اتجاهات الشعر الجاهلي في النقد العربي القديم والحديث.

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

مدرس بکلية الآداب – جامعة القاهرة

المستخلص

يتاول هذا البحث فکرة مهمة من أفکار النقد العربي حول الشعر الجاهلي قديما وحديثا، هي فکرة تقسيم هذا الشعر إلى اتجاهات ومدارس متميزة، ويحاول أن يرصد محاولات التصنيف القديمة والحديثة، وأن يکشف عن الأسس التي قامت عليها، کما يناقش هذه المحاولات موضحا وجود مشکلات کثيرة فيها، ومقترحا أسسا جديدة للتصنيف حيث تبدو الفکرة صحيحة على الرغم من مشکلات التصنيفات القائمة، ومن ثم فإن الإجراء العلمي الأفضل يتمثل في إعادة التصنيف وليس في تجاهل الفکرة التي أثبت البحث أنها ذات أهمية کبيرة في دراسة عدد من قضايا الشعر الجاهلي الرئيسة.
وينقسم هذا البحث إلى أربعة مباحث، خصص المبحث الأول لعرض التصنيفات التي قدمها النقد العربي القديم، وخصص المبحث الثاني لعرض التصنيفات التي قدمها النقد العربي الحديث، أما المبحث الثالث فقد اضطلع بدراسة مشکلات التصنيفات المطروحة للشعر الجاهلي، وقام المبحث الرابع بمحاولة تجاوز هذه المشکلات وتقديم مقترح جديد للتصنيف مع القيام بدرس تطبيقي يوضح قدرة هذا المقترح وأهميته، ويساعد الباحثين على استخدام هذه الفکرة في دراسات تالية.

الكلمات الرئيسية


تعد فکرة تقسیم الشعر الجاهلی إلى اتجاهات ومدارس من الأفکار المهمة التی عنی بها دارسو الأدب العربی قدیما وحدیثا، کما تعد من الأفکار التی یمکن الإفادة من بحثها فی دراسة مجموعة من القضایا المهمة المتصلة بالشعر الجاهلی، کما یمکن الإفادة فی بحثها من التقدم الکبیر الذی أحرزته النظریات النقدیة المعاصرة، والإجراءات التطبیقیة التی قدمتها، مما یعطی أهمیة کبیرة لدراستها.

ویُعنى هذا البحث بتطور الفکرة فی النقد العربی القدیم والحدیث، ویوضح أهمیتها فی التأریخ للشعر الجاهلی، وکیفیة دراسته على نحو قد یکون حاسما فی تقویم بعض النظریات التی ترتبط به.

وینقسم هذا البحث إلى أربعة مباحث، خصص الأول منها لمحاولات تصنیف الشعر الجاهلی فی النقد العربی القدیم، بینما عنی المبحث الثانی بحدیث الدارسین المحدثین عن مدارس الشعر الجاهلی والاتجاهات الفنیة التی یمکن تصنیفه على أساسها، على حین عنى المبحث الثالث بمناقشة المحاولات السابقة وبیان الأسس التی اعتمدت علیها فی التصنیف، والمشکلات التی واجهت هذه المحاولات، بینما یحاول المبحث الرابع أن یتجاوز هذه المشکلات، مقدما طریقة جدیدة للتصنیف، وموضحا أهمیة الفکرة فی دراسة عدد من قضایا الشعر الجاهلی وتقدیم إضاءات مهمة لها.

- المبحث الأول تصنیف الشعر الجاهلی فی النقد العربی القدیم.

تعود فکرة تصنیف الشعر الجاهلی أو تصنیف شعرائه إلى وقت مبکر من تاریخ النقد العربی القدیم فی القرن الثانی الهجری؛ فالأصمعی [210ه تقریبا] یقسم الشعراء إلى: فحول، وغیر فحول، وأشباه فحول، وفرسان([1])، فقد روى أبو حاتم السجستانی أنه سأله عن الأعشى" أعشى قیس بن ثعلبة، قال: لیس بفحل، قلت: فعلقمة بن عبدة؟ قال: فحل، قلت: فالحارث بن حلزة؟ قال: فحل، قلت فالشماخ؟ قال: فحل، قلت: فمزرد أخوه؟ قال: لیس بدون الشماخ ، ولکنه أفسد  شعره بما یهجو الناس .. قلت: فالحویدرة؟ قال: لو قال مثل قصیدته خمس قصائد کان فحلا، قلت: فمهلهل؟ قال: لیس بفحل، ولو قال مثل قوله: "ألیلتنا بذی جُشم أنیری" کان أفحلهم، قلت: فالأسود بن یعفر النهشلی؟ قال: یشبه الفحول... قلت: فزید الخیل الطائی؟ قال: من الفرسان ..." ([2]).    وقد روى الجاحظ فی البیان والتبیین عن الأصمعى أنه قال: " زهیر بن أبی سلمى، والحطیئة، وأشباههما عبید الشعر، وکذلک کل من جود فی شعره ، ووقف عند کل بیت قاله وأعاد فیه النظر حتى یخرج أبیات القصیدة کلها مستویة فی الجودة "([3])  وکذلک روى عنه ابن رشیق أنه قال: لا یصیر الشاعر فی قریض الشعر فحلا حتى یروی أشعار العرب، ویسمع الأخبار، ویعرف المعانی، وتدور فی مسامعه الألفاظ، وأول ذلک أن یعلم العروض، لیکون میزانا على قوله، والنحو، لیصلح به لسانه، ولیقیم إعرابه، والنسب وأیام الناس، لیستعین بذلک على معرفة المناقب والمثالب وذکرها بمدح أو بذم "([4]) .

ویبدو من النصوص السابقة کثیرة الدوران فی کتب الأدب اهتمام الأصمعی بمعیارین للتقسیم الأول: معیار کمی ، فالشاعر لا یکون فحلا إلا إذا قال عددا لم یحدده من القصائد الجیدة. والثانی: معیار کیفی فنی یتصل بصفات معینة ینبغی أن تتوفر فی الشعر لیکون صاحبه شاعرا فحلا، أهمها صفة انطباعیة هی أن یکون قویا، أو کما یقول إحسان عباس" أن یمثل طرازا رفیعا فی السبک، وطاقة کبیرة فی الشاعریة"([5]) وأن یکون شعره مستویا فی الجودة، وموضحا لثقافة صاحبه ومعرفته بأشعار العرب وأخبارها، کما نلاحظ أنه یضیف المعیار الأخلاقی للتقییم؛ إذ إنه رفض أن یکون مزرد من الفحول؛ لأنه انشغل بهجاء الناس رغم إقراره بأنه لا یقل عن الشماخ فنیا.

وتوضح روایة الجاحظ عن الأصمعی أنه أول من التفت إلى مدرسة شعریة خاصة بزهیر والحطیئة وغیرهما من الشعراء المجودین، الذین أطلق علیهم عبید الشعر. وهی المدرسة الأکثر بروزا فی تصنیفات النقاد قدیما وحدیثا.

وتستمر تلک المحاولات لتقییم الشعراء، وتصنیفهم حسب الجودة الشعریة إلى طبقات، ففی القرن الثالث یقدم ابن سلام [232] محاولته لتصنیف الشعراء الجاهلیین والإسلامین، ویجعل کلا منهما فی عشر طبقات یقول:" ذکرنا العرب وأشعارها، والمشهورین المعروفین من شعرائها وفرسانها وأشرافها وأیامها ... فاقتصرنا من ذلک على ما لا یجهله عالم، ولا یستغنی عن علمه ناظر فی أمر العرب، فبدأنا بالشعر. ففصلنا الشعراء من أهل الجاهلیة والإسلام المخضرمین الذین کانوا فی الجاهلیة وأدرکوا الإسلام، فنزلناهم منازلهم، واحتججنا لکل شاعر بما وجدنا له من حجة، وما قال فیه العلماء. فاقتصرنا من الفحول المشهورین على أربعین شاعرا، فألفنا من تشابه شعره منهم إلى نظرائه، فوجدناهم عشر طبقات  أربعة رهط کل طبقة متکافئین معتدلین. ثم إنا اقتصرنا ــ بعد الفحص والنظر، والروایة عمن مضى من أهل العلم ـــ إلى رهط أربعة ، اجتمعوا على أنهم أشعر العرب طبقة، ثم اختلفوا بعد. وسنسوق اختلافهم واتفاقهم، ونسمی الأربعة ونذکر الحجة لکل واحد منهم ــ ولیس تبدئتنا أحدهم فی الکتاب نحکم له ، ولا بد من مبتدأ ــ ونذکر من شعرهم الأبیات التی تکون فی الحدیث والمعنى"([6]).

وفی هذه المحاولة یقسم ابن سلام الشعراء إلى عشر طبقات فی کل طبقة أربعة شعراء، مؤکدا أن شعراء کل طبقة متساوون تماما، ولا تفاضل بینهم، وأن ترتیب ذکرهم فی طبقتهم لا یعنى التفاضل بینهم؛ إذ لا بد من مبتدأ على حد قوله.

وقد ذکر ابن سلام الأسس التی استند إلیها. وأول هذه الأسس أساس أو معیار الفحولة، ولم یشمل کتابه کل الفحول من الشعراء، وإنما اقتصر منهم على الفحول المشهورین. واصطفى من هؤلاء المشهورین أربعین شاعرا، ثم رأى أن یجعلهم فی درجات، أو منازل طبقا لفحولتهم، أو طبقا لجودة أشعارهم. وهنا یأتی المعیار الثانی، وهو معیار الجودة الفنیة حیث یمیز الفحول من الشعراء فی الطبقة الثانیة عن فحول الطبقة الأولى، أما المعیار الثالث فهو معیار الکم، لأنه یذکر أحیانا أن سبب تأخر بعضهم فی الطبقات، أو الدرجات الفنیة هو قلة أشعارهم،  حیث نراه یؤخر مجموعة من الشعراء لقلة أشعارهم. ففی حدیثه عن شعراء الطبقة الرابعة یقول" وهم أربعة رهط فحول شعراء، موضعهم مع الأوائل، وإنما أخل بهم قلة شعرهم بأیدی الرواة"([7])  وکذلک فی حدیثه عن شعراء الطبقة السابعة  " فالطبقة السابعة عنده یمثلها أربعة رهط محکمون مقلون وفی أشعارهم قلة، فذلک هو الذی أخرهم "([8]).

ویشیر تتبعنا لمعاییر تصنیفه إلى وجود معیار رابع، هو المعیار الموضوعی حیث جمع أصحاب المراثی فی طبقة واحدة، وزادها على طبقاته العشر یقول:" وصیرنا أصحاب المراثی طبقة بعد العشر الطبقات" ویجعل فیهم متمما بن نویرة ، والخنساء ، وأعشى باهلة ، وکعب بن سعد "کما وضع ابن قیس الرقیات والأحوص وجمیل بثینة ونصیبا معا، لأنهم یشترکون فی الغزل.

ولا یخلص التصنیف لهذه المعاییر إذ نجد معیارا خامسا هو المعیار البیئی، فقد خصص طبقة ثانیة بعد الطبقات العشر، وهی طبقة شعراء القرى العربیة و"هی خمس: المدینة ومکة والطائف والیمامة والبحرین"، کما جعل شعراء الیهود فی طبقة، ویمکننا عند تحلیل القسم الأخیر أن نتحدث عن المعیار الدینی أو الثقافی، أو أن نعد هذا القسم من ثمار الاعتداد بالمعیار البیئی إذ کان الیهود منتمین إلى حواضر ریفیة خاصة بهم، فی فدک وخیبر ویثرب.

وتتداخل معاییر أخرى کثیرة فی تصنیف ابن سلام إذ یدخل عامل السبق التاریخی، والفنی عند من احتج بقولهم فی تقدم امرئ القیس وتفضیله، وکذلک یدخل عامل التنوع الموسیقى والطول النسبی للقصائد، إذ یذکر أن من قدم الأعشى من النقاد إنما قدمه لتفوقه الموسیقى، ولطول قصائده، وأنه طرق کل موضوعات الشعر. 

ونلاحظ على تصنیفه بعض الاضطراب، إذ إنه قد نص على أنه جعل الفحول من الشعراء فی عشر طبقات ثم رأیناه یزید طبقة لأصحاب المراثی، وطبقة لشعراء القرى، وطبقة لشعراء الیهود، ولا نرى مبررا لجعل أصحاب المراثی طبقة، إلا إذا کان المبرر أنهم اقتصروا فی أشعارهم على الرثاء، ولم یتطرقوا إلى غیره من الموضوعات، کما أن إضافة المعیار البیئی تزید من اضطراب التصنیف .

ورغم تأکید ابن سلام أن شعراء کل طبقة متساوون فی أشعارهم متکافئوون معتدلون، وأن تقدم ذکر بعضهم على غیره لا یعنى تقدمه علیهم، فإننا نراه یفاضل بین شعراء الطبقة الواحدة. ففی حدیثه عن طبقة شعراء المراثی نراه یقدم متمما على الخنساء وغیرها ممن ینتمون إلى هذه الطبقة یقول"وأولهم متمم بن نویرة .. والمقدم عندنا متمم بن نویرة"([9]) وفی حدیثه عن طبقة شعراء القرى نراه أیضا یقدم شعراء المدینة على غیرهم من شعراء القرى الأخرى" وأشعرهن قریةً المدینةُ"([10]).

أما الجاحظ فقد اعتد بمعیار الطبع والصنعة، والشعر عنده مطبوع ومصنوع فی آن،" إذ هو یقصد بالطبع تلک الموهبة أو الاستعداد الفطری لقول الشعر([11]) وبالصنعة الجهد المبذول فی تجوید الشعر، فهو یرى أن الأصل فی الإبداع الشعری هو الطبع، ولکنه یجعل قیمته الفنیة فی الجهد الذی یبذله الشاعر فی إقامة الوزن، وتخیر اللفظ بعد أن تتوافر له صحة الطبع.

 وقد أشار الجاحظ إلى هؤلاء الشعراء الذین کانوا یعدون الشعر صناعة یقول " ومن شعراء العرب من کان یدع القصیدة تمکث عنده حولا کریتا، وزمنا طویلا یردد فیهما نظره، ویقلب فیها رأیه اتهاما لعقله، وتتبعا على نفسه، فیجعل عقله زماما على رأیه، ورأیه عیارا على شعره، إشفاقا على أدبه، وإحرازا  لما خوله الله من نعمه، وکانوا یسمون تلک القصائد : الحولیات والمنقحات المحکمات لیصیر قائلها فحلا خنذیذا، وشاعرا مفلقا. "([12])

والجاحظ بذلک لا یعلی من شأن الشعراء الصانعین المجودین فی مقابل المطبوعین، وإنما یتناول القضیة من منظور ینفی فیه هذه الثنائیة، ثنائیة الطبع فی مقابل الصنعة، ویجعل الطبع مرادفا للموهبة الشعریة، أو الاستعداد الأولی لقول الشعر، کما یجعل القیمة الشعریة قوامها الصنعة، أو الجهد المبذول من الشاعر فی تجوید شعره، وبذلک یمکن أن نفترض أن کل الشعراء مطبوعون وصانعون فی آن غیر أن ثمة مجموعة بالغت فی التجوید، والتنقیح حتى ترضى عن القصائد قبل أن تخرج  إلى الجمهور حتى ظهرت آثار الصنعة واضحة فی أشعارهم، واشتهر من هذه المجموعة زهیر والحطیئة، ومن تتلمذ علیهما من الشعراء.

وقد عنى الجاحظ بالرد على الأصمعی فی اتهامه اتجاه زهیر بالتکلف "وذهب إلى أنه توجد سیاقات تتطلب العنایة بالصنعة وتجوید الکلام وطول المراجعة والتنقیح، فـ" من تکسب بشعره والتمس بشعره صلات الأشراف والقادة وجوائز الملوک والسادة، فی قصائد السماطین، وبالطوال التی تنشد یوم الحفل، لم یجد بدا من صنیع زهیر والحطیئة وأشباههما، فإذا قالوا فی غیر ذلک أخذوا عفو الکلام وترکوا المجهود"([13])

وإذن فصنعة زهیر ومدرسته لا تعنی التکلف، وإنما المراجعة والتدقیق والتنقیح التی یفرضها مقام التعامل مع السادة والملوک والأشراف والإلقاء فی المحافل الأدبیة، ولا یعنی هذا أنهم لم یکونوا من أصحاب الطبع الذین تأتیهم المعانی سهوا وتنثال علیهم الألفاظ انثیالا، فقد کانوا کذلک، لکنهم أضافوا لذلک فی بعض المواقف التأنی والتأنق.  

ولا یکتفی الجاحظ بالدفاع عن المجودین الذین لجأوا إلى الرویة والمراجعة  من الشعراء، بل یذهب إلى تفضیل مذهبهم على ترک المراجعة والاکتفاء بالطبع، إذ لابد من التروی والتدقیق فی مهمات الأمور، وإذ لابد من الصبر على المراجعة، ومن عقل یقود الطبع، ویهذبه یقول: " وکانوا إذا احتاجوا إلى الرأی فی معاظم التدبیر ومهمات الأمور میثوه فی صدورهم ، وقیدوه على أنفسهم، فإذا قومه الثقاف، وأدخل الکیر، وقام على الخلاص، أبرزوه محککا منقحا، ومصفى من الأدناس مهذبا"([14])  بل إنه یذهب إلى أنه لابد للطبع والغریزة من عقل یرتفع بهما، ویهذبهما، وینعی على من لا یصبر على المراجعة والتعقل یقول " قال سحبان وائل : شر خلیطیک السؤوم المحزّم" لأن السؤوم لا یصبر، وإنما التفاضل فی الصبر. والمحزّم صعب لا یعرف ما یراد منه، ولیس الحزم إلا بالتجارب، وبأن یکون عقل الغریزة سلما إلى عقل التجربة([15])".

ونمضی فی محاولات التصنیف قلیلا مع ابن قتیبة (276ه) فنراه یعتمد فی تصنیفه على ثنائیة الطبع والصنعة أیضا، لکنه یخالف الجاحظ فی تقییمه للصنعة، کما خالفه فی أکثر آرائه لا سیما العقدیة. وابن قتیبة یفرق بین نمطین من الشعراء المتکلف والمطبوع. والمتکلف هو الذی " قوم شعره بالثقاف، ونقحه بطول التفتیش، وأعاد فیه النظر بعد النظر کزهیر والحطیئة، یقول الأصمعی زهیر والحطیئة وأمثالهما من الشعراء عبید الشعر، لأنهم نقحوه، ولم یذهبوا فیه مذهب المطبوعین، وکان الحطیئة یقول: خیر الشعر الحولی المنقح المحکک، وکان زهیر یسمی کبیر قصائده الحولیات وقال سوید بن کراع یذکر تنقیحه شعره:

أبیتُ بأبواب القوافی کأنَّما

 

أصادی بها سربا من الوحش نُزعا

أکالئها حتى أعرّس  بعدما

 

یکون سحیرا أو بعید فأهجعا"([16])

وقد ذکروا أن هناک علامات یعرف بها العلماء المتکلف من الشعر، " لتبینهم ما نزل بصاحبه فیه من طول التفکر، وشدة العناء ورشج الجبین، وکثرة الضرورات، وحذف ما بالمعانی حاجة إلیه، وإثبات ما بالمعانی غنى عنه"([17]) ، فی مقابل ما نجده عند المطبوعین، وهم: "من سمح بالشعر واقتدر على القوافی وأراک فی صدر البیت عجزه وفی فاتحته قافیته، وتبینت على شعره رونق الطبع ووشی الغریزة. وإذا امتحن لم یتلعثم، ولم یتزجر" ([18]) .

 من خلال النص السابق ندرک أن صفة التکلف ترتبط عند ابن قتیبة بإعادة النظر فی الشعر، وتنقیحه، وتجویده، فالشاعر المتکلف لا یکتفی بالطبع، وبالقول بالبدیهة، وإنما کثیرا ما یعید النظر فی أشعاره وقصائده. أما الطبع فهو القدرة على نظم الشعر على البدیهة  بسهولة ویسر، حیث تغنی الموهبة صاحبها عن التدقیق، والتفتیش والتنقیح ، وطول المعالجة.

ومن الواضح فی هذا السیاق أن أصحاب الطبع مقدمون ومفضلون على أصحاب الصنعة المتکلفین یقول ابن قتیبة عن عبید الشعر" وکان یقال لولا أن الشعر قد استعبدهم واستفرغ مجهودهم حتى أدخلهم فی باب التکلف، وأصحاب الصنعة ، ومن یلتمس قهر الکلام واغتصاب الألفاظ لذهبوا مذهب المطبوعین الذین تأتیهم المعانی سهلا ورهوا وتنثال علیهم الألفاظ انثیالا"([19])

ویقسم ابن رشیق الشعر کذلک إلى مطبوع ومصنوع، ویجعل الطبع هو الأصل وهو الأساس لقول الشعر یقول:" ومن الشعر مطبوع ومصنوع فالمطبوع هو الأصل الذی وضع أولا وعلیه المدار، والمصنوع وإن وقع علیه هذا الاسم فلیس متکلفا تکلف أشعار المولدین، لکن وقع فیه هذا النوع الذی سموه صنعة من غیر قصد، ولا تَعَمُّلٍ، لکن بطباع القوم عفوا فاستحسنوه، ومالوا إلیه بعض المیل بعد أن عرفوا وجه اختیاره على غیره، حتى صنع زهیر الحولیات على وجه التنقیح والتثقیف، یضع القصیدة، ثم یکرر نظره فیها، خوفا من التعقب بعد أن یکون قد فرغ من عملها، فی ساعة، أو لیلة، وربما رصد أوقات نشاطه، فتباطأ عمله لذلک. والعرب لا تنظر فی عطاف شعرها بأن تجنس أو تطابق، أو تقابل، فتترک لفظة للفظة، أو معنى لمعنى کما یفعل المحدثون، ولکن نظرها فی فصاحة الکلام وجزالته، وبسط المعنى وإبرازه، وإتقان بنیة الشعر، وإحکام عقد القوافی وتلاحم الکلام بعضه ببعض"([20])  

ومن الواضح أن ابن رشیق یعنى عنایة شدیدة بالتمییز بین صنعة المحدثین وصنعة العرب؛ فصنعة المحدثین أقرب إلى التکلف، أما صنعة العرب فهی مستویان: المستوى الأول الصنعة التی تأتی من غیر قصد ولا تعمل، أی أنها الدرجة الأولى من الصنعة، أما المستوى الثانی للصنعة: فهو صنعة المراجعة والتنقیح، وأساسها صنعة زهیر کما تتجلى فی حولیاته.

وإذن فالصنعة عند القدماء غیرها عند المحدثین؛ فصنعة العرب هی العنایة بالمراجعة والتنقیح لإتقان بنیة الشعر، وإحکام القوافی، وبسط المعنى وإبرازه، أما صنعة المحدثین فإنها تهدف من المراجعة إلى الزینة اللفظیة من قبیل الجناس ، والمقابلة والمطابقة.

وهکذا فقد قدم لنا النقاد العرب القدامى محاولات لتصنیف الشعر الجاهلی اعتمدت على مجموعة من الأفکار نحو فکرة الفحولة عند الأصمعی، والطبقة عند ابن سلام ، والطبع والتکلف عند ابن قتیبة، والطبع والصنعة عند الجاحظ وابن رشیق ، کما قدموا لنا مجموعة من معاییر التصنیف، منها المعیار الفنی والمعیار البیئی،  والمعیار الکمی، والمعیار الموضوعی ، کما یعود إلى هؤلاء النقاد أول تحدید لمدرسة عبید الشعر، تلک المدرسة التی أکثر دارسو الأدب فی العصر الحدیث من الحدیث عنها، إذ تعود تسمیة هذه المدرسة، وتحدید شعرائها إلى الأصمعی.

 کذلک عنی النقاد القدامى ببیان أثر التلمذة الشعریة، وروایة الشعر، وحفظه على نشأة مدارس شعریة معینة، نحو ما ذکره أبو الفرج فی ترجمته لجمیل بن معمر، محددا الامتداد الزمانی لمدرسة عبید الشعر التی تحدث عنها الأصمعی حیث یصل کُثَیِّرا بزهیر بن أبی سلمى مرورا بکعب والحطیئة وهدبة بن خشرم. یقول عن جمیل: " شاعر فصیح مقدم جامع للشعر والروایة، کان راویة هدبة بن خشرم، وکان هدبة شاعرا راویة للحطیئة، وکان الحطیئة شاعرا راویة لزهیر وابنه. وعن جمیل أخذ کُثَیِّر "([21])

ومع ظهور الصراع بین القدماء والمحدثین فی العصر العباسی أخذ تصنیف الشعراء منحى جدیدا وإن کان قد اعتمد على فکرة الطبع، بید أن المطبوع أصبح هو کل الشعر العربی القدیم الذی یمثل مذهب الأوائل وعمود الشعر الذی یجب على الشاعر المحدث تعلمه، والالتزام به، أما المصنوع فهو ما خرج على هذا المذهب من شعر المحدثین ولجأ إلى المعاظلة أو التعسف فی التصویر والإسراف فی البدیع .

وبظهور فکرة عمود الشعر توارت فکرة تصنیف الشعر الجاهلی إلى مطبوع ومصنوع، وتوحد الاتجاه القدیم فی مذهب الأوائل الذی یمثل المطبوع ، ویجسد عمود الشعر فی مقابل مذهب المحدثین المجددین فی الشعر العباسی، وبهذا اختفت الفروق بین الشعراء الجاهلیین، وأصبحوا اتجاها واحدا یمثل عمود الشعر، وسوى النقاد بین امرئ القیس وزهیر والأعشى والنابغة، لیمثل شعر کل هؤلاء مذهب العرب، وعمود الشعر، وضُم إلیهم من کان على مذهبهم من الشعراء المحدثین فی العصر العباسی وعلى رأسهم البحتری، بینما أصبح الاتجاه المقابل المصنوع، أو المتکلف متمثلا فی شعر الخارجین على عمود الشعر، وعلى مذهب الأوائل، وعلى رأسهم أبو تمام. ومن هنا فقد أخذ مصطلحا الطبع والصنعة باعتبارهما صفة للشعر دلالة مغایرة  لمعناهما عند الجاحظ وابن قتیبة، فارتبطت کلمة الطبع عند الآمدی بصفات بعینها منها " حلاوة اللفظ، وحسن التخلص، ووضع الکلام فی مواضعه ، وصحة العبارة، وقرب المآتی، وانکشاف المعانی "([22]) وهی الصفات التی مثلها البحتری رأس المحدثین السائرین على مذهب العرب من المطبوعین، بینما ارتبط مصطلح الصنعة بالتکلف، والمعاظلة، واستکراه المعانی، وفساد النظم، والخروج على عمود الشعر .

وبغض النظر عن تقییمنا للنقد الدائر حول المقارنة بین الشعراء القدماء والمحدثین آنذاک، فقد مثل هذا النقد نقلة مهمة فی مسألة تصنیف الشعراء، حیث ربط التصنیف بشکل واضح بمجموعة من الخصائص الفنیة التی توجد فی قسم من الشعر، ولا توجد فی قسم آخر رغم کل ما فی المصطلحات المستخدمة فی وصف الشعر من عمومیة وانطباعیة یحتاج معها تحدید محتوى معرفی واضح لها إلى مجهود کبیر جدا، یستقرئ النصوص ویحدد صفاتها وخصائصها الأسلوبیة .

غیر أنه من الظلم النظر إلى هذه المصطلحات بوصفها دوال بلا مدلولات یمکن الإمساک بها، فمصطلح عمود الشعر الذی أصبح مناط تصنیف الشعراء یعنی عدم مخالفة قواعد العرب فی التجوز، إذا استخدمنا عبارة أحمد بن فارس الرائده فی کتابه " الصاحبی" سواء کان التجوز فی الترکیب أو الدلالة، ویعنی هذا أمرین:

-       الأول على مستوى الترکیب وهو استخدام الأبنیة الترکیبیة المعروفة فی العربیة، فإذا کانت العربیة تجیز الحذف والإبدال والتقدیم والتأخیر فإن هذه الإجازة لیست غیر مشروطة، وإنما هی مشروطة باستخدام الأبنیة الترکیبیة التی استخدمها العرب، وقد أکثر الشعراء المولدون من مخالفة قواعد التقدیم والتأخیر ومعاد الضمیر على نحو غیر معهود.

-       والثانی على المستوى الدلالی، وهو عدم الخروج على قواعد المجاز، فإذا کانت العربیة تجیز الکنایة عن معنى باستخدام عبارة یدل ظاهرها على معنى آخر، وتجیز استعارة کلمة للدلالة على مفهوم کلمة أخرى، فإن هذه الإجازة مشروطة بقوانین التجوز التی سبق أحمد ابن فارس إلى تسمیتها بـ [سنن العرب فی المجاز]([23])، والتی تجرى الآن دراسات جادة للکشف عنها، نحو دراسة محمد غالیم: التولید الدلالی فی البلاغة والمعجم([24])، التی کشف فیها عن قوانین الاستعارة والکنایة على نحو تتضح معه کیف تکون الاستعارة ملائمة أو غیر ملائمة، وقریبة أو بعیدة یصعب على العربی الانتقال فیها من المعنى الأول إلى المعنى الثانی.

وما یهمنا هنا هو بیان أن مصطلح عمود الشعر کان بالدرجة الأولى مصطلحا تصنیفیا، یفصل بین نوعین من الشعر، الأول تمثل فی شعر القدماء ومن وافقهم من المحدثین فی الالتزام بقواعد العربیة فی المجاز، والثانی تمثل فی شعر بعض المولدین الذین لم یلتزموا بهذه القواعد على المستوى الترکیبی والدلالی، غیر أن هذا الجهد التصنیفی لا یدخل فی اهتمام بحثنا الحالی، إذ إنه یسوی باعتماده على فکرة عمود الشعر بین الشعراء الجاهلیین حیث یرکز على أوجه الاتفاق بینهم، بینما یدرس هذا البحث تصنیفهم اعتمادا على أوجه الخلاف. 

المبحث الثانی: اتجاهات الشعر الجاهلی فی النقد العربی الحدیث:

توقف الدارسون المحدثون کثیرا عند القضیة ذاتها، محاولین تقسیم الشعر الجاهلی إلى اتجاهات، أو مدارس فنیة متمایزة، منادین بضرورة البحث عن السمات الفنیة المشترکة التی تجمع بین مجموعة من الشعراء، موضحین أهمیة مثل هذا الاتجاه البحثی فی معالجة بعض أهم القضایا المثارة حول الشعر الجاهلی، ولا سیما قضیة الانتحال.

 لقد أشار طه حسین فی کتابه " فی الأدب الجاهلی" إلى ضرورة الاحتکام إلى عدة مقاییس للتحقق من صحة الشعر الجاهلی، أو الاحتکام إلى مقیاس واحد مرکب، بحیث لا نعتمد على اللفظ فقط لإمکان تقلیده، ولا على المعنى فقط لإمکان تقلیده، إنما ینبغی أن نعتمد على معیار مرکب یعتمد على اللفظ، والمعنى، ویعتمد کذلک على أشیاء أخرى فنیة، وتاریخیة. ومن مجموع هذه الأشیاء نستخلص لأنفسنا مقیاسا یقرب إلینا صواب الرأی فی هذا الشعر الجاهلی المضری، أو فی طائفة من هذا الشعر المضری الجاهلی.

ویضرب طه حسین مثلا بشعر زهیر، موضحا أن التحقق من نسبته إنما یکون بالتأکد من ملاءمة اللفظ والمعنى للعصر الذی قیل فیه الشعر، ولا یجب أن نطمئن إلى ذلک فقط، وإنما یجب أن ننظر إلى الخصائص الفنیة التی تظهر عند الشاعر، ثم هو لا یطمئن أیضا إلى معیار الخصائص الفنیة الخاصة بالشاعر، لأن ذلک مما یسهل على الراوی محاکاته، وإنما یجب أن نلتمس هذه الخصائص الفنیة عند مجموعة من الشعراء، یقول: " أنا إذا لا أکتفی بهذه الخصائص الفنیة التی توجد عند الشاعر وحده دون غیره، لأقطع بصحة شعره، أو أرجحها، وإنما ألتمس خصائص أخرى یشترک فیها هذا الشاعر وشعراء آخرون بینه وبینهم صلة ما... فإذا ظفرت بهذه الخصائص الفنیة، ورأیتها مشترکة بین طائفة ما من الشعراء، رجحت أن لشعر هذه الطائفة نصیبا من الصحة، إلا أن یقوم الدلیل على أن شعر هذه الطائفة کله قد نحله راو بعینه" ([25]) .

وإذن فقضیة التصنیف قد اکتسبت أهمیة کبرى، إذ أصبحت أداة للتحقق من قضیة الانتحال، وهی واحدة من أهم القضایا التی أثیرت حوله، وقد کانت مدرسة عبید الشعر أول اتجاه توقف عنده طه حسین، منطلقا مما جاء فی النقد العربی القدیم، من أن " زهیرا کان راویة أوس بن حجر، وأن الحطیئة کان راویة زهیر، وأن کعب بن زهیر کان شاعرا تعلم الشعر من أبیه. وإذا فبین یدی شعراء أربعة: أوس وزهیر وکعب والحطیئة ... وإذا کان هذا کله حقا فإننا إزاء مدرسة شعریة معینة، أستاذها الأول أوس بن حجر، وأستاذها الثانی زهیر، وأستاذها الثالث الحطیئة الذی أخذ عنه فی الإسلام جمیل وعن جمیل أخذ کثیر"([26]).  ومما تمیزت به هذه المدرسة الاعتماد على التشبیه والتصویر المادی الدقیق الذی اقتفوا فیه أستاذهم الأول أوس، کما أنها تتمیز بالاشتراک فی طائفة من المعانی والألفاظ التی صارت حظا شائعا للمدرسة کلها.

وقد أسهمت فکرة تقسیم الشعر الجاهلی إلى مدارس فنیة تتمیز کل مدرسة منها بسمات فنیة معینة تکون قاسما مشترکا ممیزا لشعراء هذه المدرسة فی عدول طه حسین عن تشککه فی الشعر الجاهلی جملة، وجعلته یقبل شعر شعراء مدرسة زهیر ویسلم بصحة نسبته، إذا اتفقت سماته الفنیة مع السمات الفنیة لشعر هذه المدرسة. وهو فی ذلک ینطلق من الأساس الفنی فی تحدید شعر هذه المدرسة وشعرائها، وتتمثل هذه السمات عنده فی " حسیة الخیال، ومقاومة الطبع ، وعدم الاندفاع فی قول الشعر مع السجیة التی ترسل إرسالا، فتفیض بالشعر کما یفیض الینبوع بالماء "([27])

وقد أشار طه حسین إلى أکثر من مدرسة شعریة أخرى، ولکنه لم یتوقف عند السمات الفنیة الممیزة لهذه المدارس، داعیا الباحثین لالتماس مدارس شعریة أخرى یقول: " وأما أنت فعلیک أن تمضی فی هذا البحث على هذا الأسلوب، فتلتمس المدرسة الشعریة فی المدینة هذه التی کانت تتألف من قیس بن الأسلت، وقیس بن الخطیم، وحسان بن ثابت وکعب بن مالک.. وتلتمس المدرسة الشعریة فی مکة، هذه المدرسة التی کانت تتألف من شعراء لم یکن لهم شأن فی الجاهلیة، ولکنهم ظهروا عندما اشتد جهاد قریش للنبی... ونستطیع أن نلتمس مدارس أخرى فی البادیة کمدرسة الشماخ بن ضرار التی کانت فیما یظهر تنافس مدرسة زهیر "([28])

ویبدو طه حسین فی تقسیمه الذی حاوله متأثرا بالعامل الجغرافی، أو المعیار البیئی الذی تحدث عنه ابن سلام حین جعل شعراء القرى فی طبقة واحدة، وشعراء الیهود فی طبقة أخرى متخذا من البیئة معیارا للتصنیف، وکذلک یجعل طه حسین شعراء المدینة مدرسة منادیا بالبحث عن السمات الفنیة التی تجمع بین شعرائها، کما جعل شعراء مکة مدرسة أخرى، ومدرسة البادیة وشاعرها الشماخ بن ضرار التی کانت تنافس مدرسة زهیر. والأرجح أن اهتمام طه حسین بالمعیار البیئی لم یکن تأثرا بابن سلام على الرغم من سبقه، وإنما تأثرا بأحد من تتلمذ على کتبه، وتحمس لآرائه، وهو الناقد الفرنسی:[ سانت بیف] الذی اعتد بأثر البیئة على الشعر اعتدادا کبیرا([29]).

والملاحظ هنا أیضا أنه لم یفرق بین الجاهلی والإسلامی فی محاولات تصنیفه، وذلک لأن ازدهار الشعر فی مکة والمدینة کان بعد ظهور الإسلام، وکان مصاحبا للصراع السیاسی، والحربی بین المسلمین والمشرکین، وإن کانت مدرسة المدینة لها تاریخ فنی طویل منذ العصر الجاهلی .أما مدرسة مکة فلم یکن لها مثل هذه الشأن من قبل، وإنما ظهرت إبان صراع المشرکین مع رسول الله صلى الله علیه وسلم فی محاولة للنیل منه ومهاجمة الدعوة الإسلامیة،  فما کان من النبی صلى الله علیه وسلم إلا أن استعان بالسلاح نفسه متخذا من شعراء المدینة جبهة لمناصرة دعوته صلى الله علیه وسلم.

کذلک لم یخرج طه حسین فی تصنیفة أو دعوته ومحاولته للتصنیف کثیرا عما أشار إلیه الجاحظ عندما تحدث عن هؤلاء الشعراء الذین کانوا یعدون الشعر صناعة، وأن منهم من کان یدع القصیدة تمکث عنده حولا کریتا، وزمنا طویلا یردد فیها نظره، ویقلب فیها عقله ... وکانوا یسمون تلک القصائد الحولیات، والمنقحات. وقد اشتهر منهم زهیر والحطیئة. وهو کذلک لم یفصل لنا القول فی السمات الفنیة المشترکة بین شعراء هذه المدرسة إلا ما أشار إلیه  فی قوله عن حسیة الخیال ومقاومة الطبع وعدم الاندفاع فی قول الشعر مع السجیة، وهو قول القدماء.

وما یهمنا تأکیده فی هذا السیاق هو أن إشارة  طه حسین إلى أهمیة فکرة مدارس الشعر الجاهلی فی العدول عن القول بالنحل فی الشعر الجاهلی کانت دافعا کبیرا لتلامذته وللدارسین بعده إلى دراسة هذه المدارس والکتابة عنها، حتى أصبحت من أهم الموضوعات التی توقف عندها الباحثون

وقد تأثر بقول " طه حسین" فی الربط بین المدارس الشعریة والبیئات کثیر من الدارسین الذین حاولوا البحث عن السمات الفنیة المشترکة التی تجمع بین مجموعة من الشعراء، وقد سلکت هذه الدراسات اتجاهین الاتجاه الأول: نستطیع أن نطلق علیه الاتجاه البیئی حیث یحاول البحث عن الخصائص الفنیة التی تجمع بین شعراء تلک القبیلة، حیث تعد القبیلة هی البیئة أو المکان الذی یوحد بین الشعراء ویقرب بینهم فی السمات الفنیة، أما الاتجاه الثانی: فهو الاتجاه المدرسی حیث یکون البحث عن مدارس فنیة أو مراحل زمنیة تختلف فیها خصائص الشعر من مرحلة لأخرى، حیث یکون البحث عن الشاعر الأستاذ رأس المدرسة ثم التلامیذ من الشعراء الذین تتلمذوا على یدیه وساروا على نفس الخصائص الفنیة لأستاذهم . وقد اتسعت دراسات الاتجاه الأول اتساعا کبیرا وتشعبت بعدد القبائل العربیة أو البیئات العربیة القدیمة، لذلک  فلیس بالإمکان فی بحث کهذا  أن نتوقف عند کل منها على حدة وإنما سنتوقف عند أبرز هذه المحاولات وأکثرها تأثیرا.

 ومن أهم هذه المحاولات دراسة أحمد کمال زکی عن شعر الهذلیین، حیث قام بدراسة شعر قبیلة هذیل محاولا أن یجعل منهم اتجاها فنیا قائما بذاته مثل مدرسة أوس یقول" وقد ظهر لی بعد عرض النصوص المختلفة أننا بإزاء مدرسة شعریة کمدرسة أوس بن حجر، إلا أنها مدرسة اللفظ الغریب والصورة المجسمة والعاطفة الحزینة والمنزع القصصی" ([30]) .ویرصد د. أحمد کمال زکی هذه الخصائص وأولها ما یسمیه السرعة الفنیة الناتجة عن وجود عنصر الذؤبان مما أدى إلى کثرة المقطوعات " ومن هنا جاءت قصائد الهذلیین قصیرة حتى لقد غلبت المقطعات على دیوانهم ... ثم إن کل ما یروى عن غزوات الذؤبان، ووصف مغامراتهم لم یکن یطول حتى إنه لیشبه فی ذلک الوقت الذی کانت تستغرقه الغزوة"([31])  ویمضی فی تتبع السمات الفنیة لمدرسة هذیل فیرصد عدة سمات منها التحرر من التصریع، والاعتماد على الأبحر الخمسة وهی الطویل والوافر والبسیط والکامل والرجز، وغرابة اللفظ، والواقعیة والوحدة الموضوعیة وغلبة السمة القصصیة على أشعارهم والاعتماد على التشبیه بوصفه اللون التصویری الأکثر بروزا والأکثر تجاوبا مع سمة السرعة الفنیة.

وفی دراسته لهذه القضیة یرفض شوقی ضیف فکرة تقسیم الشعراء إلى أصحاب طبع وأصحاب صنعة، لأن الشعر کله صنعة یقول:" وما الطبع والمطبوعون فی الشعر والفن؟! إن کل شعر متأثر بجهد حاضر، وموروث أکثر من تأثره بما یسمیه نقادنا باسم الطبع. وهل هناک شعر لا یعمد فیه صاحبه إلى بعض التقالید فی أسالیبه وموضوعاته ومعانیه؟ إن من یرجع إلى العصر الجاهلی یجد الشعر خاضعا لتقالید ورسوم کثیرة یتوارثها الشعراء سواء فی ألفاظه ومعانیه، أم  فی أوزانه وقوافیه، بحیث لا یذعن لفکرة الطبع وما یطوى فیها من أن الشعر فطرة، وإلهام؛ فقد کان الجاهلیون یصنعون شعرهم صناعة، ویعملونه عملا"([32]).

ولا نجد فی هذا الکلام اختلافا جوهریا عن حدیث النقاد القدامى ولا سیما الجاحظ، ذلک أنه بعد أن یجعل الشعر کله صناعة، یجعل هذه الصنعة درجات متفاوتة، یمیز فیها بین اتجاه امرئ القیس، واتجاه مدرسة زهیر التی اهتم شعراؤها بالتنقیح والتجوید، والتی کانت " تعتمد الأناة والرویة، وتقاوم الطبع والاندفاع فی قول الشعر مع السجیة، فکثر عندها التشبیه والمجاز والاستعارة، واتکأت فی وصفها على التصویر المادی، وأن یأخذ الشاعر نفسه بالتجوید والتصفیة والتنقیح ثم التألیف. "([33])

وهو یخرج امرأ القیس من هذه المدرسة، ومن سماتها الفنیة، وإن کان لا یخرجه من إطار الصنعة.  فالشعرــ  کما سبق ـــ ـ"کله صنعة، وکل نموذج فنی هو عمل متعدد الصفات قد شقى صاحبه فی إخراجه، وبذل فیه کل ما یستطیع من جهد. ونحن نصطلح على تسمیة هذا الجهد فی الشعر مهما یکن ضعیفا باسم الصنعة " ([34]) .

ویعتمد شوقی ضیف فی التمییز بین صنعة امری القیس، وصنعة زهیر على اختلاف طریقتیهما فی التصویر یقول " قد یقول قائل وأین امرؤ القیس؟ وما موضعه من هذه المدرسة؟ وقد عرفناه یکثر من التشبیهات کما نرى فی معلقته، فهو إذن رأس المدرسة، أو هو أحد أفرادها. والقیاس منکسر؛ فإن الطریقة البیانیة عند امرئ القیس تعتمد على تراکم التشبیهات، وأن تخرج الأبیات فی صفوف منها متلاحقة، وتلک مرتبة أولى من مراتب الطریقة البیانیة ، أما حین نتقدم عند زهیر فإننا نجد الطریقة تتعقد وکأنها تغایر ما ألفناه عند امرئ القیس مغایرة تامة "([35]).

وعلى ذلک فقد اعتمد شوقی ضیف على مفهومٍ للصنعة الشعریة أشبه ما یکون بمفهومها عند الجاحظ الذی سبق أن عرضت له فی الصفحات السابقة، وقد مکنه هذا من أن یجعل شعراء العصر الجاهلی کلهم أصحاب صنعة، وکذلک الشعراء فی کل العصور، ما دامت الصنعة هی بذل کل ما یستطیعه الشاعر من جهد فی إخراجه للقصیدة، کما مکنه هذا المفهوم للصنعة من تقسیم الشعراء من حیث درجة الصنعة، فمیز بین صنعة امرئ القیس، وصنعة زهیر وتلامیذه من الشعراء .

والملاحظ أننا حتى الآن سواء تحدثنا عن شعراء مطبوعین ومصنوعین، أو عن شعراء متفاوتین فی صنعتهم لا نجد حدیثا تفصیلیا عن مدارس متعددة، واتجاهات متنوعة، ولم یتعد الحدیث عن الصنعة مدرسة زهیر، فهل کانت المدرسة الفنیة الوحیدة حقًّا ؟! أم أننا لم نخرج بعد عن ملاحظات الأصمعی وابن قتیبة والجاحظ. وما زلنا دائرین فی فلکهم؟

ومن محاولات التصنیف الحدیثة أیضا ما قدمه غرونباوم فی کتابه دراسات فی الأدب العربی، وهو یصل فی تصنیفه للشعر الجاهلی إلى ست مدارس" تضم الشعراء الذین ولدوا ما بین سنة 440 وسنة 530 على وجه التقریب، على النحو التالی:

-       المدرسة الأولى، فی قبیلة قیس بن ثعلبة، وهی تبدأ بسعد بن مالک وتنتهی بالأعشى.

-       المدرسة الثانیة: وزعیمها عبید بن الأبرص .

-       المدرسة الثالثة: وزعیمها امرؤ القیس.

-       المدرسة الرابعة:  وهم وصافو الخیول ومنهم زید الخیل والطفیل الغنوی.

-       المدرسة الخامسة: وهم عبید الشعر أوس بن حجر وزهیر وأتباعهما .

-       المدرسة السادسة: أبو دؤاد الإیادی وأتباعه: طرفة، وعدی، والمثقب.([36])

ولا یعنی هذا أن الشعراء جمیعا یدخلون تحت ذلک التصنیف، کما یصرح غرونباوم نفسه، فثمة شعراء لدیهم موهبة فردیة خاصة لا یدخلون بشکل کامل فی إحدى هذه المدارس، وعنده أن: "الشاعرین الصعلوکین الشهیرین تأبط شرا والشنفرى هما المثالان البارزان على مثل هذه المواهب الفردیة ، ولعل من أمتع الأمور ما یتجلى فی آثار تلک الفئة من الشعراء الذین عاشوا فی بلاط الحیرة من مظاهر الحضارة الساسانیة ، فأبو دؤاد الإیادی حوالی 480 : 550 والشاعر النصرانی عدی بن زید (545)(585) یتجلى فی شعرهما خلیط من العقلیة البدویة والتفکیر الحضری".([37])

وتتداخل المعاییر التی یعتمد علیها غرونباوم فی تقسیمه للشعر الجاهلی فقد أشار إلى الأساس الفنی فی التقسیم بقوله: " ولو ذهبنا مذهب التدقیق فی الظلال التی تمیز شاعرا عن آخر، أو فنا عن فن مقید بمنهج التقلید فی النسق والموضوع، ومضینا نحلل الخصائص الفردیة التی تبدو فی الصیغ اللغویة وفی الخیال لانتهینا إلى تقسیم المجموع الشعری الجاهلی الذی یبدو کأنه متجانس إلى أقسام یمکن تصنیفها بقدر معقول من الاطمئنان فی مدارس أدبیة متمایزة "([38])

ولکنه یصرح باعتماد الأساس البیئی عند حدیثه عن مدرسة أبی دؤاد الإیادی، یقول " کانت مناطق شرق الجزیرة والمناطق العراقیة والحیرة .. تؤدی مدرسة شعریة بالغة التطور تتمیز بالتنوع فی الوزن والتعبیر أحیانا عن بعض أفکار مستمدة من البداوة والظهور بلون محدد من التراث المحلی ، وما یزال أبو دؤاد أول ممثل لهذه المدرسة .. وإذا درست بقیة الأشعار التی خلفتها هذه المدرسة دراسة مقارنة خرجنا منها بالترتیب الآتی ـــ المحتمل ــــ فی تحدید أزمنة أولئک الشعراء الذین ارتبطوا على نحو ما بذلک المرکز الثقافی : أبو دؤاد الإیادی ولد حوالی سنة 480، المتلمس ولد حوالی 535، عدی بن زید ولد بعید سنة 535، المثقب العبدی وعبد قیس البرجمی ولدا حوالی سنة 550، الأعشى ولد حوالی سنة 565"([39])

وقد یوحی هذا الکلام بوجود حدود واضحة تماما بین أشعار هؤلاء وأزمنتهم، وهذا غیر صحیح، ولذلک یقول غرونباوم مستدرکًا " ... غیر أن بناء هذه المدرسة أکثر تداخلا مما توحی به هذه القائمة، أما فی المقام الأول فإن الثقافة الشعریة لطرفة تصله بالتراث الذی تطور فی بطن قیس بن ثعلبة من بنی بکر بن وائل، ولا تزید البیئة العراقیة إلى ثقافته تلک إلا لمسات خفیفة، ومثل هذا الأثر متوفر أیضا فی شعر الأعشى، وإن کان شعره یحمل طابع حیاة شبه مدینیة من اتصاله بالبلاط أکثر من قریبه السابق، وفی المقام الثانی نجد خلافا فی الروح بین أبی دؤاد والمثقب العبدی من جهة، وبین عدی بن زید من جهة أخرى، فأما الاثنان الأولان فهما بدویان لا یرتبطان إلى الحضارة المدینیة بروابط قویة، وأما عدی فإنه ابن الحیرة مع شیء من التجارب المستمدة من حیاة البداوة، ویظل المتلمس منفردا نسبیا داخل هذه المدرسة"([40])

أما عن السمات الفنیة لهذه المدرسة فأهمها یتصل بالجانب العروضی وأولها: التفنن فی الأوزان الشعریة لا سیما فی شعر أبی دؤاد، فقد جاء شعره على اثنی عشر بحرا، وثانیهما: الإکثار من استخدام بحر الرمل .. والسمة الثالثة هی النزوع إلى استخدام بحر الخفیف"([41]).

ومع سید حنفی یتزاید الاهتمام بفکرة التصنیف والإحساس بأهمیتها فی دراسة الشعر الجاهلی وقضایاه، ولذلک یفردها بالبحث فی کتابه " الشعر الجاهلی مراحله واتجاهاته الفنیة "وهو یقسم الشعر الجاهلی على أساسین: فنی وتاریخی إلى ثلاث مراحل متعاقبة تاریخیا ومتطورة فنیا .

أ‌-      مرحلة الطبع والتلقائیة ویمکن تسمیتها شعر ما قبل الاحتراف.

ب‌-: مرحلة الصنعة، ویمکن تسمیتها مرحلة احتراف الشعر .

ج-  مرحلة الجمود.

والمرحلة الأولى أو المدرسة الأولى" تتفق وطبیعة هذا الشعر الغنائیة، فالشاعر منذ أول وهلة یغنی لنفسه لأحلامه لآماله، ویصور هذا الغناء من تلک البیئة الفیاضة بالأخیلة البسیطة الخالیة من التعقید، المعتمدة على الإدراک الحسی المباشر، ویمثل امرؤ القیس هذه المرحلة فی قمتها" ([1])

"أما المرحلة الثانیة فتتضح حین یتحول الشعر إلى تجارة، ویصبح غناء الشاعر لا لنفسه، ولکن لغیره، وربما أحس بما یغنیه، ولکن ذلک لا یعنیه کثیرا، أمام ما یبتغیه من ثناء یرفعه على أقرانه. وقد دعا هذا الدافع الشاعر إلى أن یضع فنه بحیث یلقى قبولا، ویأخذ مکانه منافسا بین کثیرین یتربصون به، لینالوا ما قد ینال، ویحظوا بما قد یحظى به من مال أو حفاوة. ویمثل زهیر بن أبی سلمى هذه المرحلة فی قمتها."([2])

"ثم تأتی مرحلة أخیرة یجمد فیها الشعر، وتصبح القصیدة قالبا مرسوما رسما هندسیا، لا یستطیع الشاعر أن یخرج عن نطاقه، وإلا اعتبر غیر مجید، ویمثل هذه المرحلة لبید" ([3])

وقد عنی سید حنفی فی دراسته ببیان أثر التلمذة، والعلاقة الفنیة التی تربط بین شعراء کل مدرسة، فتوقف عند أثر التلمذة بین عبید بن الأبرص الأستاذ، وامرئ القیس التلمیذ، وحاول حصر تجلیات هذه التلمذة فی شعر امرئ القیس، وقد تبدت عنده فی ثلاثة مجالات: موضوعات القصائد، الصور والأخیلة، الأوزان. وقد ضم إلى هذه المرحلة الشعریة الأولى المرقشین، وطرفة بن العبد، إضافة إلى عبید: الأستاذ الأول فی مدرسة الطبع التلقائیة.

ومن اللافت للنظر ضمه الشعراء الصعالیک إلى شعراء هذه المرحلة الأولى، ولعل تأثیر فکرة  التکسب بالشعر وسیطرتها على تصنیفه هو ما یفسر ذلک، یقول عن الصعالیک إنهم" بالرغم من امتداد حیاة بعضهم إلى بدایة الإسلام إلا أن خصائصهم الفنیة هی من خصائص مدرسة ما قبل الاحتراف من تلقائیة فی التعبیر، وعفویة فی ممارسة الفن وطبیعیة فی الخلق والإبداع ، ویمتاز شعر الصعالیک بأنه الممثل الدقیق لشعر مرحلة ما قبل الاحتراف من بروز الفردیة بصورتها الصارخة دون ارتباط بالقبیلة التی تظهر عند الشعراء الآخرین الممثلین لهذه المرحلة، وتظهر هذه الفردیة فی مجالیها الموضوعی والفنی... فنحن إذا نظرنا من الناحیة الوظیفیة أو من ناحیة الغرض من القول الشعری، وجدنا اتفاقا، أو تشابها بین نهج امرئ القیس وطرفة والمرقشین، والصعالیک فالهدف فردی، فهم یعبرون عن أنفسهم کما یشعرون "([4])

ولأن القاسم المشترک بین شعراء هذه المرحلة الأولى أنهم اتخذوا الشعر وسیلة للتعبیر عن ذواتهم، ولم یکونوا مادحین، یرى سید حنفی أنهم لم یعتنوا بتجوید شعرهم وتنقیحه وصنعته لأنهم لم یکونوا متکسبین به، وإنما قالوه تعبیرا مباشرا عن ذواتهم، وعن حیاتهم، فجاء شعرهم عفویا تلقائیا بسیطا، أو بمعنى أدق مطبوعا. یقول عن السمات الفنیة لشعر عبید" والظاهرة العامة التی تطبع شعر عبید أنه شعر فطری مطبوع، ینبع من هذه البیئة الصحراویة التی یغرف منها کل الشعر الجاهلی، ثم تلک الفطریة التی تبعد عن تکلف الصانع، وتحبیر الشاعر، فهو یمثل المرحلة الأولى من مراحل الشعر الجاهلی فی خصائصه الفنیة، وفی ظروف نظمه البیئیة.([5]).

وعلى أساس الفکرة نفسها کذلک یبرر اعتماد امرئ القیس على التشبیه أکثر من اعتماده على الاستعارة، وتکرار التشبیهات فی  أکثر من موضع فی دیوانه کتشبیه وجه المرأة بمصابیح الراهب یقول" وطبیعی بالنسبة لشاعر کامرئ القیس ینشد بالفطرة أن لا یجد حرجا فی أن یعید ما نظم فی قصیدة سابقة، لأنه لم یکن من أولئک المحترفین المثقفین لشعرهم المعیدین أنظارهم فیما نظموا ... فـ "الفطریة والتلقائیة فی الأسلوب هما الخاصتان اللتان تمیزان أسلوب المرحلة الفنیة الأولى من المراحل التی درج علیها الشعر الجاهلی، فلم یکن هناک إعمال للعقل فی صنعة الشعر بحیث یثقفه ویقومه، ویتعمق فی ترکیب صوره وبدیعیاته"([6]) . وبالتالی فمرحلة الاحتراف ستظهر بظهور الشعراء المادحین المتکسبین بالشعر؛ وعندئذ یتغیر شکل القصیدة وسماتها الفنیة، وتتخذ تقالیدها الفنیة التی استقرت للقصیدة العربیة فیما بعد .

وقد قام سید حنفی بالمقارنة بین شعراء هذه المراحل الثلاثة، مبینا أثر التلمذة والأخذ، فوقف عند قصائد زهیر، وأوس مقارنا؛ وَعُنِیَ بإبراز التشابه بینهما فی موضوع الصید، وکیف یتعاطفان مع الحیوان، ویمکنانه من الهرب من الصائد، وکذلک التشابه بینهما فی الوصف والنسیب، وفی المعانی الجزئیة داخل هذه الموضوعات، فهما فی الهجاء یلجآن إلى السخریة والفحش، وکلاهما تظهر الروح الدینیة فی شعره([7]).

وهو أیضا یجعل اشتراکهما فی الموضوعات أثرا من آثار التلمذة، فقد تشابها فی تناول الوصف والصید والهجاء والغزل، واشترکا فی بعض المعانی الجزئیة داخل هذه الموضوعات یقول: " فقد وجدنا الشاعرین من الناحیة الموضوعیة قد تناولا قصص الصید بطریقة واحدة فکلاهما ینتصر للحیوان، ولا یجعل الصائد ینجح فی مهمته، کما أنهما صورا الصائد سواء أکان إنسانا، أونسرا جارحا بصورة مخیفة تجعلنا نتحیز للحیوان ضد الصائد، کما أن کلا من الشاعرین صور الحیوان بصورة المنتصر على کلاب الصیاد.  وهما کذلک یتفقان فی تناولهما للنسیب، فالنسیب متشابه عند کل منهما فهما لا یأبهان للنساء، ولا یحرصان على رضائهن، وإذا ذکر النسیب فی مقدمة قصائدهما فإنما هو لنموذج القصیدة الجاهلیة. وهما لا یتشابهان فی هذه الموضوعات فحسب، وإنما من الناحیة الفنیة کان لکل منهما اتجاه فنی معین ، فکل منهما یستغرق فی وصف صورته استغراقا تاما، ویفصلها تفصیلا دقیقا، ویعرض لجزئیاتها عرضا مسهبا یتتبع أثناء ذلک کل عناصر الصورة ، ویکاد یحیط بکل دقائقها معتمدا على تشبیهات مادیة محسوسة مستغلا حواسه استغلالا فائقا "([8])، ویمتد التشابه بین الشاعرین والتأثر بینهما إلى التشابه فی الموسیقى، فإذا نظرنا فی موسیقى أوس وزهیر لاحظنا شیوع أوزان معینة فی شعر الشاعرین،" فالبحران: الطویل والبسیط، تتردد نغماتها فی معظم قصائد الدیوانین رغم ضآلة حجم دیوان أوس بالنسبة لدیوان زهیر، ویأتی بعد هذین الوزنین فی الشیوع الوافر والکامل ... وعلى هذا فنحن نعتبر وجود هذه الظاهرة نوعا من تأثر شاعر بآخر، أی تأثر زهیر بأوس "([9]).

أما المرحلة الثالثة فیطلق علیها مرحلة الجمود ولا تعنی التسمیة التوقف، أو الضعف الفنی للشعر الجاهلی، ولکن تعنی أن القصیدة الجاهلیة فی هذه المرحلة قد نضجت وأخذت شکلا نهائیا لا تحید عنه، وخیر من یمثل هذه المرحلة لبید، حیث لخصت قصائده کل خصائص الشعر الجاهلی العامة من ناحیة الشکل، ومن ناحیة المضمون، وأصبحت رمزا للقصیدة الجاهلیة الکاملة، فهی تامة الصیاغة الفنیة التقلیدیة، وهی قمة الحرفیة، ثم هی بعد ذلک تسیر وفق التتبع الموضوعی للقصیدة الجاهلیة([10])

وبالتالی "فهذا الجمود أو الثبات لم یخل بفنیة الشعر الجاهلی أو بصنعته، وإنما وصل به إلى أرقى مستویاته، حتى أننا نستطیع أن نقول إنه لم یعد هناک أمام الشاعر الجاهلی بعد ذلک سواء لبید أو غیر لبید أن یصل بهذا الفن إلى مرحلة أخرى فی نفس العصر، وبنفس الثقافات والمیزان الحضاری"([11]).

وتتوالى المحاولات التی التقطت من إشارات طه حسین خیط تصنیف الشعر الجاهلی إلى مدارس فنیة أو إلى عصور أدبیة، محاولة البحث عن خصائص ممیزة لقطاع من الشعراء أو لفترة من الفترات، ومن هذه المحاولات المهمة محاولة یوسف خلیف فی کتابه دراسات فی الشعر الجاهلی، وفیه یقسم الشعر الجاهلی إلى ثلاث مدارس شعریة، وثلاثة عصور أدبیة متمایزة فنیا، معتمدا فی تصنیفه على أساسین: فنی، وتاریخی، حیث إنه یربط ظهور هذه المدارس بأحداث سیاسیة أو حربیة، بقدر ما یقدم خصائص فنیة تمیز کل مدرسة عن غیرها([12]) .

وعنده أن المدرسة الأولى تواکب حرب البسوس، والثانیة تواکب حرب داحس والغبراء، أما المدرسة الثالثة فتتواکب مع یوم ذی قار، فهذه الأحداث الکبرى کما " تمثل معالم بارزة فی تاریخ هذا العصر وحیاته الاجتماعیة تمثل أیضا معالم بارزة فی تاریخه الأدبی وحیاة الشعر فیه ... ونستطیع أن نتخذ منها حدودا لثلاثة عصور أدبیة متمیزة، تطور الشعر الجاهلی فیها تطورا فنیا، ظهرت معه ثلاثة مذاهب فنیة تمثل بوضوح هذا التطور. وهو تطور یمثله الشعراء الکبار الذین استطاعوا بمواهبهم الفنیة، وعبقریاتهم الخلاقة أن یغیروا مجرى الشعر الجاهلی فی تدفقه المتصل على امتداد عصره، وأن یتجهوا به إلى مسالک جدیدة، وأن یکون لهم دورهم الکبیر فی مجتمعهم الأدبی بما ترکوه من بصمات واضحة على حیاة الشعر فیه "([13]).

ویمثل امرؤ القیس وعبید وعلقمة وطرفة والمرقشان العصر الأول أو المدرسة الأولى التی یطلق علیها مدرسة الطبع، وهی المدرسة التی تلت حرب البسوس. وقد أصل هؤلاء الرواد التقالید الفنیة للقصیدة " وأخذت القصیدة العربیة فی نماذجهم الناضجة شکلها التقلیدی الثابت، واکتملت لها مقوماتها وعناصرها الفنیة، وهی النماذج التی حددت للشعراء من بعدهم معالم الطریق، ووجهت خطواتهم على امتداد مسالکه"([14])

ومع ازدهار مدرسة الطبع ظهرت بدایات مدرسة الصنعة على أیدی طفیل الغنوی، وأوس بن حجر اللذین انتقلا بالقصیدة العربیة من بنائها الفطری العفوی البسیط إلى بناء أشد تعقیدا، وبدأ العمل الفنی یتحول إلى صنعة دقیقة محکمة وفق مقاییس ثابتة مقررة.

أما نضج هذه المدرسة، فکان بعدما اشتعلت نیران حرب داحس والغبراء فـ " فی غمرات الوقائع الرهیبة التی خاضتها القبائل التی شارکت فی هذه الحرب، وفی فترات الهدنة التی تخللت هذه الوقائع لمع الشاعران الکبیران اللذان یمثلان القمة التی وصلت إلیها هذه المدرسة فی صنعتها الفنیة، عنترة شاعر الحرب الذی یمثل القمة الفنیة لصناعة التشبیه التمثیلی بین شعرائها، وزهیر شاعر السلام الذی یمثل القمة الفنیة لصناعة الاستعارة بینهم، ومعهما ظهر النابغة الذبیانی الذی یمثل قمة أخرى من قمم هذه المدرسة."([15])

ومع ازدهار مدرسة الصنعة ظهرت بدایات المدرسة الثالثة ویطلق علیها " مدرسة التقلید"وقد اختلط فیها المذهبان، وهی المدرسة التی تمثل المرحلة الأخیرة من مراحل تطور الشعر الجاهلی، وبلغت قمتها على أیدی الجیل الثالث من شعراء هذا العصر، لبید وحسان، والأعشى "([16]).

وتتمیز کل مرحلة [= مدرسة] من هذه المدارس بمجموعة من السمات الفنیة، ففی شعر المرحلة الأولى أو مرحلة النضج الطبیعی کما یسمیها یوسف خلیف " نرى کثیرا من آثار السرعة والارتجال والنظم على الفطرة دون عنایة بترکیب الجملة، أو إحکام لصیاغة العبارة "([17]) "وهی کلها ترجع إلى ما قلنا من أن الشاعر فی هذه المرحلة من تاریخ الشعر العربی کان یعبر عن نفسه تعبیرا مباشرا ینقل فیه إحساسه فی غیر تکلف، ویعبر عن مشاعره کما یشعر بها فی غیر تصنع، ویرسل العبارات کما تخطر على ذهنه دون أن یبذل فی ذلک جهدا ومشقة"([18]) .. "ومن الممکن أن نتلمس آثار هذه المرحلة المبکرة ورواسبها فیما نراه من انتشار الزحافات فی قصائد هذه المرحلة ... على نحو ما نرى فی معلقة امرئ القیس، وبالذات فی القسم الأخیر منها الذی یصف فیه البرق والمطر"([19]) "ولیست کثرة الزحافات فقط هی الظاهرة العروضیة لهذه المدرسة، ولکن ظاهرة الإقواء أیضا إحدى السمات العروضیة لهذه المرحلة الأولى"([20])  .

وفی دراسته عن شعر الصعالیک نراه یجعلهم جمیعا فی مدرسة الطبع والتلقائیة، لأنهم لم یحترفوا الشعر ولم یدخلوا إلى عالم المنافسة الفنیة فی أوساط المجتمع الأدبی، وإنما کان الشعر عندهم وسیلة تعبیر عن مذهبهم وعن أفکارهم وما تجیش به صدورهم. فـ "الشعر عند الصعالیک لم یکن حرفة تقصد لذاتها، ویفرغ صاحبها لتجویدها، والوصول بها إلى المثل الأعلى الذی یستطیع معه أن یدخل حلبة المباراة الفنیة؛ لیقول لغیره من الشعراء: هأنذا، وإنما کان الشعر عندهم وسیلة یسجلون بها مفاخرهم، أو ینفسون بها عما تضیق صدورهم... أو یدعون بها إلى مذهبهم فی الحیاة... وهکذا انصرف الشعراء الصعالیک عن احتراف الشعر، ولو أنهم فکروا فی احترافه لاتخذوا منه وسیلة یتکسبون بها کما تکسب بها غیرهم من الشعراء المحترفین"([21]).

أما عن السمات الفنیة لمدرسة الصنعة فأهم " ما یلفت النظر فی العمل الفنی عند شعراء هذه المدرسة أنه کان عملا تظهر علیه آثار العنایة والجهد والتعب ونضح الجبین التی یبذلها الشاعر فی سبیله، فالشاعر فی هذه المدرسة ینظم قصیدته ثم یعید النظر فیها لیهذبها ویجودها، ویحذف ما لا یرضى عنه ذوقه، وما لا یستقیم مع مذهبه الفنی" ([22])

ویذهب یوسف خلیف إلى الربط بین کل مدرسة، وشیوع نمط بعینه من أنماط التصویر " فبقدر ما انتشر التشبیه عند شعراء مدرسة الطبع انتشرت الاستعارة عند شعراء مدرسة الصنعة، فهی اللون البارز فی لوحاتهم الفنیة، بل هی فی الحقیقة أهم صنادیق أصباغهم، أو هی ببساطة السمة الممیزة لصناعتهم، وما یبذلونه فی سبیلها من جهد وأناة" ([23])ومن أهم السمات الفنیة لشعراء هذه المدرسة اهتمامهم بسرد التفاصیل، وعنایتهم بالجزئیات، واستقصاء الصورة " ومن هنا انتشر فی شعرهم التشبیه التمثیلی الذی أتاح لهم کما أتاحت الاستعارة، بل ربما أکثر مما أتاحت فرصة ذهبیة لتحقیق مقومات مذهبهم الفنی فی قصائدهم، وبخاصة الحرص على التفاصیل، والاهتمام بالجزئیات، والعنایة بوضع اللمسات الأخیرة، حتى لتبدو قطع کثیرة من شعرهم لوحات فنیة متکاملة الألوان والخطوط "([24])

أما المدرسة الثالثة التی واکبت العصر الثالث وهو عصر ذی قار فیطلق علیها اسم مدرسة التقلید، وقد استطاعت هذه المدرسة أن تستوعب التقالید الفنیة للمدرستین السابقتین و" أن تستوعب التراث الخصب الذی خلفه شعراؤهم، وأن تستغل الرصید الثری الذی احتفظت به خزائن الرواة والشعراء [رصید المدرستین] استغلالا حققت به موازنة بارعة بینهما، ارتفع بها التقلید القائم على وعی دقیق بتقالید الشعر الجاهلی، وخبرة واسعة باتجاهاته ومذاهبه، إلى أعلى قمة شهدها بعد رحلته الطویلة منذ أن بدأ خطواته الأولى مع حرب البسوس، إلى أن ألقى عصاه السحریة مع یوم ذی قار، لیبدأ بعد ذلک رحلة جدیدة مع عصر جدید. وهی قمة استقر فوقها شعراء الجیل الثالث الکبار الذین ظهر الإسلام علیهم وهم فی قمة نضجهم الفنی، سواء منهم من آمن به ومن لم یؤمن: حسان ولبید والأعشى وأمثالهم من شوامخ هذا الجیل."([25])

وتبدو محاولة یوسف خلیف من أنضج المحاولات التی حاولت تقسیم الشعر الجاهلی إلى مدارس فنیة من حیث إصرارها على أن تمسک بخصائص فنیة واضحة ممیزة، ومن حیث ربطها بتغییرات اجتماعیة مؤثرة، لا سیما أن هذه الأحداث قد ارتبط بها فعلا عدد من أهم الشعراء فی العصر الجاهلی.

المبحث الثالث: مشکلات التصنیف وأهمیته. 

على الرغم من الجهد الکبیر المبذول فی دراسة مدارس الشعر الجاهلی نلاحظ ــــ عند تأمل هذه التصنیفات جیدا ــــ وجود مشکلات منهجیة فی عملیة التصنیف کان لها نتائج مؤثرة، تسببت فی انصراف الباحثین عن هذه الفکرة رغم أهمیتها، ورغم اعتمادها على حدس کبار النقاد القدماء، ودارسی الأدب الجاهلی فی العصر الحدیث، وسوف تتوقف الصفحات التالیة عند بعض مشکلات التصنیف، وعند أهم نتائج هذه المشکلات، ثم تحاول تقدیم حلول لها نظرا لأهمیة هذه الفکرة وارتباطها الوثیق بأهم قضایا الشعر الجاهلی کما سیأتی.

فیما یتصل بمشکلات التصنیف نلاحظ أن أولها هو التساهل فی إثبات الخصوصیة، ولذلک نسبت لبعض الشعراء خصوصیة اعتمادا على ظواهر عامة ولیست خاصة بشاعر بعینه، ففی المحاولة المبکرة لأحمد کمال زکی نجده یعتمد علی شیوع بحور الکامل والوافر والطویل والبسیط والرجز بوصف ذلک سمة أسلوبیة تمیز شعراء هذیل عن غیرهم، وکذلک على غلبة السمة القصصیة على أشعارهم، وقد اعتمد سید حنفی أیضا على فکرة شیوع هذه البحور بوصفها من أهم آثار التلمذة بین أوس وزهیر، ومن ثم من أهم سمات مدرسة عبید الشعر، بینما یُظْهِرُ الدرس الإحصائی أن هذا الشیوع لیس سمة عند الهذلیین، ولا عند مدرسة عبید الشعر، وإنما هو ظاهرة عامة فی الشعر الجاهلی کله؛ حیث جاء أکثر الشعر الجاهلی على هذه البحور، کما أوضح بعد ذلک عونی عبد الرءوف فی دراسته عن بدایات الشعر العربی بین الکم والکیف، یقول" وإذا نظرنا إلى الأشعار التی قیلت قبل الإسلام وجدنا أنها نظمت غالبا فی أبحر أربعة هی: الطویل والوافر والکامل والبسیط"([26]).

وقد عضد عونی عبد الرؤوف هذه النتیجة بتتبع محاولات إحصاء البحور السابقة علیه، فأشار إلى إحصائیة شکری عیاد التی ذکر فیها أن هناک أربعة أوزان قیل فیها أکثر من أربعة أخماس ما أحصى من الشعر، وهی: الطویل والکامل والوافر والبسیط([27])،  وأشار أیضا إلى إحصائیة «بروینلش» الذی أوضح أن شعر الرجز لم یرد إلا مرة واحدة لدى ساعدة وأبی ذؤیب وأربع مرات لدى امرئ القیس .. فالرجز فیما یذهب لم یمثل إلا 1,9 % من الشعر الجاهلی([28]) .

وقد توصل إبراهیم أنیس إلى نتیجة مشابهة فی تطبیقه على الجمهرة والمفضلیات، [وهذه عینة ممثلة ذات مصداقیة] إذ توصل إلى النسب التالیة: [ "الطویل:34 %، الکامل 19 %، البسیط 17 %، الوافر12 %، وکل من الخفیف والمتقارب والرمل % ، السریع4 % ، والمنسرح (1) %."([29])

وإذا کان تطور البحث العلمی حول الشعر الجاهلی وتطور وأدواته الأکادیمة من قبیل الاعتماد على الدرس الإحصائی قد قاد إلى هذا التصحیح فإن هناک ظواهر ما کان یجب الاعتماد علیها فی أی وقت بوصفها ممثلة لسمات أسلوبیة لدى مدرسة بعینها، مثل ظاهرة انتشار القص؛ فالقص یشغل حیزا کبیرا من الشعر الجاهلی عند الشعراء کافة، ولیس عند شاعر بعینه أو مدرسة بعینها، ومع ذلک نجد القص یستخدم کثیرا للتفرقة بین الشعراء والمدارس، رغم وضوح أن القصصیة لیست سمة خاصة وإنما ظاهرة عامة عند الجمیع.

ونحو ذلک نستطیع أن نقوله مع معظم آثار التلمذة التی ذکر سید حنفی أنها تجمع بین أوس بوصفه أستاذ مدرسة الصنعة، وزهیر بوصفه التلمیذ الأهم فی هذه المدرسة، ذلک أن أوجه التشابه التی رصدها هی:

1 -  الموضوعات ولا سیما الصید وکیف کانا یتعاطفان مع الحیوان ویمکنانه من الهرب.

2 - التشابه فی الوصف والنسیب فهما لا یأبهان للنساء.

3 - کلاهما یلجأ إلى السخریة الشدیدة والإقذاع  فی الهجاء.

4 - الاستغراق فی وصف الصورة وعرض جزئیاتها.

5 - التشابه فی شیوع أوزان معینة، هی: الطویل والبسیط ثم الوافر والکامل.

ونکاد نقطع بأن أیًّا من هذه الأوجه أو المظاهر الفنیة والموضوعیة المشترکة لا یجوز اعتمادها بوصفها سمة أسلوبیة تجمع بین الشاعرین، وتدل على علاقة تلمذة بینهما، فجل هذه الظواهر تنتمی إلى التقالید الشکلیة للقصیدة الجاهلیة التی استقرت منذ امرئ القیس، فأما مسألة البحور الشعریة فقد رأینا أنها لا تصلح للتمییز؛ فهذه البحور الأربعة کانت البحور الأکثر دورانا بین الشعراء آنذاک، کما نقلت آنفا عن عونی عبد الرؤوف وشکری عیاد وإبراهیم أنیس، وأما عن کونهما لا یأبهان للنساء فی النسیب فهذه الظاهرة غیر مقتصرة علیهما، إذ إنها أکثر وضوحا جدا عند عبید قبلهما، ولبید بعدهما وکثیر من شعراء المجموعات الشعریة، وأما فیما یتعلق بالتعاطف مع الحیوان والعنایة بتصویر الصائد وتمکین الحیوان من الهرب فهذا هو الأصل فی الشعر الجاهلی کله؛ إذ إن الحیوان یهرب دائما من الصیاد وکلابه ، بل لا یراهما فی معظم قصائد السرد، حیث یبتعد عن الأماکن التی یوجد فیها الصیاد فی قصائد المدح والفخر، ویهرب أیضا لکن بشق الأنفس، وبعد معاناة ودخول فی صراع یکاد یودی بحیاته فی قصائد الهجاء. ولا یموت الحیوان إلا فی قصائد الرثاء کما نجد عند أبی ذؤیب الهذلی، وفی شعر امرئ القیس یبدو الشاعر متعاطفا مع الحیوان، حاثا له على مهاجمة کلاب الصیاد، على نحو ما نجد فی قوله:

وقد أغتدی ومعی القانصان
فیدرکنا فغم داجــــن
أَلَصَّ الضروس جنی الضلوع
فأنشب أظفاره فی النسا
فکر إلیه بمبراتــــــــــــــه
فظل یرنح فی غیطل

 

وکل بمربأة مقتـــــــــــفر
سمیع بصیر طلوب نکر
تبوع طلوب نشیط أشر
فقلت :هبلت ألا تنتصر
کما خل ظهرَ اللسان المُجِر
کما یستدیر الحمار النعر([30])

وهذه الظاهرة متکررة عند والأعشى([31])، ولبید([32]) وغیر مقتصرة علی شعر أوس وزهیر والنابغة. وإذا کان الشعراء الثلاثة امرؤ القیس والأعشى ولبید ینتمون إلى ثلاث مدارس، وکانت هذه الظاهرة موجودة عندهم فنحن أمام ظاهرة عابرة للاتجاهات، ولیست خاصة بمدرسة بعینها.

وقد نتج عن الاعتماد على أمور عامة غیر مُمَیِّزَةٍ فی التمییز بین الشعراء والمدارس اختلاف کبیر فی عدد المدارس بین الباحثین. لقد أثبت طه حسین مدرسة واحدة، هی مدرسة زهیر، وإن کان قد أشار إلى احتمال وجود مدارس أخرى تمتد حتى عصر صدر الإسلام، مثل: مدرسة مکة، ومدرسة الشماخ فی البادیة، بینما یصل عدد هذه المدارس عند غرونباوم إلى ست مدارس.

أما شوقی ضیف فقد فرق بین اتجاهین فنیین، وفقا لمستوى الصنعة: اتجاه امرئ القیس الذی تعتمد الطریقة البیانیة عنده على تراکم التشبیهات، وأن تخرج الأبیات فی صفوف متلاحقة، " أما الاتجاه الثانی فهو الاتجاه المجمع علیه، وهو اتجاه زهیر بن أبی سلمى حیث تتعقد عنده الطریقة البیانیة، وتخالف ما ألفناه عند امرئ القیس مغایرة تامة"([33])

 وفی محاولتی سید حنفی ویوسف خلیف یصل عدد المدارس إلى ثلاث مدارس، وهما یجعلان من المدح ومن التکسب بالشعر عاملا مهما من عوامل التصنیف، إذ فی المرحلة الأولی کان الشاعر یغنی لنفسه لأحلامه وآماله وهی مرحلة امرئ القیس، فلم یکن بحاجة إلى المراجعة والتنقیح، أما المرحلة الثانیة ففیها یتحول الشعر إلى تجارة ویوجه الشاعر قصائده إلى الآخرین ویدخل منافسا للشعراء الآخرین، ویمثل هذا الاتجاه زهیر، ویأتی الاتجاه الثالث أو المدرسة الثالثة " التی لخصت کل خصائص الشعر الجاهلی العامة من ناحیة الشکل ومن ناحیة المضمون." ولا ندری کیف تم هذا التلخیص، کما لا نجد فی کلامه فارقا أسلوبیا أو فنیا أو موضوعیا بین شعراء المدرسة الثانیة وشعراء المدرسة الثالثة.

وإذا کان ظهور المدح والتکسب بالشعر قد أثر فنیا على القصیدة  فهل کان شعراء المدرسة الثالثة شعراء مداحین؟! فإن کانوا کذلک فالأولى أن یدرجوا فی المدرسة الثانیة وأن یعدوا امتدادا لشعرائها وخیر من یمثل هؤلاء الأعشى فقد کان من أکبر المتکسبین بالشعر، فلماذا یدرج فی مدرسة تالیة إذا کان التکسب هو الذی أدى لظهور المدرسة الثانیة.

والحق أننا نستطیع أن نذکر أسئلة جوهریة کثیرة لا إجابة لها فی أعمال أساتذتنا أصحاب هذه المحاولات من قبیل: ما المقصود بمرحلة الجمود أو اکتمال الصیاغة الفنیة؟ وهو سؤال یکتسب قدرته الحجاجیة من حقیقة أن البناء الموضوعی للقصیدة متصل منذ امرئ القیس حتى الأعشى من حیث البدایة بالأطلال ثم شعر الرحلة وقصة الحیوان، کما أننا لا نجد جمودا فی شعر الأعشى بل مرونة فائقة.

وقد اتفق یوسف خلیف مع سید حنفی فی عدد المدارس، فهی ثلاث مدارس، ترتبط کل مدرسة بحدث تاریخی مهم فی حیاة الجزیرة العربیة،أما الرابط الفنی فیعتمد على انتشار التشبیه  فی شعر المدرسة الأولى، و« بقدر ما انتشر التشبیه عند شعراء مدرسة الطبع انتشرت الاستعارة عند شعراء مدرسة الصنعة»([34]) أما المدرسة الثالثة المفترضة فلم تمیز بنمط تصویری مثل المدرستین السابقتین لذا یبدو أن معیار التصنیف لیس واحدا بین المدارس الثلاث.

وهکذا فی کثیر من  الحالات لا نجد فوارق کمیة مطردة دالة تمکننا من الحدیث عن فوارق واضحة بین الشعراء، بل لا نجد الفوارق بین المراحل مطردة أیضا، فقد وصفت المرحلة المبکرة، بأنها مرحلة کثرة الزحافات، ووجود الإقواء وغیره من ظواهر الخلل التی توجد فی البدایات، ومع ذلک فأکثر أمثلة الإقواء مأخوذة من شعر النابغة الذی لا ینتمی قطعا إلى هذه المرحلة المبکرة بل إلى المرحلة الثانیة، کما أن شیوع الزحافات أمر فنی یُظْهِرُ الدرس الإحصائی للشعر أنه مصدر للتنوع الإیقاعی داخل البحر الواحد، یستخدمه الشاعر للتعبیر الموسیقی عن الاختلافات الدلالیة بین الأبیات، ولذلک فهو موجود فی کل المراحل وبدون فروق کمیة بین الشعراء.

ولا نحب أن نستطرد کثیرا فی مثل هذه الملاحظات ذات الطابع الاعتراضی على المنجز الذی قدمه أساتذتنا، فما لهذا یقدم هذا البحث، بل لمحاولة تنقیح هذه الفرضیة التی اعتمدت على حدسهم المتمیز، وهو حدس مقدر دون شک إذ تبدو هذه الفرضیة فی حال إثباتها قادرة على حسم عدد القضایا المهمة فی الشعر الجاهلی، ومع ذلک فقد انصرف الدرس الأکادیمی المعاصر عنها بسبب هذه المشکلات، واتخذ الجهد التصنیفی عند المعاصرین منحى آخر هو تصنیف القصائد لا تصنیف الشعراء، کما نجد عند حسن البنا عز الدین فی محاولته التصنیفیة المهمة للقصیدة الجاهلیة إلى قصیدة ثنائیة، تتکون من المقدمة والغرض (کالفخر والرثاء والهجاء)، وقصیدة ثلاثیة، تتوسط الرحلة فیها بین المقدمة والغرض([35])، وهی محاولة مهمة جدا ومنتجة فی فهم الشعر الجاهلی، لکنها تخرج عن بؤرة الاهتمام فی هذا البحث المنصب على دراسة فکرة المدارس وتجلیاتها ومستقبلها.

والحق أن وجود مثل هذه المشکلات وتوقف الباحثین عن إنتاج دراسات أکادیمیة فی هذا الاتجاه لا یعنی أن هذه الفکرة الممتدة من النقد العربی القدیم حتى النقد المعاصر قد فقدت أهمیتها، أو فقدت حجیتها بشکل تام، فهذه الفکرة تستحق إعادة النظر فیها، فقد شارک فیها عدد من أهم النقاد ومتذوقی الأدب المشهود لهم قدیما وحدیثا من ناحیة، کما أنها من ناحیة ثانیة تتداخل مع أهم القضایا النقدیة المتصلة بالشعر الجاهلی، ولذلک فهی تستحق دون شک محاولة أخرى للتحقق وتجاوز المشکلات.

لقد أوضح المبحث الأول أن الاهتمام المتزاید فی جیل أساتذتنا بقسم اللغة العربیة بآداب القاهرة بهذه الفکرة إنما نشأ عن تصریح أستاذهم: طه حسین بقدرتها على حسم الجدال حول قضیة الانتحال فی حال ثبوتها، فإثبات خصوصیة لشعراء بعینهم یعنى وجود قدرة على تمییز شعرهم، وبالتالی تنقیحه مما وضع فیه، من خلال الدرس الأسلوبی الذی یکتشف السمات الفنیة، ولیس من خلال الاعتماد فقط على الثقة فی الرواة.

وثم قضیة أخرى تعد مسألة تصنیف الشعر الجاهلی إلى اتجاهات ومدارس حاسمة فی تحقیقها، وبیان الصواب فیها هی قضیة شفاهیة الشعر الجاهلی، إذ تتناقض نظریة شفاهیة الشعر الجاهلی مع فکرة وجود مدارس واتجاهات به، وذلک لأن هذه النظریة تقوم على هدم مفهوم الملکیة الأدبیة لشاعر بعینه، أو الانتماء لمدرسة شعریة بذاتها، وتثبت فی مقابل ذلک الهدم وجود مجموعة من القوالب الصیاغیة التی یعتمد علیها الشعراء جمیعا فی نظم أشعارهم. وهذه الصیغ والقوالب تعد أیضا أفکارا عامة مشترکة لا خصوصیة فیها، یقول جیمس مونرو: « إن أفکار هذا الشعر وجملة موضوعاته ودوافعه کلها تقلیدیة، وکلها تنتمی إلى مستودع مشترک »([36])

إن الشعر الشفاهی ممیز وبشکل واضح عن الشعر المکتوب؛ فالقدرة على الکتابة تتیح إمکانیة للمراجعة، وإمکانیة لطول الجملة وتعقیدها، کما أن جمهور الشاعر الکتابی بعید عن الشاعر، لا یتواصل معه بشکل مباشر، وعلى النقیض من ذلک یکون الشاعر الشفاهی، فهو ینظم أثناء الأداء الفعلی، أی أنه یرتجل، وینظم بسرعة؛ « إذ علیه أن یستبقی الجمهور الواقف فورا أمامه، ولکی ینجز الشاعر الشفوی هذا العمل الفذ الملحوظ لإنتاجه أشعار منتظمة ارتجالا، ومن غیر مساعدة الذاکرة، فإنه لم یکن مفتقرا کلیة إلى موارد العطاء الفنیة، ذلک لأنه یعتمد على مستودع من القوالب الصیاغیة، التی قد تمکن منها والتی نظمها فی سرعة البرق، وذلک لإنتاج أبیات شعر منتظمة، إنه یغنی بلغة متخصصة یکون القالب الصیاغی فیها هو الوحدة الصغرى المنفصلة ولیس الکلمة المستقلة، وقد عَرَّفَ باری القالب الصیاغی بأنه: مجموعة کلمات توظف بانتظام حسب نفس الشروط الوزنیة لتعبر عن فکرة رئیسة معطاة "([37]) .

إن النظریة الشفاهیة لا تعنى بدراسة ما فی الشعر من تأثیرات أسلوبیة ناتجة من نقله شفاهیا عن طریق الحفظ والروایة، وإنما تعنى بإثبات ما تراه حقیقة هذا الشعر، وهو أنه نتاج عقلیة شفاهیة لا تفکر بالکلمات، وإنما بالصیغ المحفوظة التی تستدعیها المواقف المتشابهة، إذ الصیغة طبقا لتعریف ملیمان باری " تعبیر مستخدم بانتظام، تحت شروط الوزن نفسها، للتعبیر عن فکرة جوهریة "([38]). والشاعر الشفاهی لا یصنع جمله، وإنما یستخدم صیغة مصنوعة، فلیست ضرب خبرا عن زید بالمتکلم لا بواضع اللغة [إذا استخدمنا عبارة عبد القاهر التی أراد أن یثبت بها الخصوصیة للمتکلم] وإنما بواضع الصیغ، وواضع الصیغ هو الجماعة، وینحصر دور الشاعر فی" أن یتعلم کیف یستبدل الکلمات فی نطاق صیاغی بکلمات أخرى ذات قیمة إیقاعیة مساویة "([39])، ومن ثم فلا توجد فی الشعر الجاهلی خصوصیة ولا فردیة، کما هی الحال فی الشعر الشعبی. 

ومثل هذا الکلام یتعارض تعارضا حقیقیا مع واقع الشعر الجاهلی رغم الإقرار بوجود تأثیرات کبیرة لأنه نقل نقلا شفویا لفترة طویة. لکن هناک فارقا کبیرا جدا بین أن نذهب إلى وجود تأثیر لنقل الشعر الجاهلی اعتماد على الحفظ ، وأن نذهب إلى ربطه بالشعر الشعبی الجماعی الذی تتعاون الجماعة على مر الزمان فی نظمه وإبداعه والإضافة إلیه. فالشعر الجاهلی شعر شفوی تأثر الشاعر فیه بما حفظه فی ذاکرته قبل أن تتفتق موهبته وینطلق لسانه بالشعر، ولکنه لم یأخذ قصائد لسابقین وینظم على منوالها فیضیف ویحذف، وإنما هو شعر فردی یعبر عن ذوات شعرائه، ورؤاهم، ومواقفهم من الحیاة ومن القضایا الإنسانیة الکبرى.

إننا نجد فی کل دیوان من دواووین هذا الشعر طابعا ذاتیا شخصیا یبرز ذات الشاعر وعلاقاته الاجتماعیة والسیاسیة، وما یتعلق بموقفه من القبیلة ومستقبلها وعلاقاتها بغیرها من القبائل والإمارات المجاورة، على نحو ما نجد فی دواوین: امرئ القیس والنابغة وعنترة وزهیر والأعشى ولبید، وغیرهم من الشعراء؛ حیث ظهرت شخصیة کل شاعر وقضایا قبیلته، وما شغله هو من قضایا.

والأمر لیس کذلک فی الشعر الشعبی الشفاهی، إذ لا ملکیة، ولا فردیة، وإنما تعبیر جماعی أو قصائد کبیرة مرنة مفتوحة قابلة للإضافة والتجدید، مادام الناظم أو المؤدی ملما بالصیغ التی یستطیع من خلالها أن ینظم ما یشاء، وعلى ذلک یکون منتج الروایة ناظما مؤدیا لا مبدعا متفردا.

إن الدارس المتعمق للشعر الجاهلی یستطیع أن یقطع بأنه شعر فردی ینسب لمبدعیه، دون أن یعنی ذلک إنکار أنه یحتوی على عبارات متکررة بین الشعراء، لا سیما فی الموضوعات المشترکة بین القصائد، وهی الموضوعات التقلیدیة مثل الطلل، والرحلة وسرد الحیوان إذ تتکرر الجمل والعبارات کثیرا، وقد تصل إلى تکرار شطر بیت.

ولذلک فقبل ظهور النظریة الشفاهیة بفترة طویلة توقف محمد محمد حسین فی مقدمة تحقیقه لدیوان الأعشى أمام ظاهرة المعانی والألفاظ  والتعبیرات المتکررة المتداولة بین الشعراء ورصد منها جانبا، لکن ذلک لم یخدعه عن حقیقة التفرد والإبداعیة، رغم أنه اتهم الشعر الجاهلی بالجمود فیما یتعلق بوصف الناقة والرحلة فی الصحاری، یقول: «... فالشاعر یکرر فی هذه القصیدة ما قال فی تلک، ولا یکاد یختلف فی هذا وذاک عما قال غیره من الشعراء.. تتکرر هذه الصور بتفاصیلها ــ وبألفاظها فی بعض الأحیان ــ فی کل الشعر الجاهلی، ویتداولها الشعراء، ولا یجدون حرجا فی التکرار... ونحن ــ وإن کنا لا ننکر ما فی هذا الشعر من جمال ــ نقول إن هذا الجمال قد ضاع شطر کبیر منه، وأن هذا الفن قد صار إلى جمود لا نعرف له نظیرا فی أی فن من الفنون. وقد ألغى هذا الجمود شخصیات الشعراء، فالشاعر إذا وصل إلى وصف الناقة والصحراء ، نسی فنه وشخصیته، وأنشأ فی هذه القیود الضیقة وصبه فی هذه القوالب المیتة، ولم تقف هذه القیود عند المعانی والصور، بل تعدتها إلى الأسلوب والطریقة.. ولهم بعد ذلک کثیر من القوالب الجامدة (الکلیشیهات) فی مختلف الأغراض»([40])

لکنه یستدرک خوفا من أن یفهم هذا الکلام على نحو ینفی الخصوصیة عن الشعراء، حیث إن هذه النتیجة التی لا تتحفظ علیها النظریة الشفاهیة یأباها کل قارئ أصیل للشعر الجاهلی، یقول: « أخشى أن أکون قد صورت الشاعر الجاهلی نَظَّامًا، ینحصر عمله فی صیاغة هذه المعانی ورصفها، والواقع أن الشعراء ینفردون بعد ذلک بأسالیب خاصة، فهذا بدوی مسرف فی البداوة، خشن العبارة، وذاک تبدو على شعره آثار الحضارة والرقة. وهذا تغلب علیه الحکمة والتفکیر.."([41]) 

وقد عنی وهب رومیة مبکرا بالرد على اتهام الشعر بالجمود والتقلیدیة یقول: « ولیس یخدعنا أمر کما تخدعنا القراءة العجلى لهذا القصص الذی یسرده الشعراء علینا.. تخدعنا خدیعة کبرى حین تتبین صلات القربى ووجوه الشبه ونغفل الفروق، فنوشک أن نضل ضلالا بعیدا، ونزعم أن کل شاعر یکرر قصته ــ أو قصة سواه ــ ذاتهاعلى اختلاف الموطن وتباین المواقف، لا فرق بین شاعر وشاعر أو بین موقف وموقف... فنمضی فی جهالتنا ونزعم أن کل شیء فی هذه القصص واحد: الأحداث واحدة، والشخصیات واحدة، والصور واحدة ... وما هکذا کان هذا القصص، ولکنها مزاعم باطلة تجور على الشعر والشعراء. فما أکثر ما تختلف القصة من شاعر إلى آخر، بل من موقف إلى آخر عند الشاعر نفسه"([42]).

وتأسیسا على ذلک فلا یجوز - على الرغم من وجود صیغ ارتبطت ببعض الموضوعات مثل الطلل ووصف الناقة – أن ننفی ذوات الشعراء، وشخصیاتهم، وقضایاهم وقضایا قومهم التی تجسدت فی أشعارهم، أو ننفی الخصوصیات الأسلوبیة الموجودة فی شعرهم.

وعند هذه النقطة تعود فکرة المدارس من جدید لتثبت قدرتها – إن صحت – على تقدیم مقاربة جدیدة لقضیة محوریة من قضایا الشعر الجاهلی ومن هنا تکتسب العودة إلیها لاختبارها وتمحیصها مشروعیة کبیرة، وإن کان علینا أن نؤکد أن البحث الأکادیمی لا یسیر مع الأهواء، وإنما یخضع لضوابط منهجیة صارمة، فالحماس للفکرة لا یجوز أن ینبع من قدرتها على خدمة وجهة نظر الباحث أو دعم حدسه، کما لا ینبع من أهمیة أصحابها فی تاریخ الدرس النقدی، وإنما یجب أن ینبع فقط من قدرتها على الصمود أمام وسائل التحقق من صحة الفرض العلمی، وهذا ما تحققه فکرة المدارس فیما أزعم إذا بُنِیَتْ على أساس جدید یتمثل فی اعتماد مفهوم للصنعة یختلف عن المفهوم المستخدم فی محاولات التصنیف السابقة على نحو ما ستوضح السطور التالیة.

المبحث الرابع- مفهوم الصنعة ومدارس الشعر:.

اعتمدت محاولات التصنیف الحدیثة جمیعا على مفهوم الصنعة، وهذا المفهوم لیس ولید الدرس الحدیث للشعر الجاهلی، فهو ینتمی إلى النقد العربی القدیم الذی قدم مجموعة من المعاییر اعتمدت علیها التصنیفات التالیة. لقد کان معیارا الطبع والصنعة أهم معیارین قامت علیهما تصنیفات الشعراء قدیما وحدیثا، حیث مَثَّلَ هذان المعیاران اللبنة الأساسیة التی قام علیها التصنیف، فمنذ الأصمعی نجد حدیثا عن مدرسة عبید الشعر الذین وجهوا عنایتهم لتجوید قصائدهم، وإعادة النظر فیها حتى تخرج أبیاتها مستویة فی الجودة الفنیة.

وعندما نتقدم إلى الجاحظ نجده یتحدث أیضا عن الطبع والصنعة، والطبع عنده هو الموهبة أو الاستعداد الفطری لقول الشعر، والصنعة هی مقدار الجهد المبذول من الشاعر لتجوید شعره، وهی متفاوتة من شاعر لآخر، ومن سیاق لآخر. ونحو ذلک نجده فی تصنیف ابن قتیبة الشعر إلى مطبوع، ومتکلف. لکن الشاعر الصانع عنده هو المتکلف الذی یُقَوِّمُ شعره، ویعید النظر فیه، لیتقن صنعته.

وفی العصر الحدث میز طه حسین بین اتجاهین فی الشعر الجاهلی، أحدهما قائم على الطبع، والآخر یقاوم الاسترسال مع الطبع، فیعمد إلى الصنعة المتمثلة فی" حسیة الخیال ومقاومة الطبع وعدم الاندفاع فی قول الشعر مع السجیة التی ترسل إرسالا فتفیض بالشعر کما یفیض الینبوع بالماء"([43])

وقد اتفق شوقی ضیف مع الجاحظ تماما فی حدیثه عن أن الشعر کله صنعه، ولکن درجة الصنعة متفاوتة من شاعر لآخر، ولم یختلف أساس محاولة التصنیف فی محاولتی یوسف خلیف وسید حنفی عن ذلک، فقد کان معیارا الطبع، والصنعة أساس التقسیم عندهما إلى ثلاث مدارس فنیة متمایزة، وقد أضاف یوسف خلیف إلى هذا المعیار فکرة  الربط بین الظواهر الفنیة والأحداث التاریخیة، بینما أضاف سید حنفی عاملا جدیدا هو ظهور المدح، بوصف ذلک تفسیرا لزیادة الصنعة، فالمدح أدى إلى زیادة تجوید القصائد وتنقیحها بعد أن صار الشعر مصدرا للتکسب، واتفق معه جودة أمین فی إضافة تأثیر المدح على الاتجاه بالشعر نحو الصنعة والمبالغة فی تجویده وتنقیحه لدی مدرسة عبید الشعر([44])  وقد سبق إلى ذلک الجاحظ فـ « من تکسب بشعره، والتمس به صلات الأشراف والقادة وجوائز الملوک والسادة... لم یجد بدا من صنیع زهیر والحطیئة، وأشباههما» ([45]).

وإذن فقد کان مفهوم الصنعة مفهوما رئیسا فی کل محاولات التصنیف، وعندما نستقرئ مظاهر الصنعة فی المحاولات السابقة نجدها تتمثل فی التأنق فی العبارات، والعنایة بالألفاظ، وجودة التصویر، والتفصیل فی جزئیاته وکثرة مراجعة أرکان الصورة، وکثرة الاعتماد على الاستعارات والتشبیه المفصل أو التشبیه التمثیلی فی مقابل التشبیه البسیط، ومرد ذلک التجوید إلى أن الشاعر من عبید الشعر کان « یدع القصیدة تمکث عنده حولا کریتا وزمنا طویلا یردد فیها نظره .. اتهاما لعقله .. وکانوا یسمون تلک القصائد الحولیات والمنقحات»([46]).

ولعل هذه العنایة الکبیرة من الجمیع بمفهوم الصنعة قد أدت إلى نتیجة واحدة. وهی أنهم فی محاولاتهم التصنیفیة لم یقفوا على مدارس ذات ملامح فنیة متمایزة، إلا مدرسة واحدة کانت هی النواة والمرکز فی کل محاولات التصنیف والتقییم، فبدت المدرسة الأکثر بروزا  منذ الأصمعی، والجاحظ إلى طه حسین وشوقی ضیف، هی مدرسة: عبید الشعر.

وبمرور الوقت صارت الصنعة بهذا المفهوم فی الدرس النقدی معیار الجودة الفنیة التی تتحدد بها مکانة الشاعر، فکلما کان أکثر قدرة على الصناعة، وعلى استخدام الاستعارة وعلى مراجعة شعره وتنقیحه، والاعتماد على تفصیل الصورة الشعریة - کان أعلى درجة فی الشاعریة والإبداع.

وعندئذ تظهر إحدى أهم مشکلات ذلک المفهوم للصنعة، وهی أنه یؤدی إلى أحکام مغایرة لأحکام النقد العربی القدیم، على الرغم من الانطلاق من مفهوم رئیس فیه، هو مفهوم الصنعة، ذلک أن النقد القدیم ظل محافظا على تصور الجاهلیین أنفسهم بأفضلیة امرئ القیس وطرفة، لکن هذه الأفضلیة تتراجع کثیرا فی النقد الحدیث لصالح زهیر والنابغة، کذلک تصبح الأفضلیة الممنوحة – قدیما - لعبید غیر مبررة فی إطار هذه التصورات لتطور حرکة الشعر الجاهلی، وفی ضوء هذا المفهوم للصنعة.  

ویبدو أن هذا الاختلاف مع النقد العربی القدیم فی الحکم على الشعراء کان الدافع إلى رفض وهب رومیة للتقویم من خلال مفهوم الصنعة، وهو رفض صحیح لکنه صاغه فی لغة شدیدة الحدة بعیدة عن اللغة الأکادیمیة الهادئة، فهو یرى أننا إذا حکمنا على الشعراء من خلال مفهوم الصناعة الشعریة أفقدنا الشعر قیمته « ونزعنا من الشاعر شاعریته وحاکمناه بمعاییر الشطار والمحتالین الذین یتسابقون فی مضمار المدح لینالوا العطاء الموعود"([47])، لا بمعیار الأدباء والفنانین الذین تختلف رؤیتهم للعالم، فهل یدرک الشاعر الطبیعة کما یدرکها الإنسان العادی؟ وهل یعمد الشعراء إلى صناعة الشعر؟ وهل تقوم العملیة الإبداعیة على مراحل یبدو الشاعر فی إحداها قد توصل إلى معنى ما ثم راح یبحث له عن صیاغة ولفظة مناسبة؟  أم أن العملیة الإبداعیة هی التی تفرض نفسها علیه؟  فی عملیة الإبداع الفنی لا یتوقف الشاعر لیعدل ولا لینقح، وإنما یبدأ فی عملیة الإبداع - کما یقول مصطفى سویف – " من فقدان الأنا لاتزانه ... فتصبح الصور التی لدیه عن الواقع العملی أکثر تحررا منها عند الآخرین، بمعنى أنها أکثر قابلیة للتغیر واکتساب دلالات جدیدة.. وتکتسب الوقائع دلالات تملیها دینامیات الموقف.. ففی لحظات الإبداع یصبح الواقع العملی تابعا للمجال الذهنی إلى حد بعید، وعلى هذا الأساس یلزمنا أن نفهم الشاعر.. فکل ما یمر بذهن الشاعر فی هذه اللحظات یکون ذا دلالة جدیدة تابعة لدینامیات الموقف، حتى ذکریاته الخاصة. ولذلک یقول ریتشاردز: إن ذکریات الشاعر تأتیه فی لحظات الإبداع منفصلة عن ظروفها الخاصة ساعة حدوثها، إن الشاعر لا یغیر ذکریاته، لکنها تعود إلیه متغیرة، وهو لا یقصد إلى وصف الوقائع من حوله بأوصاف جدیدة ولکنها تأتیه حاملة هذه الأوصاف. وعلى هذا الأساس ینبغی أن یعالج جانب هام من جوانب مشکلة الصدق فی الشعر» ([48]) ... « والشاعر لا یصل إلى معنى ثم یبحث له عن لفظة، کما یفعل المبتدئ فی تعلم لغة جدیدة، ولکن الوثبة تأتیه ککل بلفظها ومعناها، وتأتیه منظومة، ومن ثم نجده یحدثنا عن أنه لم یختر بحر القصیدة عن قصد وتدبر، ولکن التوتر الدافع هو الذی اختاره» ([49]) .

والذی یبدو لی - بعد تأمل طویل فی هذه القضیة لعدة سنوات - أن کل المشکلات السابقة سیمکن تجاوزها عندما نعتمد على مفهوم جدید للصنعة لا یجعلها فی اختیار المفردات، والتعبیر بالاستعارات، وترشیح التشبیهات، فهذه أمور جزئیة مشترکة بین الشعراء، وإنما یجعلها فی أمرین: الأول:

- فی صناعة بناء عام للقصیدة یعبر عن فکر المبدع وموقفه من الحیاة.

- والثانی فی إحکام رموز النص وتغییرها بحیث تلائم الرسالة التی یرید توصیلها وتضمینها فی قصائده.

إن المقدرة الإبداعیة لا تتجلى فی العنایة بالمفردات أو التراکیب أو صناعة الصور والتفصیل فیها والاعتماد على الاستعارة لأنها أصعب من التشبیه، وإنما تتجلى فی بناء القصیدة بناء محکما، یدل على معنى هو فی التحلیل النهائی رسالة ترتبط بتساؤلات الإنسان وقضایاه الجوهریة على مستوى الشاعر الفرد أو على المستوى الجمعی، کما تتجلى هذه المقدرة الإبداعیة فیما یحویه النص من رموز فنیة، وروابط خفیة تربط بین موضوعاته المتعددة المتباعدة ظاهریا [ کالطلل والبرق ورحلة الظعائن، وقص الحیوان].

إن معظم قصائد الشعر الجاهلی على درجة محکمة من البناء الفنی؛ إذ تتضافر أجزاء متعددة فی القصیدة لطرح رؤیة الشاعر، ولنقل مغزى بعینه وخبرة بعینها یرید نقلها عن طریق هذه الأجزاء جمیعا، بحیث یمثل کل منها إشارة إلى رؤیته، ویمثل اکتشاف هذا المغزى الخیط الذی یربط بین هذه الأجزاء التی تبدو ظاهریا مفککة متعددة الموضوعات والأغراض فـ « إذا کنا نجد فی هذا الشعر أغراضا شبه محددة یتعاورها الشعراء، ویعیدون القول فیها دون حرج، فینبغی أن نتریث فی الحکم على هذه الأغراض، وعلى هؤلاء الشعراء. فلا نظن أن هذه الأغراض واحدة فی کل الأحوال، ولو کانت کذلک لنفدت طاقتها الفنیة منذ زمن بعید، ولکنها رموز یمنحها الشعراء طاقات فنیة جدیدة، ویجددون طاقتها القدیمة، ویوظفونها فی التعبیر عن مواقف وأمور شتى»([50]) .

وحین نتوقف عن فهم الصنعة بوصفها التفنن اللفظی والتأنق فی التشبیة، أو طرافة الصورة، وندخل فی اعتبارنا هذا النوع من الصنعة، أقصد (صنعة البناء)، و(صنعة الرمز)، وحین نحاول الکشف عن العلاقات الدلالیة بین الموضوعات التی تبدو مفککة متباعدة - حین نفعل ذلک سیتغیر موقفنا من امرئ القیس على سبیل المثال ، ولا نستطیع بعدها أن نطلق علیه الشاعر المطبوع ، أو الأقل صنعة؛ إذ إنه من أکثر الشعرء إحکاما لباء قصیدته، فقد توقف طویلا عند قضیة المصیر الإنسانی متسائلا عن جدوى الحیاة وعن ضعف الإنسان أمام القدر وأمام الموت وعن المصیر الإنسانی، ومصیر الروح التی ستفارق الإنسان یوما صانعا بناء للقصیدة ینقل موقفه من کل ذلک، یستخدم فیه الطلل والقص والمغامرات بوصفها عناصر صغرى فی البناء، نفهم ترابطها عند الکشف عنه، کما نفهم موقفه من الحیاة الذی یرید أن ینقله عند الکشف عن ذلک البناء ومعرفة دلالة ما استخدمه من رموز.

وعندما نتبنى هذا المفهوم للصنعة بوصفها (صنعة البناء والرمز)، ولیست صنعة التشبیه والاستعارة، وعندما نوجه الاهتمام إلى البحث عن الرؤى المقنعة الکامنة وراء موضوعات الشعر التقلیدیة ستتغیر نظرتنا للشعر الجاهلی، ونخرج بمدارس جدیدة، نکون معها أکثر قدرة على فهم هذا الشعر العریق، ومعرفة کیف کان تعبیرا عن حیاة الشاعر الجاهلی، وعن أسئلته الوجودیة الحائرة التی حاول تجسیدها فی شعره من خلال بنیة القصیدة ومن خلال تحویل ما یشاهده فی صحرائه المحیطة به من أطلال وحیوانات وبروق وظواهر طبیعیىة إلى رموز ینقل بها رؤیته للحیاة، ویعبر بها عن أحلامه ومخاوفه، فنحن فی الحقیقة کما انتبه وهب رومیة  لسنا أمام شعراء یصورون الواقع أو ما یبدو واقعا من أجل تصویره، بل شعراء « ینفذون من وراء هذا التصویر للتعبیر عن رؤیتهم لهذا الواقع وموقفهم منه. وسوف یخدعنا هؤلاء الشعراء إذا صدقنا مزاعمهم، ومضینا نقص أثرهم دون أن نتمهل وننتبه ونکثر من الالتفات حولنا. إن کثیرا مما یتکرر فی هذا الشعر ویبدو مستقرا أو کالمستقر ــ من صیغ لغویة ومعان وصور وموضوعات ــ یحتاج إلى یقظة عالیة ــــ أکاد أقول إلى روح شاعرة ـــ للنفاذ إلى صمیمه، ومحاولة استنطاقه وفهمه» ([51]) .

إن معظم موضوعات هذا الشعر « لیست استجابة لظروف البیئة وحدها، ولا فرضها العرف الشعری وحده، بل هی على وجه التحقیق موضوعات شعریة استمدها الشعراء من البیئة أو من الموروث، وراحوا یوظفونها للتعبیر عن موقفهم من الحیاة، فنفذوا منها إلى التعبیر عن مشکلات کبرى فی الحیاة کانت تؤرقهم» ([52]).

وعندما یرتبط مفهوم الصنعة ببناء القصیدة الذی یعبر عن الموقف یمکننا أن نتحدث عن خصوصیة للشعراء الذین تختلف مواقفهم وآراؤهم وتأملاتهم، وکذلک عندما یرتبط هذا الموضوع باختیار الرموز وإنتاجها وتغییرها بحیث تلائم الغرض والرسالة والأهداف الخاصة بالشعراء فإن الکشف عن الخصوصیة یکون ممکنا، فلکل شاعر أهدافه وأسبابه لإنتاج النصوص التی تنطلق من أحداث حیاته وحیاة قبیلته.

ولا تتیح ضوابط النشر الأکادیمی فرصة لوقفات تطبیقیة مطولة لتبیین القدرة الکبیرة لهذا المفهوم للصنعة على بیان خصوصیة الشعراء والنصوص، لکننا سنقدم نموذجین کافیین لشرح الفکرة ولإخراجها من باب الرطانة النظریة إلى المثال الذی یدلل ویثبت، بقدر ما یشرح ویوضح، ثم نتوقع أن یستثمر الباحثون بعد ذلک فی دراسات أکادیمیة موسعة هذا المدخل الجدید لفهم الصنعة فی الشعر الجاهلی. النموذج الأول یشرح صنعة امرئ القیس فی بناء القصیدة على نحو یعبر عن الموقف من الحیاة، والنموذج الثانی یشرح صنعة زهیر فی صناعة الرموز وتغییرها لتلائم رسالة القصیدة.

ینتمی بناء القصیدة عند امرئ القیس غالبا إلى ما أُسَمِّیه (قصیدة التأبین)، وهی بناء شائع عنده وعند طرفة وقبلهما عبید وغیرهم من الشعراء الذین یمکن نسبتهم إلى اتجاهه. یبدأ هذا البناء من لحظة مأزومة قد تکون لحظة الطلل أو المرض أو الشیب، وکلها لحظات مؤذنة بانتهاء الحیاة، أما الشیب والمرض فأمرهما واضح فهما منذران بالرحیل، وأما الطلل فلأن رسالته هی أن الفناء الذی حل بالدیار وأهلها سیحل بالشاعر لا محالة، یقول لبید:

وما الناس إلا کالدیار وأهلها

بها یوم حلوها وغدوا بلاقع([53])

ویقول متعجبا ممن یشاهد هذه الدیار ویعرف ما حل بأهلها ثم ینتظر الفلاح أی البقاء

نحل بلادا کلـــها حُـلَّ قبلنا

 ونرجـو الفلاح بعد عاد وحمیر([54])

وهو المعنى الذی شرحه بعد ذلک الحکم بن عبدل الأسدی([55]) فی عبارة واضحة:

مضوا وبقینا نأمل العیش بعدهم           إلا إن من یأتی على إثر من یمضی

وإذن فالأزمة التی یثیرها الطلل لیست أزمة أصحاب الطلل وماضیهم وحزن الشاعر علیهم فقط، وإنما أزمة الشاعر ومستقبله بشکل رئیس، حیث إن الدهر الذی غالهم سیغوله:

فخلدت بعدهم ولست بخـــالد     

فالدهــر ذو غیر وذو ألوان([56])

وإزاء هذا الموقف تأتی قصیدة التأبین التی أنتجها عبید وأحکم إنتاجها امرؤ القیس، فما إن یأتی ذکر الطلل أو الشیب أو المرض حتى یهرع الشاعر إلى ذکریاته یستعید منها مظاهر الفتوة والبطولة، ومظاهر البطولة عندهم هی قطع الفیافی، والشرب مع الأصدقاء، والصید، واللهو مع الغانیات ... وتسیر بنیة القصیدة على هذا النحو:

[فإن یکن الموت آت لا محالة کما یقول الطلل أو الشیب أو المرض، فلربما فعلت وفعلت، أو فلقد کنت أفعل وأفعل ... وهذه هی العادة المطردة أن یبدأ کل مقطع من مقاطع مظاهر البطولة إما برب أو واو رب، أو بالضارع مسبوقا بقد، أو بلقد]. 

وتفسیر هذا البناء للقصیدة مصرح به فی الشعر الجاهلی، إذ هو رد فعل على الموت المنذر بالفناء، بتخلید النفس من خلال الشعر الذی یعلمون أن من صفاته البقاء والخلود، فما یبقى من الإنسان هو الأحادیث والذکر، فلیضع الشاعر ذکره فی شعره، إذ یتجاوز الشعر حدود الزمان والمکان، یقول زهیر:

ألم تر أن الناس تخلد بعدهم

أحادیثهم والمــرء لیس بخالد([57])

ویقول امرؤ القیس مؤکدا وعیهم ببقاء الشعر على الزمان

 لقلت من القول ما لا یزال

             یؤثر عنى ید المسند([58])

ویقول طرفة مؤکدا وعیهم بتجاوز الشعر حدود الزمان وبأنه یصل إلى حیث لا یصل شیئا غیره:

رأیت القوافى یتلجن مدالجا

تضایق عنها أن توالجها الإبر([59])

ویصرح زهیر بأن الشعر ینتشر ویبقى متجاوزا حدود الزمان والمکان معا: 

سترحل بالمطى قصائدى

 

حتى تحل علـى بنى ورقاء

مدحا لهم یتوارثون ثناءها

 

    رهن لآخرهم بطول بقاء([60])

وما دام الشعر هو الوحید الذی یبقى على الزمن، متجاوزا حدود الزمان والمکان، وما دام البقاء هو الهدف، فلیبق الشاعر أمجاده، ولیستحضر مظاهر الفتوة والبطولة فی قصیدته، فی مواجهة الطلل وما یشیر إلیه وینذر به من فناء، ولذلک فإن هذا النمط من أنماط بناء القصیدة یسیطر أیضا على قصیدة الرثاء، التی یمکن تفسیر بنیتها من خلال الجملة التالیة:

[ لإن کان الفقید قد مات فإن ذلک لا یعنی فناءه، فلقد کان یفعل کذا وکذا، أو فلربما فعل کذا وکذا]

 تقول الخنساء على سبیل المثال:

فالیوم أمسیت لا یرجوک ذو أمل

 لما هلکت وحوض الماء مورود

ورب ثغر مهول خضت غمرته
.................................

بالمقربات علیها الفتیة الصید([61])

..................................

.................................

لقد أبدع الشعراء هذا البناء الممثل للفلسفة الجاهلیة خیر تمثیل. فعند غیاب فکرة البعث تصبح البطولة فی التزود من متع الحیاة کما شرح طرفة بالتفصیل فی معلقته، وکما أوضح امرؤ القیس وعنترة فی قولیهما على الترتیب: 

- تمتع مــن الدنیا فإنک فان

من النشوات والبیض الحسان([62])
 

- لا بد للعمـر النفیس من الفنا

فاصرف زمانک فى الأعز الأفخر([63]) (90)

فهذا دور الجاهلی فی مواجهة الفناء، أما دور القصیدة فتخلید صاحبها وتثبیت محاسنه.

إن الشاعر یُخَزِّنُ ذکراه [بقصائده] کما یُخَزِّنُ مآثر من یمدحهم أو محامد من یرثیهم بشعره، إذا استخدمنا مصطلح التخزین مع امرؤ القیس:

إذا المرء لم یخزن علیه لسانه

 فلیس على شىء سواه بِخَزَّانِ([64])

ولا نحتاج للإطالة فی التمثیل فنظرة واحدة فی دواوین: عبید وامرئ القیس وطرفة تؤکد الشیوع اللافت لهذا النمط، ویکفی هنا أن نشیر إلى أن معلقة امرئ القیس، والقصائد الأطول والأهم من دیوانه بروایة الأصمعی، تنتمی جمیعا إلى هذا النمط من البناء الذی أسمیه قصیدة التأبین، أو التخلید، فعلى هذا النمط تأتی القصائد أرقام ( 1، 2،5، 8، 9، 11، 13، 14) وهی ثمانیة قصائد من النصوص التی تزید على عشرة أبیات، وعددها ست عشرة قصیدة فی روایة الأصمعی، والفکرة موجودة أیضا فی قصائد أخرى، وإن بوضوح أقل.

وعلى هذا النمط تأتی کثیر من قصائد المفضلیات، نحو قول ربیعة بن مقروم الضبی:

ألا صرمت مودتک الرواع
وقالت إنه شیخ  کبیر
فإما أمس قد راجعت حلمی
فقد أصل الخلیل وإن نآنی
وأحفظ بالمغیبة أمر قومی
وماء آجن الجمَّات قفرٍ
وردتُ وقد تهورتِ الثریا

 

وجد البین منها والوداع
فلج بها ولم ترع امتناع
ولاح علی من شیب قناع
وغبُّ عَدَواتی کلأٌ جِداع
فلا یُسْدَى إلی ولا یُضاع
تعقم فی جوانبه السباع
وتحت ولیَّتی وهمٌ وساعُ([65])

ولدینا نوعان من القصائد داخل هذا النمط، الأول تتوالى فیه مظاهر البطولة دون إطالة فی أی منها کما فی الأبیات السابقة، وفی أکثر قصائد عبید، والثانی یطول الحدیث فیه عن کل مظهر، فتأتی المظاهر فی قصص متتابعة کما فی معلقة امرئ القیس وکثیر من قصائده، وما یهمنا أن نؤکد علیه فی هذا البحث هو أن الوعی بوجود نمط آخر من الصنعة [هو صنعة البناء الذی یحمل الفکر وفلسفة الحیاة] یجعل امرأ القیس صانعا من طراز فرید، ویفسر أفضلیته عند القدماء، کما یفسر کونه الممثل الأهم للثقافة الجاهلیة التی لا تؤمن بالبعث وتصوغ موقفا من الحیاة على هذا الأساس، ومن هنا شاع أنه حامل لواء الشعراءإلى النار.([66]).

ویشیع هذا النمط من البناء شیوعا لافتا عند امرئ القیس وعبید وطرفة والأعشى على نحو یفسر الجمع بینهم عند القدماء والمحدثین تفسیرا صحیحا، فنحن إزاء مدرسة خاصة لها فلسفتها فی الحیاة التی صاغتها شعرا، ولها رأیها فی وظیفة الشعر الذی طبقته فی قصائدها لیخلد صاحبه.  

أما القصیدة عند زهیر فیغلب علیها نمط آخر أفضل أن أسمیه نمط (القصیدة الرسالة)، أی القصیدة التی تستخدم الشعر بوصفه رسالة تهدف إلى تحقیق هدف مباشر بعینه، وقد أدرک محمد أبو موسى فکرة هذا النمط حین ذکر أن الشعر عند زهیر موجه لمصالح المجتمع، یوصل من خلاله رسائل ذات أهداف سلوکیة([67])، سواء کانت مدحا لمن یحسن إلى المحتاجین، أو یوقف العداوات بین القبائل، أو کانت هجاء لمن یعتدی على الحقوق. وقصائده غالبا قصائد (ثلاثیة) إذا استخدمنا مصطلح حسن البنا عز الدین([68])، تتکون من المقدمة والرحلة والغرض، لکن ما یهمنا فی السیاق بیان کیف تکون الصنعة من خلال الرموز والتغییرات التی یحدثها الشاعر فی هذه الرموز لتلائم غرضه، وتناسب الموقف الذی یتبناه.  ولتوضیح هذه الکیفیة سنعرض فی عجالة لکافیته الشهیرة: بانَ الخَلیطُ وَلَم یَأوُوا لِمَن تَرَکوا .

تبدأ القصیدة بلوحة الظعائن التی تختلف اختلافا جذریا عن لوحة الظعائن فی معلقته. إن لوحة الظعائن تستخدم کما سبق فی قصائد الخلافات القبلیة للتخویف من أن یؤدی قطع أواصر التحالف إلى الظعن، لکن معلقة زهیر قیلت فی نهایة الحرب، فی وقت کان المأمول أن یستمر الصلح الذی عقدة الممدوحین ویسود السلام، ولذلک یجمع زهیر فی المعلقة کل الرموز التی تجعل الظعینة آمنه، وأهمها:

1- تبکیر الظعائن (بَکَرنَ بُـکوراً وَاِستَحَرنَ بِسُحرَةٍ)، والبکور علامة النجاح.

2- وسیرهن بمحاذاة الجبال فی الأماکن العالیة، وهی علامة نجح شهیرة فی الشعر الجاهلی.

3- وسهولة الطریق سهولة وصول الید للفم،( فهن ووادی الرس کالید للفم).

4- ووصول الظعینة إلى ماء شدید الزرقة لم یکدر قط، وهی علامة نجاح فالماء الذی لم یکدر ماء غیر مورود لم یصل إلیه أحد، ولم یحدث علیه صراع، وقد عبر عن هذا المعنى فی موضع آخر برمز آخر هو الوصول إلى ماء یزخر بالطحالب([69]).

5- وإضافة إلى کل ما سبق یغیب تشبیه الظعائن بالسفینة فی المعلقة، حیث رکوب البحر أمر مخوف عند العرب، کما یغیب التشبیه بالنخیل، إذ النخیل مطموع فیها، تحتاج إلى حمایتها بالسیوف کما أوضح امرؤ القیس فی رائیته: (سما لک شوق بعد ما کان أقصرا).  

لقد أتقن زهیر صناعة الرمز المتصل بلوحة الظعینة فی المعلقة لیصنع معادلا موضوعیا لفکرة السلام التی ستحمی الظعائن من الخوف المحدق فتصل آمنة وصول الید للفم، أما فی الکافیة فالقصیدة فی هجاء من اعتدى على إبله واستولى علیها، وأسر عبده، وهو یهدده فیها بأنه سیهجوه بقصائد تبقى على مر الزمان کما یبقى الدنس فی الملابس القطنیة المصریة البیضاء: 

لَیَأتِیَنَّکَ مِنّــی مَنـطِقٌ قــَذَعٌ   

 

باقٍ کَمــا دَنَّسَ القُبطِیَّةَ الوَدَکُ([70])

ولذلک فهو یحشد فی لوحة الظعینة فی الکافیة الکثیر من رموز الخوف على الظعینة من أن تتخطف فی الطریق، وأهم هذه الرموز کما یذکر - حسام قاسم - فی تحلیله للقصیدة([71]):

1-   أنهم بدؤوا الرحلة متأخرین، یقول:

رَدَّ القِیانُ جِمـالَ الحَیِّ فَاِحتَمَلوا

 

إِلـى الظَهیرَةِ أَمـرٌ بَـینَهُم لَبِکُ

وتلک علامة فشل؛ إذ ینتظر النجاح من یبدأ رحلته مع البکور أما أن یبدأ الظعن مع الظهیرة أو مع المساء فعلامة فشل ونذیر شؤم، ولذلک قال الشاعر المهدد بالحرب:

 

لَئِن شُبَّتِ الحَربُ العَوانُ الَّتی أَرى      

 

وقَـد طــالَ إیعـادٌ بِها وَتَرَهُّبُ

 

لَتَحتَمِلن مِنکــــُم بِلَیـلٍ ظَعینَةٌ         

 

إِلى غَیرِ مَوثوقٍ مِنَ العِزِّ تَهرُبُ ([72])

2- أنهم لم یُجْمِعُوا أمرهم، ولم یوحدوا قراراهم، وإنما ظلوا مترددین مختلفین حول الطریق التی سیسلکونها، فالأمر بینهم لَبِکُ: أی متخلط ومشترک، ولا یوجد متخذ واحد للقرار، وتلک علامة فشل کبرى فى الثقافة العربیة الجاهلیة، یقول: 

 

ما إِن یَکـادُ یُخَلّیهِم لِوِجهَتِهِم     

 

تَخـالُجُ الأَمرِ إِنَّ الأَمرَ مُـشتَرَکُ

3- أن الأماکن التی ساروا فیها مخوفة، فقد ذکر الشراح أنها أماکن قلیلة الماء وقعت فیها حروب کثیرة، کما أن بعضها عبارة عن کثبان یصعب السیر فیها وتغوص قوائم الدواب.

4-  ولذلک یحضر تشبیه طریقهم فی الصحراء براکب السفینة فی البحر:

 

یَغشى الحُداةُ بِهِم وَعثَ الکَثیبِ کَما      

 

یُغشی السَفائِنَ مَوجَ اللُجَّةِ العَرَکُ

لاسیما أن زهیرا یجعل الحداة یرکبون بهم وعث الکثیب: وهو کما ذکر الأعلم فی شرحه للدیوان: «اللین من الرمل الذی تغرق فیه قوائم الماشیة، شبه حمل الحداة الإبل على صعب الرمل باقتحام النواتیة لجة البحر بالسفن»([73]) .

5- أنه أوضح استحالة لحاقه بهم من خلال رکوب ناقته والسیر وراءهم(وهذا رمز لإمکانیة رأب الصدع)، وسبب استحالة اللحاق بهم أنه لم یجعل ناقة قویة أمون سریعة على ما هی العادة فی الشعر الجاهلی إذا کانت رحلة ناجحة أو مأمولة، وإنما جعلها ناقة تسیر أردأ أنواع السیر ومثلها لا یدرک راکبها هدفه أبدا، یقول:

هَل تُبلِغَنِّیَ أَدنــى دارِهِم قُلُصٌ   

 

یُـزجی أَوائِلَها التَبغیلُ وَالرَتـَکُ

 قال الأعلم " التبغیل ضرب من السیر ، وکأنه مشتق من مشی البغال، والرتک مقاربة الخطو فى سرعة وهو من مشی النعام، وهو ألأم مشی الدواب. وإنما أراد أن الإبل لکثرتها واختلاف سیرها کأن فیها کل ضرب من الدواب وجمیع أنواع السیر"([74])

لکن أعجب ما فی قصیدة زهیر وأدله على نموذج الصنعة فی القصیدة الرسالة هو وصفه للقطاة. لقد شبه ناقته بالقطاة، ثم استطرد فی ذکر صراعها مع الصقر، فإذا بنا أمام صراع متفرد، وقطاة لا مثیل لها فی جمیع قصائد الشعر الجاهلی، فقد طاردها الصقر لفترة طویلة جدا، وکاد أن یمسک بها غیر مرة، ثم إنها وقعت فی ید غلام کاد أن یمسک بها أیضا، وبقی فی یده شیء من ریشها، ثم عاودت الطیران والصقر من ورائها، نسمع فی القصیدة صوته وصوتها، حتى نجت منه وقد کادت تقع بین مخالبه، وطمع فیها فمه وأظافره، لکنه یجعل من نجاتها موضع استفهام، فقد استغاثت بواد فیه ماء فزل الصقر عنها، لکنه وقف على مکان مرتفع یستطیع مراقبتها منه، فالنهایة مفتوحة ولیست مغلقة، فقد یراها الصقر ویعود لمطاردتها من جدید، یقول:

فَزَلَّ عَنـها وَأَوفـى رَأسَ مَرقَبَةٍ     

 

کَمَنصِبِ العِترِ دَمّى رَأسَهُ النُسکُ

ولا یحتاج الربط بین موضوعه وهذا المشهد السینمائی للقطاة إلى شرح وإیضاح، ثم یخلص زهیر من المطاردة إلى حدیثه عن بنی الصیداء الذین کانوا حلفاءه فغدر به بعضهم، وأسر غلامه، وأخذ إبله:

هَلّا سَــأَلتَ بَنی الصـَیداءِ کُلَّهُمُ

 

 بِأَیِّ حـَبلِ جـِوارٍ کُنتُ أَمتَسِکُ

ویشرع فی هجاء تهدیدی غیر مقذع لعله یثمر، وقد أثمر فعلا، وأعادوا له غلامه وإبله، خوف أن یکونوا مثل تلک القطاة، أو یکون مصیرهم کمصیر هذه الظعینة.

إن ما یجسد صنعة زهیر لیس الاستعارات، وإنما الرموز التی یوظفها فی قصیدته لخدمة رسالته، وهکذا الأمر فی أکثر القصائد ذات الأغراض الواضحة، إذ ترتبط الرموز فی لوحة الرحلة ارتباطا عجیبا بغرض القصیدة.  

إن الصنعة الحقیقیة فی الشعر الجاهلی هی صناعة البناء وصناعة الرموز. ویبدو هذا المفهوم للصنعة أکثر إنتاجا فی التفریق بین الاتجاهات والمدارس لارتباطه بمواقف الشعراء وفلسفتهم فی الحیاة من ناحیة، ولارتباطه بأحداث حیاتهم من ناحیة ثانیة. وهذا المفهوم للصنعة هو الأقدر أیضا على تفسیر أحکام کثیرة قاد إلیها الحدس عند القدماء والمحدثین، نحو أهمیة امرئ القیس وشدة صنعته التى رأى محمد أبو موسى بحق أنها تجعله أعبد الناس لشعره، أو وفق عبارته « فإن امرأ القیس مما لا یجوز لأحد أن یکون عبدا لشعره قبله، بل إنه کان أکثر إخلاصا لشعره من ملکه، وأنه انحاز إلى الشعر أکثر من انحیازه للملک»([75])

ولذلک فإن هذا البحث یدعو لاعتماد هذا المفهوم للصنعة زاعما أنه أکثر إنتاجا فی التفریق بین الشعراء والقصائد، وإیضاح الخصوصیات، مما یفید فی دراسة کثیر من قضایا الأدب الجاهلی. 

 خاتمة:

حاول هذا البحث أن یقدم مراجعة استکشافیة لفکرة من أهم أفکار النقد العربی قدیما وحدیثا حول الشعر الجاهلی هی فکرة وجود اتجاهات ومدارس متمایزة فی هذا الشعر، موضحا أهمیة هذه الفکرة من حیث أنها تتقاطع مع عدد من أهم قضایا الشعر الجاهلی، نحو قضیة الانتحال وقضیة شفاهیة ذلک الشعر، وتعد حاسمة فی معالجة هذه القضایا. 

وقد قدم البحث محاولته تلک عبر أربعة مباحث، خصص المبحث الأول لعرض ما أنجزه النقد العربی القدیم حول هذه الفکرة، ونهض المبحث الثانی ببیان المنجز الحدیث فی تناولها، أما المبحث الثالث فقد اضطلع بدراسة مشکلات التصنیفات المطروحة للشعر الجاهلی موضحا أن هذه المشکلات قد تسببت فی انصراف الدرس الأکادیمی عن هذه الفکرة حالیا، ومثبتا فی الوقت نفسه أهمیتها التی لا تجعل الحل الأنسب فی الانصراف عنها، وإنما فی محاولة علاج المشکلات الموجودة فی التصنیفات المتاحة.

أما المبحث الرابع فقد انطلق من المراجعة التی قامت بها المباحث السابقة إلى محاولة استکشاف المستقبل الممکن لهذه الفکرة، وذلک من خلال مطلبین، أوضح الأول الأساس الأبرز الذی قامت علیه التصنیفات المتاحة وهو فکرة الطبع والصنعة، مقدما مفهومها فی الأعمال القائمة، بینما أوضح الثانی أن تغییر مفهوم الصنعة بحیث تکون فی بناء القصیدة وصناعة رموزها یمثل الأساس الأفضل للتمییز بین الشعراء على أساس أوجه الشبه والاختلاف، إذ یجمع هذا الأساس بین الأبعاد الفنیة والفکریة، وإذ یظهر قدرة أعلى على إظهار الفروق عند التطبیق، ومن هنا أثبت ذلک الأساس قدرة تفسیریة أعلى للتفضیلات التی ذکرها القدماء والتی کانت من باب الأمور التی یدرکها الحس ولا تحیط بها الصفة، لکن هذا المبحث أوضح کیف یمکن تحویل هذه الأحکام إلى أحکام یمکن وصفها والدفاع عنها.

ونظرا للأهمیة التمییزیة لهذا المفهوم – فیما أظن – فقد ختم البحث بجانب تطبیقی یشرح ویثبت ما خلص إلیه، على نحو یمکن الدراسات المأمولة التالیة من استخدام هذه الفکرة على نطاق أوسع.

[1] ـ الشعر الجاهلی مراحله واتجاهاته الفنیة، الشعر الجاهلی، مراحله واتجاهاته الفنیة، الهیئة المصریة العامة للکتاب، 1971.:31،32. وهی رسالته للدکتوراه نوقشت عام 1969.

[2] ــ نفسه .

[3] ــ نفسه .

[4] ــالسابق:92 .

 -[5] السابق:54.

-[6] السابق:80،81

[7] - انظر المرجع السابق: 150 وما بعدها.

. -[8] السابق:150،151.

[9] ـ السابق : 155.

[10] - انظر المرجع السابق250.

[11] ــ السابق :256.

[12] - انظر دراسات فی الشعر الجاهلی، مکتبة غریب1991،  196وما بعدها،

[13] ــــ دراسات فی الشعر الجاهلی ص196..

[14] ـــ دراسات فی الشعر الجاهلی:211

[15] ـــ السابق: 212.

[16] ـــ نفسه: 212.

[17] ــ السابق :77

[18] - السابق:78

[19] ـــ السابق :79

[20] ــ السابق :80

[21] - یوسف خلیف: الشعراء الصعالیک فی العصر الجاهلی ط3، دار المعارف، القاهرة، د.ت.ص293.

[22] ــ السابق:87

[23] ــ السابق :87.

[24] ــ السابق:92.

[25] ــ السابق :214

[26] - عونی عبد الرؤوف ، بدایات الشعر العربی بین الکم والکیف، ط2 مکتبة الآداب، القاهرة،  2005. ص:113.

[27] - السابق:114، وشکری عیاد موسیقى الشعر العربی ، مشروع دراسة علمیة ، دار المعرفة، القاهرة،1978، ص: 13.

[28] - السابق:115.

[29] - بدایات الشعر العربی بین الکم والکیف:117، وموسیقى الشعر العربی إبراهیم أنیس، الطبعة الثانیة ، الأنجلو المصریة،1952،ص:189.

[30] ــ دیوان امرئ القیس، تحقیق محمد أبو الفضل إبراهیم، الطبعة الخامسة، دار المعارف، القاهرة،1990 : 162:160

[31] ــ السابق : 306،308.

[32] ــ دیوان الأعشى الکبیر میمون بن قیس، شرح وتعلیق محمد محمد حسین، مکتبة الآداب،1950: ص: 325، دیوان لبید: تحقیق إحسان عباس ، سلسلة دار التراث العربی، تصدرها وزارة الإرشاد فی الکویت، الکویت،1962.ص: 79، 241، 312.

[33] ـ الفن ومذاهبه فی الشعر العربی ط10،دار المعارف د. ت.  :25

[34] ــ دراسات فی الشعر الجاهلی :87.

[35] - حسن البنا عز الدین: الکلمات والأشیاء، دار الفکر العربی، القاهرة،1988.

[36]  ــ النظم الشفوی فی الشعر الجاهلی، ترجمة فضل بن عمار العماری ط1 ، الریاض 1987.ص:34.

[37] ــ السابق :26،27.

[38] ـ الشفاهیة والکتابیة، والکتابیة ترجمة حسن البنا عز الدین ، عالم المعرفة فبرایر ،1994  :28.

[39] _  السابق 28.

-[40]مقدمة دیوان الأعشى تحقیق ، محمد حسین مکتبة الآداب، القاهرة،1950.

-[41] نفسه.

- [42] وهب رومیة،الرحلة فی القصیدة الجاهلیة،ط2 مؤسسة الرسالة، بیروت،1979،ص:403.

[43] ـ فی الأدب الجاهلی/304.

 - [44] جودة أمین: عبید الشعر فی العصر الجاهلی ط1،دار الهانئ القاهرة،1991.

[45] - البیان والتبیین2/13.

[46] ــ البیان والتبیین ج2ص:217.

[47] - انظر وهب رومیة، شعرنا القدیم والنقد الجدید، سلسلة عالم المعرفة:، مارس 1996 ص 143.

[48]- مصطفى سویف: الأسس النفسیة للإبداع الفنی، فی الشعر خاصة ط4، دار المعارف القاهرة،1981ص: 298،299

 -[49] السابق:303.

[50] ــ ـــ وهب رومیة ، شعرنا القدیم والنقد الجدید ، عالم المعرفة آذار 1996/ 182

[51] ـــ وهب رومیة ، شعرنا القدیم والنقد الجدید ، عالم المعرفة آذار 1996/ 309

[52] ــ  السابق / 150

[53] - دیوان لبید بن ربیعة، تحقیق إحسان عباس، سلسلة دار التراث العربی، الکویت1962ص 47.

[54] - السابق:56.

[55] - أبو الفرج الأصفهانی: الأغانی 1/239.

[56] -دیوان عبید، تحقیق حسین نصار، الطبعة الأولى، مکتبة البابی الحلبی1957ص:131.

[57] - دیوان زهیر بن أبی سلمى، تحقیق فخر الدین قباوة، ط3، دار الآفاق الجدیدة،بیروت،1980.ص:236.

[58] - دیوان امرئ القیس:186.

[59] - دیوان طرفة: 161

[60] -دیوان زهیر:203.

[61] - دیوان الخنساء:41.

[62] -دیوان امرئ القیس:87.

[63] - دیوان عنترة بن شداد، المکتبة الثقافیة، بیروت، لبنان- د.ت.ص:70.

[64] - دیوان امرئ القیس:90.

[65] - دیوان المفضلیات، تحقیق أحمد محمد شاکر وعبد السلام هارون، ط 8، دار المعارف ، القاهرة: 186.

[66] - الإحالة على الخبر الذی یروى على أنه حدیث شریف یصف امرأ القیس بأنه (حامل لواء الشعراء إلى النار) رواه أحمد فی مسنده من حدیث أبی هریرة رضی الله عنه، رقم: (7987) غیر أن فی إسناده ضعفا شدیدا، ولذا قال محقق المسند (شعیب الأرناؤوط) إن إسناده ضعیف جدا، وکذلک ضعفه الألبانی فی ضعیف الجامع،[1250] ففی رواته أبو جهم الواسطی وهو واهی الحدیث، وجهَّله الإمام أحمد، ولذلک حکم ابن حجر على الخبر بالبطلان، ومن هنا لم أذکره فی المتن على أنه حدیث شریف، لکنه یمثل (وإن لم یکن حدیثا)  رأی القدماء فی ریادة إمرئ القیس وفی تمثیله للثقافة الجاهلیة.

[67] - محمد محمد أبو موسى: الشعر الجاهلی ومنازع الشعراء، ط1، مکتبة وهبة، القاهرة، 2012، ص: 319_320.

[68] - حسن البنا عز الدین: الکلمات والأشیاء، مرجع سابق، ص:77.

[69] - الإحالة على قوله: [ یزخرن فوق جمامهن الطحلب] دیوانه: ص:209.  

[70] - دیوان زهیر: 58.

[71] - انظر: حسام قاسم : العلاقة بین الجمل والفقرات: دراسة فی الترابط الدلالی للنص العربی، ملحق مجلة کلیة الآداب، المجلد 66، العدد 1، ینایر، 2006، ص: 80.

[72] - دیوان بشر بن أبی خازم الأسدی، قدم له وشرحه مجید طراد، الطبعة الأولى ، دار الکتاب العربی، بیروت،1994،ص:24.

[73] - الأعلم: شعر زهیر بن أبی سلمى، ص: 80.

[74] - السابق: 80- 81.

[75]  - محمد محمد أبو موسى، الشعر الجاهلی ومنازع الشعراء. ص:320



[1] - الأصمعی: کتاب فحولة الشعراء تحقیق ش. توری ، تقدیم صلاح المنجد، الطبعة الأولى دار الکتاب الجدید1971، ص:11وما بعدها.

[2] - السابق ص: 12: 14.

[3] ـــ البیان والتبیین، تحقیق: عبد السلام هارون، ط7،مکتبة الخانجی، القاهرة ،1998. 2/13.

[4] ــ العمدة فی صناعة الشعر ونقده، عنی بتصحیحه السید محمد بدر الدین الحلبی، مکتبةالخانجی، القاهرة ،1907. ج/1  ص :132

[5] ــ  ـإحسان عباس ، تاریخ النقد الأدبی عند العرب ط4 ، دار الثقافة ، بیروت ،1983 ،ص :53.

[6] ـ  ابن سلام الجمحی :طبقات فحول الشعراء تحقیق محمود شاکر، مطبعة المدنی، القاهرة،د.ت  1/24،25.

[7]  ــ طبقات فحول الشعراء 1/ 137.

[8] ـ طبقات فحول الشعراء 1/155.

[9] ــ طبقات فحول الشعراء 1/ 204

[10] ــ طبقات فحول الشعراء 1/ 217

[11] ـ جابر عصفور : قراءة التراث النقدی ط1، عین للدراسات والبحوث الإنسانیة ،القاهرة 1994 :185

[12] ــ البیان والتبیین 2/9.

.[13] ــ البیان والتبیین 2/13،14

[14] - السابق2/14

ــ نفسه.[15]

[16] ــ الشعر والشعراء ، ط دار الثقافة ، بیروت ،1969 ص:16.

[17] - الشعر والشعراء : 22

[18] ــ السابق :24.

[19] ــ البیان والتبیین، تحقیق عبد السلام هارون،ط7، مکتبة الخانجی، القاهرة،1998، 2/13

  .-[20] العمدة : 83

[21]ـ کتاب الأغانی، الهیئة المصریة العامة للکتاب القاهرة،2010 :8/91.

[22] ــ الموازنة بین أبی تمام والبحتری، تحقیق السید أحمد صقر، ط4 ، دار المعارف د.ت.:4.

[23]  - أحمد بن فارس: الصاحبی فی فقه العربیة وسنن العرب فی کلامها، تحقیق: السید أحمد صقر، سلسة الذخائر، العدد 99، الهیئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2003، باب سنن العرب فی حقائق الکلام والمجاز، ص: 321.

  - [24] محمد غالیم: التولید الدلالی فی البلاغة والمعجم،  ط1، دار توبقال للنشر، الدار البیضاء، 1987.

[25] ــ فی الأدب الجاهلی، دار المعارف القاهرة د.ت، ص:281..

[26] ــ فی الأدب الجاهلی ص:282.

[27] ــ السابق :304.

[28] ــ السابق :294،295.

[29]  - انظر: شوقی ضیف: البحث الأدبی طبیعته ومناهجه، ط7،دار المعارف86 وما بعدها.

[30] - أحمد کمال زکی: شعر الهذلیین فی العصرین الجاهلی والإسلامی، دار الکتاب العربی، القاهرة، 1969 ، ص: 3.

[31] - المرجع السابق: 232،232.

[32] - الفن ومذاهبه فی الشعر : 8 وما بعدها.

[33] ــ الفن ومذاهبة فی الشعر: 25.

[34] ـ السابق :22

[35] ــ السابق :25.

[36] ــ دراسات فی الأدب العربی، ترجمة إحسان عباس وآخرون، منشورات دار مکتبة الحیاة، بیروت، 145 وما بعدها.

[37] ـالسابق :140.

[38] ــ السابق : 39.

[39] ــ السابق :265.

[40] ــ السابق : 266.

[41] -  نفسه .

الآمدی (أبو القاسم الحسن بن بشر ): الموازنة بین شعر أبی تمام والبحتری ت السید أحمد صقر، ط4 ، دار المعارف د.ت.
إبراهیم أنیس: موسیقى الشعر العربی ، الطبعة الثانیة ، الأنجلو المصریة،1952.
إحسان عباس : تاریخ النقد الأدبی عند العرب ط4،دار الثقافة بیروت1983.
-أحمد کمال زکی: شعر الهذلیین فی العصرین الجاهلی والإسلامی، دار الکتاب العربی ، القاهرة،1969
الأصفهانی (أبو الفرج علی بن الحسین ): الأغانی ، الهیئة المصریة العامة للکتاب،2010.
الأعشى میمون بن قیس، دیوانه، تحقیق محمد محمد حسین/ مکتبة الآداب، القاهرة،1950.
امرؤ القیس : دیوانه، تحقیق محمد أبو الفضل إبراهیم ، دار المعارف ، القاهرة ،1990.
بشر بن أبی خازم الأسدی، دیوانه، قدم له وشرحه مجید طراد، الطبعة الأولى ، دار الکتاب العربی، بیروت،1994.
جابر عصفور : قراءة التراث النقدی ط1، عین للدراسات والبحوث الإنسانیة ،القاهرة ،1994.
الجاحظ (أبو عثمان عمرو بن بحر ): البیان والتبیین ، تحقیق عبد السلام هارون ،ط7،مکتبة الخانجی، القاهرة ،1998.
جودة أمین : عبید الشعر فی العصر الجاهلی ط1، دار الهانئ للطباعة ، 1991.
جیمس مونرو:النظم الشفوی فی الشعر الجاهلی ترجمة فضل بن عمار العماری ط1 ، الریاض 1987.
حسن البنا عز الدین:
قصیدة الظعائن فی الشعر الجاهلی،ط1،عین للدراسات والبحوث الإنسانیة، القاهرة،1993.
الکلمات والأشیاء، دار الفکر العربی، القاهرة،1988.
ابن رشیق القیروانی : العمدة فی صناعة الشعر ونقده، تحقیق محمد محی الدین عید الحمید ،دار الجیل 1983.
زهیر بن أبی سلمى دیوانه، تحقیق فخر الدین قباوة،ط3، دار الآفاق الجدیدة، بیروت،1980.
ابن سلام (محمد بن سلام الجمحی): طبقات فحول الشعراء ، تحقیق محمود شاکر ،دار المدنی ،جدة د.ت.
سید حنفی حسنین: الشعر الجاهلی ،مراحله واتجاهاته الفنیة ، الهیئة المصریة العامة للکتاب، 1971.
وشکری عیاد: موسیقى الشعرالعربی ، مشروع دراسة علمیة ، دار المعرفة، القاهرة،1978
شوقی ضیف:
- البحث الأدبی طبیعته – مناهجه،ط7، دار المعارف القاهرة.
 - العصر الجاهلی ط10،دار المعارف 1982.
- الفن ومذاهبه فی الشعر العربی ط10،دار المعارف د. ت.
طرفة بن العبد: دیوانه تحقیق دریة الخطیب ولطفی الصقال، مطبوعات مجمع اللغة العربیة، دمشق،1975. 
طه حسین : فی الأدب الجاهلی ، دار المعارف ، القاهرة د.ت.
عبید بن الأبرص: دیوانه تحقیق حسین نصار،ط1 مکتبة ومطبعة البابی الحلبی،1957.
عنترة بن شداد: دیوانه ، المکتبة الثقافیة، بیروت، لبنان د.ت.
غوستاف غرونباوم: دراسات فی الأدب العربی، ترجمة إحسان عباس وآخرون، منشورات دار مکتبة الحیاة، بیروت.
فضل بن عمار العماری: الإبداع فی الشعر العربی القدیم،الإلهام والارتجال، کلیة الآداب ،جامعة الملک سعود، بحث منشور بتاریخ 28/1/1416.
ابن قتیبة : الشعر والشعراء ط دار الثقافة ، بیروت ،1969.
لبید بن ربیعة: دیوانه تحقیق إحسان عباس- التراث العربی- الکویت1962.
محمد رمضان زامل:رثاء الذات فی الخطاب الشعری الجاهلی، الهیئة العامة لقصور الثقافة- عدد 231،2015.
 محمد محمد أبو موسى، الشعر الجاهلی ومنازع الشعراءط1 مکتبة وهبة، القاهرة،،2012.
المرزبانی : الموشح فی مآحذ العلماء على الشعراء ، تحقیق محمد علی البجاوی ، القاهرة 1965.
مصطفى سویف : الأسس النفسیة للإبداع الفنی، فی الشعر خاصة ط4، دار المعارف القاهرة،1981.
المفضل الضبی: المفضلیات: شرح وتحقیق، أحمد محمد شاکر وعبد السلام هارون،ط8، دار المعارف ، القاهرة،1985.
والتر أونج : الشفاهیة والکتابیة ترجمة حسن البنا عز الدین ، عالم المعرفة فبرایر ،1994.
وهب رومیة : شعرنا القدیم والنقد الجدید ،عالم المعرفة، مارس 1996.
الرحلة فی القصیدة الجاهلیة،ط2 مؤسسة الرسالة،بیروت،1979،
یوسف خلیف : الشعراء الصعالیک فی العصر الجاهلی ط3، دار المعارف، القاهرة، د.ت..
- دراسات فی الشعر الجاهلی،مکتبة غریب 1991.