستهلکین ومواطنین فی آن للهویة العالمیة بعد تجنیسهم ثقافیًا.

ویمکننا أن نکشف عن هذا أثر هذا التناقض الجوهری على الأیدیولوجات الجمالیة للروایة، وذلک بالوقوف على مفهوم مرتبط بسیاق العولمة وما بعد الحداثة وهو "أممیة الروایة" أو "أدب العالم"، وکیف یتم تقدیمه بشکل مغلوط لترسیخ ثنائیة "المرکز والهامش"، وهی الثنائیة التی تتناقض مع ادعاء العولمة ومؤسساتها وشبکاتها أن غایتها هویة عالمیة.هذا المفهوم تأسست علیه الأیدیولوجیات الجمالیة للروایة على اختلافها تاریخیًا عمتأثرة بالعلاقة بین ثقافة المرکز وثقافات الأطراف  وتغیرها من نظام اقتصادی اشتراکی نجح لفترة فی بلورة أیدیولوجیة جمالیة للروایة ذات طابع أممی یحضر فیها الفقراء المهمشون بقوة، إلى نظام آخر جدید ینجح فی إزاحة النظام الاقتصادی القدیم وما صاحبه من ایدیولوجیة جمالیة للروایة لیقدم أیدیولوجیة جمالیة للروایة تحضر فیها الأقلیات وهویاتها الثقافیة بقوة، وعلى أساسها یتحدد تصور عالمی جدید للروایة.

**

"أدب العالم"-باعتباره نموذجا لکیفیة احتلال المرکز فی نظام الأدب:

من الملحوظ أن التطور التکنولوجی بوصفه أحد ملامح العولمة لم تصحبه محاولات نظریة عالمیة دؤوبة لدراسة السرد فحسب، وإنما صحبه أیضًا انتشار واسع وترسیخ نقدی لتصنیف السرد ذاته على أساس ثنائیة (العالمیة) و (المحلیة). وهذه الثنائیة (عالمی/محلی) وللمفارقة هی جوهر التصنیف النقدی الحداثی وما بعد الحداثی فی أکادیمیات أوربا وأمریکا عند انتقاء نص روائی لیکون ضمن قوائم مجموعات "أدب العالم".

إذا کان حلم کل کاتب أن یکون له نص ضمن هذه المجموعات التی یًشار لها بأنها "أدب العالم" لتکون هویته "الکاتب العالمی"، فإن الاختلافات بین القوائم أو الاعتراض على عدم وجود نص ضمن کل القوائم لیس سوى تعبیر آخر عن الإیمان العمیق بالفکرة نفسها المستندة لیقین بوجود مشروع ومطلق لثنائیة "عالمی/محلی". هذا ما جعلنا نتساءل عن المعاییر النقدیة التی یمکن الإجماع علیها للتصنیف وفق هذه الثنائیة، وبالتالی التفکیر فی الجمالیات العابرة للقومیات وللثقافات وللأزمنة التاریخیة. وعلى هذا لم یکن من الممکن الاکتفاء بالکشف عن المغالطات التی انبنی بها مفهوم "أدب العالم"  فی سعى المجموعة المهیمنة على مؤسسات النقد العالمیة لبناء هویة آخرها المحلی من النصوص، وهو ما نفعله بالتناول النقدی للمفهوم، إذ الأکثر أهمیة من وجهة نظری کشف المغالطات التی تبنی بها جماعة هویة نصوصها من منطلق أنها النصوص المحلیة.

 فی ضوء هذا کله، نحاول أن نلقی الضوء على الجدل الدائر حول تصنیف مجموعة من الروایات على انها "أدب العالم" لتبقى المحلیة علامة على هویة غیرها من النصوص، والتفکیر بالتالی فی الحیثیات التی جعلت من التصنیف الروائی وفق ثنائیة (العالمیة) و(المحلیة) تقییمًا لسرود شعوب العالم، فرضه علیهم المرکز الرأسمالی للنقد الأدبی فی خضم عملیة تفاوض عنیف على الهویة الثقافیة لیس للنصوص الأدبیة فحسب، وإنما لشعوب العالم غیر الغربی فی علاقتهم بمفهوم العالم الإنسانی بحسب ما یطرحه المرکز الرأسمالی للنقد الأبی فی الغرب. ومن المهم أن ندرک مدى ما ینطوی علیه هذا التصنیف للجمالیات الأدبیة من تقییم ذی طابع تراتبی یتجسد فی صیغ المفاضلة بین أیدیولوجیة جمالیة وأیدیولوجیة جمالیة أخرى، أو بین فهم لماهیة السرد وجمالیاته لدى أمة وفهم آخر للسرد عند أمة لدیها موروث سردی مؤثر على تطور تاریخ السرد لدیها.

لقد ترکّز مجال عمل المرکز النقدی الرأسمالی الغربی الداعم لمفهوم "أدب العالم" على "الأدب الحدیث"، ,وتحدیدًا فی الروایة،  لیقطع الصلة بذلک بین التراث السردی لدى الأمم غیر الغربیة وبین الشکل الحدیث للسرد الروائی السائد فی المجتمع الأدبی الغربی باعتباره نموذجًا على الأدباء فی بقیة أرجاء العالم أن یتنافسوا لیحذوا حذوه ویبدعوا فی إقناع نقاد ومنظری المرکز النقدی فی الغرب أنهم قد برعوا فی مهمة التبعیة الجمالیة الموکولة لهم، ومن ثم یستحقون أن یُمنحوا شهادة الجودة الأدبیة[9]. وهذا منحى مختلف سلکه منظرو الأدب ونقاده فی المرکز الرأسمالی العولمی بطرحهم وترسیخهم لمفهوم "أدب العالم" ، عما کان أسلافهم یفعلونه بطرحهم مفهوم "الأدب المقارن" لدراسة جوانب التأثیر والتأثر بین الأدب الذی ینتجونه فی الغرب فی الزمن الحاضر أو الماضی، وبین الأدب الذی أنتجته الأمم غیر الغربیة فی ماضیها، حیث کان الحدیث عن تأثر کاتب بریطانی أو فرنسی بألف لیلة ولیلة أو رسالة الغفران أو بمعلقة عنترة ابن الشداد...إلخ.ومن ثم یدور الحدیث حول کیفیة وصول التأثیر إلیهم ومدى هذا التأثیر وجوانب الاختلاف بین النصین. لاشک أن مفهوم "الأدب المقارن" صاحبه عملیة اختزال للآخر وأدبه نتج عنها صورة نمطیة للعالم العربی وللشرق رسخها کثیر من المستشرقین، إذ ارتسم فی مخیلة القارئ الغربی المنبهر بألف لیلة ولیلة أن العالم العربی والإسلامی عبارة عن ساحة کبیرة للخلیفة هارون الرشید وحوله الجواری یغنین ویرقصن!

لقد ظهر مفهوم "أدب العالم" بعدما أدى مفهوم "الأدب المقارن" دوره المطلوب منه فی ترسیخ صورة ذهنیة عن الآخر غیر الغربی لا غنی عنها لتأکید مرکزیة الذات الغربیة القادرة على التمدد لتحتوی الآخر المختلف عنها لتضفی علیه من أسباب التحضر الذی حازته فی الحاضر وعجز الآخر عنه. ومن ثم کان ثمة دور جدید فی انتظار مفهوم "أدب العالم"، وهو ترسیخ أنه لم یعد هناک أطراف، لأنه لم یعد هناک عوالم متعددة یمکن المقارنة بین آدابها، وإنما أصبح هنا المرکز وأصبح هناک عالم واحد، وبالتالی أصبح العالم الواحد الباقی هو المرکز بعد اختفاء الأطراف باختفاء العوالم الثلاثة التی کانت تستمد مشروعیة وجودها فی عملیة مقارنة أدبیة من واقع تتعدد فیه العوالم (الشرق- الغرب- الجنوب)."فخطاب العولمة، هو إلى حد کبیر، تفکر بموروثات المرحلة التی یبدو الآن، أنها استمرت من 1945 إلى 1989، وهی مرحلة سیطر 

علیها تخیل معین للکوکب فی صورة العوالم الثلاثة. وقد ظهر حدیث العوالم الثلاثة -الأول الرأسمالی، والثانی الشیوعی، والثالث الناشئ عن تصفیة الکولونیولیة – فی أوائل الخمسینیات من القرن الماضی، ورغم ما قوبل به من تحد من کل الأطراف، فقد بقى مسیطرًا على تلک المرحلة"[1]. لقد تجسد أخذ التنازع بین هذه العوالم کافة الأشکال الممکنة لمعنى التنازع فکان التنازع عسکریًا واقتصادیا وسیاسیًا وثقافیًا، الأمر الذی تجسد فی وجود تنازع على الأیدیولوجیة الجمالیة التی یُحتکم إلیها فی النظر إلى آداب الأمم والشعوب وحث أدبائها على إبداع سرودهم على منوالها، ومن ثم یکافأوا بالاندراج ضمن تصنیف أممی للروایة، عابر للدولة الوطنیة والقومیات. والأحرى أن نقول إن تطور أشکال العالم الرأسمالی منذ الحرب العالمیة الثانیة وحتى سقوط حائط برلین فی 9 نوفمبر 1989،  وما ترتب على هذا التطور من أشکال مختلفة من العلاقات بین الغرب والشرق والجنوب على مدى نصف قرن،  قد قدم تصورات مختلفة لماهیة الروایة ولکیفیة کتابة روایة تناسب اللحظة الثقافیة التی کان یعیشها العالم الإنسانی سواء کان منتجًا أو مستهلکًا فی سوق الرأسمالیة المادی والثقافی. فـ "عند انتصاف عصر العوالم الثلاثة (1989-1945) بدت الروایة میتة، مستنفدة. ففی العالم الرأسمالی الأول اختزلت إلى شکلانیات متفاقمة الإمحال، بجوار صناعة قامت على جنس من الحکایا الشکلیة. وفی العالم الشیوعی الثانی جرى تحویل التقالید الرسمیة للواقعیة الاشتراکیة إلى شکل من أشکال الأدب التعلیمی الشعبی. وفی جلید هذه الحرب الأدبیة الباردة تفجرت [مائة عام من العزلة] 1967 لغارثیا مارکیز، أول روایة من الروایات الأکثیر مبیعًا فی العالم تأتی من أمریکا اللاتینیة (...) وفی إثرها ظهر مفهوم جدید للروایة العالمیة"[2].

فی ظل ازدهار العالم الشیوعی کانت الواقعیة الاشتراکیة بمثابة محاولة لبلورة أممیة جمالیة تحدد ماهیة للروایة وکیفیة کتابتها وجمالیاتها تتسق مع السیاق الثقافی الذی یعیشه العالم وقتئذ، ولعل فوز ثلاثیة میغویل آنجیل آستورباس Miguel Angel Astreurias  بجائزة لینین وجائزة نوبل[3] معًا یشیر إلى روح الحرب الباردة وانعکاسها على مفهوم الأممیة الجمالیة المطلوب بلورته وترسیخه بالجوائز الأدبیة، لکن إذا کان مایکل دینینغ Michael Denning قد لاحظ ارتباط  الواقعیة الاشتراکیة بوصفها الأیدیولوجیة الجمالیة الأممیة فی ظل ازدهار العالم الثانی الشیوعی، بشکل روایة الأجیال أو الثلاثیة على مستوى عابر للقومیات، فإن تفسیر منح جائزة نوبل لنجیب محفوظ استنادًا لثلاثیته کنموذج على الواقعیة کأیدیولوجیة جمالیة أممیة، هو تفسیر جزئی لأنه لا یلتفت إلى أن جائزة نوبل تمنح لمجمل أعمال الکاتب ولیس لعمل بعینه، وتنوع الأیدیولوجیات الجمالیة الکامنة فی نصوص محفوظ عبر رحلته الإبداعیة الطویلة یحول دون الاقتناع بتفسیر منحه الجائزة بالظرف الثقافی للحرب الباردة وأممیة الواقعیة الاشتراکیة کأیدیولوجیة جمالیة. ومع ذلک نذهب مع دینینغ إلى القول بأن کتّاب الروایة الواقعیة على اختلاف أشکال الواقعیة قد اعتنقوا " على نحو معلن، أیدیولوجیة جمالیة أممیة، وکانوا یسعون إلى إقامة الروابط العابرة للقارات، ونشطوا فی الترجمة، بعضهم لبعض"[4]. وأنه مع وصول الروایة الواقعیة لطریق مسدود وبعد أن تشبع من جمالیاتها القراء، کانت "مائة عام من العزلة" تدشن للواقعیة السحریة باعتبارها خط الإنتاج الجدید لمفهوم الروایة العالمیة.

 یتضح مما سبق أن السعى لبلورة جمالیة عابرة للقومیات سعى قدیم ومرتبط بأشکال الرأسمالیة وتطورها وبالعلاقات الدولیة، ولهذا فإن من المهم الالتفات إلى تغیر الجمالیات الروائیة زمنیُا والتفاوت الطبیعی بین الثقافات فی مدى الاستجابة لجمالیة دون أخرى بحسب موقعها من الصراع بین العوالم أو بحسب مدى تواصل تاریخها الأدبی وعدم انقطاعه، وقدرته على المساهمة الفعالة فی تقدیم أیدیولوجیة جمالیة محلیة تستجیب للاحتیاجات الجمالیة للإنسان المعاصر عبر القارات. إن تغیر الأیدیولوجیات الجمالیة للروایة لا یعنی أنه لاتوجد قیمة جمالیة ذات طابع عالمی فی الإبداع الروائی، وإنما یعنی أن تطور الفن الروائی هو نتیجة لتفاعل الحاضر مع الماضی، وأن هذا التفاعل لابد أن ینتج عنه تغیر فی شکل الأیدیولوجیة الجمالیة الکامنة فی الإنتاج الروائی، وأن هیمنة أیدیولوجیة جمالیة فی لحظة تاریخیة یعنی أن ثمة استجابة بین مستهلک عالمی للروایة ومنتج وفر السلعة المطابقة للمواصفات الرأسمالیة للاستهلاک الروائی التی وضعها المرکز الرأسمالی للنقد الأدبی بنفوذه التکنولوجی والاقتصادی فی سیاق العولمة. وللحقیقة فإن المرکز الرأسمالی للنقد الأدبی فی الغرب أو ما یمکن أن نطلق علیه مؤسسة النقد الأدبی ذات الذخیرة التنظیریة والسلطة الرمزیة وذات القدرة على التحکم فی الجوائز الأدبیة العالمیة، بل والقادرة على التحکم بشکل مباشر أو غیر مباشر فیما یمکن تقدیمه لطلاب الأدب فی الجامعات الأمریکیة والأوربیة من نصوص أدبیة باعتبارها نماذج أدبیة جدیرة بالتحلیل وتطبیق النظریات النقدیة الأدبیة الحدیثة علیها، أقول، إن هذه المؤسسة – إن جاز التعبیر- لیست مسئولة عن تغیر الأیدیولوجیات الجمالیة ، بل ولا یعیب مفهوم العالمیة فی ذاتها أن یکون متغیرًا بتغیر الأیدیولوجیات الجمالیة للفن الروائی، لأن فی هذا التغیر ذاته " تکمن أهمیة عالمیة القیمة الجمالیة ودلالتها بالنسبة لتطور الفن، ولکی یتکشف هذا لنا فلابد أن نهجر التصور الاستاتیکی للقیمة العالمیة وندرک أن لهذه القیمة العالمیة خاصیة الطاقة الحیویة والتی تتجدد باستمرار"[5].

ولکی ندرک أهمیة هذا التغیر فی الأیدیولوجیات الجمالیة للروایة یمکن أن نلقی نظرة على جدول أعددته استنادًا لتصور قدمه الباحث شکری عزیز الماضی فی کتابه "أنماط الروایة العربیة الجدیدة" على خلفیة مقارنته بین مفاهیم ثلاثة یستدعی کل منها الآخر (الروایة التقلیدیة- الروایة الحدیثة- الروایة الجدیدة)[6] باعتبارها ثلاثة أشکال تمثل تطور الروایة العربیة دون الوقوع فی فخاخ التحقیب الزمنی. لکنها تعکس من وجهة نظری تطور التاریخ الثقافی والفکری للرأسمالیة الغربیة، وهو تطور تباینت أنصبة الأمم من إنجازه بقدر ما أوغلت فی التشکل بهویة الغرب الراسمالی اقتصادیًا وثقافیًا. ومن ثم تعکس هذه الأنماط الثلاثة للتطور الروائی التطور من عصر ما قبل الحداثة إلى زمن الحداثة إلى زمن ما بعد الحداثة، مع ضرورة فهم العلاقة على أنها علاقة بین أنساق ثقافیة متحرکة ولیست ثابتة أو جامدة، ویمکن أن نجد ثلاثة أشخاص فی غرفة واحدة ینتمون ثقافیًا للأزمنة الثقافیة الثلاثة مثلما یمکن أن نجد کاتبًا واحدًا أنتج روایة واحدة بها ملامح من الجمالیات الثلاث لهذه الأنساق الثقافیة.

 

الروایة التقلیدیة

(نسق ما قبل الحداثة)

الروایة الحدیثة

(نسق الحداثة)

الروایة الجدیدة

(نسق ما بعد الحداثة)

*تصمیم یعید إنتاج الوعی السائد

 تصمیم یجسد رؤیة وثوقیة للعالم.

تجسید لرؤیة لا یقینیة للعالم.

-وظیفتها متمثلة بالتعلیم والوعظ والإرشاد

مهمتها تقدیم تفسیر فنی للعالم یعکس الإحساس بالقدرة على التفسیر والتعلیل لظواهر العالم،من خلال التغلغل لجوهر الظواهر وتصویر العلاقات من الداخل.

هی جدیدة لأنها ضد التحدید والتصنیف بدلیل کثرة المسمیات التی تحاول الإمساک بها:   (روایةاللاروایة-الروایة التجریبیة- روایة الحساسیة الجدیدة- الروایة الطلیعیة – الروایة الشیئیة)

ظهرت فی مرحلة النشأة والبدایات بصفة اساسیة.لکنها مازالت موجودة.

ذات بناء متماسک ومترابط ومتدرج فنیًا(بدایة -ذروة –نهایة)

الذات المبدعة تحس غموضًا یعتری حرکة الواقع، کما تشعر انها مهددة بالتلاشی.

من صفاتها النوعیة أنها ذات أفکار جاهزة تسقط داخل الشکل الروائی.

یختفی الکاتب من أجل الموضوعیة الفنیة/ الإیهام بالواقعیة بغرض إقناع القارئ.

تسعى لتأسیس ذائقة جمالیة جدیدة أو وعی جمالی جدید.

هناک حرص على التوثیق والتسجیل باسم الواقعیة مرة وباسم الإیهام مرة

تهدف لأن یحل التناغم مکان الخلل، حتى لو کانت ذات رؤیة عبثیة تعکس تصور الخلل فی العلاقات بین الإنسان و محیطه.

تستند لجمالیات التفکک بدلاً من جمالیات الوحدة والتناغم. لذلک تقوم بتفجیر منطق الحبکة والتسلسل.

الاهتمام بالوقائع أکبر من الاهتمام بالشخصیات

 

من أجل تحطیم مبدأ"الإیهام بالواقعیة" یتدخل الروائی الجدید بصورة مباشرة وغیر مباشرة،بل ویخاطب القارئ ویحاوره، ویعلق ویشرح.

وسائل الربط بین الأحداث القضاء والقدر أو تدخلات السارد المباشرة

 

یتعمد الروائی الجدید الانحرافات السردیة المتکررة والانتقال من حدث لآخر ومن زمن لزمن، وإخفاء الزمن أو المکان أحیانًا .

ینهض بمهمة السرد راوٍ علیم بکل شئ

 

موضوع الروایة لا یتصف بالتناغم او الوحدة، والشخصیات مجرد أطیاف أو حروف أو أصوات

الشخصیات تتکلم لغة الکاتب

 

هناک مستویات لغویة متعددة

 إن هذه الأنماط الروائیة علامات رئیسیة فی تاریخ تطور النوع الروائی فی الغرب وبالتبعیة فی دول الأطراف التابعة له جمالیًا مثلما هی تابعة له اقتصادیًا وسیاسیًا. إن هیمنة نمط من هذه الأنماط لا یکون بقرار تصدره مؤسسة النقد الرأسمالیة لتابعیها، کما أنها لا تنتج بنفسها الروایات التی تتنافس لتحظى بشهادة الجودة الأدبیة العالمیة، وإنما لا یمنع ذلک من القول بأن دورها رئیسی فی تحدید مواصفات السلعة الأدبیة المناسبة لمصالحها ولترسیخ مرکزیتها کشرط لأن تقوم بتسویقها عالمیًا بصفتها السلعة العالمیة، حتى لو کان منتجو هذه السلع من الأطراف، بل کون بعضهم من الأطراف دلیل أوضح على ترسیخ مرکزیتها وتحقیق مصالحها من وراء تعمیم أیدیولوجیة جمالیة على مستوى العالم. فالعالمیة - خلافًا لما یذهب إلیه ماکارفسکی- لا تتحقق لنص أدبی بفضل قدرته، کوسیط بین المبدع وجمهوره، على إنتاج محصلة دلالیة تستطیع أن تصمد "أمام التغیر فی المکان والوسط الاجتماعی والزمان"[7]، من خلال تقدیم الجوهر الأنثربولوجی للإنسان، ذلک أن المبدعین والمتلقین والنص الأدبی لا یوجدون فی الفراغ! فالسیاق الثقافی والاجتماعی وطبیعة المجتمع الأدبی والسوق الرقمیة ومتطلبات سوق الترجمة الأدبیة أصبحت أکثر فاعلیة فی زیادة انتشار نص ما وتتویج صاحبه لیکون من ضمن قائمة الکتاب الأکثر مبیعًا فی العالم.

إن النص القادر على الصمود أمام تغیر الزمان والمکان والوسط الاجتماعی والوصول للإنسان فی بقاع مختلفة وأزمنة مختلفة لاشتماله على معانٍ وقیم ذات طبیعة إنسانیة مشترکة، قد یکون نصًا عالمیًا ویندرج ضمن الخوالد الأدبیة أو ضمن عیون التراث الأدبی الإنسانی، لکنه لن یکون ضمن مجموعات "أدب العالم"، التی تتحکم مؤسسة النقد الأدبی فی سیاق العولمة فی قصرها على الروایة الحدیثة، ووفق مواصفات إنتاج أیدیولوجیة جمالیة معینة تتفق والرغبات التی تم خلقها لدى القارئ فی السوق الرقمیة بشکل متجانس على مستوى العالم.

لقد کان الوصول لمواصفات جمالیة تصلح لقراء الأدب عبر القارات من أحلام النقاد، بل إن علم الجمال التجریبی الذی وضع أسسه فیشر Fecher کان یهدف من ورائه إلى الوصول لقواعد تمکّن الکتاب من إنتاج أدب لکل قراء العالم. ورغم فشل فیشر فی تحقیق هدفه، فإن الحلم ظل یراود ذهن ماکروفسکی متسائلاً:
"هل لنا أن نأمل فی یوم من الأیام إلى صیاغة مجموعة من الوصایا تؤدی إلى خلق أعمال ذات قیمة جمالیة عالمیة؟"[8].

لم یصل ماکاروفسکی لوصایا محددة ، بل دعا للتخلی عن التصور الاستاتیکی عند التعامل مع مفهوم القیمة الجمالیة العالمیة واعتبار تغیرها ضرورة  لتطور الأدب والفن بشکل عام، وهذا صحیح، لکن مؤسسة النقد الأدبی فی سیاق العولمة، وللمفارقة، حققت حلم فیشر القدیم بالوصول لقواعد مطلقة تصلح لکتاب أدب مناسب لکل قراء العالم، لکن بالطریقة التی تطلبها نظام السوق، وذلک من خلال الاستفادة من التدفق الثقافی العالمی عبر النوافذ الالکترونیة والوسائط الإعلامیة واتباع استراتیجیات خلق الرغبات لدى المستخدمین والعمل على تجنیسهم ثقافیًا بثقافة المرکز الأمریکی، باعتبارها ثقافة العالم.

إن وجود مشترک جمالی وثقافی بین الشعوب والأمم لا ینکره أحد، ولا یقاومه إنسان یسعى لوجود جسور للتواصل بین الثقافات، بل إن وجود قراء من أمم شتى تستدعی من تراث الأدب الإنسانی ما یشبع حاجات الإنسان المعاصر الجمالیة فی بقاع مختلفة من العالم دلیل على أن المتشرک الجمالی الإنسانی له جذور قویة، وأنه یمکنه لو تم البناء علیه بطریقة عادلة أن یکون لغة تواصل لتجسیر الفجوات العدیدة بین الشعوب. لکن ما قدمته مؤسسة النقد من خلال مفهوم "أدب العالم" فی سیاق العولمة لیس سوى ممارسات کولونیالیة متسترة بمفهوم العالمیة لتأکید أن ما بقى هو المرکز الأمریکی/الغربی، وأن ما زال من الوجود هم کل الأطراف بعد تجنیسهم ثقافیًا وجمالیًا. ولهذا کان مفهوم "أدب العالم" منذ نشأته مفهومًا یتسم بالزیف، فإقصاء التراث السردی الشفاهی وقطع الصلة بینه وبین السرد المعاصر للترکیز على الروایة الغربیة یجعل من مفهوم "أدب العالم" منافسة بین التابعین لإثبات کفاءتهم – من خلال الجوائز الأدبیة الکبرى-فی إنتاج روایة المرکز أو الروایة التی یرضى عنها المرکز بحسب الأیدیولوجیة الجمالیة التى حددها- لیتمرکزوا ولیعولموا فینتعش سوق الروایة العالمیة. ومع ذلک، فإن التفوق فی المنافسة لن یغیر من هویة التابع بوصفه ابن الأطراف اللاجیء للمرکز لنیل الاعتراف النقدی بأدبه. ثمة أمر آخر یطعن فی الأسس التی تدیر بها مؤسسة النقد فی سیاق العولمة عملیة التصنیف على أساس ثنائیة "عالمی/محلی"، وهو الانحیاز الکمی الواضح لنصوص العالم الغربی فی مجموعات أدب العالم على حساب نصوص بقیة الأمم غیر الغربیة. فإذا کان من المفهوم أن نشأة الروایة فی الغرب یکفل لأدباء الغرب أن یکونوا بلا منافسة حقیقیة من شعوب بدأت تستورد وتتعرف على شکل الروایة الغربیة، فإن القرن العشرین قد شهد تطورًا فی إنتاج الروایة الغربیة فی بلاد غیر غربیة یجعل المرء یتشکک فی أن یکون الغرب هو الراعی لأعراف الروایة فی القرن العشرین، بعد تفوق أدباء العالم غیر الغربی على آباء الروایة فی الغرب، لکن عدم قبول مؤسسة النقد الاعتراف بذلک جعلها تنحاز فی تصنیفها لمجموعات "أدب العالم" بشکل واضح ضد الآداب غیر الغربیة."فالغرب، أعنی أمریکا الشمالیة وأوربا، الذی یمثل أقل من 20 % من سکان العالم، وأقل من 10% من نسبة لغات العالم وثقافاته، لدیه 75% من مساحة مصنفات مجموعة أدب العالم، بینما بقیة شعوب العالم محشورة فی نسبة الـ 25% الباقیة"[9].  

ومن هنا یتضح زیف ادعاء أن ممارسات المرکز الرأسمالی للنقد الأدبی فی سیاق العولمة یمکن أن تنتج مجموعات تعکس بصدق إسهامات شعوب العالم فی إثراء النوع الروائی فضلًا عن التراث الحکائی الإنسانی. "إن القول بروایة عالمیة، کالقول بموسیقى عالمیة، أمر تحوطه الشکوک؛ فهی وإن کانت تشیر ، على نحو لا زیف فیه، إلى الجغرافیا المتحولة للروایة، فإنها تبقى وسیلة تسویقیة تسطح تراثات إقلیمة ولغویة متباینة لتدخلها فی لحن عالمی کوزمبولیتانی واحد، بحیث تؤدی الواقعیة السحریة دور جمالیات العولمة، وغالبًا ما تکون صفة العالمیة عنوانًا فارغًا ومفتعلاً مثل الحداثة والواقعیة الاشتراکیة اللتین حلت محلهما".[10]

فی عالمنا العربی، ثمة آثار سلبیة عدیدة لمؤسسة النقد الأدبی فی المرکز الرأسمالی الغربی على المجال الأدبی العربی، وفی مقدمة هذه الآثار الانشغال بانبهار مفرط بمتابعة التدفق الثقافی العولمی ومسوغات النظریات الأدبیة للأیدیولوجیات الجمالیة الأممیة وصولاً لأدب العالم وواقعیته السحریة کأیدیولوجیة جمالیة للعولمة، وقد ترتب على هذا عدم الاهتمام الکافی بوصل ما انقطع فی تاریخ الأدب العربی وأنواعه وأعرافه وجمالیاته[11]. ورغم التبعیة بإخلاص للمرکز وأیدیولوجیاته الجمالیة، لم یسفر ذلک کله عن لفت انتباه دراسی الأدب ونقاده فی صفوف الأدب  بالجامعات الأمریکیة لدراسة "الأدب العربی  فی مرحلة ما بعد الاستعمار، [کما أنه] لا یتعرض تدریس الأدب المقارن فی الجامعات الأمریکیة لدراسة سیاقیة للأدب العربی الحدیث"[12].

لاشک أن فوز نجیب محفوظ بجائزة نوبل فی عام 1988کان نقطة فارقة فی تاریخ العلاقة بین المرکز الأدبی والهامش، إذ أصبح الأدب العربی موضع اهتمام المترجمین فتضاعفت حرکة ترجمة الأدبیة عدة أضعاف منذ هذا الاعتراف العالمی بروایة محفوظ روایة عالمیة وبمحفوظ روائیًا عالمیًا، لکن هذا الحدث الذی مرّ علیه ربع قرن من الزمان، أحدث تشوهًا فی المجتمع الأدبی العربی بحسب ما یؤکد صبری حافظ حیث "أصبح لدینا العدید من النصوص المکتوب بالعربیة من قبل کتاب عرب لا یعرفون لغة أوربیة واحدة، ونصوصهم تستهدف بشکل ضمنی. وقد أخذ هذا الأمر ثلاثة أشکال. الأول هو شرح المرجعیة الثقافیة المحلیة التی یعرفها القاریء العربی جیدًا.وهذا بالأحرى قاده للنظر فیما هو مشروح. والثانی تغریب العالم الروائی واختیار موضوعات یعتقد الکاتب أنها یمکن أن تجذب القارئ الغربی. والثالث تزییف الواقع  ولى عنق تقاصیل معینة لتناسب أو تبرر التصور المقبول فی الغرب عن الشرق"[13].

لقد انشغل کثیر من الروائیین العرب- حقًا -فی العقدین الماضیین بترجمة روایاتهم واتبعوا الإرشادات اللازمة لتحقیق ذلک بسهولة، لکن الحدیث عن أثر ذلک فیما قدموه من سرود تتمثل فی استفاضتهم فی  المرجعیة الثقافیة المحلیة فی الروایات العربیة على اعتبار أنها روایات موجهة للقارئ الغربی ولیس العربی، بل وتمثیل الواقع سردیًا بشکل مزیف لیوافق تصورات المرکز الغربی عن الشرق.

وفی المقابل، نجد ثمة احتفاء فی سوق الجوائز الأدبیة الکبرى وترجمة الآداب غیر الغربیة بالنصوص التی تشتغل على انثربولوجیا المجتمعات غیر الغربیة، وقضایا الهویات الثقافیة وأوضاع الأقلیات والفئات المهمشة کمکافأة على اقتفاء أثر أیدیولوجیة جمالیة للروایة تجعل من واقع الثقافات الطرفیة واقعیة سحریة مدهشة لقاریء یتم تصویره على أنه منتمٍ لمجتمعات متقدمة "أکثر إنسانیة" ولا تعرف هذا الواقع إلا عبر الروایة التی تصبح وسیلة للتعرف على أبناء هذه الثقافات من الوافدین الطامحین للانتماء للمرکز عبر اللجوء أو الهجرة.

 فعلى سبیل المثال، یمکن بالنظر لروایات النوبیین فی مصر الکشف عن ملمح مهم من ملامح الأیدیولوجیة الجمالیة للروایة حیث یُنظر للهویات الثقافیة وقضایاها على أنها عنصر أساسی فی بلورة هذه الأیدیولوجیة الجمالیة، فمنذ روایة الشمندورة لخلیل قاسم المنشورة فی عام 1968، لم تستطع عین المترجم الغربی  التقاط أی من روایات النوبیین وقصصهم البانیة لهویتهم القومیة، إلا فی عام 2005 حین تتم ترجمة [14]مجموعة "لیالی المسک العتیقة" القصصیة لحجاج أدول عام 2005 أی بعد صدورها بسبع سنوات عن الهیئة المصریة العامة  للکتاب، وبعد حصولها على جائزة الدولة التشجیعیة فی عام 1990 بخمس سنوات، ومع ذلک لم یتم الاهتمام النقدی فی الغرب بها مثلما یتم الاحتفاء بروایة إدریس علی "دنقلة" المنشورة عام 1993 فی الهیئة المصریة العامة للکتاب والتی تتم ترجمتها[15] فی عام ,1998، وتستمر طبعاتها لیتم تقدیمها للقارئ الغربی باعتبارها روایة أقلیة عرقیة منشقة عن الدولة القومیة العروبیة فی مصر من أجل استعادة الهویة النوبیة ذات الکیان السیاسی المستقل، ومن ثم یرسخ الخطاب النقدی[16] الاستشراقی لهذا التصور بمفاهیم لیبرالیة تتعلق بالحقوق الثقافیة للجماعات والأقلیات المهمشة. وفی العام التالی لترجمة دنقلة تتم ترجمة أضعف روایات إدریس علی فنیًا وهی روایة "تحت خط الفقر[17]"، لتأکید هذا التصور المطلوب تثبیته لدى القارئ الغربی عن النوبة وسردها القومی.

أما فیما یتعلق بالجوائز الأدبیة الکبرى، فالشکوک التی تحوم حول جائزة نوبل -فی الأوساط العربیة على الأقل- والتی تکشف بجلاء عن الدوافع السیاسیة التی تحرّک فی کثیر من الأحیان بوصلة جمالیات الروایة، جعلت الفوز الوحید فی العالم العربی بهذه، وهو فوز نجیب محفوظ فی 13 أکتوبر عام 1988، موضوعًا یحتاج – على مدى ثلاثة عقود- للبحث عن أسباب غیر أدبیة تبرر سبب توجیه بوصلة الدوافع السیاسیة ناحیة جمالیات الروایة عند نجیب محفوظ فی هذا التوقیت، ولهذا ظهرت محاولات التفسیر فی شکل اتهامات للفائز الوحید بالموقف من التطبیع مع إسرائیل مرة، وبالموقف النقدی من الدین مرة أخرى.

صفوة القول إن جمالیات الروایة تتشکل فی سیاق سیاسی واقتصادی مرهون بطبیعة العلاقات الدولیة وتغیراتها الکبرى، ومن هنا یمکن الحدیث عن نظام عالمی للروایة تتغیر ملامحه بحسب تغیر هذه العلاقات ودورها فی سوق الجوائز الأدبیة وحرکات الترجمة والقدرة على المشارکة فی خلق رغبات جمالیة أممیة متجانسة.

[1] مایکل دینیغ: الثقافة فی عصر العوالم الثلاثة. سلسلة عالم المعرفة العدد 401، المجلس الوطنی للثقافة والفنون ، الکویت یونیو 2013.ص44.

[2] المرجع السابق.ص75.

[3]  المرجع السابق ، ص91.

[4] المرجع السابق.ص92.

[5] موکارفسکى, جان: هل تکون القیمة الجمالیة عالمیة؟ ترجمة سیزا قاسم، مجلة ألف. العدد3. الجامعة الأمریکیة بالقاهرة. 1983. ص73-74.

[6] شکری عزیز الماضی: أنماط الروایة العربیة الجدیدة، عالم المعرفة، ،ع355،الکویت،سبتمبر 2008،راجع التصدیر،ص-ص8-16.

[7] موکارفسکی، جان: مرجع سابق. ص78.

[8] المرجع نفسه، ص79.

[9] Sabry Hafez. "World Literature After Orientalism: The Enduring Lure of the Occident.” Alif: Journal of Comparative Poetics, no. 34, 2014, p.31.

[10] مایکل دینیغ: مرجع سابق.ص76.

[11] Sabry Hafez.Ibid. p-p 23-26.

[12] محمد سلامة: أدب العالم بین المرکزیة والتهمیش، قراءة فی الأدب العربی ما بعد الاستعمار. مجلة ألف. العدد 34. الجامعة الأمریکیة بالقاهرة. القاهرة 2014. ص 57.

[13] Sabri Hafez.Ibid. p.p.30-31.

[14] Uddūl, Ḥajjāj H., and Anthony Calderbank. Nights of Musk: Stories from Old Nubia. American University in Cairo, New York;Cairo;, 2005.

[15] ʻAlī, Idrīs. Dongola : A Novel of Nubia. , United States, 1998.

-ʻAlī, Idrīs, Peter Theroux, and Anīs Manṣūr. Dongola: A Novel of Nubia. The American University in Cairo Press, Cairo, 2006.

[16] Abbas, Fatin. "Egypt, Arab Nationalism, and Nubian Diasporic Identity in Idris Ali's Dongola: A Novel of Nubia." Research in African Literatures, vol. 45, no. 3, 2014, pp. 147-166.

- Boullata, Issa J. Dongola: A Novel of Nubia. vol. 73, University of Oklahoma, Norman, 1999.

- Gilmore, Christine. "A Minor Literature in a Major Voice": Narrating Nubian Identity in Contemporary Egypt." Alif: Journal of Comparative Poetics, vol. 35, 2015

[17] Alī, Idrīs,  Taḥta khaṭṭ al-faqr. English.;"Poor,  translated by Elliott Colla. vol. 3310/07., American University in Cairo Press, New York;Cairo;, 2007.

[1] طیبی غماری: طیبی غماری:تصورات الدین والثقافة والعولمة:تبریرا للحوار أو القطیعة بین الشعوب.مجلة تبیین، المرکز العربی للأبحاث ودراسة السیاسات. الدوحة، العدد 4، ربیع 2013. (ص-ص163-182.). ص169.

[2] المرجع السابق.ص175.

[3] شریف محمد عوض: صناعة الثقافة فی عصر العولمة وأثرها فی تغییر ملامح الهویة الثقافیة. مجلة هرمس. إصادار 1، مجلد 2 .مرکز جامعة القاهرة للغات والترجمة. القاهرة 2013. ص108.

[4] المرجع السابق، ص108.

[5] المرجع نفسه، ص-ص108-109.

[6] المرجع نفسه، ص-ص105-106.

[7] Nussbaum, Martha C. Political Emotions: Why Love Matters for Justice. The Belknap Press of Harvard University Press, London;Cambridge, Massachusetts;, 2013.p.3.

[8] Eagleton, Terry. Eagleton, Terry. Culture and the Death of God. Yale University Press, New Haven, Connecticut, 2014..p.188.

-          [9] , Sabry Hafez. "World Literature After Orientalism: The Enduring Lure of the Occident. Alif: Journal of Comparative Poetics, no. 34, 2014. p.12.

 

أولا المراجع العربیة
- شریف محمد عوض: صناعة الثقافة فی عصر العولمة وأثرها فی تغییر ملامح الهویة الثقافیة. مجلة هرمس. إصدار 1، مجلد 2 .مرکز جامعة القاهرة للغات والترجمة. القاهرة 2013.
- شکری عزیز الماضی: أنماط الروایة العربیة الجدیدة، عالم المعرفة، ،ع355،الکویت،سبتمبر 2008.
-طیبی غماری: طیبی غماری:تصورات الدین والثقافة والعولمة:تبریرا للحوار أو القطیعة بین الشعوب.مجلة تبیین، المرکز العربی للأبحاث ودراسة السیاسات. الدوحة، العدد 4، ربیع 2013. (ص-ص163-182.).
- محمد سلامة: أدب العالم بین المرکزیة والتهمیش، قراءة فی الأدب العربی ما بعد الاستعمار. مجلة ألف. العدد 34. الجامعة الأمریکیة بالقاهرة. القاهرة 2014.
ثانیًا المراجع المترجمة
-  مایکل دینیغ: الثقافة فی عصر العوالم الثلاثة. سلسلة عالم المعرفة العدد 401، المجلس الوطنی للثقافة والفنون ، الکویت یونیو 2013.
- موکارفسکى, جان: هل تکون القیمة الجمالیة عالمیة؟ ترجمة سیزا قاسم، مجلة ألف. العدد3. الجامعة الأمریکیة بالقاهرة. 1983.
ثالتًا المراجع الأجنبیة
-     Abbas, Fatin. "Egypt, Arab Nationalism, and Nubian Diasporic Identity in Idris Ali's Dongola: A Novel of Nubia." Research in African Literatures, vol. 45, no. 3, 2014, pp. 147-166.
- ʻAlī, Idrīs. Dongola : A Novel of Nubia. , United States, 1998.
- ʻAlī, Idrīs, Peter Theroux, and Anīs Manṣūr. Dongola: A Novel of Nubia. The American University in Cairo Press, Cairo, 2006.
-Boullata, Issa J. Dongola: A Novel of Nubia. vol. 73, University of Oklahoma, Norman, 1999
- Eagleton, Terry. Eagleton, Terry. Culture and the Death of God. Yale University Press, New Haven, Connecticut, 2014.
- Gilmore, Christine. "A Minor Literature in a Major Voice": Narrating Nubian Identity in Contemporary Egypt." Alif: Journal of Comparative Poetics, vol. 35, 2015.
-  Nussbaum, Martha C. Political Emotions: Why Love Matters for Justice. The Belknap Press of Harvard University Press, London;Cambridge, Massachusetts;, 2013.
- Sabry Hafez. "World Literature After Orientalism: The Enduring Lure of the Occident. Alif: Journal of Comparative Poetics, no. 34, 2014.
-  Uddūl, Ḥajjāj H., and Anthony Calderbank. Nights of Musk: Stories from Old Nubia. American University in Cairo, New York; Cairo;, 2005.