الرؤية النقدية لجدلية اللغة في الرواية الواقعية

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

حاصلة على دکتوراه فى النقد الادبي الحديث

المستخلص

   يتناول هذا البحث التصور النقدي للغة الرواية الواقعية وما مثلته من جدلية أمام للمبدع ؛ فاللغة أداة مبدع الأدب وهي تختلف عن کثير من أدوات الفنون الأخرى کالرسم والموسيقى ؛ ذلک لأنها تحمل دلالتها المعهودة مما يجعلها تمثل تحديًا للمبدع المطالب بإعادة تشکيلها تشکيًا فنيًا يميز عمله الإبداعي ، يصبح التحدي أکبر مع الرواية التي تنقل عالمًا قريبًا من عالم الأحياء ويتضاعف التحدي مع اتجاه الرواية نحو الواقعية .
    وقد اهتم نقاد الرواية الواقعية بمناقشة جدلية اللغة وما تمثله من تحديات لکاتب الرواية الواقعية بصفة خاصة ؛ واختلف موقفهم وفقًا لمنطلق رؤيتهم لأبعاد اللغة فطرحوا ثلاثة أبعاد لإشکالية اللغة :
 1) البعد اللغوي ؛ حيث اختلف نقاد الرواية حول النمط الأمثل للغة الرواية ، فأيد بعضهم استخدام اللغة الفصحى ، وأيد فريق آخر استخدام اللغة العامية ، وقد جعل أغلب المؤيدين للعامية استخدامها مقتصرًا على الحوار لا السرد ، وقام فريق ثالث بوضع حلول وسطى لهذه الجدلية تمثلت في طرح ما سُمى باللغة الوسطى أو لغة ثالثة ، 2) البعد الفني ؛ حيث نظر النقاد إلى لغة الرواية من منطلق طابعها الفني بصرف النظر عن النمط اللغوي المستخدم ، 3) البعد الاجتماعي ؛ حيث تناول بعض النقاد لغة الرواية باعتبارها ظاهرة اجتماعية تخضع للتطور وفقًا لتطور المجتمع . 

الكلمات الرئيسية


المقدمة

إن اللغة التی صاحبت الإنسان منذ نشأته وعبَّرت عن مراحل تطوره وعلاقته بما یحیط به مثَّلت إشکالیة خاصة للمبدع منذ عرف الإنسان الإبداع باللغة شعرًا ونثرًا ؛ حیث تُشکل اللغة التحدی الأکبر لمبدع الأدب لأنه یستخدم لغة لها دلالتها المعهودة ویسعى لمنحها ملامح خاصة تمیز عمله الفنی ، ویصبح التحدی مُضاعفًا أمام کاتب الفنون القصصیة ؛ لأن لغته تختلف عن لغة الشعر التی تعتمد على الإیقاع والإیحاء مما یمیزها عن اللغة التی یتواصل الناس بها بینما یستخدم کاتب القصص لغة شدیدة الصلة باللغة التی یتواصل بها الناس ویصبح الأمر أشد تعقیدًا أمام کاتب الروایة الواقعیة الذی یسعى لصیاغة عالم روائی لا یبعد عن الواقع ولا یفقد طابعه الفنی .  

وقد أثارت اللغة الخلاف والجدل على المستوى التنظیری النقدی المُصاحب للإبداع ، واتخذ هذا الجدل أبعادًا أکثر تعقدًا وتشعبًا مع تطور علاقة الإبداع بالواقع ، ومع ظهور أنواع أدبیة مختلفة مواکبة لهذا التطور .

   وقد تناول نقاد الروایة الواقعیة أبعاد جدلیة اللغة وما تمثله من تحدیات للمبدع ، وقد اختلفت أبعاد هذه الجدلیة وفقًا لمنطلق رؤیتهم للغة ؛ فمنهم من نظر إلى اللغة وفقًا لأنماطها بین الفصحى والعامیة وطرح بعضهم لغة وسطى تجمع بین الفصحى والعامیة ، وهناک من نظر إلى البعد الفنی للغة بغض النظر عن نوعها ، وهناک من نظر إلى اللغة باعتبارها ظاهرة اجتماعیة خاضعة للتطور والتغیر کأی ظاهرة اجتماعیة أخرى .

                         ********************************  

   وعن أبعاد هذه الجدلیة فی الفترة التی شهدت نمو وازدهار الروایة الواقعیة (1945- 1967)*  یصرح عبدالحمید یونس " أن عالمنا العربی مُصاب بما أسمیه من غیر تجوز أو احتیاط بالأزمة اللغویة " ، ویراها عبدالحمید یونس لا تقتصر على کونها أزمة أدبیة أو لغویة لکنها ذات أبعاد اجتماعیة ، وهی فی رأیه أخطر من کل أزمة اجتماعیة لأن تأثیرها ینسحب على المجتمع کله ، کما یؤکد أن أزمة اللغة على المستوى الأدبی واللغوی لیست أزمة جیله فقط ؛ فقد أحس جیل الرواد أیضًا بهذه الأزمة اللغویة وحاول أن یعالجها لکنه لم یوفق ، وسبب عدم التوفیق یعود إلى الاعتماد أولًا وأخیرًا على تراث اللغة الرسمیة فحسب (1)  .

   وإشارة عبدالحمید یونس إلى التراث یحیلنا إلى نوعیة هذا الحل المستمد من التراث الرسمی والمتمثل فی استخدام اللغة الفصحى الجزلة التی استأثرت بالتراث الرسمی فی الأدب العربی عامة بینما وجدت اللغة العامیة منفذها فی التراث الشعبی  وإن کانت لغة وأسلوب هذا التراث قد خضعا لعملیات من التطویر والتجدید والتطویع نتیجة لعوامل التطور التاریخی والاجتماعی ، وبحکم الانفتاح على الثقافات الأخرى مع ازدهار عامل الترجمة .

   وعن دور الترجمة فی تطور لغة وأسلوب الکتابة العربیة والأدبیة والروائیة تذکر فاطمة موسى أن " حرکة الترجمة أدت إلى تغیر فی أسلوب الکتابة العربیة حتى أصبحت وسیلة صالحة للکتابة الصحفیة ثم للسرد الروائی" 2 .

   وإشارة عبدالحمید یونس إلى اتساع حدود أزمة اللغة وتخطیها حدود الجانب اللغوی والإبداعی حتى أضحت أزمة اجتماعیة على أرض الواقع تبین تضخم المعاناة والتحدی أمام مبدعی جیله ؛ فقد مثلت اللغة إحدى أهم وأخطر العقبات والتحدیات التی تواجه المبدع خلال بناء وتشکیل عمله الإبداعی ، وقد عبَّر هؤلاء المبدعون وخاصة کُتَّاب الروایة منهم عن هذه الإشکالیة وذلک التحدی ، بدایة من جیل الرواد مرورًا بجیل الواقعیة الذی تضاعفت أمامه العقبات والتحدیات .

   وعن إشکالیة اللغة یذکر عبدالقادر المازنی ما تُمثله اللغة وطبیعتها العامة من تحدٍ للمبدع حیث یرى " أن کل لغة أداة للإفهام أی نقل المعنى أو الصورة أو الإحساس أو الخالجة على العموم من ذهن إلى ذهن ونفس إلى نفس " وفی رأیه أنها بطبیعتها أداة ناقصة غیر وافیة أشبه بإشارات الخرس التی تشیر إلى المراد ولا تبین ، لذا فهی تمثل معاناة للمبدع وهذه المعاناة فی رأی المازنی لا تخص لغتنا العربیة فقط ، فکل من عانى الکتابة بأی لغة یعرف ذلک ویحسه (3) .

   وبتأمل رأی عبدالقادر المازنی یتضح أول أبعاد معاناة المبدع شاعرًا کان أو ناثرًا مع اللغة وتتمثل فی التحدی الأکبر الذی یواجه المبدع ؛ حیث یسعى للتعبیر عن تجربة إبداعیة ینفرد بها باستخدام أداة تحمل فی ذاتها إشارات ودلالات مُتعارف علیها مُسبقًا ومألوفة لأفراد المجتمع ، وعلى المبدع أن یمنح هذه الأداة ذات الطبیعة والدلالة المألوفة سمات تبلور وتوضح خصوصیة تجربته الإبداعیة وتمیز أسلوبه .

   ویتلاقى رأی عادل کامل مع  رأی عبدالقادر المازنی فی أن معاناة اللغة تمثل أزمة الإبداع عامة أیا کانت لغته ؛ حیث یذکر عادل کامل أن " الخصومة الناشئة حول لغة الکُتَّاب ، ولغة الروایة خاصة شملت آداب الأمم أجمع " ، وأسباب هذه الخصومة تعود فی رأیه إلى الاختلاف فی تحدید أولیات العمل الروائی ؛ فهناک من یرى وجوب صقل اللغة وفقًا للأصول التقلیدیة لفن الکتابة مما یؤدی إلى أدب لفظی ، وعلى الجانب الآخر هناک من یرى الأولویة للطبیعة الفنیة التی تبلور الروایة ، ویعتبر العنایة بالأسلوب أمرًا ثانویًا ویثمر ذلک الاتجاه أدبًا حیًا (4) .

   یُلاحظ أن الفیصل فی رأی عادل کامل یعود إلى أصالة المبدع فی فهمه وتصوره لطبیعة عمله الإبداعی وأصالة تجربته الإبداعیة ، ولکن هل تنفصل تلک الطبیعة الفنیة للروایة أو أی عمل إبداعی عن الأسلوب الذی یُمثل الأداة التی تُشکل هذه الطبیعة ؟ لا شک أن القصد إلى الإسلوب کصنعة لفظیة فقط یخلق أدبًا خالیًا من الروح ومن الطبیعة الجمالیة الفنیة .

   ویؤخذ على عادل کامل تحامله وتجنیه نظریًا على اللغة العربیة عامة وعلى التراث الأدبی العربی خاصة ، وإن کان هذا التحامل والتجنی نظریًا فقط ؛ فهو على المستوى الإبداعی لم یخرج فی أعماله الروائیة (ملک من شعاع ، وملیم الأکبر) عن نطاق اللغة العربیة ، ویظهر هذا التحامل فی مقدمته النظریة حول الروایة فی روایته الثانیة (ملیم الأکبر) حیث یصرح أن التحدی مضاعف أمام المبدع الذی یستخدم اللغة العربیة لأنه یجد " صعوبة بالغة فی التعبیر عن الآراء العصریة والخواطر النفسیة والنظریات الفلسفیة حتى لیجد من الأسهل لدیه لو عبر بلغة أخرى غیر لغته " ص75. فالکاتب یتهم اللغة العربیة بقصور فی التعبیر یعود إلى طبیعتها الخاصة ولیس بسبب إشکالیة صیاغتها إبداعیًا کما رأى عبدالقادر المازنی ؛ فالعقبة فی رأی عادل کامل تکمن فی أدوات اللغة العربیة بشکل خاص ولیس فی الطبیعة العامة لکل اللغات ، وربما کان السبب وراء هذا الموقف المتحامل تزمت اللجنة المسئولة عن مسابقة القصة والتی حجبت الجائزة بحجة عدم وجود أعمال روائیة تلیق بها ، وموقف الکاتب رد فعل لهذا التعنت من أصحاب التیار التقلیدی المُحافظ أمام تجدید جیله ، وما یرجح أن العداء بین عادل کامل واللغة العربیة کان ظاهریًا ولیس حقیقیًا استخدامه للغة العربیة الفصحی فی أعماله الروائیة .

   ویصبح تحدی اللغة أکثر صعوبة وإشکالیة فی الفنون الأدبیة المعتمدة على القص ؛ لأن اللغة فی تلک الفنون ذات طبیعة مختلفة عن لغة الشعر التی تعتمد على الإیقاع والإیحاء والتصویر مما یکسبها طابعًا فنیًا یمیزها عن اللغة التی یتواصل الناس بها ، وعن هذا الاختلاف یذکر جان بول سارتر أن الشعراء " قوم یترفعون باللغة عن أن تکون نفعیة " 5 ، أما النثر فهو فی جوهره نفعیص 34 ، وقد أشار أنور المعداوی إلى الطبیعة المختلفة للغة القصة والمسرح حیث یذکر أنها " خیط الاتصال بین الأدیب المنتج والجمهور القارئ ، وإذا ما تعرضت هذه الخیوط الاتصالیة لبعض ألوان التعقید فی النسیج الفنی تعقدت معها بالتبعیة عملیة التجاوب الفکری والشعوری بین جهاز الإرسال وجهاز الاستقبال " 6 ، اللغة فی فنون القص إذن لغة تواصل وأداء إلى جانب أنها تعبیر عن الرؤیة الفنیة للکاتب . ویتضاعف تحدی اللغة أمام الکاتب الواقعی .    

   ویؤکد مدى معاناة کتاب الواقعیة مع تحدی اللغة وصعوبة ما واجههم من عقبات حدیثُ نجیب محفوظ مع یوسف شارونی عن جدلیة اللغة وما مثلته لجیله ؛ حیث یتحدث نجیب محفوظ عن أبعاد أزمة اللغة بالنسبة لجیله الذی اختلف عن الجیل السابق فی موقفه من الروایة ومن علاقة الروایة بالواقع فیذکر" أن الجیل السابق علینا لم یجد مشکلة فی اللغة مثلنا ؛ فلم یکن أحد قبل جیلی قد تخصص فی الروایة " ، ولم یکن التخصص فی فن الروایة هو العامل الوحید الذی شکَّل تحدی اللغة أمام هذا الجیل بل عمَّق هذا التحدی حرص أغلبهم على الکتابة بالفصحى للتعبیر عن الواقع ، فکان علیهم أن یجدوا إجابة للسؤال الذی صاغه نجیب محفوظ  فی حدیثه وهو کیف نکتب قصة واقعیة وشعبیة باللغة الفصحى ؟  ومشکلة اللغة عند جیل نجیب محفوظ لم تقف عند حدود الحوار فقط بل امتدت إلى السرد فی حین یذکر یوسف الشارونی الذی یمثل أحد کتاب الجیل التالی لجیل محفوظ أن جیله ما زال حائِرًا بالنسبة للغة الحوار فقط (7).

   وإذا کانت أزمة اللغة ارتبطت فی رأی نجیب محفوظ باتجاه الروایة للواقعیة مع الحفاظ على الکتابة بالفصحى فإن یوسف الشارونی یربط أزمة لغة الکتابة والحوار بالأخص والکتابة القصصیة بأنواعها واتجاهاتها المختلفة حیث یذکر یوسف الشارونی حدة مشکلة الحوار ظهرت حین طرق الأدب العربی الحدیث طریق المسرح والقصة (8) .

   لکن المعاناة لم تکن مقصورة على کُتَّاب الواقعیة فقط حیث یتحدث یوسف السباعی عن أزمته مع اللغة فیعبر عن رفضه أن تکون اللغة قیدًا على التعبیر ورأى أنه من الطبیعی التعبیر باللغة العربیة السهلة ولکن الأمر لدیه أسهل حلًا لتقبله استعمال اللهجات الخاصة فی الحوار (9) .

   وبهذا یتضح تعقد أزمة اللغة أمام کتاب الروایة الواقعیة بشکل خاص نظرًا لکثرة التحدیات التی تواجههم بعضها تحدیات مشترکة مع غیرهم من المبدعین تتمثل فی التعبیر المبدع الجدید بلغة لها دلالتها المسبقة ، وبعضها تحدیات تواجه کتاب الروایة باتجاهاتها المختلفة تتمثل فی فکرة صیاغة الحوار وبعضها یخص اتجاه روایتهم الواقعیة یتمثل فی کیفیة التعبیر عن الواقع بلغة لا تبعد عن الواقع ولا تفقد رونقها وفصاحتها .

                  **************************************

   أثارت اللغة کأداة للعمل الروائی جدلًا نقدیًا واسعًا وتعددت مواقف النقاد تجاهها، تناول النقاد ثلاثة أبعاد لإشکالیة اللغة :- البُعد اللغوی / البُعد الفنی/  البُعد الاجتماعی

ا ) البعد اللغوی :- ویظهر البُعد اللغوی فی قضیة إشکالیة أثارت الجدل الإبداعی والنقدی تَمَثَّلت فی نمط اللغة المستخدمة فی الروایة ما بین الفصحى والعامیة ؛ حیث اختلفت اتجاهات المبدعین وآراء النقاد حول نمط اللغة المُستخدم فی الروایة ، وقد أثارت جدلیة الفصحى والعامیة خلافًا بین کتاب الروایة ، وکانت روایة (عذراء دنشوای ) لمحمود طاهر لاشین أولى الرویات التی استخدمت العامیة فی حوار القصة * واستمر هذا الاستخدام فی کثیر من الروایات مثل روایة ( زینب) لمحمد حسنین هیکل وروایة ( عودة الروح ) لتوفیق الحکیم فی حین تمسک کتاب آخرون بالفصحى فی حوار قصصهم ویظهر ذلک فی أعمال طه حسین وعباس محمود العقاد ونجیب محفوظ  .

  وقد اختلفت اتجاهات النقاد تجاه جدلیة الفصحى والعامیة ؛ فهناک من تحیز للفصحى ، وهناک من مال للعامیة ، وطرح البعض حلًا وسطًا یسعى للتقریب بین الفصحى والعامیة ،ومن النقاد من نظر إلى اللغة من زاویة مختلفة فاتخذت القضیة لدیه أبعادًا أخرى .

   أما أصحاب الموقف المتحیز لاستخدام الفصحى فی الروایة فقد استند فی موقفه إلى رونق الفصحى وبهائها ؛ فیعلن أحمد حسن راشد أن الروایة " خَلق الکاتب فهو الذی یصورها فیجب علیه أن یسجلها التسجیل اللائق بعمل أدبی ، وبلغة عربیة سلیمة " 10 .  

ویستند محمد مندور إلى ثراء اللغة العربیة وعراقتها فی دعوته إلى استخدام الفصحى فی العمل الأدبی حیث یؤکد أنَّ الفصحى السهلة بألفاظها وتراکیبها أکثر قدرة على التعبیر عن الأفکار والمشاعر العمیقة بحکم ثرائها وضخامة تراثها (11) ، ویعلن یحیی حقی رأیًا مشابهًا فیؤکد أن الفصحی هی القالب الفنی الوحید للعمل الکبیر12.

   ولم یکن ثراء اللغة الفصحى السبب الوحید فی دعم النقاد لها  فقد ربط بعض النقاد بین اللغة الفصحى وتحقیق هدف الأمة العربیة فی الوحدة والقومیة المُشترکة بین بلادها، ومن هؤلاء رئیف خوری الذی یؤکد أن القومیة العربیة ینبغی لها فی الأداء العربی أن تؤثر الفصحى(13) ، وتسلیمًا بالعلاقة بین الفصحى والقومیة یعترض فاضل السباعی على دعوة بعض النقاد لاستخدام العامیة فی الحوار ، وأکد أن الکاتب العربی – المصری وسواه – لیس مُطالبًا بأن یکتب لشعبه الذی تحده الحدود السیاسیة الضیقة فحسب وإنما لأفراد الأمة جمعاء 14 .

   وهناک من اعتبر استخدام الفصحى فی الروایة إحدى وسائل الحفاظ على اللغة العربیة نفسها، ویظهر ذلک فی تصریح عبدالقادر المازنی أن القصة أقوى الوسائل لإحیاء اللغة العربیة ، وأسند المازنی إلیها مهمة تجدید اللغة وإنشاء معرفتها والعلم بها 15 ، ولا یمکن إنکار دور العمل الأدبی فی إثراء اللغة وتجدیدها ، ولکن إذا قصد العمل الأدبی أیًا کان نوعه إلى هذا الهدف التعلیمی قد ینصرف عن طابعه الإبداعی ویخرج من دائرة الأدب .

   وقد وجه أنصار الفصحى سهام نقدهم إلى العامیة ؛ حیث یرى محمد مندور أن التعبیر بالعامیة ظل قاصرًا على ضرورات الحیاة المادیة والنفسیة والثقافیة القصیرة 16مما یعنی أنها فی رأیه لا ترتقی إلى التعبیر الأدبی *، وتؤکد نفوسة زکریا أن " العامیة عاجزة عن التعبیر عن الأفکار العالیة "17. ورغم استخدام یحیی حقی للعامیة فی قصصه * نراه یتهم اللغة العامیة بأنها " ذاتیة لعوب لا یؤمن لها جانب" 18،  کذلک یراها أحمد حسن راشد تمثل تضیقًا من نطاق أدبنا وتجعله محلیا 19.

   وبعیدًا عن نطاق الأدب یرى رئیف الخوری أن الداعین للعامیةیریدون فصم عروة حیویة من عُرى وحدة القومیة العربیة 20 ، وتؤکد نفوسة زکریا دور المستعمرین فی نشر الدعوة إلى استخدام العامیة بهدف القضاء على الوحدة العربیة عن طریق تحطیم رابطة من أهم روابطها وهی اللغة العربیة الفصحى21، ویتفق هذا الرأی مع  تأکید یحیی حقی أن هَمَّ الاستعمار الأول کان القضاء على الفصحى والترویج للعامیة واللهجات الدراجة 22 .

   وقد حرص أنصار العامیة على الدفاع عنها برد تلک الاتهامات ؛ فردًا على تهمة تدنی العامیة وأنها لا ترتقی لمستوى التعبیر الأدبی وأن استخدامها یدل على عدم تمکن المبدع من أدواته ومن لغته یوضح محمد عفیفی أن مستلزمات لجوء الکاتب للعامیة فی کتابة الحوار یقتضی منه أن یخوض غمار الحیاة لیقف على اللهجات الخاصة بالطبقات والمفردات الموافقة لکل حالة من حالات العاطفة والانفعال مما یتطلب من الکاتب ملاحظة قویة وذاکرة واعیة وأذنًا حساسة قادرة على تلقی لغة الحدیث من منبعها وإعادة کتابتها 23 . کذلک یؤکد محمد کمال الدین یوسف أن العامیة تقتضی جهدًا فائقًا لا یُقدره أنصار الفصحى 24.

   وردًا على الدعوة إلى الفصحى بحجة علاقتها بالمحافظة على اللغة العربیة وعلى تاریخنا من الاندثار یصف محمد عفیفی هذه الحجة بأنها حجة أسخف من إدعاء ضعف العامیة ، وینفی العلاقة بین الحفاظ على الفصحى والحفاظ على التاریخ أو القومیة ویستشهد بتجارب الأمم الأخرى التی تمتلک التاریخ واللغة ، فالأمة الإنجلیزیة مثلًا على شدة تمسکها بالتقالید کتابها یکتبون کما یتکلم الناس ، ولم نسمع أن أحد کتابها یفکر فی کتابة حوار القصة باللغة الأنجلوسکسونیة أو الإنجلیزیة المتوسطة (25) ، ویؤکد عبدالله الخطیب أن انتشار اللغة العامیة المنقحة یساهم فی توطید الوحدة العربیة ؛ حیث إنه یحقق تقارب اللهجات العامیة فی البلاد العربیة والتغلب على عدم فهم لهجة بلد شقیق فی جمیع أجزاء الوطن العربی الکبیر ، وبهذا یمکن للشعوب العربیة التفاهم بصورة واسعة 26 .

   وقد اقتصر نطاق الدعوة إلى العامیة عند أغلب النقاد على حوار القصة دون سردها *، وکان الدافع الأساسی الذی استند إلیه النقاد الداعون لاستخدام اللغة العامیة فی الحوار هو تحقیق واقعیة العمل الفنی ، حیث رأى أنصار العامیة أن استخدام الفصحى فی الحوار یتناقض مع واقعیة العمل الأدبی ؛ من هذا المنطلق یرفض محمد عفیفی أن نقحم على لغة الأشخاص ألفاظًا وأسالیب دخیلة لمجرد أن العرب کانوا یستعملونها فی کلامهم ؛ فالأدب فی رأیه ما هو إلا تصویر للحیاة ، وعامیة الحوار فی القصة تحقق محاکاة صادقة للحیاة ، وما یؤکد أن ذلک کان دافعه الحقیقی ولیس العداء للفصحى هو تقبله للفصحى فی الحوار فی حال کون شخوص القصة مطلقة مجردة ، ولیس محدودین بزمان أو مکان (27) . وبتأمل هذا الوصف یتضح تقبله للفصحى إذا بعُدت القصة عن الواقعیة . کذلک یربط محمد کمال الدین یوسف تحقق واقعیة القصة باستخدام اللغة العامیة فی الحوار ، ورفض ما ردده بعض أنصار الفصحى أن اللغة مسألة شکلیة (28)

   وتحقیق واقعیة العمل الفنی هو ما دفع عبدالعظیم أنیس إلى الاحتفاء بحوار عبدالرحمن الشرقاوی فی روایة الأرض واعتبارها أهم إنتاج روائی صدر لکتاب الواقعیة أو من أطلق علیهم عبدالعظیم أنیس الکتاب الأحرار ، ویصف عبدالعظیم أنیس حوار(الأرض) بأنه یجری سلسًا عذبًا طبیعیًا (29) ، ومن نفس المنطلق تشید فاطمة موسى بهذا الحوار العامی فی روایة الأرض وترى أن هذه الروایة تحمل للمرة الأولى محاکاة صادقة لحدیث الفلاح ولهجته واهتمامه ، وأن عبدالرحمن الشرقاوی فی هذه الروایة قد أنطق شخصیات القریة المصریة حقًا وکأنهم أناس عرفناهم بلحمهم ودمهم (30) .

  ومن منطلق الدفاع عن اللغة الفصحى نفى أنصارها التناقض بین استخدام الفصحى وتحقق الواقعیة فی القصة ؛ حیث یوضح محمد مندور أن الواقعیة المطلوبة فی الأدب لیست واقعیة اللغة بل واقعیة النفس البشریة وحقیقة الحیاة الاجتماعیة والأخلاقیة 31، ووفقًا لرأی محمد مندور یمکن للکاتب استخدام الفصحى فی الحوار ویعبر فی نفس الوقت عن الواقع والحیاة .

   وکذلک یرى طه حسین ضرورة تصحیح فهم دور الأدب فی علاقته بالواقع ، ویشیر إلى خطأ بعض الأدباء حین یظنون أن تصویر الواقع فی الحیاة یفرض علیهم أن ینطقوا الناس فی الکتب بما تجری به ألسنتهم فی أحادیث الشوارع والأندیة ، ویؤکد أن أخص ما یتمیز به الأدب الرفیع هو أن یرقى بالواقع من الحیاة درجات دون أن یقصر فی أداته وتصویره 32، هذا التأکید یشیر إلى ضرورة توفیق کاتب القصة بین تصویر الحیاة وواقعیة قصته من ناحیة وتحقیق قیمتها الفنیة الجمالیة من ناحیة أخرى ، ویربط طه حسین بین تحقیق تلک القیمة الجمالیة واستخدام الفصحى بدلیل أن رأیه السابق کان تعلیقًا على استخدام یوسف إدریس للغة العامیة مما یدل على رفضه لهذا الاستخدام .

   ومن نفس المنطلق یرفض عباس محمود العقاد استخدام اللغة العامیة بحجة تحقیق محاکاة صادقة للواقع ؛ حیث یؤکد أن القول بأن " أطوار بعض الناس لا یُعبر عنها بلغة فصیحة أو قریبة من الفصیحة ینم عن جهل وعجز ورغبة فی الشعوذة باسم المحاکاة الصادقة والتمثیل المطبوع " 33.   

   کذلک یرفض یحیی حقی الربط بین استخدام العامیة وتحقیق مطلب الواقعیة ویستند فی رفضه إلى تصور أصحاب المذهب الواقعی أنفسهم لمفهوم الواقعیة فی العمل الأدبی ؛ حیث یرى هؤلاء أن العمل الأدبی الواقعی لیس صورة فوتوغرافیة لواقع الحیاة بل هو إیهام ، ومن هذا المنطلق یتساءل یحیی حقی لماذا یکون المضمون إیهامًا بالواقع ثم یریدون للحوار أن یکون وحده صدقًا فوتوغرافیًا للواقع ؟ 34 ، ویُمثِّل یحیی حقی بأعمال نجیب محفوظ کنموذج ودلیل على عدم التعارض بین الفصحى والواقعیة ؛ فنجیب محفوظ على الرغم من أنه إمام الواقعیة کان یکتب حوار قصصه بالفصحى لا العامیة ص 80 .

   ولنجیب محفوظ رأی قریب من رأی یحیی حقی ؛ فمن منطلق رؤیته للواقعیة بأنها لیست صورة لما یقع بل لما یحتمل وقوعه لا یجد ما یمنع من أن تکون لغة الحوار فی الروایة مختلفة عن الواقع فی نطقها ولهجتها ؛ بل یرى أن استخدام العامیة قد أضعف الواقعیة ؛ حیث تهیأ للبعض أن العامیة وحدها کافیة لتحقیقها ، بینما یصب استخدام الفصحى فی الحوار فی مصلحة الواقعیة ؛ حیث تجعل الکاتب یتحرى الواقعیة النفسیة والمادیة من أعماقها 35.

   ویتجاوز أحمد حسن راشد فی دفاعه عن الفصحى فیرى أن اللغة ناحیة شکلیة فقط ، وأن الواقعیة فی العمل الأدبی واقعیة موضوع ولیست واقعیة شکل 36، وفصل الناقد بین الشکل والمضمون یضعف وحدة وتکامل العمل الأدبی مما یفقده أهم سماته الفنیة  .

   ولکن رغم تلک الآراء المتعددة التی تنفی التناقض بین الفصحى والواقعیة سیطرت العامیة على لغة الحوار، تتأکد هذه السیطرة فی موقف عباس خضر مما فرضته اللجنة المسئولة عن مسابقة القصة حین اشترطت استخدام الفصحى فی حوار الروایات والقصص المقدمة ، واستبعدت القصص التی تکتب حوارها باللغة العامیة ؛ ویرفض عباس خضر هذا التعنت و یتهم أغلب الأعمال التی اتخذت من الفصحى حوارًا لها بالضعف الفنی ، ویرى أن موقف اللجنة سیضعها فی حرج ؛ حیث سیضطرها إلى إعلان إفلاس الحرکة القصصیة التی تمر فی رأیه بأوج مراحل ازدهارها ونمائها أو سیضطر اللجنة إلى منح الجائزة لإنتاج ضعیف 37. وکما تظهر سیطرة العامیة فی تصریح یحیی حقی أن بعض أنصار الفصحى اضطروا للرضوخ للحوار العامی فی القصة والسکوت عنه بسبب ما أسماه ( إرهاب مطلب الصدق فی العمل الفنی ) 38.

   إن موقف اللجنة المسئولة عن القصة یشیر إلى موقف متحفظ تجاه اللغة العامیة من الجهة الرسمیة المسئولة شکلیًا عن القصة ؛ بینما یشیر حدیث یحیی حقی إلى واقع یختلف مع هذا الموقف بل یفرض سیطرته وقد أدى ذلک إلى تناقض فی موقف بعض النقاد من استخدام الفصحى والعامیة فی حوار القصة .

   ویظهر ذلک التناقض فی تحلیل عزت محمد إبراهیم لحوار ( بین القصرین ) لنجیب محفوظ وحوار ( الباب المفتوح ) للطیفة الزیات ؛ ففی حین ینتقد حوار ( بین القصرین ) ویرى أن استعمال نجیب محفوظ للفصحى فی الحوار بدا غیر واقعی إلى درجة بعیدة 39 یرفض حوار الباب المفتوح ویأخذ علیه غلبة استخدام العامیة على الفصحى فی مواضع لا حاجة فیها إلى استعمال العامیة (40)، ویظهر التناقض أیضًا فی موقف عبدالقادر القط الذی یعلن تفضیله الحوار بالفصحى عن الحوار العامی ویرى فی نفس الوقت أنَّ الحوار العامی أقدر على تصویر الشخصیة أو الموقف (41) ، کما یظهر التناقض فی تعلیق أنور المعداوی على تحول محمود تیمور من استخدام العامیة فی الحوار إلى استخدام الفصحى ؛ ففی حین یستحسن تلک العودة ویرى أن قصة محمود تیمور غدت بعدها قطعة أدبیة رائعة تزخر بإشراق اللفظ وسلامة العبارة (42)  نراه یشید بتجارب محمود تیمور الأولى ویراها تتمیز بالبساطة التی لا تقطع خیوط الاتصال الفکری بینه وبین رجل الشارع ، ویرى أن تحول محمود تیمور للفصحى کانت بسبب انضمامه لمجمع اللغة العربیة ، فقد أراد بإقدامه على إعادة کتابة حوار تجاربه الأولى مستبدلًا الفصحى بالعامیة أن یثبت أنه جدیر بزمالة أعضاء مجمع اللغة لقدرته على الأداء البلیغ ، ویؤکد أنور المعداوی أن تلک الإعادة قد أضرت بالقصص حیث فقدت أصالة الواقع التعبیری فی اللغة المنطوقة (43) . وتناقض آراء النقاد حول نمط اللغة المستخدم فی حوار القصة یؤکد أن الأهم هو مدى توفیق الکاتب فی صیاغة حوار یساهم مع غیره من أدوات فی  بناء الروایة  سواء کانت لغة الحوار فصحى أو عامیة .

                            ************************

   وقدم بعض الکتاب طرحًا لحل هذا الصراع والجدل بین الفصحى والعامیة خاصة فی حوار القصة ومن أبرز هذه الحلول ما طرحه إبراهیم عبدالقادر المازنی وتوفیق الحکیم ، أما إبراهیم عبدالقادر المازنی فقد رأى إمکانیة الجمع بین الفصحى والعامیة فی الحوار ؛ فإذا کان الشخص متعلمًا یکون الحوار بالعربیة الفصحى وإذا کان أمیًا یستخدم العامیة، ویشترط عبدالقادر المازنی فی استخدام الکاتب للعامیة أن یقتصر على ماله دلالة خاصة أو مزیة لا تکون إذا أجریت حدیثه الفصیح من الکلام(44) وهذا الشرط یتفق مع موقف المازنی الداعم لاستخدام الفصحى ولکن رأیه على ما یحمله من حذر وتضییق فی استخدام العامیة فی الحوار یتضمن اعترافًا بها وإقرارًا بالحاجة إلیها وضرورة لجوء الکاتب إلیها .

   وفی محاولة للتقریب بین الفصحى والعامیة نوه عبدالقادر المازنی أن العامیة ذاتها لیست لغة أجنبیة وإنما لغة عربیة محرفة 45 ؛ فهی تحوى مئات الألفاظ عربیة الأصل أو مما استعمله العرب وأجروه مجرى ألفاظهم الأصیلة ومن هذا المنطلق اقترح عبدالقادر المازنی إحصاء الألفاظ العربیة فی العامیة وأن تُرد إلى أصلها إذ احتاج الأمر إلى ذلک وفی هذه الحالة یمکن استعمالها ص69 ، ویظهر تأثیر رأی المازنی فی النقد الواقعی فی تأکید محمد مفید الشوباشی صلة العامیة بالفصحى حیث یصرح أن أی کلمة عامیة " ترجع فی جذرها اللغوی إلى قاموس الفصحى ، وأن أی ترکیب فی أسالیب العامیة یرجع إلى الترکیب التعبیری للفصحی نفسها " 46

   ولم تختلف دعوة توفیق الحکیم کثیرًا عما دعا إلیه عبدالقادر المازنی ، وأطلق على اقتراحه لجدلیة اللغة المستخدمة فی العمل القصصی مصطلح ( اللغة الثالثة ) واعتبرها الحل الأمثل لقضیة صراع الفصحى والعامیة خاصة فی الحوار. وقد أنکر توفیق الحکیم وجود لغة منفصلة مستقلة اسمها العامیة تترجم إلى العربیة ، ورأى ضرورة تفصیح العامیة باستخدام العربیة المبسطة بما أسماه عربیة التخاطب وتعوید الناس تذوقها ، وأکد توفیق الحکیم أنه إن تعذر الالتزام بالفصحى فلا أقل من تفصیح العامیة  بتقریبها قدر الإمکان من الفصحى لتکون الفصحى العامیة 47 .

   وبتأمل کلا الدعوتین یُلاحظ أنهما تنطلقان من دافع واحد هو محاولة التقریب بین النمطین الفصحى والعامیة بوجود حل وسط أو لغة وسط بینهما ، وتتلاقى الدعوتان فی رأیهما حول العلاقة بین الفصحى والعامیة ؛ فکلتاهما تؤکد أن العامیة مشتقة من العربیة ، ولیست منفصلة عنها .

    وکان هذا الحل الوسط موضع رفض وهجوم من بعض النقاد والکُتاب مثل لویس عوض الذی وصف ذلک الحل ب ( خرافة اللغة الوسطى ) 48، ومحمود تیمور الذی یرى ذلک السعی نحو التوحید بین الفصحى والعامیة غیر قابل للتحقق فهو فی رأیه أمنیة معسولة لا تعین على تحقیقها طبائع المجتمعات وخصائص اللغة  ؛ ولکن محمود تیمور وإن رفض حل التوحید بین الفصحى والعامیة فی لغة واحدة اقترح حدوث تکامل وتعایش بینهما فتکون العلاقة بینهما علاقة مؤازرة وتحالف لا علاقة عداء بل صرح أن شن الحرب بینهما غباوة وحمق " 49، وسعیًا لتحقق ذلک التکامل دعا إلى تیسیر الفصحى حتى تدنو من منال الجمهور وتقل حدة التفاوت بین الفصحى والعامیة 50. ویرى یحیی حقی أن الحل یکمن فی تلاحم ألفاظ العمل الفنی فإذا انصهرت الألفاظ فی بوتقة واحدة تضاءلت الفروق بین العامیة والفصحى 51 .

                 ********************************

     لم یکن الجدل والتعارض حول إشکالیة اللغة بین الفصحى والعامیة قاصرًا على الجانب النقدی التنظیری بل امتد إلى الجانب التطبیقی وظهر أثره فی تحلیل النقاد للروایات ، ویظهر ذلک فی رؤیة النقاد للغة الروایة عند نجیب محفوظ کنموذج یبلور هذا التعارض ؛ فبمتابعة تحلیل النقاد لروایات نجیب محفوظ الاجتماعیة فی مرحلة الثلاثیة أو روایاته بعد الثلاثیة یتضح اختلافهم حول لغتها اختلافًا یصل إلى حد التعارض والتناقض .

   حیث یرى بعض النقاد حوار نجیب محفوظ فی روایاته الاجتماعیة مُخالفًا لطبیعة ومستوى الشخصیات ؛ فیذکر محمد کمال یوسف أن الحوار فی هذه الروایات " لا یتناسب مع المستوى العقلی لشخصیات الروایة " 52 ، ویرى حمدی السعید أن لغة الحوار فی ( زقاق المدق ) لا یمکن أن تعبر بحال عن قائلیها ؛ فقد کان حوارًا متکلفًا فی کثیر من الأحیان ، ویأخذ شکلًا فلسفیًا لا یناسب المستوى العقلی لشخصیات الروایة 53. کما ینتقد محمود أمین العالم لغة بین القصرین وإن کان یراه أقرب إلى العامیة 54.

   وعلى النقیض من تلک الآراء ترى سهیر القلماوی أن لغة ( بین القصرین ) " برأت من الإسفاف أو العامیة المبتذلة ، فأصبحت لغة سهلة تخففت من تقعر اللغوین وغثاثة العوام 55، کما یؤکد توفیق حنا أن لغة الروایة تخلصت من الفصاحة الشکلیة ومن الأکادیمیة الباردة ، وصارت لغة بلیغة تبلغ الأسماع والقلوب وتنیر المواقف وتضیء الشخصیات بلون مشرق ومضیء56، وتشید أسما حلیم بحوار ( الثلاثیة ) وتراه متمیزًا ؛ لأن نجیب محفوظ قد أنطق الشخصیاتِ فی لهجة طبیعیة إلى درجة تثیر الإعجاب ، واستطاع أن یستخدم فی حواره الأمثال التی تمیز أسلوب الکلام العربی مع خلو الحوار من الکلمات الدارجة المتکلفة 57. ویؤکد غالی شکری أن نجیب محفوظ فی روایاته استطاع أن یوازن إلى درجة ما بین الشخصیة الروائیة وکیانها اللغوی فی إطار من اللفظ العربی الفصیح 58 .

   ورؤیة أنور المعداوی للغة الحوار فی روایات نجیب محفوظ الاجتماعیة تفسر أسباب ذلک التعارض والتناقض ؛ حیث یذکر أن نجیب محفوظ یحرص على وضع حواره فی قالب من الفصحى البسیطة ، ویحرص فی الوقت نفسه على التقریب بین هذه الفصحى البسیطة وبین لغة الحیاة الیومیة لیحافظ بقدر الإمکان على واقعیة اللغة المنطوقة ، ولیطمئن من جهة أخرى على تخطی العقبات الناتجة من اختلاف اللهجات المحلیة ، وقد أدى ذلک إلى إکساب لغة نجیب محفوظ مستویات متعددة من الدلالات (59). فحوار نجیب محفوظ وفقًا لرأی أنور المعداوی قریب فعًلا من العامیة ، لکن ذلک القرب یُحسب لمحفوظ ولیس ضده ؛ حیث ظل محافظًا على صحة اللغة وفصحتها رغم قربها من لغة الحیاة الیومیة ، ومحفوظ وفقًا لتحلیل المعداوی نجح فی تخطی جدلیة الصراع بین الفصحى والعامیة واستطاع تقدیم لغة حوار فنیة ناجحة یتأکد نجاحها بتعدد مستویات دلالتها .

   عن تطور لغة نجیب محفوظ فی ( أولاد حارتنا )  یذکر لمعی المطبعی أن اللغة فی تلک الروایة  أضحت " نغما ندیًا وأداة موسیقیة طیعة فی یدیه " وأشار الناقد إلى مظاهر هذا التطور ؛ حیث اختفت الألفاظ الثقیلة فقد عرج نجیب محفوظ على العامیة یهذبها من الشوائب وأقبل على أقرب کلماتها إلى الفصحى لیجعل منها نغمًا سلسًا فی حوار ممتع 60.

   ولا یختلف صوغ لمعی المطبعی لنهج نجیب محفوظ فی صیاغة لغة ( أولاد حارتنا ) عما طرحه أنور المعداوی فی حدیثه عن لغة نجیب محفوظ فی روایاته قبل الثلاثیة وخلالها ، ویتفق کذلک مع إشارة سهیر القلماوی العابرة لسمة اللغة فی ثلاثیة نجیب محفوظ ، هذا التلاقی فی الآراء یدل على أن نجیب محفوظ نجح فی رأی أغلب النقاد فی الوصول إلى حل لجدلیة الصراع بین الفصحى والعامیة ، وإشکالیة النمط المستخدم فی الروایة عامة وفی حوارها بشکل خاص .

   ویحلل یوسف الشارونی أبعاد تجربة نجیب محفوظ مع اللغة فی تتبع الشارونی لروایات نجیب محفوظ حیث یوضح نمط نجیب محفوظ فی معالجة جدلیة الصراع بین الفصحى والعامیة  للوصول إلى حل وسطی ؛ فیرى یوسف الشارونی أن نجیب محفوظ قد أنطق شخصیاته ألفاظًا فصحى ولکن دلالتها وترکیبها من حیث تأخیر الکلمات وتقدیمها أقرب إلى العامیة مما جعل حوار نجیب محفوظ فی رأی یوسف الشارونی  فصیحًا من ناحیة المفردات والإعراب عامیًا من ناحیة ترکیب الجمل والدلالات والمفردات " 61 .

   وبینما یعتبر یوسف الشارونی ما وصل إلیه نجیب محفوظ فی تجربته مع لغة الروایة تطورًا للاتجاه الثالث الذی دعا إلیه المازنی وتوفیق الحکیم ص146 یختلف معه لویس عوض حیث یؤکد فی تحلیله ل(روایة الطریق) أن تجربة نجیب محفوظ مع اللغة لها خصوصیتها وتمثل خروجًا عن ذلک الاتجاه 62. وتعدد الآراء حول تجربة نجیب محفوظ یؤکد هذه الخصوصیة .

********************************************************

2) البعد الفنی :- وبعیدًا عن إشکالیة الصراع والجدل الإبداعی والنقدی حول النمط اللغوی المستخدم فی الروایة بین الفصحى والعامیة تناول بعض النقاد لغة الروایة من زاویة مختلفة تتعلق بالبعد الفنی لها بصرف النظر عن نمطها اللغوی مما أثمر رؤیة مختلفة لقضیة وإشکالیة لغة الروایة تتفق مع تطور ونضج فن الروایة .

   ویظهر هذا البُعد الفنی للغة فی تناول سید قطب للغة القصة ؛ حیث یرى أن " لغة القصة لغة نثریة لا شعریة إلا فی اللحظات الخاصة التی یقتضی فیها الشعور63، فإذا کان تصنیف سید قطب للغة فی القصة أنها لغة نثریة یشیر إلى ذلک الفصل النوعی الموروث بین أنماط الأدب العربی القدیم إلى شعر ونثر الذی تُعتبَر القصة وفقًا له من فنون النثر، فإن حدیثه عن تلک اللحظات الخاصة التی تفرض الطابع الشعری على لغة القصة ما یشیر إلى السمة الفنیة لهذه اللغة ؛ فهذا الطابع الشعری للغة لا یعنی بالضرورة توفر عنصر الإیقاع کما یعرفه الشعر وإنما یعنی ما تتضمنه اللغة من بُعد إیحائی وطابع فنی ، ویتأکد ذلک البعد الفنی للغة فی رأی سید قطب فی تصریحه بأهمیة الشعور فی التجربة الأدبیة عامة حیث یرى أن التعبیر ما هو إلا وسیلة لإبراز التجربة الشعوریة وتحلیلها 64

   کما یرى شکری عیاد أن المناقشة حول قضیة اللغة الأدبیة یجب أن تدور فی مجال آخر غیر مجال العامی والفصیح 65 ، ففی ظل التطور العام فی الواقع الکبیر تطور استخدام اللغة لم تعد إحدى اللغتین بحاجة إلى فرسان یدافعون عنها ، وأصبح الاتجاه السائد فی التعامل مع هذه الجدلیة هو اعتبار العامی والفصیح مستویین من مستویات التعبیر لا لغتین متمایزتین ص294 ، وأشار شکری عیاد إلى تغیر أبعاد قضیة اللغة الأدبیة فلم تعد قضیة  فصحى أم عامیة بل أضحت فی رأیه قضیة لغة فنیة أو لغة غیر فنیة ص298 .

   ورغم دفاع یحیی حقی المتکرر عن استخدام الفصحى لا العامیة فی حوار الروایة یتخذ موقفًا مماثلًا لموقف شکری عیاد فی رصده لأسس الخلاف النقدی حول الفصحى والعامیة فی حوار الروایة ؛ حیث یصرح أن ما یعنیه هو الدقة فی التعبیر سواء فی الفصحى أو فی العامیة 66، والدقة فی التعبیر تعنی قدرة اللغة على تصویر وبلورة التجربة الإبداعیة للکاتب فی شکل فنی ، وانطلاقًا من ذلک الموقف یقترح یحیی حقی على کاتب الروایة شرطین یتعلقان بکیفیة اختیار الألفاظ عن وعی لتحقیق هذه الدقة ، الشرط الأول أن تتعلق بهذه الألفاظ معان جزئیة واضحة محددة فی مکانها المرسوم لها ، وهذا الشرط یُشیر إلى ضرورة توفر سمة الوضوح والتلاؤم فی الألفاظ المستخدمة فی الروایة حتى تعبر عن معنى محدد واضح ، والشرط الثانی أن یُشارک هذا اللفظ فی خلق الجو الشامل للعمل الفنی ؛ أی أن للفظ فی رؤیة یحیی حقی وظیفتین :- أحدهما جزئیة خاصة بمعناه الخاص کمفردة ، والثانیة کلیة تقتضی مشارکته فی الصیاغة الکلیة للروایة مما یُشیر إلى سمته الجمالیة الإبداعیة. ویؤکد یحیی حقی أن التزام المبدع بهذین الشرطین یُضفِی على ألفاظ روایته قوة جدیدة فوق قوتها ، وبتأمل هذین الشرطین یتضح أن اللغة فی رأی یحیی حقی یجب أن تکون فنیة فی المقام الأول 67. واتجاه یحیی حقی نحو تلک الرؤیة الفنیة للغة یفسر اتجاهه لاستخدام العامیة فی أعماله الإبداعیة رغم دفاعه النظری عن اللغة الفصحى .  

   وتتضح رؤیة یحیی حقی للبعد الفنی للغة الروایة فی تحلیله لاختلاف طابع اللغة فی الروایة وفقًا لاختلاف النمط الفنی لبناء الروایة حیث یؤکد أن للروایة نمطین :- نمطًا استاتیکیًا ، ونمطًا دینامیکیًا ، واللغة وفقًا للنمط الاستاتیکی احتفظت بهیئتها واستُعملت الفصحى فی الحوار ، أما اللغة فی النمط الدینامیکی فقد انصهرت ألفاظها فی بوتقة واحدة وأصبحت الصلة بعیدة بینها وبین هیئتها فی القاموس واکتسبت شحنات وأطیافًا مجنحة منطلقة . کأن اللغة فی رأی یحیی حقی تکتسب أبعادًا فنیة أکثر جمالًا وإبداعًا وتطورًا فی النمط الدینامیکی لتصبح ذات طبیعة شعریة ، وهذه الأبعاد ساهمت فی رأی یحیی حقی فی طرح بُعد مختلف للغة فلم تعد العبرة فی نمط اللغة فصحى أم عامیة ، بل أصبحت العبرة فی شحنات اللفظ 68.

   ویُلاحظ البعد الفنی فی تناول لویس عوض للغة المستخدمة فی الروایة ؛ حیث یُشید فی  تحلیله للغة یحیی حقی فی أعماله القصصیة بطبیعة یحیی حقی وتمییزه فی صیاغة واختیار لغته ؛ تلک الطبیعة التی تنتقی من اللغة اللفظ المعبر أیًا کان نمطه ، ویؤکد لویس عوض أن یحیی حقی یمتلک حساسیة لغویة خاصة تجعله یسمع لغة الکلام فیمیز فیها الفصیح البلیغ  ، لا تمییز العالم اللغوی الذی یَرد الکلام العامی إلى أصوله العربیة بل تمییز الفنان الذی یحس بلاغة التعبیر الدارج ویهتز بجرسه الذی هو من جرس التعبیر الفصیح 69.  وفی وصف لویس عوض للفظ  ب( المعبر) ، وفی تصنیفه لنمطین من حساسیة التعامل مع اللغة : نمط تعامل العالم ونمط تعامل الفنان ، ما یدل على أن البُعد الفنی والسمة الجمالیة هو ما یهم لویس عوض فی لغة الروایة لا نمطها . ویتفق وصف لویس عوض للمنهج الفنی الذی صاغ به یحیی حقی أعماله القصصیة مع ما طرحه یحیی حقی نظریًا حول الطبیعة الفنیة المُفترضة للغة الروایة  .

  وفی تحلیل لویس عوض لروایات نجیب محفوظ ما یؤکد البُعد الفنی لرؤیته للغة ؛ حیث یصف ما اکتسبته لغة نجیب محفوظ من تطور فی السمات الفنیة فی الروایات بعد ( الثلاثیة ) ، فیرى أن لغة ( الطریق ) أشد دماثة من لغة ( السمان والخریف ) کما کانت لغة ( السمان والخریف ) أشد دماثة من لغة ( اللص والکلاب ) ولکنها لیست بالضرورة أشد شاعریة 70. لقد وصف لویس عوض لغة تلک الروایات بسمتی الدماثة والشاعریة ، والدماثة وتعنی الوضوح قد تبدو متناقضة مع ما أشیع عن الرؤیة الفکریة الفلسفیة لروایات هذه المرحلة ، ولکن جمع لویس عوض بین سمة الشاعریة إلى جانب سمة الدماثة وإن کان بنسب متفاوتة ما یشیر إلى ذلک الطابع الفلسفی لهذه الروایات ، کما أن الوضوح لا یعنی بالضرورة السطحیة ، وبساطة اللغة لا یعنی افتقادها لعمق الدلالة . 

   وفی إشارة لویس عوض لصفة الدماثة وجعلها مصاحبة للتطور الفنی لنجیب محفوظ ما یدل على أن فنیة اللغة وفقًا لرؤیته تتحدد أولًا بقدرتها على التعبیر لا فیما تحمله من طابع شعری أو جمالی فی ذاتها ، ویصف لویس عوض هذا التطور فی استخدام اللغة لدى نجیب محفوظ بأنه اتجاه لما یُسمى أسلوب العصرص145، ووصف ذلک الاتجاه بأسلوب العصر یشیر إلى تغیر وتطور فی رؤیة اللغة على المستوى الإبداعی والنقدی .

    ویظهر هذا التطور فی توضیح عبدالجبار عباس لمعیار تقییمه للغة الفنان والذی یتمثل فی     " مدى توفق الفنان فی تطویع لغته وتحمیلها کل ما یرتعش به وجدانه بحیث لا تصبح اللغة أداة للتعبیر یمکن استبدالها بأی أداة أخرى وإنما تصبح جزءًا من هذا التعبیر"  71 .

  ********************************************************

3) البعد الاجتماعی :- ومن النقاد من جمع فی رؤیته للغة بعدها الاجتماعی إلى جانب بعدها الفنی ؛ فاللغة فی رأی عبدالمحسن طه بدر " أداة توصیل " وهو ما یشیر إلى بعدها الاجتماعی إلى جانب أنها  " الوعاء الحامل لکل فکر الإنسان ووعیه المتطور وعلمه وثقافته " 72، أی أنها تحمل تاریخ الإنسان ووعیه المتطور وعلاقته بمجتمعه . ویؤکد عبدالمحسن طه بدر أن اللغة تختلف فی طبیعتها وفقًا للمجال الذی تُوظف فیه ص113. اللغة إذن فی رأی الناقد ذات طابع اجتماعی تتشکل وفقًا لطبیعة زمنها ومجالها أی أن  وجودها الاجتماعی یتحکم فی طبیعتها ودلالتها .

   وقیمة اللغة فی رأی عبدالمحسن طه بدر لیست ذاتیة بل تکمن فی قدرتها ونجاحها فی نقل جزئیات الصورة التی یُراد لها أن تنقلها ، أی أن نجاح اللغة یتوقف فی رأیه على مدى أدائها للوظیفة الموکولة إلیها ؛ لذا ینتقد عبدالمحسن طه بدر الطابع التقریری للغة فی بعض القصص والروایات التاریخیة لنجیب محفوظ لأنها تحتکم وفقًا لوصف الناقد إلى نزعة شکلیة تنظر إلى الأسلوب کغایة فی ذاته وتظن أن به بلاغة شکلیة مفصولة عن وظیفته کأداة للتوصیل ص113. أی أن البعد الاجتماعی للغة وقدرتها على التوصیل یعلو فی رأی عبدالمحسن طه بدر على البعد الإیحائی الجمالی لها ، وفنیة ونجاح اللغة فی رأیه یعود إلى أداء الوظیفة الاجتماعیة لها.

   کذلک تابع محمود أمین العالم تطور لغة نجیب محفوظ موضحًا صلة هذا التطور بتطور رؤیة الکاتب التی تعکس تطور وعیه وعلاقته بالواقع وبالمجتمع ؛ باعتبار أن اللغة ظاهرة اجتماعیة خضعت للاختلاف والتطور والتغیر وفقًا لاختلاف وتطور علاقات الواقع  .

   فقد عبر محمود أمین العالم عن انعکاس الطابع التاریخی العام فی روایات نجیب محفوظ التاریخیة على البناء اللغوی للروایات ؛ فأصبحت لغتها " لغة ذات طابع تاریخی " 73، کما وضَّح أثر تطور رؤیة نجیب محفوظ وتطور وعیه وعلاقته بالواقع على طابع ونمط اللغة المستخدم فی الروایات الاجتماعیة ، فیذکر أن ذلک الوعی أضفى على ( خان الخلیلی ) طابع التعقیل والتحلیل فیما أطلق علیه "الرصانة العقلیة والمنطقیة للسرد والحوار" ص47، وأدى إلى تطور اللغة فی روایة (بدایة ونهایة) ؛ فأصبحت أقرب إلى الحرارة وإلى التعبیر عن القسمات الخاصة لکل شخصیة والملابسات الخاصة لکل موقف خارجی أو باطنی وإن لم تتخل عن سمة الرصانة ص64.

   ویُظهر تحلیل محمود أمین العالم لغة روایات نجیب محفوظ اللغة کظاهرة لا تختلف عن أی ظاهرة اجتماعیة حیث تخضع للتطور وفقًا لتطور أبعاد علاقتها بالمجتمع وبالواقع وتنعکس فی وعی ورؤیة الکاتب ؛ ففی تحلیله ( للغة الثلاثیة ) یؤکد أنها عبرت عن طابع تاریخی وطابع اجتماعی ؛ حیث یشیع فیها حس تاریخی بالعتاقة والرصانة والوقار کما تعبر عن حیویة الواقع الاجتماعی المتشابک مع الواقع التاریخی ص81 ، وأکد استمرار الصلة بین تطور لغة نجیب محفوظ وتطور رؤیته وعلاقاته مع الواقع فی الروایات الصادرة بعد الثلاثیة ، والتی عبرت عن أبعاد أکثر رمزیة وفکریة فی وعی الکاتب بالواقع مما جعل اللغة تتطور لتصبح " لغة الحکمة والنبوءة والشعر ، لغة الترکیز والشمول والعمومیة والتجرید والإیقاع العمیق ص 108 .

   ویجمع محمود أمین العالم بین البعد الاجتماعی والبعد الفنی فی تحلیله للغة یوسف إدریس حیث یُظهر تحلیله للغة یوسف إدریس تحکم أبعاد تجربة الکاتب فی نمط اللغة المستخدم عبر روایاته وأعماله القصصیة حیث یذکر أن یوسف إدریس " استطاع أن یصوغ لأدبه القصصی الروائی لغة جدیدة لا هی بالفصحى ولا هی بالعامیة ولا هی باللغة الثالثة إنما هی اللغة الفنیة المُعبرة عن جوهر التجربة المحکمیة " 74، وبتأمل رأیه حول لغة یوسف إدریس یتضح ربطه بین تطور اللغة وتطور أبعاد علاقة الکاتب بالواقع وینعکس هذا التطور فی تطور رؤیته وتطور تجربته ؛ فالطابع الفنی الخاص الممیز للغته یعود فی تحلیل العالم إلى تجربة الکاتب مع واقعه . 

   وبتأمل تصور نقاد الروایة الواقعیة لأبعاد إشکالیة لغة الروایة یتضح أن الأوفق والأقرب إلى ماهیة الروایة بوصفها نوعًا من الإبداع هو النظر إلیها باعتبار فنیتها أیًا کان النمط المستخدم فی الحوار أو السرد وقد اثبتت التجارب الروائیة المتتالیة تقبل الروایة لتنویعات اللغة ، ونجاح الکاتب فی التعبیر بلغة فنیة یعنی بالضرورة نجاحه فی تصویر عالمه الروائی أی نجاحه فی الاتصال بالواقع .

1) أحمدالهواری  
- مصادر نقد الروایة فی الأدب الحدیث – القاهرة – دار المعارف 1983
2) أنور المعداوی
- کلمات فی الأدب –بیروت – المکتبة العصریة - 1966
- نماذج فنیة – القاهرة – مکتبة مصر – دار مصر للطباعة - لجنة النشر للجامعین – بدون تاریخ .
3) توفیق الحکیم
- ملحق لمسرحیة الورطة – القاهرة – مکتبة مصر – بدون تاریخ
4) سید قطب
- النقد الأدبی أصوله ومناهجه – بیروت – دار الفکر العربی – ط2 – 1954 .
5) شکری عیاد
- تجارب فی الأدب والنقد – القاهرة – دار الکاتب العربی – 1967
6) طه حسین
- نقد وإصلاح – القاهرة – الهیئة المصریة العامة للکتاب – ط 2014
7) عادل کامل
- مقدمة ملیم الأکبر- القاهرة - الهیئة المصریة العامة للکتاب – مکتبة الأسرة – 1994
8) عبدالمحسن طه بدر
- نجیب محفوظ الرؤیة والأداة - القاهرة – دار المعارف –  الطبعة الثالثة – بدون تاریخ .
9) غالی شکری
- الروایة العربیة فی رحلة العذاب – القاهرة – عالم الکتب –  1971
10) فاطمة موسى
- سحر الروایة – الهیئة المصریة العامة للکتاب – مکتبة الأسرة – 2000
- فی الروایة العربیة المعاصرة – الهیئة المصریة العامة للکتاب – 1997
11) لویس عوض
- دراسات فی أدبنا الحدیث  – القاهرة – دار المعرفة – ط أولى- 1961
- الثورة والأدب – القاهرة – دار الکاتب العربی – 1967
12) محمد مفید الشوباشی
- الأدب والفن فی ضوء الواقعیة – القاهرة – دار الفکر العربی  -  1957
13) محمد مندور
- معارک أدبیة – القاهرة – نهضة مصر –  2009
- کتابات محمد مندور المجهولة – جمع وتحریر سامی سلیمان - القاهرة – المجلس الأعلى للثقافة – 2009
14) ) محمد یوسف نجم
- فن القصة –  بیروت – دار بیروت للطباعة والنشر – ط 2
15) محمود أمین العالم
- تأملات فی عالم نجیب محفوظ – القاهرة – الهیئة العامة للکتاب – 2012
- أربعون عامًا من النقد التطبیقی – القاهرة – دار المستقبل العربی - 1994
16) محمود أمین العالم بالاشتراک مع عبدالعظیم أنیس
  - فی الثقافة المصریة – بیروت – دار الفکر الجدید – 1955
17) محمود تیمور
- مشکلات اللغة العربیة – القاهرة – المطبعة النموذجیة – بدون تاریخ
18) محمود عباس العقاد
- ساعات بین الکتب – القاهرة – مطبعة السعادة – مکتبة النهضة المصریة – 1950
19) نفوسة زکریا سعید
- تاریخ الدعوة إلى العامیة وآثارها فی مصر – الأسکندریة – دار نشر الثقافة – الطبعة الأولى – 1964
20) یحیی حقی
- فجر القصة المصریة – القاهرة – نهضة مصر 2008
- خطوات فی النقد – القاهرة – نهضة مصر – 2008
- عطر الأحباب – القاهرة – الهیئة المصریة العامة للکتاب – کتابات نقدیة -  1986
- دماء وطین – القاهرة - الهیئة المصریة العامة للکتاب – مکتبة الأسرة – 1997
 
21) یوسف الشارونی
- دراسات أدبیة – القاهرة – مکتبة النهضة المصریة - الألف کتاب – 1964
- نماذج من الروایة – القاهرة –  الهیئة المصریة العامة للکتاب - 1977
المراجع المترجمة
_________
1)    جان بول ساتر – ما الأدب – ترجمة محمد غنیمی هلال – القاهرة – الهیئة المصریة العامة للکتاب – مکتبة الأسرة – 2000
   الدوریات  
_________
1)    الآداب – بیروت – شهریة -  أعداد ( مایو 1953 – سبتمبر 1957 - یونیة 1960 -  یولیو 1960 - سبتمبر 1960 -  ینایر 1961 - ینایر 1967 )
2)    الأدب – القاهرة – شهریة – أعداد ( یونیو 1957- أغسطس 1957 - نوفمبر 1957 - فبرایر  1958 - فبرایر 1961
3)    الأدیب – بیروت – شهریة - عدد   أکتوبر 1956
4)    الرسالة –  القاهرة - أسبوعیة أعداد (17 دیسمبر 1945 -16 فبرایر 1953- 4یونیه 1964 )
5)    المجلة – القاهرة – شهریة – أعداد ( فبرایر 1957 - أغسطس  1963