أثر النسق الثقافي في تشکيل الرواية النسويّة العربية

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

ناقد وأکاديمي مصري أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية وآدابها، کلية الآداب، جامعة القاهرة (فرع الخرطوم)

المستخلص

يفترض البحث الحالي أن أزمة النسوية العربية منذ نشأتها هي أزمة نسق ثقافي عام مرتبط بطبيعة العصر الذي کان بمثابة المرجع الثقافي الحاضن لعمليات إنتاج هذه النصوص الأدبية وتوالدها (يستوي في ذلک الشعر والنثر وما بينهما من أنواع بينيّة)، والنصوص غير الأدبية، وتاريخ الأفکار، والخطابات (أو التشکيلات الخطابية بتعبير ميشيل فوکو)، وليست أزمة خطاب نسوي غائب في زمن قديم أو مرتبک في زمن وسيط أو مندفع نحو المستقبل في زمن آنيّ حديث أو معاصر.
من هنا، يسعى هذا البحث -في فرضيته الرئيسة، وفي إجراءاته المنهجية أيضا- إلى مساءلة موضوع الرواية النسوية العربية من خلال تأثّرها بتحولات النسق الثقافي المهيمن في فترة زمنية دون أخرى؛ وذلک لتحليل أوجه الشبه وأوجه الاختلاف بين ثيمات هذه الرواية النسوية وتمثيلاتها المتعددة وأنساقها الثقافية المتباينة، منذ حقبة الستينيات، مرورًا بنماذج روائية مصرية وعربية حتى نهاية التسعينيات، مُفترِضًا أن ثمة أزمة نسقية تکمن وراء الخطاب الروائي للمرأة العربية، وهي في جوهرها أزمة ثقافية، يرجع إليها تأخّر الکاتبات العربيات عن بناء روايات نسوية (بالمعنى الجمالي والثقافي) قادرة على اتخاذ موقف مضاد لقيم الذکورة العربية التي هي ذکورة مجتمعية وثقافية بالأساس. ونظرًا لطبيعة هذه الدراسة ذات التوجّه الثيماتي الذي يقف على عدد کبير من الروايات المصرية والعربية، فإنها سوف تُعنَى بتحليل أغلب هذه الروايات تحليلًا عرضيًا، لا بهدف تشييد قراءة جمالية لها، بل بهدف مساءلتها عبر سؤال "الأزمة النسقية العربية"، من خلال عدد من المحاور الرئيسة؛ أولها "حول النسويّة العربية: المفاهيم والثيمات"، وثانيها " أثر النسق الثقافي في السردية النسوية العربية: الثيمات والتمثيلات"، وثالثها " أثر الهوية النسوية الحائرة في تشکيل رواية الخليج والجزيرة"، ورابعها "أثر النسق الثقافي المهيمن في تشکيل الرواية النسوية العربية".

الكلمات الرئيسية


أولًا: حول النسویّة العربیة: المفاهیم، والثیمات

مهاد:

لعله من البدهی القول إن صعود الوعی النسوی فی مجتمع ما أمر مرتبط بالضرورة ببزوغ حرکات التحرّر السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة التی تمثل الفضاء المرجعی أو السیاق السوسیوثقافی لخطاب المرأة، فی الأدب أو الفن أو غیرهما، فی أیة فترة من فترات التاریخ البشری. وبناءً علیه، فکلما زادت عوامل نهوض، أو بزوغ، مثل هذا الوعی النسوی سیاسیًا واجتماعیًا واقتصادیًا وثقافیًا زادت بالتبعیة، أوبالضرورة، أو بکلیهما معًا، عوامل صعود الوعی الفنّی لدى المرأة/الکاتبة بجوهر النوع الأدبی الذی تمارسه فی هذا القطر أو ذاک. أقصد إلى وعی المرأة بتقالید النوع الروائی (على وجه التحدید فی هذا السیاق)؛ ذلک الوعی الذی یؤثّر فی تشکیل سردیة نسویة عربیة لن تکتفی بمواقع الصمت والخنوع فی کثیر من الأحیان، بل تنهض على ممارسة الاحتجاج أو الرفض والتمرّد، بغیة تشکیل نسق ثقافی نسوی مغایر أو مضاد للنسق الذکوری المهمین. وأرجو ألا یُفهم من مثل هذا التحلیل الافتراضی الأوّلی نزوع الباحث إلى إسقاط رؤیة مارکسیة مسبقة على فرضیة الدراسة، تُخلص لعلاقة الانعکاس المرآوی (فی مجال الفنّ بالضرورة) بین البنیة التحتیة والبنیة الفوقیة. فالأمر أکثر تعقیدًا من ذلک بکثیر. بید أننا فی الوقت ذاته لا نستطیع أن ننفی وجود مثل هذا الطرح ووجاهته وقابلیته للنقاش المثمر، إذا استدعینا مقولات میخائیل باختین وجورج لوکاتش ولوسیان جولدمان وبییر زیما، على وجه الخصوص. ولأنّ الوعی أو الإدراک أسبق غالبًا فی الوجود –لا الرتبة- من الفعل أو الممارسة، فإن القول بإنتاج روایة نسویة عربیة یفترض بالضرورة أن یکون المؤلف(ـة) الحقیقی(ـة) (ومن ورائه المؤلف المضمر أو الرواة والشخصیات) منطلقًا(ـة) من وعی مغایر أو من رؤیة مختلفة للعالم تنظر إلى "هویة المرأة" بعیدًا عن تراث عریض من الهیمنة والعبودیة والاحتلال. من هنا، فإن ضرورة الفنّ الجدید الذی ستمارسه الذوات النسویة الواعیة تقتضی الوعی بخصوصیة المرأة وحریتها؛ الأمر الذی سوف ینتج أنماطًا مغایرة من الأنساق الثقافیة التی ستزیح الأنساق الذکوریة المهیمنة عن مرکزیتها الأثیرة، لا بهدف نقضها أو تفکیکها فحسب، بل بغیة تشکیل أنساق مضادة موجَّهة، تبتغی مساءلة کل خطاب ذکوری إقصائی أو تهمیشی أو استعبادی أسهم، بشکل أو بآخر، فی قمع المرأة العربیة أو حبسها فی صورة نمطیة متدنیّة منعتها من ممارسة حقوقها أو التمتّع بحریّاتها لسنوات وسنوات.

 

1-1

اعتادت المجتمعات التقلیدیة والبدائیة ممارسة العنف والتمییز العنصری ضد الأقلیّات بصفة عامة، سواء تلک التی تحیا داخل المجتمع نفسه فی شکل "جیتو Ghetto" (أو تجمّعات صغرى عائلیة أو قبلیة عِرقیة)، أو تلک التی تحیا على الأطراف الحدودیة بین الدول والمجتمعات. وهی ظاهرة قدیمة قدم وجود الإنسان على الأرض. ولذا، مارست المجتمعات التقلیدیة عنفها الرمزی والمسلّح ضد جمیع الأقلیّات دون استثناء، سواء کانت أقلیّات لغویة أو دینیة أو عِرقیة أو طبقیّة، اعتمادًا على (اللغة) فی بادئ الأمر قبل اکتشاف السلاح، حیث اعتادت مثل هذه المجتمعات البشریة توظیف اللغة بوصفها سلاحًا فاعلًا فی مواجهة الخارجین أو المارقین أو المرتدّین، اجتماعیًا أو دینیًا أو سیاسیًا أو أیدیولوجیًا، من خلال توظیف أسالیب المجاز تارة والحقیقة تارة أخرى. وعبر سنوات من تطویع اللغة أو تسخیرها لأغراض أیدیولوجیة، تراکم الکثیر من خطابات التمییز اللغوی والبلاغی حتى امتلأت المعاجم، فی کل الثقافات تقریبا، بألفاظ وتراکیب تستهجنها الجماعات والشعوب المتحضّرة، ولا تلجأ إلى استدعائها أو استخدامها إلا فی حالات استنفار العصبیّات القبلیّة أو النعرات الشعوبیّة أو النزعات العنصریة. ویرجع السبب فی ذلک إلى أن أغلب تلک المجتمعات التقلیدیة تمتاح من بنیة تصوّریة هرمیة الشکل، ذکوریة الطابع واللغة، بطریارکیة الوعی، تهدف إلى السیطرة والإخضاع والاستغلال والتمویه، بهدف دفع المارِقین إلى منطقة الصمت أو حبسهم فی مساحة الظل أو بقعة التهمیش التی یؤول إلیها مصیرهم ومصیر مَن یتشبّه بهم. ومن الغریب أن بعض المجتمعات الحدیثة- ولا أستثنی منها مجتمعنا العربی- لا تزال تسهم فی إنتاج خطابات تهدف إلى تأجیج الممارسات القمعیة أو العنف الرمزی ضد المرأة الذی نشأ فی أحضان المجتمعات القدیمة أو الثقافات التقلیدیة التی تمتلک ذخیرة معجمیة عریضة تؤدّی وظیفة السهام اللفظیة المنطلقة من أفواه أرباب الکلام والأقلام (کما اعتدنا أن نقرأ فی قصیدتی "الهجاء" و"النقائض" العربیتین على سبیل المثال)، المصوّبة باتجاه الأقلیّات أو المهمَّشین أو المنبوذین. هذا إذا کان المارِق أو الآبِق رجلًا، فما بالنا لو کان امرأة؟! فی هذه الحالة- کما تقول زلیخة أبو ریشة([1])- سوف تهبط علیها من السماء کل القوالب السالبة الجاهزة فی معجم الحیاة الیومیة، فهی إما: "عاطفیة غریرة"، أو "ثرثارة لا تحتفظ بسر" أو "ضعیفة لا تصلح للإدارة أو اتخاذ قرار" أو "اتّکالیة" أو "دمیة جمیلة" أو "ناقصة عقل ودین" أو "امرأة لعوب"، أو غیر ذلک من صفات یجود بها مجتمع الرجال على النساء، على سبیل الهزل حینا أو الجد حینا آخر، ومن خلال سیاقات لغویة عدة، منها ما هو شفاهی أو مکتوب، رسمی أو شعبی، عفوی تلقائی أو منمّق مدبّر.

لا یمکن الزعم ببساطة أن هناک أدبًا رجولیًا خالصًا وآخر نسائیًّا نقیًّا، أو أدبًا ذکوریًّا وآخر أنثویًا، أو أدبًا خشنًا وآخر ناعمًا، إلى غیر ذلک من مسمّیات یغلب علیها الطابع الصحافی البرّاق أو السطحی فی بعض الأحیان. وکما أن الرجل هو الأقدر على تشیید سردیّته التی تنطلق من هموم بنی جنسه، فإن المرأة ذاتها هی الأقدر على التعبیر عن مجمل مشکلاتها النسویة والقادرة على إطلاق صرخاتها، والبوح (روائیًّا) بما لم یستطع الرجل تمثیله جمالیا، أو کتابته فی نصوص أدبیة راقیة یحاول فیها کل مؤلّف/ رجل (سواء کان روایًا أو شخصیة من الشخصیات) أن یتمثّل وجهة نظر المرأة (الأنثى، الحبیبة، الأم، الأخت، الزوجة، .. إلخ)، والعکس صحیح أیضا بالقدر نفسه. من هنا، یجب التأکید بدایة على أن ثمة فوارق- ربما یشوبها بعض التداخل المفاهیمی الذی قد لا یرجع إلى عامل الترجمة عن اللغات الأجنبیة فحسب، بل تنتجه بعض حالات سوء الفهم أیضا- بین ثلاثة مفاهیم کبرى یدور فی فلکها الخطاب النسوی؛ أولها هو "کتابة النساء، أو: کتابة المرأة، أو: الکتابة النسائیة"، وثانیها: هو "الکتابة الأنثویة"، وثالثها هو "الکتابة النسویة". فالاصطلاح القائل بأدب نسائی، لا "نسوی"([2])، یُشار به إلى کل ما تکتبه المرأة المبدعة من نصوص، بغضّ النظر عن مدى ملامسة قضایا المرأة أو الدفاع عن حقوقها أو الشکوى والتمرّد ضد قیم الذکورة أو الرجولة. وإذا کانت الأنثویة Femininity، أو النسائیة، عاملا بیولوجیا، فإن الأنوثة تنبع من التراکیب والتصورات الاجتماعیة التی هی محکّ الممارسة. وکما تقول سیمون دی بوفوار فی کتابها "الجنس الثانی The Second Sex"، إن "المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح امرأة"([3])، فإن الأنوثة هی مجموعة القواعد التی تحکم سلوک المرأة ومظهرها، وغایة القصد منها جعل المرأة تمتثل لتصورات الرجل عن الجاذبیة الجنسیة المثالیة. بینما مصطلح النسویة Feminist یشیر إلى کل من یعتقد أن المرأة تحتل مکانة أدنى من الرجل فی المجتمعات التی تضع الرجال والنساء فی تصانیف اقتصادیة أو ثقافیة مختلفة. إن هدف المسعى النسوی هو تغییر وضع المرأة فی المجتمع. أما القول بأن الرجل یمکن أن یتبنّى موقفا نسویا فهو أمر لا یزال محل خلاف حتى فی أدبیّات النظریة الغربیة ذاتها؛ إذ تمیز مودلسکی مثلا بین إسهام الرجل الذی ینطوی على تحلیل السلطة الذکوریة وإسهام الرجل الذی یقوم على الحدیث نیابة عن المرأة أو انطلاقا من موقفها([4]). بینما ترى شوالتر أن کتابات المرأة تشبه الکتابات النابعة من أیة ثقافة أخرى تابعة فی کونها تمرّ بثلاث مراحل من التطور والصیرورة: أولاها محاکاة الأشکال السائدة للتقالید الأدبیة المهیمنة، وثانیتها الاعتراض على هذه المعاییر والقیم، وأخیرا ثالثتها مرحلة اکتشاف الذات؛ أی البحث عن هویة نسویة خاصة بها. وتصف شوالتر هذه المراحل بأوصاف "المؤنّثة feminine" و"النسویة feminist " و"الأنثویة female". ومن الواضح أن شوالتر تفضّل النمط الثالث من النصوص أو الخطابات أو تمیل إلیه ضمنًا على الأقل؛ لأنها نصوص وخطابات لا تمثّل عملیة المحاکاة أو ردّ الفعل المقاوم وحسب، بل تقدم للمرأة "أدبا خاصا بها"([5]).

 

1-2

قدّمت نظریات السیرة الذاتیة النسائیة أسئلة کثیرة حول مفهومی "الهویة" و"الذات"، کما أکّدت معظم هذه النظریات على اختلاف علاقات التألیف تاریخیًا بین المرأة والرجل، مثلما تشیر نانسی میلر Nancy Miller التی ترى أن "فعل ما بعد الحداثة الذی یُمیت المؤلف[6] لا یمکن تطبیقه على المرأة؛ إذ یَمنع سؤال المؤسسة بالنسبة لهن؛ لأن النساء لیس لدیهن نفس العلاقة التاریخیة للهویة مع الأصل والمؤسسات مقابل تلک التی حصل علیها الرجل"([7]). لکنّ محمد البحری ینفی وجود سیرة ذاتیة نسائیة عربیة بالمعنى الدقیق للسیرة الذاتیة Autobiography. وحسب تصوره الخاص هذا، تراه یقول "إننا على وعی تام بأن عناصر السیرة الذاتیة منبثّة- إن لم تکن مستوفاة- فی کل الکتابات النسائیة: فی شعر نازک الملائکة وفدوى طوقان، وفی روایات لیلى بعلبکی وکولیت سهیل ولیلى عسیران وغادة السمان وعروسیة النالوتی ونوال السعداوی،.. إلخ، وفی المذکرات والأحادیث الصحفیة، وفی غیر ذلک، وهو کثیر"[8]. وبعیدًا عن مبالغات محمد البحری السابقة، وتعمیم أو تعویم مسألة السیرة الذاتیة النسائیة، فإنه سوف یحترز، فی موضع لاحق من مقاله المُثبَت هنا، کی یقدّم ملاحظاته حول مسألة (الجنس) فی الإبداع الأدبی؛ مُلخِّصًا إیاها فی أربعٍ رئیسة ([9])؛ أولاها اتحاد الرجل والمرأة فی مواقفهما الوجودیة الأساسیة، فلا فرق بین الجنسین فی الوعی بالموت ولا بالحیرة الوجودیة، ولا فرق بینهما کذلک فی الوعی بالزمن والتاریخ أو الإیمان بالله والقوى الغیبیة. ثانیها اعتماد السیرة الذاتیة فی تفسیرها على أسطورة العودة إلى الرحم؛ أو زمان البدایات أو زمان الخلق. ثالثها افتقار الروایة النسائیة إلى البناء الحقیقی للحدث أو بناء السرد، حیث ترتکز فی عمقها على دفق الإحساس؛ فالمرأة الروائیة تُحوّل الحدث فی أغلب الأحیان إلى حِسّ. رابعها تکریس أدبیّات النقد جملةً من الدوافع وراء إنشاء السیرة الذاتیة، مثل توضیح المواقف وتصحیح الأوضاع والثأر لظاهرة ما وشکوى الانصیاع أو الامتثال لدواعی الضمیر الدینی، وغیر ذلک من عوامل تتنافى- کما یؤکد البحری- وطبیعة المرأة التی سیطر علیها الانصیاع والخضوع استجابة لنسق التبعیّة طوال تاریخها، کما عاشت القهر والانغلاق والاضطهاد. 

 

1-3

أدّى التسارع فی حرکة الاستنارة العربیة، بما انطوت علیه من وعی مدینی محدث، إلى تأسیس فن الروایة بوصفه فن المدینة التی یبحث عقلها النوعی عن معادله الإبداعی، على مستوى الأجناس الأدبیة، وأداته الفنیة المائزة التی یعبّر بها عن هواجس التحوّل وهموم التغیر وأحلام التقدم([10]). ولذا، فقد وُضِع موضع المساءلة جدوى "قراءة الروایات" لما فیها من صور کاشفة عن الأخلاق المتعارف علیها فی المجتمع الذی تتنازعة تیارات تتباین ما بین المحافظة (الاتّباع) والتجدید (الابتداع)، وذلک فی سیاق تاریخی باکر یُحیل إلى القرن التاسع عشر الذی أکّد على أهمیة الروایات على اختلاف مواضیعها وأغراضها وتأکید أنها فن یُقبل علیه الصغار والکبار لما فیه من اللذّة والتفکّه إلى جانب ما فیه من التعلیم والتربیة أو العظة والعبرة، إذا استخدمنا مصطلحات عبد المحسن طه بدر فی کتابه الرائد (تطور الروایة العربیة الحدیثة: 1870-1938) ([11])، فضلًا عن ما ینطوی علیه من مغریات الأفق المعرفی المحدَث ووعود قیمه وأخلاقه الطالعة.

فی هذا السیاق، ظهرت نصوص سردیة عدّة جسّدت قیم المدینة، مثل "علم الدین" لعلی مبارک و"شیطان بنتاؤور" لأحمد شوقی و"حدیث عیسى بن هشام" لمحمد المویلحی و"غابة الحق" و"الساق على الساق" لفرنسیس المرّاش، وغیرها. وقد ترتّب على علاقة المدینة بالروایة، أمران: أولهما تعدد صور المدینة نفسها وتنوّعها فی عقول أبنائها حسب موضع کل طائفة منهم فی هذا الجزء أو ذاک من علاقات التراتب الرأسی أو الأفقی فی خطط المدینة وحسب مرجعیّات أنساقهم الثقافیة الموازیة فی انفتاحها أو انغلاقها فی کل خطة من خطط المکان أو العمران المدینی. وثانیهما: النزعة الحواریة التی تتجلّى فی روایة النهضة بأکثر من علامة([12]). وهی نزعة سوف تنسحب تجلیاتها على المؤسسات العِقَابیة (کالسجون أو المعتقلات) والشوارع والساحات، کساحة القلعة، وساحة الأوبرا، والحدائق العامة، کحدیقة الأزبکیة مثلًا. وتؤکد الحرکة ما بین هذه الأماکن مدى التحوّل الذی جعل البیوت فی مصر لا تُعرَف بأسماء أصحابها أو قاطنیها، کما هو الحال فی الأریاف والضواحی والأطراف العمرانیة، بل بأسماء شوارعها وأزقّتها وأرقامها، بحیث یوازی الشوارع والساحات والمبانی فی الأهمیة مبانی السلطة التی تقرن النظام المعماری للمدینة بالنظام الموازی للضبط والمراقبة والعقاب([13]). لقد أثّر الوعی المدینی فی عقول أبناء الطبقة المتعلّمة، رجالا ونساءً، ممّن مارسوا (أو مارسن) الکتابة الإبداعیة، کما تأثّروا، وتأثّرن، بسماحة المدینة المتعددة التی لا تنطوی على أیة نظرة طبقیة سوف تفضی بدورها إلى تأکید أن التعلیم المدنی عاملٌ حاسمٌ للانتقال على سلّم التراتب الاجتماعی من حیث ما یؤدی إلیه من رفع أبناء الطبقات الدنیا درجات عُلیا([14]). فضلًا عن ذلک، فإن الشخصیات الروائیة فی روایات النهضة الرجالیة والنسائیة على السواء لم تکن شخصیاتٍ نامیةً بالمعنى الذی نعرفه فی روایات هذه الأیام وإنما کانت بمثابة أقنعة تقنیة Mask’s Technique متباینة ینطق من ورائها صوت واحد، هو غالبًا صوت الراوی المعلّق والمتدخّل فی السرد، کلیّ المعرفة والوجود، الذی تتعدد نبراته وتختلف طبقاته لکن بما یبقیه فی مجال غوایة التحدیث التی أصبحت قرینة الإیمان بمبدأ التغیّر فی الکون والتطلّع إلى وعود المستقبل الذی حلم به مبدعو النهضة العربیة منذ أن خایلتهم غوایة التحدیث.

من جهة مقابلة، وکما یصف تفصیلًا المؤرخ والناقد والمستشرق الأمریکی روجر ألن Roger Allen، فی ثنایا حدیثه عن نشأة الروایة العربیة الحدیثة، فقد کان لاکتشاف النفط فی منطقة الخلیج والجزیرة على وجه التحدید أکبر الأثر فی اقتصاد البلدان العربیة؛ ومن ثم کان له أثر ثقافی واجتماعی موازٍ فی العائلة کمؤسسة اجتماعیة، وبشکل أخص تأثیره على قطاعات من النساء اللائی ظللن فی معظم هذه الأقطار یمارسن دورهن التقلیدی کمسؤولات عن تدبیر حیاة العائلة وکحامیات لشرفهن فی الوقت ذاته([15]). وما یقصد إلیه روجر ألن هو بقاء المرأة العربیة کـ(موضوع) للروایة العربیة أکثر من کونها (ذاتًا) مُنتِجة للخطاب. ویمثّل على ذلک بعناوین روایات عدّة من قبیل "ذات الخدر" لیعقوب صروف، و"زینب" لمحمد حسین هیکل، و"ثریا" لعیسى عبید، و"سارة" للعقاد، و"حواء" لمحمود طاهر لاشین، و"سلوى فی مهبّ الریح" لمحمود تیمور، وکلها- فی رأیه ([16])- توازی روایة "إمیلیا" لهنری فیلدنج و"بامیلا" و"کلاریسا" لصامویل ریتشاردسون: "وهذا التتابع، منذ تسعینیات القرن التاسع عشر إلى تسعینیات القرن العشرین یعکس بعض التغیّر فی تصویر وضعیة المرأة، من یعقوب صروف وتصویره لمخدع المرأة، إلى المویلحی وتصویر صالات الرقص فی القاهرة [بحیث] تعکس الروایة وجهات نظر قاسم أمین (1865-1908) وهو الداعیة الأول لحقوق المرأة"([17]). وفی موضع لاحق، یشیر روجر ألن إلى أن التعلیم بمفهومه الحدیث- وبوصفه أحد رکائز المجتمع المدینی- هو الوسیلة الرئیسة التی توصّلت النساء من خلالها إلى إدراک تدنّی وضعهن وإمکانیة تغییر هذا الوضع([18]).

 1-4

خلال سنوات طویلة من القرن الماضی، وخصوصا فی النصف الثانی منه، نشأت خلافات ونقاشات متعدّدة بین نقّاد الأدب العربی ومؤرّخیه، حول تعیین أول روایة عربیة من الناحیة التاریخیة (أولًا) والفنیة (ثانیًا)، بعد أن تشکّک الکثیرون منهم، لا سیّما فی الربع الأخیر من القرن العشرین، فی النظر إلى روایة "زینب" (1914) لمحمد حسین هیکل بوصفها الروایة العربیة الأولى، وأن هناک محاولات "ناضجة" سابقة علیها بالضرورة. ففی الوقت الذی ذهب البعض إلى اعتبار روایة "حُسْن العواقب أو غادة الزاهرة"([19]) لزینب فواز الصادرة عام 1899م هی الروایة الأولى، یؤکد منصور قیسومة أن المرحلة الأولى من تاریخ الروایة العربیة تبدأ مع ظهور روایة "علم الدین" لعلی مبارک سنة 1882، بینما اعتبر محمد یوسف نجم أن أول محاولة سردیة یُعتدّ بها فی تاریخ القصة الاجتماعیة کانت على ید سلیم بطرس البستانی فی نصّه "الهیام فی جِنان الشام" الصادرة سنة 1870. لکنّ جابر عصفور فی تقدیمه لروایة "غابة الحق" لفرنسیس فتح الله المراش الصادرة سنة 1865 یعدّها الروایة الأسبق زمنیًا من غیرها. ویظل الأمر کذلک حتى یکتشف الباحث والناقد المصری المعاصر محمد سید عبد التواب([20]) أن روایة خلیل أفندی خوری (1836- 1907) "وی.. إذن لست بإفرنجی" الصادرة سنة 1856 هی أقدم روایة عربیة وصلت إلینا بالفعل حتى الآن، ثم یذهب ذلک المذهب نفسه باحثون ونقّاد معاصرون آخرون. ویقول سید عبد التواب، فی دراسته المنشورة فی مستهل روایة خلیل أفندی الخوری- فی طبعتها الجدیدة([21])- إنها بالفعل أول روایة؛ لا لکونها الأقدم تاریخیًا فقط، رغم أهمیة العامل التاریخی بالطبع، خصوصا لدى مؤرّخی الأدب ونقّاده، وإنما لأنها أکثر روایات تلک المرحلة نضجًا بالمعنى الفنی([22]).  

ما یشغلنا هنا بالضرورة لیس هو تقصّی المسار التأریخی الباحث عن التحقّق من أول روایة عربیة أو أول روایة نسائیة عربیة، رغم أن روایة عائشة تیمور "نتائج الأحوال فی الأقوال والأفعال"، الصادرة سنة 1886، هی غالبا -حسب سلسلة رائدات الروایة العربیة([23])- أقدم روایة عربیة کتبتها امرأة عربیة، وإنما یشغلنا کثیرًا فی هذا المقام تحدید الشرارات النسویة الأولى أو بدایة الظهور الباکر للوعی النسوی لدى المرأة الکاتبة العربیة؛ أقصد إلى ذلک الوعی الذی انعکس فی صراع الأشکال الأدبیة فی القرنین التاسع عشر والعشرین، بین التراث الرسمی والتراث الشعبی والنموذج الأوروبی، وهو فی حقیقته– کما یؤکد سید البحراوی؛ بوصفه المتلقّی المباشر لأفکار أستاذه عبد المحسن طه بدر- "تمثیل لصراع اجتماعی بین بِنَى المجتمعات العربیة والتقلیلدیة وفئاتها البازغة، ومحاولات الاستعمار الأوروبی المباشر أو غیر المباشر إخضاعها للتبعیة للسوق الرأسمالی العالمی ومرکزه الأوروبی."([24]) وحسب التفسیر الوضعی([25]) الذی اعتمده البحراوی فی تعلیل ظاهرة کتابة المرأة فی تلک المرحلة الباکرة من تاریخ المجتمع العربی الحدیث، فإن انتشار المطابع والصحف والصالونات الأدبیة وتعلیم النساء (وکلها رکائز مجتمع المدینة، کما سبق أن ذکرنا)، دون أن یمتلکن فرصة عمل خارج البیوت، مع قدر من الرفاهیة المالیة؛ یکمن وراء ذیوع هذه الظاهرة. بید أن التفسیر الأعمق یذهب بنا إلى أن هذه المظاهر لم یکن لها أن تتحقّق ما لم تکن هناک شریحة أو شرائح اجتماعیة جدیدة یمکنها أن تنجز مثل هذه المهام الحضاریة سواء فی مصر أو فی بلاد الشام على وجه التحدید. ففی مصر- کما یقول البحراوی([26])- کانت قد تبلورت فئة من المتعلّمین وأخرى من مُلّاک الأراضی وثالثة من التجّار ورابعة من العسکریین (قبل أن یقضی علیهم الاحتلال الإنجلیزی). أما فی لبنان فیمکن أن نجد وضعًا مماثلًا، خصوصًا مع زیادة فی حجم التجّار والمتعلّمین الذین کانوا على صلة أقدم بالحضارة الأوروبیة عبر الرحلات والبعثات التبشیریة المتتالیة. ثم جاءت الحرب الأهلیة واضطهاد المسیحیین فی عام 1860 لتدفع بأغلب اللبنانیین إلى الهجرة من جبل لبنان، قاصدین بعض الدول المحیطة، لا سیّما مصر فی ذلک الوقت أو بلاد الأمریکتین؛ حیث کانت هجرة بعضهم إلى مصر على وجه التحدید عاملًا حافزًا على المشارکة الفاعلة فی الحیاة الثقافیة المصریة والعربیة آنذاک.

 

1-5

أسهمت المرأة العربیة عموما، والشامیة على وجه الخصوص، إسهامًا بارزًا لا یمکن لأحدٍ نکرانه أو تجاهله فی نشأة الروایة العربیة وبزوغها، فی تلک الفترة الخصبة من النصف الثانی من القرن التاسع عشر، خصوصا لدى کل من ألیس بطرس البستانی (1870-1926) ولبیبة هاشم (1880-1947) وزینب فواز (1860-1914)، جنبًا إلى جنب رائدة الاتجاه النسوی عائشة التیموریة (1840-1902). ففی ذلک الوقت الباکر من مسیرة السردیة العربیة، قامت حرکة الترجمة عن الإنجلیزیة والفرنسیة بدور کبیر فی إنطاق المسکوت عنه من حیاة المجتمع العربی آنذاک. وأنّى لذلک أن یکون مُتاحًا إلا فی فضاء مدینیّ مغوٍ، ینطوی الناس فیه على احترام خصوصیة المرأة وتعزیز حرکة الطباعة وانتشار الصحف والمجلات وترجمة نصوص الآخر الإبداعیة (أعنی النصوص القصصیة الغربیة تحدیدًا فی هذا السیاق)؛ الأمر الذی جعل من حرکة ترجمة فنون القص الحدیثة على صفحات الجرائد والمجلات، آنذاک، بمثابة لازمة مفصلیة من لوازم التحدیث الذی استجابت له المدینة وقامت علیه بالأساس. ولم تکن موجة الترجمة، عبر هذا الفهم، بعیدة بحال عن طرح "إشکال الهویة". وبناء علیه، فإذا کانت بعض السردیات الرجالیة قد تناولت هذا الإشکال الهویّاتی من زوایا متباینة (مثل سردیة المرّاش التی انشغلت بالدعوة إلى أولویة العقل والعدل والتمدّن، وسردیة الشدیاق التی اهتمت بضرورة مقاومة أشکال التعصب الدینی الغاشم، وسردیة الطهطاوی التی احتفت بمبادئ الحکم وأنظمة الدساتیر الفرنسیة تحدیدا، وسردیة فرح أنطون التی رکّزت على قیم التسامح والدولة المدنیة، وسردیة خلیل الخوری التی شیَّدها على قضیة الهویة مباشرة أو دون مواربة)؛ فإن السردیات النسائیة التی تنتمی إلى تلک الحقبة ذاتها (مثل ألیس بطرس البستانی، ولبیبة هاشم، وزینب فواز، وعائشة التیموریة) قد تقاطعت أو تبلورت بالتأکید عند نقطة بعینها تتمثّل فی الإعلاء من شأن الهویة العربیة بما یمایزها عن غیرها، وبما یحفظ خصوصیتها التی هی خصوصیة الانفتاح والتلاقح والتثاقف والحوار، لا الانغلاق أو التقوقع أو التصادم أو الصراع.

بید أن السؤال الذی یفرض نفسه هنا هو: لماذا أطلق عبد المحسن طه بدر على هذه الروایات فی کتابه التأسیسی "تطور الروایة العربیة الحدیثة فی مصر" اسم (روایة التسلیة والترفیه)؟ وهل کان دقیقًا فی وصفه هذا أم مجازِفًا حدّ المقامرة أو المغامرة؟ وهل یرمی هذا الوصف إلى إقصاء هذا القطاع من النصوص القصصیة خارج دائرة الروایة بالمعنى الفنی، أو "الروایة الفنیة"، کما نصَّ کتابه؟ الإجابة الضمنیة- حسب استنتاج جابر عصفور([27])- هی: (نعم). إن روایات التعلیم والتسلیة والترفیه هی أقرب إلى روایات التربیة أو روایة التکوین Bildungsroman، وهی نصوص قصصیة أقرب إلى هلامیة الحکایة Tale منها إلى طبیعة الروایة Novel بمعناها الفنی؛ أی أن روایات الاستنارة، بمصطلح جابر عصفور، کانت تقترب کثیرًا فی تلک المرحلة من روح روایات بعینها من قبیل "دافید کوبرفیلد" لتشارلز دیکنز و"التربیة العاطفیة" لجوستاف فلوبیر و"سنوات تعلیم فیلهلم مایستر" لجوته، وغیرها من روایات عالمیة شهیرة. إن مثل هذا النوع من الکتابة القصصیة لم ینشغل بطبیعة الأدبی ولا بتقالیده أو أعراف الأسلوب ومواضعاته، بل هی کتابة سردیة أو قصصیة فضفاضة، حرّة، تمزج الذاتی بالموضوعی، والخیالی بالواقعی، والأدبی بالوثائقی.

یکمن السبب فی وصف أو تصنیف عبد المحسن طه بدر لمثل هذه الروایات الباکرة فی إطار "روایات التسلیة والترفیه" هو أنها "خضعت للأدب الشعبی، والخلاف بینها وبینه لیس خلافًا جذریًا، فقد حاولت هذه الروایة قدر جهدها البعد عن مجال الواقع فی اختیار موضوعاتها، ولم تخضع للمنطق الإنسانی أو لمنطق السببیة أو العلاقات الزمانیة والمکانیة، وحفلت بکل غریب وشاذ، واتجهت أساسًا لفضول القارئ ولم تتجه لتفکیره، وانقسم أبطالها إلى خیّرین بصورة مطلقة أو أشرار بصورة مطلقة..."([28]). وکما یعلّق البحراوی على هذا الاقتباس، فإنه یبدو أن الحکم على الأدب الشعبی کان قیاسیًا فی تلک المرحلة، مما جعل عبد المحسن طه بدر یعدّله فیما بعد حین عاب على مدرسة الإحیاء عدم الاعتراف بشرعیة الأدب الشعبی والمهاجرین الشوام الذین لجأوا إلى ترجمة الروایات الغربیة المتأثرة بالرومانسیة وتقلیدها، بدلًا من تطویر الأدب الشعبی الذی کان کفیلًا بإغناء الروایة العربیة فی ذلک الوقت، وقد أثبت البحراوی هذا الرأی باستفاضة فی کتابه "محتوى الشکل"([29]).

 

 ثانیًا: أثر النسق الثقافی فی تشکیل السردیة النسویة العربیة: الثیمات والتمثیلات 

2-1 تمثیل المرأة = نسق تحفیز الوعی الضِّدّی:

یمکن للباحث المعاصر تحلیل صعود المفاهیم النسویة فی الروایة المصریة الحدیثة عبر الوقوف على بعض النصوص التأسیسیة أو المفصلیة التی تمثّل مؤشرًا ثقافیًا دالًا على تغیّر بوصلة الوعی النسوی للمرأة المصریة کما تجسّدها بعض الروایات- العلامات. لذا، یمکن الحدیث إجمالًا عن ثلاث مراحل مفصلیة ارتبطت بتحولات الخطاب الروائی للمرأة المصریة، سواء فی مرحلة الأربعینیات أو مرحلة السبعینیات أو مرحلة التسعینیات. وکل واحدة من هذه المراحل السوسیوثقافیة الثلاث لها خصوصیتها التاریخیة التی انعکست أو تجسّدت فی عدد غیر قلیل من النماذج الروائیة الدالّة، فأنتج کل منها ثیماته الخاصة، کما أنتج تمثیلاته السردیة التی عبّرت عن تحولات أیدیولوجیة وقیمیة حادة فی وعی المرأة المصریة (أولًا) بذاتها، ووعیها (ثانیًا) بمجتمعها، ووعیها (ثالثًا) بتاریخها الذی تنتسب من خلاله إلى تراث نهضوی متسلسل الحلقات یمتّ بأواصر جینو- ثقافیة تتصل بقاسم أمین بوصفه الأب الروحی لحرکة تحریر المرأة المصریة منذ صدور کتابه  التأسیسی "تحریر المرأة" (1899) وکتابه المتمّم له "المرأة الجدیدة" (1901)، کما یمتّ بصلة أخرى إلى شجرة أنساب المرأة المصریة الناهضة التی عبّرت عنها سیاسیًا ووطنیًا کل من هدى شعراوی وصفیّة زغلول، ومن قبلهما کاتبات القرن التاسع عشر من أمثال عائشة التیموریة وغیرها من النسوة المصریات والشوام اللائی أسهمن فی بثّ روح المقاومة ضد تسلیع المرأة أو حبسها فی قمقم الجسد الشهوانی أو اختزالها فی ثیمة "التابِع الأبدی". لقد أسهم الرجال أنفسهم فی صنع ثیمات وإنتاج تمثیلات بعینها ذات تصورات سلبیة عن "المرأة"؛ الأمر الذی وجد تجلیّاته فی بعض النصوص الثقافیة الباکرة، مثل کتابات قاسم أمین وأحمد لطفی السید وروایة "زینب" لمحمد حسین هیکل وروایة "إبراهیم الکاتب" لإبراهیم عبد القادر المازنی، .. وآخرین([30]). هکذا، نشأ لدى روّاد النهضة العربیة ازدواجیة ثقافیة أو تناقض حتمیّ بینهم وبین نسائهم؛ حیث تمثّل روّاد النهضة من جنس الرجال کل قیم التمدّن کما فهموه أو کما استقبلوه عبر مرآة الغرب المتمدین، بکل ما انطوت علیه حمولة التمدّن الغربی المعرفیة من ذوق رفیع، وفکر سامٍ، وحب رومانسی. وبذلک، أصبحت الهوّة بین رجل النهضة والمرأة العائشة فی عصره صورةً مصغرةً من الهوّة الثقافیة الحاصلة بین المدنیّة الحدیثة والمجتمع التقلیدی. ومن ثمّ، غدت النساء مکبّلاتٍ بمفاهیم جدیدة عن الهویة والخصوصیة الثقافیة، تُطبَّق علیهن وحدهن، دون غیرهن من أفراد المجتمع؛ ومن ثمّ فقد اتسعت الهوّة التمثیلیة -کما تشیر هدى الصدة([31])- بین الرجل والمرأة فی علاقتهما بالتغیّرات الحاصلة فی المجتمع.

عبر هذا المنظور الثقافی، یمکن قراءة بعض المرویّات النسویة المفصلیّة؛ أقصد تحدیدًا إلى روایات ثلاث هی "الباب المفتوح" (1960) للطیفة الزیات و"العربة الذهبیة لا تصعد إلى السماء" (1991) لسلوى بکر و"الخِباء" (1996) لمیرال الطحاوی. إن اختیار هذه الروایات الثلاث للوقوف علیها، ولو بقدر من الإیجاز الذی لا یُخلّ بطبیعة هذه المقاربة النقدیة ذات النزوع الثیماتی/ الثقافی، هو تأکید على عیّنة نصیّة أو قطاع سردی مکوّن من ثلاثة تمثیلات تخییلیة وثقافیة تؤشّر على ثلاث مراحل سیاسیة واجتماعیة مهمّة فی مسیرة صعود الوعی النسوی لدى المرأة المصریة فی النصف الثانی من القرن العشرین([32]). فوعی لطیفة الزیات (1923- 1996) الذی ینتسب فی أغلب مرجعیّاته التاریخیة والاجتماعیة إلى جیل الأربعینیات فی الثقافة المصریة سوف یُحیل بدوره إلى جیل لجنة الطلبة والعُمّال وما قبل ثورة یولیو 1952، حیث کان الصعود الثقافی الحادّ لتیّار الواقعیة النقدیة وأدب الالتزام؛ أقصد إلى تلک الواقعیة التی کانت متشائمة فی استشراف مستقبل الثقافة المصریة وفی مستقبل السیاسة أیضا، على الأقل فی جناحها النقدی، لا الاشتراکی المتفائل. ففی تلک الفترة من زمن الأربعینیات والخمسینیات التی صعد فیها مدّ الواقعیة بجناحیها (النقدی المتشائم، والاشترکی الحالِم المتفائل)، ظهرت أفکار محمد مندور ولویس عوض ومحمود أمین العالم وعبد العظیم أنیس وعلی الراعی وأحمد عباس صالح، وغیرهم، وهو اتجاه نقدی کان موازیًا لصعود ثورة یولیو 1952 نفسها وبدایة تبلور أفکار المشروع القومی الذی دشّنت له الأیدیولوجیا الناصریة، خصوصًا بعد تأمیم قناة السویس 1956 ومواجهة العدوان الثلاثی على مصر. هکذا، کانت روایة "الباب المفتوح"([33]) للطیفة الزیات تمثیلًا سردیًا لا یخلو من دلالاته الثقافیة والرمزیة على واقعیة نقدیة استلهمت أسالیب السرد الجدید القائم على لاموثوقیة الراوی، وتشظّی الزمن، وتفتّت وحدة المکان، حیث تفتّح وعی الفتاة المصریة على انتفاضات الطلاب عام 1935 وصدام العمال والطلبة ضد الإنجلیز، فتوهج عقل الفتاة- الراویة بحب الوطن والثورة، حتى تنتهی الروایة وهی تقدّم صورة کبرى لامرأة مصریة "جدیدة" -بتعبیر قاسم أمین- قادرة على الوقوف إلى جوار الرجل، کتفًا بکتف ویدًا بید، من أجل تغییر أوضاع وطنها "المستعمَر" مرتین، واحدة باسم الاحتلال العسکری وأخرى باسم التقالید المکبّلة لحریة الإنسان فی الواقع الیومی المتغیّر.

فی ضوء وجهة النظر أعلاه، فإن روایة سلوى بکر (1949-) "العربة الذهبیة لا تصعد إلى السماء"؛ وهی ابنة جیل السبعینیات المرتبط بمظاهرات الطلاب، الرافض لتکبیل الحریات فی ظل سیاسة الانفتاح الساداتیة التی أُخِذ علیها تجریفها للقیم المجتمعیة وارتماؤها فی أحضان العدو الصهیونی، لا تنفصل عن سیاقات المرأة الناهضة التی جسّدتها روایة لطیفة الزیات "الباب المفتوح" ومن بعدها سیرتها الروائیة "حملة تفتیش- أوراق شخصیة" (1992). تقع أحداث راویة سلوى بکر "العربة الذهبیة..." فی سجن النساء، حیث تروی قصة بطلتها (عزیزة) الإسکندرانیة التى تحیا بین قضبان السجن المادی الذی دخلته وهى لم تزل فی مرحلة شبابها وقضبان الأفکار والهواجس. إنها شخصیة تحیا على الذکریات بحلوها ومرّها، کما تقتات على ذکریات البیت وزوج الأم وذکریات المعجبین وخیالات النجوم التى تتلألأ أمامها من العالم الخارجی عبر نافذة الزنزانة التی طالما أرادت تحطیمها مرارًا وتکرارًا، أملًا فی هروب کبیر یبلغ بها عنان السماء فی عربتها الذهبیة (المتخیَّلة) التی هی أحد نتاجات الواقع المریر الذی أمسى معادلًا رمزیًا لـ(السجن الکبیر).

وإذا کانت روایتا جیلی الستینیات والسبعینیات تشتغلان على ثیمة التحرّر من أسر الاستعمار والرغبة فی الخلاص من هیمنة التقالید الذکوریة، فإن روایة التسعینیات، ممثَّلةً فی "الخِباء" لمیرال الطحاوی (1970-) لن تشتغل على تمثیل السردیّات الکبرى عن التحریر والتنویر والهیمنة والهویّة القومیة، کما فعلت سردیّات الستینیات بل تنهض على سردیّات الذات الصغرى، المحلیّة، المهمَّشة، المهشَّمة، أو ما أطلقتُ علیه فی موضع آخر مصطلح "السردیات البدیلة"([34]) التی تنسج تمثیلاتها من خیوط أشباه ونظائر تلک الذوات التی غلَّفها الکبت والحرمان والانطواء خلف أسوار التقالید الصارمة التى تهبط بوجود المرأة فى قاع مجتمع بدوی یقیم على مشارف الصحراء المصریة. لقد اختارت میرال الطحاوی أن تحکی- کما یصفها فخری صالح([35])- حکایة الفتاة البدویة (فاطمة) بلغة تناسب الکشف عن عوالم النساء القابعات خلف أسوار البیت الکبیر، مغیَّباتٍ عما یحدث حولهن من تحولات تطال العالم الخارجی، مُسَیَّرات إلى أقدار الزواج ممن لا یحببن أو یرغبن، مُقیَّداتٍ بأعمدة الخباء، مقموعاتٍ ومدفوعاتٍ الى عالم الجنون بلا ذنب ارتکبن أو جریرة اقترفن.

لعلنا لا نجافی الصواب إذا قلنا إن روایة لطیفة الزیات "الباب المفتوح" تُعدّ أیقونة ثقافیة دالّة على مرحلة جدیدة من بزوغ الوعی النسوی العربی، خرج من عباءتها الکثیر من الروایات العربیة اللاحقة التی حفرت فی المجرى ذاته، ولو بعد سنوات. ففی العراق، على سبیل المثال، استطاعت عالیة ممدوح بروایتها "حبّات النفتالین" (1986) أن تعمّق من مساحة وعی المرأة العراقیة بخصوصیة تجربتها النسویة، کما استطاعت التقاط النبرة النسائیة المائزة للسرد النسوی غیر الزاعق الذی یعکس مواقف أجیال مختلفة من النساء ویکشف عن کونهن منخرطات فی المدّ السیاسی لیعبّرن بطریقتهن عن خیاراتهن الخاصة([36]). من جهة أخرى، سوف تتابع بتول الخضیری رکوب الموجة ذاتها؛ فتکتب تجربتها ورؤیتها فی روایة تقترب من روایة (التکوین) أو (التربیة)؛ هی "کم بدت السماء قریبة" (1999)، وکأنها ألزمت نفسها بمواصلة المسار السردی الذی ارتادته من قبلها لطیفة الزیات فی اختیار تقنیات روایة التربیة أو التکوین على طریقة فلوبیر أو تشارلز دیکنز أو توماس مان کإطار سردی لتجربتها الروائیة النسویة.

 

2-2 تمثیل المرأة = نسق تهمیش المرأة:

سبق أن قلنا إن الهوّة بین رجل النهضة والمرأة العائشة فی عصره، فی الربع الأول من القرن العشرین، کانت تجلیًّا ثقافیًا لأزمة نسقیة أخرى هی وجود هوّة ثقافیة فعلیة یجسدها الصراع بین المدنیّة الحدیثة والمجتمع التقلیدی، خصوصًا فی علاقة الرجل بالمرأة أو علاقة المرأة بالرجل. وقد انسحبت هذه الرؤیة الازدواجیة ambivalence على الأجیال التالیة من المثقفین المصریین بمن فیهم الکتّاب والروائیین، بحیث یمکن أن نعثر على تمثیلاتها النصیّة فی مدوّنة الروایة العربیة لاحقًا حتى وقت متأخر کثیرًا. وفی هذا السیاق، یستخلص حلیم برکات([37]) صور المرأة العربیة السلبیة کما جسّدتها روایات الرجل، حیث یخلص إلى "أن عددًا کبیرًا من الروائیین العرب البارزین ما زالوا یُصِرّون دون حرج أو محاسبة على تقدیم صورة شدیدة السلبیة للمرأة، دون اهتمام مماثل بکفاحها وإنجازاتها وحقوقها الإنسانیة"([38])؛ مما یعود إلى رسوخ تخوّفهم اللاواعی بأن مشارکة المرأة فی الحیاة العامة سوف تشکّل تهدیدا لمفاهیم (الرجولة) التی نشأوا علیها أو تنخر فی جذور وأنساغ القواعد السائدة فی توزیع العمل وأدوار الحیاة.

    وفی دراسته "الرؤیة الاجتماعیة وصورة المرأة فی الروایة العربیة"([39])، یصنّف حلیم برکات الروایة العربیة- من حیث تصویر الرجل للمرأة- إلى ثمانیة أصناف هی: الروایة التوفیقیة، روایة الخضوع أو الرضوخ، روایة اللامواجهة، روایة المجابهة والتمرّد الفردی، روایة التغییر الثوری، روایة المنفَى، روایة ثنائیة الشرق-الغرب، روایة الحداثة وما بعدها. فالروایة التوفیقیة هی التی تقدم رؤیة عامة للواقع الاجتماعی، مشدِّدة على علاقات الانسجام والتکامل، متجاهِلة أهمیة علاقات التناقض والصراع فی سبیل تغییر الواقع التغربیی، کما أنها الروایة التی لا تزال تحمل مفاهیم أو تصدر عن وجهات نظر تقلیدیة للأمور، بما فیها قضایا المرأة والعدالة الاجتماعیة والحب والموت. وفی هذا السیاق، یستشهد حلیم برکات بروایة "عودة الروح" لتوفیق الحکیم، وروایة "سارة" لعباس محمود العقاد، وروایة "دفنّا الماضی" لعبد الکریم غلاب. وفی روایة الخضوع أو الرضوخ، یتم تمثیل الإنسان باعتباره کائنًا عاجزًا أمام سلطة القدر والمصیر الذی تحرّکه قوى أخرى مفارِقة لحیاة الإنسان، حیث یستشهد حلیم برکات ببعض روایات نجیب محفوظ فی هذا الاتجاه، خصوصًا فی تصویره عالم المرأة المستسلمة لمصیرها، الخاضعة لسلطان الرجل والمجتمع والتقالید على طول الخط. ولیس بعیدا عن هذا السیاق العثور على بعض الروایات الأخرى التی تنتمی إلى "روایة اللامواجهة"، خصوصا فی نصوص من قبیل "السفینة" لجبرا إبراهیم جبرا و"ثرثرة فوق النیل" لنجیب محفوظ. هذا فی حین أن المواجهة الفعلیة والتمرّد الفردی لن یکونا سوى على ید روایات المرأة لا الرجل، وذلک لدى کل من لیلى بعلبکی فی "أنا أحیا" وسحر خلیفة التی تسلک فی روایاتها المتتالیة ("الصبار"، "عبّاد الشمس"، "لم نعد جواری لکم"، "مذکّرات امرأة غیر واقعیة"، "باب الساحة"، "المیراث") مسلکًا لم یرتده سوى عدد قلیل جدًا من کُتّاب فلسطین والأردن وکاتباتهما، حیث تعرّضت سحر خلیفة فی روایاتها لمفاهیم الثورة والطبقة الاجتماعیة ومقاومة القهر بأشکاله المختلفة ورفض مفاهیم الرجولة والتمرّد على الثقافة الذکوریة([40]). أما روایة التغییر الثوری فلم تُکتب بعد، بید أن ثمة مرجعیّات نسقیة لهذه الروایة الثوریة قد نعثر علیها فی أعمال روائیة تنطلق فی الأساس من منظور اجتماعی إنسانی وحس فنی إبداعی، کتلک الأعمال التی کتبها یوسف إدریس وعبد الرحمن منیف وإدوار الخراط وصنع الله إبراهیم وبهاء طاهر ومحمد برّادة وإلیاس خوری وحیدر حیدر وحلیم برکات. فضلًا عن ذلک فثمة مصدر آخر لهذه الروایة الثوریة یمکن تلمّسه فی روایات کل من غسان کنفانی وإمیل حبیبی ولطیفة الزیات وحنّا مینة والطاهر وطّار وغالب هلسا ورضوى عاشور؛ أقصد إلى تلک السلسلة من الروایات التی تبرز فیها مواقف أیدیولوجیة مُعلَنة بالإضافة إلى منظور النقد الاجتماعی. ولا یبقى فی نهایة تصنیف حلیم برکات إلا ما أطلق علیه اسم "روایة الحداثة" التی هی روایة تحرّریة، تتوق إلى التجریب وتنزع إلى التشدید على النزعة الفردیة والرغبة فی الاختلاف وممارسة اللعب الفنّی وانصهار الحدود الفاصلة بین الواقعی المرجعی والتخییلی الحرّ، ویمکن التمثیل هنا ببعض روایات إدوار الخراط مثل "رامة والتنّین" على سبیل المثال لا الحصر.

 

2-3 تمثیل المرأة= نسق تأطیر الجسد:

        من خلال تتبّع تمثیلات الجسد فی الروایة العربیة، یمکننا مقاربة بعض مفاهیم (النسویة) فی مدوّنة الروایة العربیة؛ أقصد إلى النظر إلى "الجسد بوصفه خطابا ثقافیا" یعکس، بدرجة أو بأخرى، ما یفرزه الوعی الجمعی العربی من تصورات ذکوریة فیما یتصل بعلاقة الرجل بالمرأة أو المرأة بالرجل، ونظرة کل منهما للآخر، حیث یصبح الجسد من هذا المنظور لیس أکثر من علامة سیمیوطیقیة أو علامة ثقافیة لها حضورها النسقی (الإیجابی أو السلبی) فی بنیة الثقافة العربیة. وبقدر احترام الجسد وتقدیسه، أو امتهانه وتدنیسه، أو إدراک خصوصیته وعدم ممارسة أی شکل من أشکال التسلّط أو الهیمنة علیه، یکون رقیّ الأفراد والجماعات فی هذا المجتمع أو ذاک.

على سبیل المثال، لا الحصر، یمکن أن نعثر على ثلاثة تمثیلات مفصلیة لصورة الجسد فی الروایة العربیة، حسب تصور معجب الزهرانی([41])؛ هی صورة "الجسد الطبیعی- الکونی" فی روایات إبراهیم الکونی، و"الجسد الاجتماعی- الثقافی" فی روایات أحلام مستغانمی و"الجسد- الشیء" فی روایات صنع الله إبراهیم. فإذا کانت روایات الکونی بصفة عامة، وروایة "نزیف الحجر" (1990) بصفة خاصة، تقدم تمثیلًا للجسد منبثقًا من رؤى وتصورات أسطوریة تتحاور فیها معتقدات طوطمیة ومعتقدات کتابیة وفلسفات شرقیة وغربیة، قدیمة وحدیثة، ینتظمها جمیعا تصور مشترک ینبنی على کون الجسد الإنسانی جزءًا لا یتجزأ من الطبیعة وکائناتها الحیة التی قد تتمتع بأهمیة رمزیة تفوق أهمیة الجسد البشری من هذا المنظور، فإن روایات أحلام مستغانمی تقدّم تمثیلًا ثانیًا ینهض على انفصال الجسد البشری عن الطبیعة؛ لیتحوّل إلى جسد اجتماعی وثقافی یبدو من القوة والصلابة بحیث لا یُسمَح للجسد الفردی بالتمایز عنه، حتى وإن کانت الذات الساردة أو المسرود عنها تنتمی إلى فئة النخبة المثقفة کما فی روایتها "ذاکرة الجسد" (1993) التی وصفتها فاطمة یوسف العلی بأنها تتویج لجهود عظیمة لتطویر النص المؤنّث واقتحام عوالم اللغة بخطابها السردی والشعری، حیث "جاءت الروایة تعلن حقها فی مناهضة المستعمِر وتصرح بوضوح وتحدٍّ قائلة: نحن نکتب لنستعید ما أضعناه وما سُرِقَ خلسة منا"([42]). وفی هذا السیاق ذاته، یمکن النظر إلى روایة أحلام مستغانمی([43]) بوصفها امتدادًا ثقافیًا لتطور "النص المؤنّث" -حسب مصطلح فاطمة یوسف العلی- الذی نجد جذوره الأسبق تاریخیًا فی روایة "حکایة زهرة" (1980) للکاتبة اللبنانیة حنان الشیخ([44]). هذا فی حین أن روایات صنع الله إبراهیم، مثلا، تقدّم تمثیلاتها المضادة، أو على الأقل المغایرة، للحالتین السابقتین؛ فتراه یُصور الجسد على أنه جسد متشیّئ ومغترب عن ذاته ومجتمعه وثقافته التقلیدیة السائدة.

وتعزیزًا لمثل هذا التنوّع النسقی ثلاثی الأبعاد فی تمثیلات الجسد فی الروایة العربیة، تعلن فاطمة موسى صراحة أن مزیّة الخطاب النسائی الجدید تتمثل فی کونه فی الروایة العربیة یعالج النساء المعاصرات فی واقعهن المعیش، بعیدًا عن الألوان الزاهیة والأنوثة المسترخیة، ویرکّز فی معالجته على الجسد، أو بالأحرى الأجساد المتلاصقة المتنازعة فی کثیر من الأحیان فی جحیم مشترک([45])، والأمثلة على ذلک أکثر من أن تُحصَى بالنسبة إلى من یرید تتبّع أمثال هذه التمثیلات السردیة وانسرابها بدرجات متفاوتة فی روایات عربیة تبدو متباعدة فی الزمان أو المکان، لکننا نذکر منها فحسب روایات سحر خلیفة وروایة "حبّات النفتالین" لعالیة ممدوح و"العربة الذهبیة لا تصعد إلى السماء" لسلوى بکر، جنبًا إلى جنب بعض السیر الذاتیة النسائیة مثل "رحلة جبلیّة.. رحلة صعبة" (1985) لفدوى طوقان أو بعض الروایات ذات النزوع السیر-ذاتی فی حبکتها السردیة مثل "الخِبَاء" لمیرال الطحاوی.

 

2-4 تمثیل المرأة= نسق تصویر المجتمع:

یبدو لنا أن ثمّة مراحل ثلاثًا مرّت بها الروایة النسویة فی أغلب الأقطار العربیة، خصوصا الأقطار الأسبق تاریخیًا التی کان لفن الروایة فیها رصید من التطور والتراکم السردی؛ أقصد إلى الرویة النسویة فی مصر وبلاد الشام (سوریا ولبنان على وجه الخصوص) والعراق. فالجیل الأول فی الروایة السوریة، أو "جیل التأسیس" کما تطلق علیه إیمان القاضی([46])، هو جیل کاتبات الخمسینیات والستینیات اللاتی لا نلمح فی روایاتهن أیة رؤیة خاصة بواقع المرأة، بل تبدو الروایة لدیهن على هیئة مجموعة من الأحداث العادیة تسردها امرأة مطمئنّة إلى واقعها، أو قانعة بما هی علیه وما لدیها، کما هو الحال فی روایتی "یومیات هالة" (1950) و"عینان من إشبیلیا" (1965) لسلمى الحفّار الکزبری وروایتی "الأزاهیر الحمر" (1961) و"القلب الذهبی" (1963) لأمیرة الحسنی، ربما باستثناء روایة "أروى بنت الخطوب" (1950) لوداد سکاکینی التی تعبّر عن موقف مأزوم من الرجل. أما کاتبات الجیل الثانی فقد کنّ متأرجحات بین الثبات والتحول، بین الرکون إلى الصورة النمطیة للمرأة القابعة فی خدرها الذی یحرسه الرجل أو الصورة الجدیدة للمرأة القادرة على الفعل واتخاذ المواقف والمواجهة کلما لزم الأمر. وعلى الرغم من تنوّع مشارب النساء الفکریة وتعدّد انتماءاتهن الطبقیة واختلاف تجاربهن الاجتماعیة والحیاتیة، فإنه یمکننا تبیّن ملامح مشترکة کبرى لثلاثة نماذج رئیسة؛ أولها نموذج "المرأة النمطیة" [التابعة للرجل، الخاضعة لإرادته، حتى وإن کانت متعلّمة أو مثقَّفة أو مُنتِجة، کما فی روایات "دمشق یا بسمة الحزن" (1980)، "زینة" (1992)]، وثانیها نموذج "المرأة المتمرّدة"([47]) [الرافضة لما هو مفروض علیها، الثائرة على وضعیتها الاجتماعیة، کما فی روایات "قبو العباسیین" (1995) لهیفاء البیطار، "لینا لوحة فتاة دمشقیة" لسمر العطار (1982)] ، وثالثها نموذج "المرأة الجدیدة" [وهو النموذج النسوی الذی کان شبه غائب على امتداد فترات التاریخ المختلفة، والذی ترجع بدایات ظهوره إلى حقبة السبعینیات السوریّة التی انفتح فیها وعی النساء على الهموم الجمعیة، کما فی روایات "الخروج من دائرة الانتظار" (1983) و"النعنع البرّی" (1997) لأنیسة عبود، "کوابیس بیروت" (1977) لغادة السمّان].

 

ثالثًا: أثر الهویة النسویة الحائرة فی تشکیل روایة الخلیج والجزیرة

3-1

نظرًا لتفاوت بدایات التعلیم فی الجزیرة والخلیج ما بین عَقدی الستینیات والسبعینیات، فقد تأخّر ظهور کتابة المرأة الإبداعیة حتى العقد الثانی من النصف الثانی من القرن العشرین. ومن البدیهی أن تکون کتابة الشعر أقدم من ممارسة فنون القصّ کما حدث عادة فی کل الأقطار العربیة، وبصفة خاصة فن الروایة الذی ربما لم یعرف إلى النضج سبیلا فی المنطقة الخلیجیة إلا مع عقد الثمانینیات على وجه التغلیب. وإذا کانت ظاهرة الإبداع النسائی العربی قد بدأت مع الأربعینیات والخمسینیات من القرن العشرین، باستثناء بعض المناطق، فإن إبداع المرأة الخلیجیة بدأ فی الستینیات تقریبًا بشکل حذِر، وهناک أسماء خلیجیة کثیرة شقّت طریقها منذ ذلک الوقت، حیث أسهم النفط فی إتاحة الفرصة أمام المرأة الخلیجیة کی تشارک مشارکة حیاتیة أعمق فی کل المجالات الاقتصادیة والاجتماعیة والثقافیة.

تعدّ الکاتبة السعودیة سمیرة خاشقجی (واسمها الأدبی سمیرة بنت الجزیرة) صاحبة الروایة الخلیجیة الأولى التی صدرت تحت عنوان "ودّعت آمالی" (1958)، والتی تنتمی إلى جنس روایة المغامرات، بما تتسم به، أو تنطوی علیه، من إثارة انفعال القارئ وجمود الشخصیات وتراکم الأحداث([48]). وفی السبعینیات، تظهر فی السعودیة أسماء کل من الروائیات هند باغفار وعائشة زاهر وهدى الرشید، وفی الکویت فاطمة یوسف العلی ونوریة السدانی. أما فی الثمانینیات فسوف تکون ذروة الموجة؛ حیث ظهرت فی السعودیة روایات أمل شطا ورجاء عالم وصفیة عنبر، وفی الکویت صدرت روایتان للیلى العثمان هما "المرأة والقطة" و"وسمیة تخرج من البحر"، بینما فی السعودیة روایة "أربعة- صفر" لرجاء عالم. وفی التسعینیات، یتزاید عدد الروایات التی تکتبها النساء، مثل سلوى دمنهوری وسمیرة لاری ولیلى الجهنی (السعودیة)، وخولة القزوینی وطیبة أحمد الإبراهیم (الکویت)، وفوزیة رشید (البحرین)، وشعاع خلیفة ودلال خلیفة (قطر).

ثمة کاتبات خلیجیات استطعن أن یتجاوزن تردّد البدایات وعثرة الحَبْو فی کتابة عوالم المرأة وسَبْر غرفها المغلقة. فعلى سبیل المثال لا الحصر، یمکننا أن نذکر من البحرین: فوزیة رشید ("الحصار"، "تحولات الفارس الغریب فی البلاد العاربة"، "القلق السری")، ومن الکویت: لیلى العثمان ("المرأة والقطة"، "وسمیة تخرج من البحر"، "العصعص"، "صمت الفراشات"، "خذها لا أریدها"، "حلم اللیلة الأولى")، وفوزیة شویش السالم ("مزون وردة الصحراء"، "حجر على حجر"، "رجیم الکلام")، ومَیْس العثمان ("غرفة السماء"، "عرائس الصوف"، "عقیدة ورقص")، وبثینة العیسى ("سعار"، "عروس المطر"، "تحت أقدام الأمهات"، "عائشة تنزل إلى العالم السفلی")، ومن السعودیة: رجاء عالم ("ستر"، "خاتم"، "أربعة- صفر"، "سیدی وحدانة"، "طریق الحریر"، "مسرى یا رقیب"، "طوق الحمام")، ومن الإمارات: باسمة یونس ("ملائکة وشیاطین")، ومیسون صقر ("ریحانة"([49])، "فی فمی لؤلؤة")، ومن سلطنة عمان: بدریة الشحّی ("الطواف حیث الجمر"، "فیزیاء1")، وجوخة الحارثی ("منامات"، "سیدات القمر"، "نارنجة")، وغالیة آل سعید ("صابرة وأصیلة"، "جنون الیأس"، "سنین مبعثرة"، "أیام فی الجنة")، وفاطمة الشیدی ("حفلة الموت")، وهدى الجهوری ("الأشیاء لیست فی أماکنها"، "سندریلات مسقط")، وبشرى خلفان ("الباغ")، ومن قطر: مریم آل سعد ("تداعی الفصول")، دلال خلیفة ("أسطوة الإنسان والبحیرة"، "أشجار البراری البعیدة"، "من البحَّار القدیم إلیک"، "دنیانا").

یشتغل قطاع کبیر من روایة المرأة الخلیجیة على ثیمات استبطان الماضی والتراث دون القدرة- فی بعض الأحیان- على تمثیل الأزمات العصریة والمعاصرة بالدرجة نفسها. وهی، إجمالا، سمة مرافقة للکتابة العربیة لدى الجنسین: الحدیث عن الواقع المعیش من خلال الإسقاط على الماضی أو التماهی معه وسبر أغواره العمیقة وجذوره الممتدة، کأننا بالفعل فی زمن دائری یکرّر ذاته حتى یکاد المعاصر یشبه التاریخی فی جوهره، وإن اختلفا فی المظهر الخارجی. ورغم ذلک، فإن هاجس الخروج من إطار الحیّز الضیق الى الإطار المفتوح هو هاجس أغلب الروائیات العربیات بمن فیهنّ الخلیجیات([50]). ولا تخلو أمثال هذه الآثار السردیة من جعل المرأة بؤرةً لها ولتمثیلاتها؛ ومن ثم یتم الترکیز على المرأة بوصفها مضطهدة، منتهَکة الحقوق، فی معظم الأحیان، ویتجلّى ذلک فی التربیة القاسیة أو الانتهاک الجسدی أو الابتزاز العاطفیّ أو على الأقل "العنف الرمزیّ"، وبوصفها ضحیة للعادات والتقالید الجائرة، ولا سیما إنتاج هذه الأعمال الروائیة تمثیلاتها المختلفة التی تنهض على فضح النفاق الاجتماعیّ الذی یولّد تناقضات کثیرة من شأنها أن تُحْدِث صدعا فی کیان الأسرة أو تشق لُحْمة القبیلة أو المجتمع. لم تکن الکتابة النسائیة الخلیجیة یومًا کتابةً نضالیةً بالمعنى الأیدیولوجی الذی یمکن أن نحشر فیه کتابات الروائیات ذوات المنحى الالتزامیّ بقضایا الطبقات المسحوقة أو الشعوب المظلومة، بل هی کتابات تنطق بمعاناة فردیة فی العمق، تم تعمیمها بحکم تشابه الأوضاع التاریخیة وانسداد الآفاق وتراکم الاحتقان([51]) ولا یخفى توظیف الأدوات الحضاریة التقنیة الجدیدة فی تطریز خیوط هذا النسیج السردی لمدونة الروایة النسائیة الخلیجیة، سواء عبر رسائل البرید الإلکترونی (کما فی "بنات الریاض") أو رسائل البلوتوث (کما فی "ثمن الشوکولاتة")؛ الأمر الذی یعنی أنّ الوعی الحداثیّ لم یتجاوز مرحلة استهلاک المنتجات الغربیة إلا نحو توظیفها فی الإیهام بعالم واقعی أو عالم یُشاکِل الواقع.

منذ أن صدرت روایة "بنات الریاض" (2005) لرجاء عبد الله الصانع، وحققت نجاحًا لافتًا على مستوى التوزیع والانتشار، تبعتها موجة من الروایات مثل "بنات الریاض: الصورة الکاملة" لإبراهیم الصقر،  وغیرها من قبیل: "شباب الریاض" و"نرجس فی الریاض"، ثم تحوّل الأمر إلى استعمال کلمة "السعودیة" بوصفها اسمًا تجاریًا مسوّقًا عربیًا وغربیًا، من قبیل "سعودیات" و"حب فی السعودیة"، وغیرها من عناوین تجاریة أو استهلاکیة تؤّکد على کون هذه النصوص- فی الغالب الأعم- نصوصًا خفیفة تشتغل على ثیمات الإثارة أو الصدمة المعرفیة، ویکتبها عادة مؤلّفون مجهولون، أو مبتدئون، بأسماء مستعارة، وبنزوع رومانسی غالبا، للتخفّف من وطأة الرقابة على الذات والهروب من سلطة الأسرة والقبیلة والمجتمع([52]). عندما شرعت الکاتبة السعودیة رجاء عبدالله الصانع فی کتابة "بنات الریاض" لم تکن تتوقع لها کل هذا الانتشار الإعلامی والصخب الصحافی، وربما لم تکن تتوقع أیضًا أن تکون روایتها هی بدایة انطلاق عهد جدید من الروایة النسائیة السعودیة، لا سیما مع تتابع الروایات التی حقّقت نجاحها من الناحیة التسویقیة على الأقل مثل روایة "ملامح" لزینب حفنی.

 

3-2

یتناول السرد فی "بنات الریاض" أربع فتیات سعودیات یبحثن عن الحب؛ أولاهنّ (قمرة)، امرأة مطلقة بعد اکتشافها خیانة زوجها، وثانیتهن (سدیم) التی ترکها خطیبها بعد أن سلّمته نفسها لیترکها بعد لیلة حمیمیة معتقدًا أنها فعلت ذلک مع آخرین قبله، وثالثتهن (مشاعل) أو "میشیل" التی لم یتمکّن حبیبها من الزواج بها بعد أن امتثل لأوامر أمه الرافضة أن یتزوج ولدها من فتاةٍ أمها أمریکیة، ورابعتهن (لمیس) التی تقوم بدور الفتاة التی تساعد صدیقاتها دائمًا. لعل قارئ "بنات الریاض" لرجاء الصانع أو"ثمن الشوکولاتة" لبشائر محمد (2007) أو "القِران المقدّس" لطیف الحلاج (2007) أو مجموعة "فتاة البسکویت" لزینب علی البحرانی، أو غیرها من النصوص الروائیة والقصصیة التی تجری مجراها، وهی کثیرة ومتشابهة فی المضمون، یقف على خصائص فنیة متشاکلة إلى حدّ بعید، حتى على مستوى العناوین.

ظهرت روایات سعودیة عدّة تحمل أسماء مستعارة، مثلما کان یُنْشَر من قبل فی حقبة الستینیات تحت أسماء "سمیرة بنت الجزیرة العربیة" و"غادة الصحراء"([53])، وغیرها، وذلک إحیاء لثقافة التخفّی وراء بعض الأسماء المستعارة التی ظهرت فی الروایة السعودیة مثل: صبا الحرز، هاجر المکّی، طیف الحلاج، وردة عبد الملک، فکتوریا الحکیم.. إلخ. وربما تعود جذور هذه الظاهرة إلى نشأة الروایة العربیة الحدیثة ذاتها، عندما بدأ محمد حسین هیکل نشر روایته "زینب" عام 1912م منجّمةً "بقلم فلاح مصری". وعلى الرغم من ذلک، فقد استطاعت روایة المرأة السعودیة ترسیخ قدمها بتؤدة، مثل روایة "ستر" و"خاتم" و"طوق الحمام" لرجاء عالم، و"الفردوس الیباب" للیلى الجهنی، و"البحریات" لأمیمة الخمیس، و"الآخرون" لصبا الحرز،.. وغیرها.

تشتغل روایة "البحریات" لأمیمة الخمیس على حکایة أنثویة تربط بین شخصیة (بهیجة) والمکان (مدینة "الریاض")، حیث یسعى کلاهما معًا، الإنسان والمکان، إلى الخلاص من هیمنة الذکورة وعنفها؛ لتجتمع بلقائهما خُضْرة الشام وصُفْرة رمال الصحراء ومناخها المتقلّب وطقوسها الخاصّة. ولعلّ الجمع بین المناخین هنا کان بمثابة رغبة مستبطنة فی لاشعور الکاتبة قبل الشروع فی کتابة روایتها، فکانت النسوة البحریات هنّ النموذج اللطیف لهذا التقارب والتمازج بین الجغرافیتین. من جهة مقابلة، استطاعت رجاء عالم، على وجه الخصوص، أن تلامس جوهر فعل الکتابة الأنثوی من خلال تنوّع تجربتها وثرائها، فلم تکن فی "خاتم" سوى استکمال لتجربة کتابة أنثویة واضحة فی "طریق الحریر" و"سیدی وحدانة" و"مسرى یا رقیب". أغلب شخصیات رجاء عالم الرئیسة من النساء، والهموم هموم نساء، ونزوعها الروائی نزوع أنثوی female  (بالمعنى الذی ذکرته شوالتر سابقا) فی تصویر العالم وتشیید مفرداته وزوایاه، ومحاولاتها الدائمة الخروج عن إطار رؤیة الرجل المرسومة لها سلفًا التی کرّستها طبقات من المدوّنة السردیة العربیة التی تمیل إلى الاحتماء بسیاج الذکورة.

 

3-3

بالقیاس إلى الروایة السعودیة تحدیدًا، تُعَدّ الروایة العُمَانیة حدیثة النشأة بصفة عامة([54])، حیث یُنظر إلى روایة "ملائکة الجبل" لعبد الله الطائی باعتبارها أول روایة عمانیة صدرت عام 1963. وبعد عبد الله الطائی، فیما بین عامی 1970 و2000، نعثر على عدد کبیر من الروایات من بینها روایات سعود المظفّر ("المعلم عبد الرازق"، "رمال وجلید"، "رجل وامرأة"، "الشیخ"، "1986"، "رجال من جبال الحجر"، "إنها تمطر فی أبریل"، "عاطفة محبوسة") وسیف السعدی ("جرح السنین"، "خریف الزمان"، "الجانب الآخر") وبدریة الشحی "الطواف حیث الجمر" وأحمد الناصری ("نیران قلب"، "حکایة سوداء") ومبارک العامری ("مدارات العزلة"، "شارع الفراهیدی") وعلی المعمری "فضاءات الرغبة الأخیرة". ومع بدایات الألفیة الجدیدة، یتنامَى صدور الروایات العمانیة، حیث أضاف علی المعمری ("رابیة الخطار"، "همس الجسور"، "بن سولع")، کما ظهرت أسماء کل من حسین العبری ("دیازبیام"، "الوخز"، "المعلقة الأخیرة") وغالیة فهر آل سعید ("أیام فی الجنة، "صابرة وأصیلة") ومحمد عید العریمی ("مذاق الصبر"، "حزّ القید"، "بین الصحراء والماء") ومحمد سیف الرحبی ("رحلة أبو زید العمانی"، "السید مرّ من هنا"، "الخشت") وعبد العزیز الفارسی "تبکی الأرض یضحک زحل" وجوخة الحارثی "منامات" ویعقوب الخنبشی "السفر آخر اللیل" وبدر الیحمدی "الإیاب" وهدى الجهوری "الأشیاء لیست فی أماکنها"، وفاطمة الشیدی "حفلة الموت"، وسلیمان المعمری "الذی لا یحب جمال عبد الناصر". هکذا، یتبیّن لنا تأخّر حضور الأصوات النسائیة (بدریة الشحی، غالیة فهر آل سعید، جوخة الحارثی، هدى الجهوری، فاطمة الشیدی، بشرى خلفان) فی المشهد الروائی العُمَانی قیاسًا إلى حضورهن الأسبق فی کتابة القصة القصیرة.  

تحیل روایة "منامات" لجوخة الحارثی، منذ عنوانها، إلى زمان التخییل المسروق من حیاة الإنسان، حیث تکون حریة الحلم بلا ضفاف، فضلًا عن کون الکاتبة قد دشّنت روایتها بعدد کبیر من الإحالات والمقتطفات من مصادر تراثیة وحدیثة. لقد کانت جوخة الحارثی تعبّر عن رغبة أو رغبات تسعى إلى التحرر من ضرورات الوعی الخاضع لمواضعات وتقالید وأعراف جمعیّة تمارس سطوتها على المرأة العربیة أینما کانت؛ الأمر الذی یجعل من الـ"منامات" تعریةً لجوانب غامضة ومساحات مواربة من الذات النسویة القلقة، المضطربة، فی عالم تحدّق به سطوة الذکورة فی کل زاویة. لقد مارست "منامات" سطوتها الحکائیة فی فضاء الأحلام الحر، بعیدًا عن أعین الرقباء، وسلطة الذکور؛ لتعید إنتاج الدور الذی قامت به من قبل جدّتها شهرزاد والجاریة تودّد وغیرهما فی عالم "ألف لیلة ولیلة". استطاعت "منامات" أن تجعل من "البیت" إطارًا حکائیًا یرسم تفصیلات المرأة العُمانیة داخل المنزل، سواء من حیث الألفة أو الوحشة. لقد أرادت کاتبة "منامات" أن تعید إنتاج الدور الذی قامت به من قبل شهرزاد، حیث الحکایة تکافئ المعرفة التی هی سبیل الخلاص الوحید من کل قهر أو سطوة أو سلطة غاشمة.  

 

رابعًا: أثر النسق الثقافی المهیمن فی تشکیل الروایة النسویة العربیة

4-1

تأسیسًا على ما سبق، وخروجًا ببعض النتائج المستخلصة من هذه الدراسة (وهی نتائج قابلة للاختبار فی أنواع أدبیة أخرى بالضرورة)، یمکن القول إن الروایة النسویة العربیة مرّت بثلاث مراحل أنتجت کل واحدة منها نسقها الثقافی العام (الذی یشبه فی تمظهراته المعرفیة طبیعة "النموذج الإرشادی Paradigm" للعصر، بتعبیر توماس کون فی کتابه "بنیة الثورات العلمیة") الذی یعبّر عن رؤیة الکاتبات للعالم فی أزمنتهن وأمکنتهن الخاصة. وتنطلق هذه الرؤیة (النسویة) للعالم من خصوصیة ثقافیة هی أقرب إلى المرجعیة الثقافیة والحضاربة والأیدولوجیة التی انعکست، أو تمثّلت، فی هذه الروایة الصادرة من هذا القطر أو ذاک، وفی هذه المرحلة الزمنیة بعینها أو تلک. وإذا ما قمنا بإسقاط المراحل الثلاث التی وصفتها شوالتر، وأشرنا إلیها فی ثنایا هذا البحث، بأنها مراحل تطور کتابة المرأة وصیرورتها (أولاها: مرحلة محاکاة الأشکال السائدة للتقالید الأدبیة، وثانیتها: مرحلة الاعتراض على المعاییر والقیم السائدة، وثالثتها: مرحلة اکتشاف الذات والهویة النسویة)، ثم طابقنا بینها وبین المصطلحات الأساسیة الثلاثة المتداولة فی الخطاب النسوی فی مرجعیاته التی تشکلت فی فضاء النظریة الغربیة أولًا (المؤنّث Feminine، النسوی Feminist، الأنثوی Female)، ثم تأمّلناها جمیعا وحلّلناها بوصفها وحدة واحدة، أو بنیة کبرى، فی سیاق تشکّل السردیة العربیة ثانیًا، سوف نکتشف أن أزمة النسویة العربیة منذ نشأتها هی أزمة نسق ثقافی عام مرتبط بطبیعة العصر الذی کان بمثابة المرجع الثقافی الحاضن لعملیات إنتاج هذه النصوص الأدبیة وتوالدها (یستوی فی ذلک الشعر والنثر وما بینهما من أنواع أدبیة بینیّة)، والنصوص غیر الأدبیة، وتاریخ الأفکار، والخطابات (أو التشکیلات الخطابیة بتعبیر میشیل فوکو)، ولیست أزمة خطاب نسوی غائب فی زمن قدیم أو مرتبک فی زمن وسیط أو مندفع نحو المستقبل فی زمن حدیث أو معاصر. لکنّنا فی الوقت ذاته، نرى أن ثمة أنساقًا مفصلیّة ثلاثة لابد من رصدها والتأکید على فاعلیتها وتأثیرها فی توجیه منظور الباحث أو الناقد العربی الطامح إلى قراءة المشهد النسوی العربی أفقیًا أو عرضیًا، سواء فی هذا القطر أو ذاک، قراءة مُنتِجة لدلالات غیر مستهلکة



[1]) زلیخة أبو ریشة: أنثى اللغة: أوراق فی الخطاب والجنس، دار نینوى، سوریا، 2009، ص13.

[2]) لأن الأدب النسوی هو ما تکتبه المرأة فیما یتصل بالدفاع عن قضایاها الاجتماعیة أو القانونیة أو السیاسیة، وخصوصیتها، وکیانها المهمّش، مقارنةً بهیمنة الرجل، وسطوة قیم الذکورة. إنه بمثابة محاولة جادّة من المرأة لتغییر أوضاعها الاجتماعیة والاقتصادیة والسیاسیة عن طریق العمل الجماعی المنظّم الذی یهدف إلى تغلغل الخطاب النسوی فی التفکیر على مستوى الحیاة الیومیة.

[3]) سارة جامبل: النسویة وما بعد النسویة: دراسات ومعجم نقدی، ترجمة: أحمد الشامی، المشروع القومی للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002، ص337.

[4]) سارة جامبل: النسویة وما بعد النسویة، ص338.

[5]) سارة جامبل: المصدر السابق، ص198- 199.

[6]) الإشارة، هنا، إلى المقولة الذائعة الصیت للناقد الفرنسی رولان بارت Roland Barth عن "موت المؤلف" Death of the author التی عدّها البعض بیانًا (مانیفستو) أعلن عن بدایة المرحلة الحداثیة. والمقصود بإشارة میلر، هنا، کون الأدب النسوی لا ینفصل- ولا ینبغی له أن ینفصل فی وعی أی محلّل أو ناقد- عن إدراک هویة کاتباته اللاتی هنّ نسوة فی البدایة والنهایة.

[7]) نقلًا عن معجب العدوانی: مرایا الذات فی الروایة النسویة الإماراتیة، جریدة الریاض، 28/5/2009.

[8]) محمد البحری: فی السیرة الذاتیة النسائیة، مجلة (فصول)، الهیئة المصریة العامة للکتاب، مج16، ع4، ربیع 1998، ص30.

[9]) محمد البحری: المصدر السابق، ص30-31.

[10]) جابر عصفور: الروایة والاستنارة، کتاب دبی الثقافیة، عدد نوفمبر 2011، ص25، 26.

[11]) یراجع عبد المحسن طه بدر:تطور الروایة العربیة الحدیثة 1870-1938، دار المعارف، القاهرة، 1963. وینظر أیضا جابر عصفور: الروایة والاستنارة، ص30، 34، 35.

[12]) جابر عصفور: المصدر السابق، ص63، 71.

[13]) عبد المحسن طه بدر: تطور الروایة العربیة الحدیثة 1870-1938، ص84.

[14]) جابر عصفور: المصدر السابق، ص136.

[15]) روجر ألن: الروایة العربیة، مقدمة تاریخیة ونقدیة، ترجمة: حصة إبراهیم المنیف، المشروع القومی للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997، ص146-147.

[16]) المصدر نفسه.

[17]) المصدر نفسه.

[18]) المصدر السابق، ص149.

[19]) یراجع مقدمة حلمی النمنم لروایة زینب فواز: حسن العواقب أو غادة الزاهرة، سلسلة رائدات الروایة العربیة، ع6، الهیئة المصریة العامة للکتاب، القاهرة، 2013 ص 70-26.

[20]) یراجع: دراسة محمد سید عبد التواب لروایة خلیل أفندی الخوری: وی.. إذن لست بإفرنجی، تقدیم: سید البحراوی، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2007، ص5.

[21]) أعنی الطبعة الصادرة عن المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة عام 2007، وهی الطبعة المشار إلیها فی متن هذه الدراسة.

[22]) المصدر نفسه.

[23]) صدر من هذه السلسلة إلى الآن 18 روایة، یأتی فی مقدمتها من الناحیة التاریخیة روایة عائشة تیمور "نتائج الأحوال فی الأقوال والأفعال"، وهی تحمل العدد 8 فی إصدارات السلسلة التی أصدرتها الهیئة المصریة العامة للکتاب بالقاهرة، 2013.

[24]) تراجع دراسة سید البحراوی التی صدّر بها روایة: لببیة هاشم: قلب الرجل، سلسلة رائدات الروایة العربیة، ع1، الهیئة المصریة العامة للکتاب، 2012، ص8.

[25]) یمکننا أن نشیر هنا إلى أفکار مدام دی ستال أو هیبولیت تین اللذین تأثر بهما سید البحراوی کثیرا فی تفسیر هذه الظاهرة. ویمکن للقارئ أن یراجع بهذا الشأن کتاب سید البحروای: المدخل الاجتماعی للأدب، من علم اجتماع الأدب إلى النقد الاجتماعی الشامل، دار الثقافة العربیة، القاهرة، 2001، ص20-23.  

[26]) تراجع دراسة سید البحراوی التی صدّر بها روایة لببیة هاشم: قلب الرجل، ص9.

[27]) هذا ما یقوله جابر عصفور فی الفصل الختامی من کتاب "الروایة والاستنارة"، ص361. وقد لا نطمئن تمام الاطمئنان إلى استنتاج جابر عصفور الذاهب إلى أن عبد المحسن طه المحسن بدر کان یهدف إلى إقصاء کل هذه النصوص القصصیة خارج دائرة "الروایة الفنیة" إقصاءً نهائیًا وقصدیًا واعیًا، لکننا نرى أن جزءًا کبیرًا من ردّ فعل عبد المحسن بدر کان مبنیًّا على عدم کونه على درایة کافیة بحجم النصوص الروائیة (المجهولة) فی تلک الفترة ومدى تنوّعها الذی لم یُرفع عنه الستار إلا فی فترات زمنیة لاحقة، بعد وفاته بسنوات عدّة.

[28]) عبد المحسن طه بدر: تطور الروایة العربیة الحدیثة 1870-1938، دار المعارف، القاهرة، 1963.

[29]) راجع: سید البحراوی: محتوى الشکل فی الروایة العربیة (النصوص المصریة الأولى)، الهیئة المصریة العامة للکتاب، القاهرة، 1996.

[30] ) یراجع هدى الصدة: رؤیة الرجل لذاته فی مرایا تصوراته التمثیلیة حول المرأة: قراءة فی خطاب روّاد النهضة، ضمن أبحاث مؤتمر "مائة عام على تحریر المرأة"، المجلس الأعلى للثقافة، مؤسسة نور، القاهرة، ج1، 2002، ص350.

[31] ) المصدر السابق، ص362.

[32] ) یراجع عبد الرحمن أبو عوف: تحولات الخطاب الروائی للمرأة المصریة: ثلاثة أجیال، لطیفة الزیات، سلوى بکر، میرال الطحاوی، ضمن أبحاث مؤتمر: "مائة عام على تحریر المرأة"، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ج2، 1999، ص343-457.

[33] ) فی هذه الروایة، اهتمت لطیفة الزیات بالربط بین القضایا السیاسیة والاجتماعیة والثقافیة، من خلال تمثیل دور المثقفین فی التعبیر عن الموقف العام للوطن فی الفترة من 1946 إلى 1956. فالقضیة فی نظرها أکبر من کونها قضیة سیاسیة.

[34]) ینظر: محمد الشحات: سردیات بدیلة، الهیئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2012، ص61-77.

[35]) فخری صالح: حکایة من عالم الیباس والعقم والأسوار الأولى، جریدة "الحیاة"، ع 12464، 14/4/1997.

[36] ) فریال جبوری غزول: المرأة العراقیة أدیبة فی القرن العشرین، ضمن کتاب: ذاکرة للمستقبل، موسوعة المرأة العربیة، ج2، 2002، ص246، 249.

[37] ) حلیم برکات: الرؤیة الاجتماعیة وصورة المرأة فی الروایة العربیة، ضمن کتاب: "مائة عام على تحریر المرأة"، ج2، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1999، ص351.

[38] ) حلیم برکات: المصدر السابق، ص353.

[39] ) حلیم برکات: المصدر نفسه.

[40] ) استطاعت سحر خلیفة أن تطرح فی معظم روایاتها قضیة المرأة من منظور نسوی؛ إذ کانت "تضع بعض الأفکار الدارجة للحرکة النسویة فی الستینیات والسبعینیات على لسان بعض شخصیاتها النسائیة، وتجسّد هذه الأفکار فی مسار الحدث مصائر الشخصیات". ینظر رضوى عاشور: عن الکاتبة فی فلسطین والأردن، ضمن کتاب: ذاکرة للمستقبل، موسوعة المرأة العربیة، ج2، 2002، ص408-409.

[41] ) معجب الزهرانی: تمثیلات الجسد فی نماذج من الروایة العربیة المعاصرة، مجلة (فصول)، مج16، ع4، ربیع 1998، ص78، 79، 80.

[42] ) فاطمة یوسف العلی: النص المؤنث وحالات الساردة، دراسة تحلیلیة لخطب المرأة فی الروایة العربیة، مکتبة آفاق، الکویت، 2013، ص64.  وینظر أیضا:

-    سعید الوکیل: الجسد فی الروایة العربیة المعاصرة، الهیئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، کتابات نقدیة، 2004، ص51.

-    عبد الله الغذامی: المرأة واللغة، المرکز الثقافی العربی، الدار البیضاء، بیروت، ط3، 2006، ص180.

[43]) إلى جوار أحلام مستغانمی، یستعرض محمد برادة أهم الأقلام النسائیة فی المغرب العربی ممّن لم یجعلن من إبداعاتهن صدى للأیدولوجیات والخطابات السائدة. ویذکر من بین هؤلاء عروسیة النالوتی وقصص خناثة بنونة، ثم یذکر على وجه التحدید روایات: "مراتیج" (1985) لعروسیة النالوتی، و"رجل لراویة وحیدة" (1985) لفوزیة شلابی، و"زهرة الصبّار" (1990) لعلیاء التابعی، و"نخب الحیاة" (1993) لآمال مختار، و"ذاکرة الجسد" (1993) لأحلام مستغانمی، و"تماسّ" (1996) لعروسیة النالوتی، و"الرجوع إلى الطفولة" (1997) للیلى أبو زید. یُنظر: محمد برادة: عن کتابة المرأة فی المغرب العربی (الجزائر، تونس، لیبیا، المغرب، موریتانیا)، ضمن کتاب: ذاکرة للمستقبل، موسوعة المرأة العربیة، ج3، ص17.

[44] ) یعزّز هذا التصور ما قدّمه روجر ألن فی کتابه "الروایة العربیة، مقدمة تاریخیة ونقدیة" عن روایة "حکایة زهرة" التی یصفها بأنها "انعکاس لوجهة نظر امرأة فی محتمع مهشّم فعلا"، ثم تراه یقدم تحلیلًا ضافیًا لها من زاویة تمزج الاجتماعی والسیاسی بالثقافی والفنی؛ حیث یرى أن الروایة استطاعت أن تعالج موضوعات عدة استُبطِنت فی بنائها السردی. من بین هذه الموضوعات تبئیرها على وضعیّة المرأة فی المجتمع العربی بصفة خاصة؛ وذلک من خلال تصویرها ثیمات العنف الذی یمارسه الإنسان ضد أخیه، وتعقیدات موضوعة "الجنس"، وعذابات الغربة والمنافی، وغیرها من ثیمات لا تنحصر ضمن نطاق المجتمع اللبنانی وحده، بل تسعى لتستغرق أغلب الأنساق الثقافیة السلبیة التی تعترض رغبة المرأة العربیة فی التحرّر من نسق التبعیة وتأکید نسق استقلالیة الذات. یراجع: روجر ألن: الروایة العربیة، مقدمة تاریخیة ونقدیة، ص299-312.

[45] ) نقلًا عن فاطمة یوسف العلی: النص المؤنث وحالات الساردة، ص43.   

[46] ) إیمان القاضی: الروایة النسویة السوریة فی نصف قرن، ضمن کتاب: ذاکرة للمستقبل، موسوعة المرأة العربیة، ج2، 2002، ص3-5.

[47] ) یمکن أن ندرج تحت هذا النمط (روایة المرأة السودانیة) التی لم تتجاوز کونها وثیقة احتجاج أو رفض، وهی وثیقة کان یغلب علیها الطابع الانفعالی حینًا، والنبرة الخطابیة حینًا آخر، کما فی روایة "الفراغ العریض" لملکة الدار محمد، فضلا عن بعض روایات بثینة خضر مکی، مثل "أغنیة النار" (1998). وقد ظلّ هذا التیار فی روایة المرأة السودانیة ربما حتى نهایة التسعینیات. یراجع حیدر إبراهیم: المرأة السودانیة والإبداع فی الکتابة، ضمن کتاب: ذاکرة للمستقبل، موسوعة المرأة العربیة، ج3، ص385-388. وفی مقابل تأخّر ظهور الوعی النسوی فی الروایة السودانیة، فإن ثمة غیابا -أو "نُدْرة" حسب توصیف حاتم الصکر- لمثل هذا الوعی فی الروایة الیمنیّة، ربما بسبب ثقل الموضوع وتخلخل البنیة الفاعلة والمؤثرة فی حیاة المرأة التی تشهد تحولا کبیرا لا یرقى إلیه نظر المجتمع والقارئ الرجل بصورة خاصة أو یماثله على الأقل". یراجع حاتم الصکر: قراءة فی إبداع الکاتبة الیمنیة، ضمن کتاب: ذاکرة للمستقبل، موسوعة المرأة العربیة، ج3، 2002، ص461.

[48]) سعاد المانع: أدب المرأة فی الجزیرة والخلیج، ضمن کتاب: ذاکرة للمستقبل، موسوعة المرأة العربیة، ج 3، ص233.

[49]) على الرغم من أن روایة "ریحانة" للکاتبة الإماراتیة میسون صقر تستلهم أحداثًا عدّة یتنوع فیها السیاسی والاجتماعی والثقافی، فإن حضور ریحانة یظل حضورا کثیفا، بحیث تدور معظم الشخصیات فی فلکها. وتومئ ریحانة، بحضورها الکثیف، إلى نماذج نسائیة سابقة فی التراث العربی کشهرزاد والجاریة تودّد وغیرهما من بنات جنسها اللاتی استطعن تقویض سطوة الذکور بالإیقاع بهم فی أسر الحکایة وسلطة المعرفة. ونظرا لکون ریحانة تجمع بین هویتین أو هویة واحدة مزدوجة (الجاریة/ الحرة)، فإن المفارقة التی یتکئ علیها العمل الروائی تومئ إلى قضیة تحریر العبید فی الخلیج والجزیرة. لکن الطریف أن تلک الجاریة ترفض البقاء على هذه الحال، وترفض انصیاعها لعبودیة الزوج، فی الوقت الذی تخضع، وهی فی کامل إرادتها ورغبتها الفائرة، لعبودیة السکر والمخدرات، ومن ثم تبلغ مرحلة الجنون منذ اللحظة التی تُعلّق فیها صکّ العتق الذی أعلن نهایة عبودیتها على جدار منزلها.

[50]) فوزیة رشید: المرأة المبدعة فی الخلیج، مجلة (نزوى)، سلطنة عمان، 2009.

[51]) صابر الحباشة: الأدب النسائی فی الخلیج العربی، مجلة (دفاتر الاختلاف الإلکترونیة)، 2005:  http://cahiersdifference.over-blog.net/article-33467859.html

[52]) یوسف المحیمید: تأملات فی الروایة السعودة الجدیدة، ضمن کتاب "المشهد الروائی العربی"، طبعة تجریبیة بمناسبة انعقاد ملتقى القاهرة الرابع للإبداع الروائی العربی، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2008، ص521-527.

[53]) على غرار عنوان روایة "غادة الکامیلیا" لألکسندر دوماس الابن (1824-1895).

[54]) یُرَاجَع سلیمان المعمری: مدخل إلى الروایة العمانیة، ضمن کتاب "المشهد الروائی العربی"، طبعة تجریبیة بمناسبة انعقاد "ملتقى القاهرة الرابع للإبداع الروائی العربی"، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2008، ص:187-202.

  • أولًا- المراجع العربیة:

    • أحمد الزعبی: مظاهر الحداثة فی الأدب الإماراتی، دراسات فی الشعر والروایة والقصة والمسرحیة، دار العالم العربی، دبی، ط1، 2011.
    • إجلال خلیفة: الحرکة النسائیة الحدیثة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2017.
    • إیمان القاضی: الروایة النسویة السوریة فی نصف قرن، ضمن کتاب: ذاکرة للمستقبل، موسوعة المرأة العربیة، ج 2، المجلس الأعلى للثقافة- مؤسسة نور، القاهرة، 2002.
    • جابر عصفور، الروایة والاستنارة، کتاب دبی الثقافیة، عدد نوفمبر 2011.
    • جورج طرابیشی: شرق وغرب، رجولة وأنوثة، دراسة فی أزمة الجنس والحضارة فی الروایة العربیة، دار الطلیعة، بیروت، ط 4، 1997.
    • حاتم الصکر: قراءة فی إبداع الکاتبة الیمنیة، ضمن کتاب: ذاکرة للمستقبل، موسوعة المرأة العربیة، ج3، المجلس الأعلى للثقافة- مؤسسة نور، القاهرة، 2002.
    • حسین حمودة: الروایة والمدینة، نماذج من کتّاب الستینیات فی مصر، الهیئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، سبتمبر 2000.
    • حلمی النمنم: (مقدمة) روایة: زینب فواز: "حسن العواقب أو غادة الزاهرة"، سلسلة رائدات الروایة العربیة، ع6، الهیئة المصریة العامة للکتاب، القاهرة، 2013.
    • حلیم برکات: الرؤیة الاجتماعیة وصورة المرأة فی الروایة العربیة، ضمن کتاب: "مائة عام على تحریر المرأة"، الجزء الثانی، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1999.
    • حیدر إبراهیم: المرأة السودانیة والإبداع فی الکتابة، ضمن کتاب: ذاکرة للمستقبل، موسوعة المرأة العربیة، ج3، المجلس الأعلى للثقافة- مؤسسة نور، القاهرة، 2002.
    • رضوى عاشور: عن الکاتبة فی فلسطین والأردن، ضمن کتاب: ذاکرة للمستقبل، موسوعة المرأة العربیة، ج2، المجلس الأعلى للثقافة- مؤسسة نور، القاهرة، 2002.
    • زلیخة أبو ریشة: أنثى اللغة، أوراق فی الخطاب والجنس، نینوى، سوریا، 2009.
    • سعاد المانع: أدب المرأة فی الجزیرة والخلیج، ضمن کتاب: ذاکرة للمستقبل، موسوعة المرأة العربیة، ج3، المجلس الأعلى للثقافة- مؤسسة نور، القاهرة، 2002.
    • §        سعد البازعی ومیجان الرویلی: دلیل الناقد الأدبی، إضاءة لأکثر من سبعین تیّارًا ومصطلحًا نقدیًّا معاصرًا)، المرکز الثقافی العربی، المغرب ولبنان، ط 6، 2017.
    • سعید الوکیل: الجسد فی الروایة العربیة المعاصرة، الهیئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، کتابات نقدیة، 2004.
    • سلیمان المعمری: مدخل إلى الروایة العمانیة، ضمن کتاب "المشهد الروائی العربی"، طبعة تجریبیة بمناسبة انعقاد "ملتقى القاهرة الرابع للإبداع الروائی العربی"، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2008.
    • سید البحراوی: محتوى الشکل فی الروایة العربیة (النصوص المصریة الأولى)، الهیئة المصریة العامة للکتاب، 1996.
    • سید البحراوی: المدخل الاجتماعی للأدب، من علم اجتماع الأدب إلى النقد الاجتماعی الشامل، دار الثقافة العربیة، القاهرة، 2001.
    • سید البحراوی: ((مقدمة) روایة: لببیة هاشم: "قلب الرجل"، سلسلة رائدات الروایة العربیة،ع1، الهیئة المصریة العامة للکتاب، 2012.
    • صلاح صالح: سردیات الروایة العربیة المعاصرة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003.
    • عبد الرحمن أبو عوف: تحولات الخطاب الروائی للمرأة المصریة، ثلاثة أجیال، لطیفة الزیات، سلوى بکر، میرال الطحاوی، ضمن أبحاث مؤتمر: "مائة عام على تحریر المرأة"، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ج 2، 1999.
    • عبد الله الغذامی: المرأة واللغة، المرکز الثقافی العربی، الدار البیضاء، بیروت، ط3، 2006.
    • عبد الله الغذامی: النقد الثقافی: قراءة فی الأنساق الثقافیة العربیة، المرکز الثقافی العربی، الدار البیضاء-المغرب، وبیروت-لبنان، ط6، 2014.
    • عبد المحسن طه بدر:تطور الروایة العربیة الحدیثة 1870-1938، دار المعارف، القاهرة، ط1، 1963.
    • فاطمة یوسف العلی: النص المؤنث وحالات الساردة، دراسة تحلیلیة لخطب المرأة فی الروایة العربیة، مکتبة آفاق، الکویت، ط1، 2013.
    • فریال جبوری غزول: المرأة العراقیة أدیبة فی القرن العشرین، ضمن کتاب: ذاکرة للمستقبل، موسوعة المرأة العربیة، ج2، المجلس الأعلى للثقافة- مؤسسة نور، القاهرة، 2002.
    • محمد برادة: عن کتابة المرأة فی المغرب العربی (الجزائر، تونس، لیبیا، المغرب، موریتانیا)، ضمن کتاب: ذاکرة للمستقبل، موسوعة المرأة العربیة، ج3، المجلس الأعلى للثقافة- مؤسسة نور، القاهرة، 2002.
    • محمد سید عبد التواب: (مقدمة) روایة خلیل أفندی الخوری: "وی.. إذن لست بإفرنجی"، تقدیم سید البحراوی، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2007.
    • محمد الشحات: سردیات بدیلة، الهیئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2012.
    • محمد عنانی: المصطلحات الأدبیة الحدیثة، دراسة ومعجم عربی إنجلیزی، الشرکة المصریة العالمیة للننشر- لونجمان، القاهرة، 1996.
    • §        محمود طرشونة: نقد الروایة النسویة فی تونس، مرکز النشر الجامعی، تونس، 2004.
    • §        نجم عبد الله کاظم: الروایة العربیة المعاصرة والآخر، دراسات أدبیة مقارنة، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، 2009.
    • هدى الصدة: رؤیة الرجل لذاته فی مرایا تصوراته التمثیلیة حول المرأة: قراءة فی خطاب روّاد النهضة، ضمن أبحاث مؤتمر: "مائة عام على تحریر المرأة"، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ج1، 1999.
    • هویدا صالح: نقد الخطاب المفارق: السرد النسوی بین النظریة والتطبیق، دار رؤیة للنشر والتوزیع، القاهرة، 2014.
    • یوسف المحیمید: تأملات فی الروایة السعودة الجدیدة، ضمن کتاب "المشهد الروائی العربی"، طبعة تجریبیة بمناسبة انعقاد "ملتقى القاهرة الرابع للإبداع الروائی العربی"، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2008.

     ثانیًا- المراجع المترجمة إلى العربیة:

    • جانیت تود: دفاعا عن التاریخ الأدبی النسوی، ترجمة: ریهام حسین إبراهیم، المشروع القومی للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002.
    • دافید لو بروتون: سوسیولوجیا الجسد، ترجمة عیاد أبلال، إدریس المحمدی، روافد للنشر والتوزیع، القاهرة، 2013.
    • روجر ألن: الروایة العربیة، مقدمة تاریخیة ونقدیة، ترجمة حصة إبراهیم المنیف، المشروع القومی للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997.
    • سارة جامبل: النسویة وما بعد النسویة، دراسات ومعجم نقدی، ترجمة أحمد الشامی، المشروع القومی للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002.
    • شارلین ناجی هیسی- بایبر باوتریشا لینا لیفی: مدخل إلى البحث النسوی ممارسةً وتطبیقاً، ترجمة وتقدیم هالة کمال، المرکز القومی للرتجمة، القاهرة، 2015.
    • ک. نِلووف، ک. نوریس، ج. أوزبورن (تحریر): موسوعة کمبریدج فی النقد الأدبی (القرن العشرون: المداخل التاریخیة والفلسفیة والنفسیة)، مراجعة وإشراف رضوى عاشور، شارک فی الترجمة: إسماعیل عبد الغنی، منى عبد الوهاب، هانی حلمی، دعاء إمبابی، محمد هشام، المشروع القومی للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005.

     ثالثًا- الدوریّات:

    • "ألف" (مجلة البلاغة المقارنة)، الجامعة الأمریکیة، القاهرة، ع19، 1999.
    • صابر الحباشة: الأدب النسائی فی الخلیج العربی، مجلة (دفاتر الاختلاف الإلکترونیة، 2005: http://cahiersdifference.over-blog.net/article-33467859.html
    • فخری صالح: جریدة (الحیاة، ع12464، 14/4/1997.
    • فوزیة رشید: المرأة المبدعة فی الخلیج، مجلة (نزوى)، سلطنة عمان، 2009.
    • محمد البحری: فی السیرة الذاتیة النسائیة، مجلة (فصول)، الهیئة المصریة العامة للکتاب، القاهرة، مج16، ع4، ربیع 1998.
    • محمد الشحات: عن الروایة والاستنارة: قیم المدینة، (شرفات)، جریدة (عُمان)، 17/1/2012. ا
    • محمد الشحات: المتخیل العربی والبداوة، جریدة (السفیر)، لبنان، 10/3/2012.
    • معجب الزهرانی: تمثیلات الجسد فی نماذج من الروایة العربیة المعاصرة، مجلة (فصول)، مج16، ع4، ربیع 1998.
    • معجب العدوانی: مرایا الذات فی الروایة النسویة الإماراتیة، جریدة (الریاض)، 28/5/2009.

    رابعًا- المراجع الأجنبیة:

     Elizabeth Wright: Psychoanalytic Criticism: Theory in Practice, Routledge, London, 1984.

    • Hakim Bey: T. A. Z. the Temporary Autonomous Zone, Pacps (Pacific Publishing Studio), 2011.