النظرية الأدبية الحديثة والتاريخ الثقافي الأوروبي

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

جامعة القاهرة

المستخلص

يسعى هذا البحث إلى مساءلة موضوع النظرية الأدبية والنقدية الحديثة في ضوء علاقتها بتاريخ ثقافة أوروبا، کما يسعى إلى اختبار سؤال بعينه مؤدّاه: کيف أثّرت هذه العلاقة في -أو انعکست على- طبيعة الممارسات النقدية العربية؟ وبقدر من الموضوعية، يمکن القول إنه في الوقت الذي استطاعت مثل هذه الممارسات العربية أن تفرز الکثير من الإيجابيات التي حرّکت بالفعل المياه الراکدة في مدوّنة النقد العربي القديم والحديث، خصوصا في الربع الأخير من القرن العشرين، حيث نجحت في أن تقدّم قراءات نقدية من منطلقات ومنظورات معرفية غير مستهلکة، فقد أنتجت -وبالتزامن أيضا- بعض الممارسات المرتبکة أو المتعثرة التي انطوت على حالات مختلفة من سوء الفهم، سواء تمثَّل ذلک في فوضى اصطلاحية، نابعة بالأساس من عدم إدراک طبيعة المرجعيات الثقافية والسياقات التاريخية التي تشکَّلت في فضائها النظرية الغربية أولا، أو تمثَّل في غواية الجمع بين ما لا يجتمع من نظريات أو مفاهيم أو مناهج أو حقول اصطلاحية في فضاء دراسة علمية واحدة ثانيا. وکلها ظواهر سلبية تحتاج منا بالفعل إلى إعادة النظر في مباحث "نقد النقد"، کما تحتاج إلى ضرورة موضعة النظرية الأدبية والنقدية الحديثة (مع الوعي التام بالفروق الإبستمولوجية والإجرائية بينهما) في سياق مرجعياتهما الثقافية التي تنتسب إلى التاريخ الثقافي الأوروبي (أو: المرکزية الأوروبية).
إن غياب -أو تجاهل- مثل هذا النوع من أنواع الدرس النقدي والثقافي المهمّ سوف يؤدي، لا محالة، إلى تفاقم أزمة النظرية في ممارساتها العربية، وانقطاعها عن سياقات تداولها الغربي، کما سيؤدي إلى المزيد من الفوضى المعرفية التي سيکون ضحيتها -في المقام الأول والأخير- إهدار خصوصية النص الأدبي/ الثقافي العربي الذي قد يصبح حقلا بِکْرًا للمزيد من المقاربات أو المغامرات غير المنهجية التي لا تعزّزها معرفة ثقافية رصينة أو خبرة نظرية کافية.

الكلمات الرئيسية


- تمهید:

یسعى هذا البحث إلى مساءلة موضوع النظریة الأدبیة والنقدیة الحدیثة فی ضوء علاقتها بتاریخ ثقافة أوروبا، کما یسعى إلى اختبار سؤال بعینه مؤدّاه: کیف أثّرت هذه العلاقة فی -أو انعکست على- طبیعة الممارسات النقدیة العربیة؟ وبقدر من الموضوعیة، یمکن القول إنه فی الوقت الذی استطاعت مثل هذه الممارسات العربیة أن تفرز الکثیر من الإیجابیات التی حرّکت بالفعل المیاه الراکدة فی مدوّنة النقد العربی القدیم والحدیث، خصوصا فی الربع الأخیر من القرن العشرین، حیث نجحت فی أن تقدّم قراءات نقدیة من منطلقات ومنظورات معرفیة غیر مستهلکة، فقد أنتجت -وبالتزامن أیضا- بعض الممارسات المرتبکة أو المتعثرة التی انطوت على حالات مختلفة من سوء الفهم، سواء تمثَّل ذلک فی فوضى اصطلاحیة، نابعة بالأساس من عدم إدراک طبیعة المرجعیات الثقافیة والسیاقات التاریخیة التی تشکَّلت فی فضائها النظریة الغربیة أولا، أو تمثَّل فی غوایة الجمع بین ما لا یجتمع من نظریات أو مفاهیم أو مناهج أو حقول اصطلاحیة فی فضاء دراسة علمیة واحدة ثانیا. وکلها ظواهر سلبیة تحتاج منا بالفعل إلى إعادة النظر فی مباحث "نقد النقد"، کما تحتاج إلى ضرورة موضعة النظریة الأدبیة والنقدیة الحدیثة (مع الوعی التام بالفروق الإبستمولوجیة والإجرائیة بینهما) فی سیاق مرجعیاتهما الثقافیة التی تنتسب إلى التاریخ الثقافی الأوروبی (أو: المرکزیة الأوروبیة).

إن غیاب -أو تجاهل- مثل هذا النوع من أنواع الدرس النقدی والثقافی المهمّ سوف یؤدی، لا محالة، إلى تفاقم أزمة النظریة فی ممارساتها العربیة، وانقطاعها عن سیاقات تداولها الغربی، کما سیؤدی إلى المزید من الفوضى المعرفیة التی سیکون ضحیتها -فی المقام الأول والأخیر- إهدار خصوصیة النص الأدبی/ الثقافی العربی الذی قد یصبح حقلا بِکْرًا للمزید من المقاربات أو المغامرات غیر المنهجیة التی لا تعزّزها معرفة ثقافیة رصینة أو خبرة نظریة کافیة.

- وعی النظریة الأدبیة بین تاریخ الأدب والتاریخ الثقافی:

1-1

فی کتابه "تاریخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفیکتور هوکو" (1904)، یناقش الباحث والناقد والمؤرّخ المقدسی روحی یاسین الخالدی (1864- 1913) أوجه العلاقات بین التاریخ الأدبی العربی والتاریخ الأدبی الغربی، محاولا رسم حدود التشابه وحدود الاختلاف بین الثقافتین العربیة والفرنسیة تحدیدا، دون أدنى شعور بالنقصان أو التضاؤل إزاء الثقافة الغربیة فی تلک الفترة الباکرة من نهایة القرن التاسع عشر وبدایة القرن العشرین. لم یکن الخالدی -فی کتابه هذا الذی یُعدّ واحدا من المحاولات الباکرة التی أسست لعلم الأدب المقارن لاحقا، وأرهصت بضرورة انفتاح النظریة الأدبیة على مجریات العصر وشروط الواقع العالمی- مهجوسا بما دُعی لاحقا باسم "حوار الثقافات" أو "حوار الحضارات" فحسب، إنما کان متطلّعا إلى مجتمع عربی یستطیع –على حد وصف فیصل درّاج له فی مقدمة الکتاب- "أن یحاوره غیره، لأن الحوار اللامتکافئ یأتی بالنوایا الطیبة لا أکثر"[1]؛ لذا، فهذا الکتاب صغیر الحجم، کبیر الفائدة، ینبغی أن یُقرأ کوثیقة تاریخیة لها شکل أدبی، تقارن بین التقدم والتأخّر، بالمعنى التاریخی، ولا تکتفی بالإبداع المکتفی بذاته.

ولعلنا لا نجافی الواقع الأدبی أو التاریخی إذا قلنا إن کتاب الخالدی کان واحدا من المحاولات المهمة التی لفتت أنظار  اللاحقین من الباحثین والنقّاد ومؤرّخی الأدب العربی إلى ضرورة الانفتاح على ثقافة الآخر، والدخول معه فی حوارات ومناظرات فکریة وحضاریة، من موقع الندّیة والتکافؤ، أو قابلیة الفهم والتعایش، لا من موقع الدونیة أو الشعور بالنقصان أو "القابلیة للاستعمار". لذا، فلیس غریبا، ولا مستغربا أن یکون السیاق الثقافی الذی أنتج فیه الخالدی کتابه هو سیاق النهضة العربیة ذاته الذی أنتج فیه محمد المویلحی "حدیث عیسى بن هشام" (1907) وقسطاکی الحمصی (1858- 1941) "منهل الورّاد فی علم الانتقاد" (1907)، ومن بعدهما بسنوات معدودة سوف ینشر محمد حسین هیکل (1888- 1956) روایته العربیة الرائدة "زینب: مناظر وأخلاق ریفیة" (1913/ 1914)، وبعدهم ینشر طه حسین (1889- 1973) کتابه الإشکالی "فی الشعر الجاهلی" (1926)، واستمرت هذه السلسلة من حوار الحضارات، مع بعض الکتابات الفکریة اللاحقة؛ من قبیل کتاب المفکّر الجزائری مالک بن نبی (1905- 1973) "شروط النهضة" الذی صدر بالفرنسیة عام (1948) وصدرت طبعته العربیة عام (1957). ولعل الجامع المشترک بین هؤلاء جمیعا، وتحدیدا روحی الخالدی وقسطاکی الحمصی والمویلحی، ومن بعدهم طه حسین بالطبع، هو التأثّر بالفلسفة الوضعیة الفرنسیة التی وجدت أصولها لدى إمیل دورکایم Emile Durkheim  (1858- 1917) وأوجست کونت Auguste Comte (1798- 1857) وغیرهما ممن یرون فی الأدب وثیقة تاریخیة متعیّنة یمکن استقراء الواقع والمجتمع فی ضوئها [2]. فی هذا السیاق، تأتی مقارنة الخالدی بین شعر أبی العلاء المعرّی وفیکتور هوجو V. M. Hugo (1802- 1885)، فی کون کل منهما نموذجا دالًّا على ثقافة بعینها، وفلسفة خاصة، تمتاح منها رؤیته الشعریة ومرجعیته الثقافیة.

1-2

ثمة علاقات کثیرة  أشار إلیها کثیر من الباحثین والمنظّرین بین "السردی" و"التاریخی"؛ فالتاریخ -کما کان یفهمه فریدیرک چیمسون F. Jameson وجایاتری تشاکرافورتی سبیڤاک G. Ch. Spivak [3]- هو "تجربة الضرورة"، أو هو استراتیچیة أو فئة سردیة. لذلک، فإن التاریخ السیاسی لأی مجتمع من المجتمعات یمثِّل الإطار المرجعی العام للتحولات المفصلیة فی تاریخ هذا المجتمع أو ذاک، سواء على المستوى الفنّی أو العلمی أو الاجتماعی أو الاقتصادی. وتاریخ المجتمع العربی الحدیث، بصفة خاصة، مشحون بالأحداث والوقائع السیاسیة الحاسمة فی مجری تحولاته التی تمتدّ لتغطی أغلب عقود القرن العشرین، وهی وقائع وسمته بأنه تاریخ حروب وانقلابات عسکریة؛ لأن معظم بلدانه قد عانى طویلا وطأة الاستعمار وهیمنة القوى الإمبریالیة المختلفة، منذ القرن التاسع عشر، حتى بدأت حرکات التحرّر العسکری منذ النصف الثانی من القرن العشرین. لقد رصد کثیر من الدارسین والنّقاد هذه الظاهرة المتمثلة فی تبادل علاقات التأثیر والتأثر بین الأدبی والسیاسی، تطبیقًا علی مجتمعات وبلدان عربیة مختلفة[4]؛ الأمر الذی أبرز خطورة تلک العلاقة الجدلیة التی حلَّلها إدوارد سعید E. w. Said (1935- 2003) فی کتابه "الثقافة والإمبریالیة" مؤکِّدًا تلازم الروایة (أو الثقافة بالمعنی العریض الذی طرحه فی کتابه) و"الإمبریالیة" تلازما لا ینفکّ؛ فتراکم "حزمة" من المرویّات حول موضوع بعینه یمثّل"مؤسسةً أدبیة" تستأهل درسًا خاصًا یوازن بین الجمالی والاجتماعی (أو الجمالی والثقافی بصفة عامة)[5]، دون هیمنة أحد طرفی العلاقة على الآخر، ودون خضوع تام لإغراء فکرة "الانعکاس" فی الوقت ذاته، تلک الفکرة التی راجت مع رواج النظریات المارکسیة فی تعاملها مع الآداب والفنون[6]. وبما أننا نتحدث عن الأدب والتاریخ من ناحیة، وعلاقتهما بسیاقات النظریة ومرجعیاتها من ناحیة أخرى، فلابد من التأکید على طبیعة العلاقة بینهما. فإذا فهمنا السرد مثلا (وهو جنس من أجناس الأدب الکبرى) بأکثر معانیه تقلیدیة -حسبما یقول إدوارد سعید- فإنه لا یعدو أن یکون "صیغة من صیغ التاریخ"[7].

یبدأ النقد الأدبی حرکته انطلاقا من فنّ "القصة"، أما علم التاریخ فینتهی إلیها. وفی مجال التاریخ یتقدم التحلیل على القصة، أما فی ممارسة النقد فإنه سوف یتبعها. وهذا یعنی أن ما یکون بالنسبة إلى التاریخ نهایةً للنشاط المعرفی سوف یکون بالنسبة إلى النقد بدایة العملیة العقلیة. وإذا حکم النقد التاریخی على سرد زمنی بسیط، على سبیل المثال، بأنه سرد دقیق فإنه لا یُعامَل حینئذ بوصفه مجرد حکایة بل بوصفه مصدرا لمعطیات یمزجها المؤرخ بمهارة أو یعید مزجها بمعطیات أخرى فی سلسلة أو متوالیة جدیدة. وهذه العملیة من عملیات الإعادة (أو السرد أو الوصف أو أی إطار توضیحی آخر) لمزج المعطیات فی سلسلة جدیدة هی ما یصنع التاریخ [8]. وهنا ینبغی أن نفرّق بین السرد التاریخی والسرد الحکائی. فالحدث الماضوی الذی یحکیه (أو یسرده) التاریخ لا یخضع للمعایشة اللحظیة أو المعاینة الفعلیة الآنیة وإنما هو حدث تنتظم موتیفاته ومکوّناته ووحداته الصغرى والکبرى طبقا لمبدأ "التذکّر" الذی هو مبدأ استرجاعی تشتغل علیه الذاکرة الإنسانیة سواء کانت ذاکرة فردیة أو جمعیة. ومع ذلک، فکل نص تاریخی یدّعی أن ما یقوم به المؤرّخ - فی لحظة التأریخ "الآن وهنا" - هو استحضار یشبه استحضار الموتى، بحیث یکون مطابقا للحدث المعیش فی الماضی؛ الأمر الذی یَسِم خطاب التاریخ فی هذا المضمار بطابع الجزم والصدق. وعلى هذا، تقوم علاقة المؤرح بالقارئ على أساس من استراتیجیة الإقناع والتدلیل بالحجة والبرهان.

من هنا، یجب فی رأینا التمییز بین "النقد الأدبی" و"التاریخ الأدبی"، کما یقول محمد مندور مثلا؛ فالنقد فی أدقّ معانیه هو "فنّ دراسة النصوص والتمییز بین الأسالیب المختلفة، وهو روح کل دراسة أدبیة إذا صح أن الأدب هو کل المؤلفات التی تُکتب لکافة المثقفین، لتثیر لدیهم بفضل خصائص صیاغتها صورا خیالیة أو انفعالیة شعوریة أو إحساسات فنیة"[9]. ویکمن دور النقد أو وظیفته –کما یشرح مندور- فی أن یُظهر تلک الخصائص ویحلّلها. أما التاریخ الأدبی فـ"یجمع تلک المؤلفات تبعا لما بینها من وشائج فی الموضوع والصیاغة، وبفضل تسلسل تلک الصیاغات یضع تاریخ الفنون الأدبیة، وبتسلسل الأفکار والإحساسات یضع تاریخ التیارات العقلیة والأخلاقیة، وبالمشارکة فی بعض الألوان وبعض المناحی الفنیة المتشابهة فی الکتب التی من نوع أدبی واحد ومن تألیف نفوس مختلفة یضع تاریخ عصور الذوق"[10]. من ناحیة أخرى، یؤکد مندور على أسبقیة النقد الأدبی على التاریخ الأدبی عند العرب، وکذلک الأمر لدى سائر الأمم القدیمة. فلم تنشأ الدراسات التاریخیة المنظمة إلا بعد أن اجتمع لدى کل أمة تراث شعرت بالحاجة إلى مراجعته، وهکذا الحال عند الیونان الذین لم تبدأ دراسات تاریخ الأدب عندهم إلا فی عصر الإسکندریة، وعند اللاتین ابتداء من عصر الإمبراطور بعد انقضاء حکم أغسطس[11]. ولا یخفى، بالطبع، تأثّر مندور بجوستاف لانسون G. Lanson (1857- 1934) فی کتابه "منهج البحث فی تاریخ الآداب" الذی یقول فیه لانسون إن "تاریخ الأدب جزء من تاریخ الحضارة"[12]، ولم یکن لانسون یقصد بالحضارة، فی تلک الإشارة، سوى "تاریخ فرنسا الأدبی"[13]، لا أکثر ولا أقل.

1-3

لقد تنبّه، منذ الأربعینیات، کل من رینیه ویلیک Rene Wellek (1903- 1995) وأوستن وارین Austin warren (1899- 1986)، فی کتابهما المشترک "نظریة الأدب" (1949)، إلى مشکلة تاریخ الأدب، وبصفة خاصة المنهج التاریخی الذی طرحه لانسون، وأرهصا بانتهاء مرحلة من مراحل تاریخ الأدب سوف تُعدّ تقلیدیة بالنظر إلى النقد الجدید الأنجلوساکسونی والمدرسة المورفولوجیة الألمانیة والشکلانیین الروس والاتجاه البنیوی فی الدراسة الأدبیة [14]. وإذا کان موضوع تاریخ الأدب قد خضع لمثل هذا النقاش النظری المحتدم حول تاریخ الأدب الغربی فی أوروبا، فإن تاریخ الأدب العربی سوف یظل أسیر المنهج التاریخی اللانسونی منذ أوائل القرن التاسع عشر وبدایة القرن العشرین[15]. وقد تحکّم المنهج التاریخی فی أغلب دراسات تاریخ الأدب لفترات طویلة، ولم تنتبه أغلب الدراسات العربیة، آنذاک، إلى ما اعترى هذا المنهج من قصور فی الرؤیة والإدراک، أو ما طرأ علیه من تطورات مفصلیة لاحقة، حتى إن أثر التصورات النقدیة الرصینة لاستراتیجیات التحلیل الأدبی التی جاءت بها الشکلانیة الروسیة Russian Formalism، مثلا، لم تعرف طریقها إلى متن الدراسات العربیة النظریة أو التطبیقیة إلى غایة حدود منتصف السبعینیات تقریبا، حیث بدأت وضعیة تاریخ الأدب تصطبغ بصبغة إبستمولوجیة واضحة أدّت إلى بناء أسس معرفیة جدیدة فی مختلف التوجّهات التی طالت بالفعل مسار التاریخ الأدبی العربی واستراتیجیات تناوله. بید أن هذا الأساس الإبستمولوجی کان متماثلا تقریبا فی أغلب المنطلقات التی کانت تحیل دائما إلى القفزة المعرفیة الکبیرة التی أرهص بها کتاب فردینان دی سوسیر Ferdinand de Saussure  (1857- 1913) "محاضرات فی علم اللغة العام" الذی کان یُنظر إلیه باعتباره مفجّر ثورة البنیویة وما عُرِف لاحقا باسم "المناهج النصیة Textual Methods"[16]. هکذا، ظهرت البنیویة والدراسات النصیة فی فرنسا، والتوجه الفینومینولوجی (الظاهراتی) وجمالیة التلقّی ومدرسة فرانکفورت فی ألمانیا، والنقد الجدید فی أمریکا الشمالیة؛ وبذلک بزغ سؤال الأدب فی علاقته بماهیته ووظیفته وعلاقته بالمفاهیم الکلاسیکیة السابقة.

1-4

وإذا ضیّقنا من منظورنا العام، أو زاویة رؤیتنا، وأسقطنا أفکارنا ومقولاتنا على النقد الروائی بصفة خاصة (وأغلب مقولات النظریة النقدیة الحدیثة قائمة على الخطاب الروائی)، فإنه یمکن القول إن أغلب المناهج التی استُخدِمت فی تناول الراویة العربیة کانت مستمدة من الغرب، وهذا لا یقلّل أبدا من قیمة الجهود النقدیة التطبیقیة العربیة التی مارست عددا محدودا من المناهج النقدیة على الروایة العربیة فی النصف الأول من القرن العشرین (مثل: المنهج التاریخی، المنهج النفسی، المنهج الموضوعاتی، المنهج الاجتماعی)، ثم اتسعت دائرة المناهج الغربیة المستخدمة فی التناول والتطبیق العربی بصورة لافتة فی النصف الثانی من القرن ذاته، وتحدیدا أواخر السبعینیات وأوائل الثمانینیات، حتى بدایة الألفیة الجدیدة (مثل: البنیویة، الدراسات الأسلوبیة وتحلیل الخطاب وعلم العلامات/ السیمیولوجیا، نظریات القراءة والتلقّی، التفکیکیة، نقد ما بعد الاستعمار، النقد الثقافی، دراسات الجندر أو الجنوسة، ..). وبصفة عامة، فالمناهج النقدیة فی نهایة المطاف لیست إلا منتجات معرفیة ذات حمولات إبستمولوجیة وثقافیة مرتبطة بالبیئة الحضاریة والثقافیة التی نشأت فی أحضانها، ولا یمکن اجتثاثها من جذورها واستنباتها فی تربة أخرى دون وعی بشروط النشأة وملابسات الإنتاج والإطار الفلسفی الذی تولّدت تحت غطائه وامتاحت من مفاهیمه ورؤیته للعالم. وللحدیث عن النقد الروائی العربی فی هذه الحالة وضعیة خاصة، تختلف کثیرا عن وضعیة نقد الشعر العربی الذی استطاع بعض الباحثین العرب المعاصرین تطویر بعض الأدوات التحلیلیة والطرائق التفسیریة التی دمجت استراتیجیات المنجز البلاغی العربی القدیم ببعض المفاهیم الحدیثة فی نظریة الشعر[17]، وأفادوا کثیرا من المنجز النقدی الغربی، سواء عند الشکلیین الروس أو البینویین أو الأسلوبیین أو السیمیولوجیین،.. أو غیرهم، فی تطویر أجهزة قراءة القصیدة العربیة واستراتیجیات تحلیلها وتأویلها.

أما فیما یتصل بالروایة العربیة، أو السردیات العربیة، فلم یکن ثمة بُدّ لدى النقّاد والباحثین العرب المعاصرین -خصوصا فی الربع الأخیر من القرن العشرین، وبالتحدید مع ظهور مجلة "فصول" فی بدایة الثمانینیات، وانخراطها فی الواقع الثقافی العربی المتلهّف على کل جدید فی حقل (= علم) الدراسات الأدبیة والنقدیة- من متابعة التحولات المنهجیة المتسارعة فی النظریة السردیة الحدیثة (أو علم السرد Narratology)، سواء لدى أقطاب المدرسة الفرنسیة (بارت R. Barth، تودوروف T. Todorov، جینیت G. Genette، کریستیفا J. Kristeva، ریکور P. Ricoeur، .. إلخ)، جنبا إلى جنب جهود بعض النقّاد الروس البارزین، سواء الخارجین من عباءة المدرسة الشکلیة الروسیة أو من فضاء النقد الاجتماعی، وسواء کانوا قادمین مباشرة من کاتدرائیات الاتحاد السوفیتی (مثل: میخائیل باختین M. M. Bakhtin، بوریس أوسبنسکی B. Uspensky، ..) أو  من البولیفارات الباریسیة (مثل: بییر زیما P. Zima، ..)، أو غیر ذلک[18]. لذا، فإن "لجوء النقّاد العرب إلى المصادر الغربیة والخارجیة بشکل عام (بما فی ذلک الاستفادة من الأبحاث المنهجیة فی روسیا، ودول الشرق الأوربی) کان عملا طبیعیا، وهو شبیه إلى حد کبیر بلجوء الإنسان العربی إلى الأخذ بأسباب التطور الحضاری القائمة خارج بلاده فی مجال العلوم والتکنولوجیا بشکل عام"[19]. ولیس فی ذلک أدنى عیب أو استهجان. فالمناهج النقدیة منجز إنسانی یحق للجمیع استخدامه وتطویر أدواته واستراتیجیاته التحلیلیة والتأویلیة شریطة الوعی بسیاقات إنتاج المنهج والمرجعیات الثقافیة والأطر الفلسفیة والإبستمولوجیة التی تشکّل فیها. وهنا، یشیر حمید لحمدانی[20] إلى الدور الذی لعبه عبد المحسن طه بدر، على سبیل المثال، لا الحصر -خصوصا فی کتابه "تطور الروایة العربیة الحدیثة فی مصر: 1870- 1938" (الصادر فی طبعته الأولى عام 1963)- فی إمکان الجمع الواعی والمتکافئ بین الرصید النقدی العربی القدیم بما کان یتضمنه من عناصر بلاغیة وذوقیة ولغویة (أولا)، والرصید النقدی التاریخی الغربی بما فیه من إحالة إلى التاریخ والبیئة (ثانیا)، وبعض مقاییس النقد الجمالی (ثالثا). غیر أن ناقدا عربیا آخر، مثل عز الدین إسماعیل، سوف ینظر إلى هذه المقاییس بوصفها أسسا جمالیة للعملیة النقدیة بصفة عامة، سواء أکان نقدا للأدب أم للفنون الأخرى، التعبیریة منها والتشکیلیة، وکیف أن النقد العربی القدیم قد تمثّل هذه الأسس وانطلق منها فی تمییزه بین الأنواع المختلفة من الأحکام النقدیة[21].

بید أن ثمة أمرًا مهمّا لاحظه لحمدانی فی علاقة النقد الروائی العربی بالمنهج التاریخی، ألا وهو میل بعض النقّاد إلى الجمع بین طرائق أکثر من منهج، وهو ما أطلق علیه لحمدانی اسم "الترکیب"[22]، الذی یرى فیه إجراء مشروعا فی بعضا الأحیان، یستجیب إلى طبیعة الظوهر الأدبیة التی لا تقوم بنفسها، بل من خلال علاقتها بما حولها من ظواهر  جمالیة وثقافیة أخرى. ومع ذلک، یحترز لحمدانی من أن مثل هذا الوضع یُعدّ أمرا بالغ الخطورة ما لم یمتلک الناقد العربی الوعی المنهجی الکافی، أو الضامن، الذی یعصمه من فوضى الخلط بین المناهج التی تتضارب فی الأصول وتتنافر فی السیاقات والمرجعیات، وضرورة الاستناد إلى رؤیة فلسفیة وإبستمولوجیة وامتلاک أدوات بعینها فی التحلیل والممارسة، وهو أمر لا نعتقد أن النقد الروائی العربی قد حققه بشکل تام فی نهایة القرن الماضی؛ لأن إدراک الناقد العربی کان فی حالة متابعة لاهثة وملاحقة مستمرة وعنیفة للمناهج النقدیة الغربیة، ومحاولة تمثّلها، سعیا وراء الانتقال من دائرة منهجیة إلى أخرى، من النقد التاریخی إلى الشکلیة، ومن النقد الاجتماعی إلى البنیویة، ومن السیمیولوجیا إلى نظریات القراءة،.. وهلم جرّا.

1-5

لا غرو أن إفادة النقاد العرب من مناهج النقد الروائی الغربی بشکل مکثّف منذ الستینیات والسبعینیات تقریبا، وتراکم درجات هذه الإفادة من المنجز الثقافی الغربی حتى اللحظة الراهنة، مسألة مشروعة لا مجال للخوض فیها، أو التشکیک فی جدواها، نظرا لتخلّف مناهج البحث فی میدان العلوم الإنسانیة فی العالم العربی، وذلک فی مقابل التطور الحضاری والعلمی الذی امتاز به الغرب فی أغلب فترات القرن العشرین. بالطبع، ثمة أصوات نقدیة وفکریة آتیة من بعض بلدان الشرق الأوسط وجنوب آسیا وبعض الدول الإفریقیة، بزغت إلى الوجود الثقافی فی الربع الأخیر من القرن العشرین، وتحدیدًا مع تعالی موجات خطاب ما بعد الاستعمار وتیّارات النقد النسوی ودراسات الجندر Gender Studies (أو الجنوسة) والنقد الثقافی، لکنها تظل أصواتا منفردة، لم تستطع زحزحة المرکزیة الأوروبیة عن هیمنتها على السوق الثقافی العالمی؛ لأنها لم تمثّل تیّارا متناغما، وکلیّا، بحد ذاته.

فی مقابل ذلک الجنوح نحو المناهج النقدیة ونظریات العلوم الإنسانیة الوافدة من الغرب، کان -ولا یزال- ثمة تیّار ثقافی عربی مضاد لا یملّ من الدعوة إلى البحث عن نظریة نقدیة عربیة[23]، حتى إن بعض أنصاره قد جعلوا من دعوتهم تلک وسیلة لمنع کل استفادة یمکن أن تحصل من الغرب على الإطلاق. ومن حسن الحظ، أن المهتمین بالنقد الروائی العربی لم یجنحوا نحو هذا الخطاب المتطرف، المنغلق على ذاته فی أغلب الأحیان، وواصلوا مسیرتهم فی متابعة المنجز النقدی والفکری الغربی والعالمی، ومحاولة تبیئته فی الثقافة العربیة بدرجات متفاوتة ما بین النجاح تارة والإخفاق تارة أخرى. ومع ذلک، فالطرح القائل بخصوصیة النظریة النقدیة الروائیة فی العالم العربی طرح مشروع کذلک، شریطة أن یرسم أصحابه حدودا واضحة لما یسمّونه بـ"الخصوصیة النقدیة"، وشریطة تحقّق -أو "بزوغ"- بلاغة عربیة جدیدة ذات صلة وطیدة بالمنجز اللسانی والنقدی العالمی. وما لم یحدث ذلک، ستظل فکرة الدعوة إلى نظریة عربیة محض خطاب إشهاری لا یرتکن إلى واقع موضوعی بالغ التعقید والتحوّل والتسارع.

وفی رأیی، إن المسألة الحاسمة بالنسبة إلى کل ناقد للأدب أو الفن، یرید أن یُکوِّن لنفسه صورة موضوعیة وشاملة عن التیارات والاتجاهات النقدیة الراهنة، هی أن "یضبط منهجیة قادرة على اجتذاب کمیة ضخمة من الأفکار الرائجة والمنتشرة وتنظیمها وتوضیحها وتصنیفها واستعادتها وتمثلها، ثم تُستخلص منها العناصر الأساسیة المشترکة والدالة، بحیث إن المقارنة الشاملة والانتقائیة والنوعیة للأفکار الأدبیة تکون بالفعل ممکنة وکاملة"[24].  هکذا، یصف أدریان مارینو Adrian Marino (1921- 2005) ضرورة استدعاء "نقد الأفکار الأدبیة"، حیث یقول إنه فی العصر الذی تتکاثر فیه الأیدیولوجیات الأدبیة والنقدیة إلى حد مزعج فإن شکلا بعینه من "نقد الأفکار" یصبح ضرورة حتمیة؛ إذ تبرز الحاجة إلى نقد النصوص الأیدیولوجیة الأدبیة جنبا إلى جنب نقد النصوص الأدبیة فی حد ذاتها. وتتزامن هذه الضرروة الملحّة مع تزاید متاهة اللواحق (-ism) والسوابق (Post-) النقدیة الرائجة التی تدعو الباحثین المعاصرین إلى تمهید طریق جدید نحو شکل من أشکال عالمیة نقد الأفکار الذی هو -بطریقة أو بأخرى- أقرب إلى ممارسات "الأدب المقارن" بمفهومه الحدیث الواسع الذی یتجاوز فرضیة التأثیر والتأثّر المباشرین. وبناء على هذا الفهم، یتموضع نقد الأفکار إلى جوار الترکیب والبنیات الشاملة والکلیة واستراتیجیات التواتر والنمذجة، ..إلخ. ولعل الدراسات الأدبیة والنقدیة الراهنة، النظریة والتطبیقیة، تجتاز أزمة کبرى تمثلت فی تراکم عدد کبیر من الدراسات التجزیئیة، أو المجهریة، المبالغ فیها[25]، رغم أهمیتها بالطبع. وربما یتمثل تجاوز هذه الأزمة فی ازدهار أو تنامی بعض الاتجاهات النقدیة والفکریة المتجددة من قبیل انفتاح دراسات الأدب المقارن ونقد الأفکار، وأخیرا النقد الثقافی (الذی هو نقد للأنساق الثقافیة وتعریة للخطابات المضمرة قبل أن یکون نقدا للنصوص)، بما یمتلکه -أو یزعم أصحابه أنه یمتلکه- من قدرة على تمثّل التحولات الاجتماعیة والثقافیة والسیاسیة العالمیة، خصوصا بعد حرب الخلیج الثانیة أو "عاصفة الصحراء" 1991، وأحداث 11 سبتمبر 2001، وما تبعهما فی السنوات الخمس الأخیرة من حراک عربی ثوری وانتفاضات عُرِفت -مجازا، لا حقیقة- باسم "الربیع العربی"، وذلک فی سیاق إعادة الاعتبار للمناهج السیاقیة Contextual Methods التی ثارت علیها البنیویة والشکلانیة سابقا.

مما لا شک فیه أن ثمة علاقة حتمیة بین النظریة والتاریخ من جهة، وبین النظریة الأدبیة والنقدیة وتاریخ الأدب الذی هو جزء أصیل من التاریخ الثقافی العام من جهة أخرى. بید أن کثیرین هم من ینادون فی الوقت الراهن بضرورة "العودة إلى التاریخ"، لکن: أیّ تاریخ هذا الذی نعود إلیه؟ لقد کان التاریخ دائما مفهوما إشکالیا فی النظریة الثقافیة الغربیة بصفة عامة، وبالنسبة إلى بعض التیارات والمذاهب الفکریة کالمارکسیة مثلا، ثم أصبح وضعه أقل تأکیدا من أی وقت مضى، خصوصا فی أعقاب ما بعد الحداثة؛ إذ کیف یمکن کتابة ذلک التاریخ القادر على أن یتحاشى الوقوع فی أسر، أو شَرَک، المرکزیة الأوروبیة؟ وعند هذا الحد، تبدأ أطروحة روبرت یانج R. Young، التی نجحت فی أن تثیر شکوکا عدّة حول حقیقة تاریخ الغرب أو ما یطلق علیه "أساطیر بیضاء White Mythologies" (1990)[26]، حیث استطاع یانج أن یُموضِع جهود الثالوث الأبرز (إدوارد سعید، وهومی بابا H. Bhabha، وجایاتری سبیفاک) فی سیاق صیاغة استراتیجیات لاتاریخانیة للتفکیر، تهدف إلى کتابة التاریخ، وهی محاولة تعدّ جزءا من مشروع أکبر لنقض کولونیالیة التاریخ وتفکیک "الغرب". وعند هذا الطرح یلتقی یانج -حسبما یرى محسن جاسم الموسوی- مع مواجهات إعجاز أحمد الثقافیة، فی السیاق ما بعد الکولونیالی ذاته، حیث ینظر إعجاز أحمد Eijaz Ahmad إلى المشهد ما بعد الحداثی نظرة تسعى "بلا مبالاة نحو القطیعة عما یسمّیه صحبه بتاریخ المادیّات، ولهذا یبدو [أی المشهد] لأحمد مزیجا من کل شیء، کأنه یحقّق مسعى إلیوت من قبل فی وثیقته عن الاحتضار البورجوازی؛ أی الأرض الخراب"[27].

 

2- سؤال النظریة الأدبیة والنقد الثقافی:

2-1

لقد أصبح من المستقرّ فی حقل تاریخ الأفکار وفی أدبیات النظریة الثقافیة أن ظاهرة ما بعد الحداثة لامست العدید من المجالات مثل الهندسة المعماریة والفنون والآداب والفلسفة،.. وغیرها. وبطریقة ما، تدّعی ما بعد الحداثة أن العصر الحدیث قد انتهى، وأننا نعیش الآن فی عصر ما بعد الحداثة، حیث تمثّل المعلومات الآن کل شیء. وعلى سبیل المثال، یُنظر عادةً إلى ما بعد الحداثة على أنها ظاهرة غربیة، وکثیرا ما یرتبط ظهورها، فی المجال السیاسی، بأحداث مایو (أیار) 1968 فی فرنسا. وکما أسهم فیها العلماء الفرنسیون غالبا وطوّروها، ظهرت ما بعد الحداثة وانتشرت بسرعة کبیرة فی کل من الولایات المتحدة وإنجلترا، ثم اندمجت مع مجال العلاقات الدولیة فی منتصف الثمانینیات، حتى تطوّرت فی السنوات الأخیرة من القرن العشرین. ولذا، لیس من السهل وضع تعریف دقیق لما بعد الحداثة؛ إذ هناک اختلافات حادّة حول معناها، کما أن کثیرا من المنظّرین الذین ارتبطوا بنظریة ما بعد الحداثة لم یعرّفوا أنفسهم أبدا بوصفهم "ما بعد-حداثیین".

فی هذا السیاق السوسیوثقافی، یمکن فهم ما بعد الحداثة بوصفها ردَّ فعل ضد النظریات الکبرى والتفسیرات الکونیة، مثل مفهوم "التنویر Enlightenment" الذی تمّ تطویره خلال الفترة الحدیثة، لکنها تُنکر فی الوقت ذاته کلا من الحداثة وإنجاز إبستمولوجیا علمیة. هناک تشکیک موجَّه نحو السردیات الکبرى أو السردیات الماورائیة أو الشارحة metanarrative؛ أقصد إلى کونه موجَّهًا نحو أیة نظریة تؤکد أن لدیها أسسًا واضحة لجعل المعرفة مطلوبةً ومبتغاةً. ویتسق ذلک بالفعل مع المرجعیات الأولى لمنظّری الفکر ما بعد الحداثی؛ أقصد إلى فریدریک نیتشه F. Nietzsche (1844- 1900) الذی یُعدّ المصدر الأول لما بعد الحداثة بما ذهب إلیه من نفی وجود أیة حقائق مطلقة؛ إذ الحقائق کلها، من وجهة نظره، خاضعة للتأویل المرهون بالدوافع والضرورات الأساسیة. هکذا، نجد فروید S. Freud (1856- 1939)، مثله مثل مارکس K. Marx (1818- 1883) ونیتشه، یدعو إلى تفکیک المجتمع (الأوروبی) وقطع روابطه بالتراث الذی وُلِدَ مع جان جاک روسّو J. J. Rousseau (1712-1778) والثورة الفرنسیة؛ ذلک التراث الذی انتشر بواسطة القومیات التی سادت القرنین التاسع عشر والعشرین. عند بلوغ هذه النقطة تحدیدا، یصبح مثل هذا التفکیک الموجَّه لبنیة هذا المجتمع أو ذاک أساس کل فکر نقدی، یمکن أن یعود بنا إلى درس الوجود عبر الفن، فی الوقت ذاته الذی یضعنا فی قلب التراث العقلانی الأوروبی والثنائیة المسیحیة/ الدیکارتیة.

أما بالنسبة إلى ما بعد الحداثیین، فلیست هناک حقیقة کونیة ثابتة، ولا وحدة عامة للبشریة، أو هویة عمیقة تتسامى فوق الاختلافات. فالحقیقة لا تقول شیئا خارج سیاقاتها الاجتماعیة أو شروطها البیئیة المنتجة لها، بل هی جزء منها، یمکن أن یفسَّر على أنه لبنة فی مصطلح ما بعد الحداثة. وربما یسأل ما بعد الحداثیین عن: "کیف یمکن للتاریخ أن یمتلک الحقیقة فی حال إذا ما کان للحقیقة ذاتها تاریخ؟"[28]. وخیر مثال على هذا هو: کیف یفهم ما بعد الحداثیین الدول المهیمنة hegemonic states؟ فالهیمنة ذاتها لیست إلا إسقاطا لنموذج من السیادة والسیطرة التی لیست أمرا ثابتا، بل إنها تتغیر بتغیر الزمان والمکان. ولسوف یستخدم ما بعد الحداثیین الجینالوجیا (علم الحفریات) لتحلیل طبقات التاریخ. إن علم الحفریات یؤکّد طبیعة العلاقة بین المعرفة والسلطة وخطورتها، وهو أمر أقام علیه میشیل فوکو M. Foucault (1926- 1984) قطاعا کبیرا من نظریته المعرفیة، سواء فی دراسته لظاهرة الجنون والحضارة، أو أنظمة الخطاب، أو الجنس، أو غیر ذلک من ظواهر کان له فضل السبق فی اختبارها فلسفیا (نظریا) ومعملیا (تجریبیا).

کل من هذه العناصر یدعم بعضها البعض الآخر، حیث لا توجد معرفة مطلقة، فی حدّ ذاتها؛ فالمعرفة مشروطة دائما بالتاریخ والسیاسة. ومن ثمّ، تتأثَّر کل من المعرفة والسلطة بعضهما بالبعض، حیث یتم اختیار نوع من المعرفة دون آخر. على سبیل المثال، یحاول ما بعد الحداثیین فهم أو معرفة الآلیات التی تکتسب بواسطتها دولةٌ ما ذات سیادة هویّتها الخاصة. إنهم یحدّدون، فی هذا السیاق، قوتین أو عاملین یکمنان خلف ذلک البناء، کما یقفان خلف الممارسات المنظّمة داخل الدولة، وکذلک إقصاء "الآخرین". وعن طریق تفاعل هذین العاملین معا، تکتسب "أیة دولة" ما هو معروف حالیا بالنسبة إلى "مواطنٍ ما" بوصفه "هویة". وبهذا المعنى، أصبحت الأحداث "حقیقیة" بسبب الطریقة التی تُتذکَّر بها، وتُسجَّل من خلالها. ولعل سیاسات الهویة والاختلاف ودراسات التعددیة الثقافیة قد فتحت آفاقًا معرفیة جدیدة تعکس اهتماما مغایرا بـ"الثقافة"، یعتمد على تذویب الکثیر من الفوارق بین العام والخاص، بحیث تُقارب بین المحلّی والإقلیمی والدولی، إلى الدرجة التی یمکن معها القول إن "الهویة" فی المجتمعات الحدیثة "تُخلَق ولا تُوهَب"[29]، وأن الثقافة هی مجال أصیل لخلق الهویّات، حیث أصبح من الممکن رؤیة أن الکثیر من قضایا مجتمعنا الحدیث کانت فی جوهرها قضایا هویة.

إن المعرفة والحقیقة والواقع والهویة مفاهیم متغیرة وسیاقیة وجزئیة. لکنّ ما یهمّنا حقا هو: لماذا تُستدعَى بعض الأحداث دون غیرها؟ وکیف یتمّ رسم بعض الأحداث -دون غیرها- وتشکیلها أو تصدیرها على أنها "حقیقیة"؟ أو على أنها جزء من "التاریخ" (وتاریخ الأدب -هنا- جزء من التاریخ الثقافی العام)؟ إن ما هو مرکزی، أیضا، بالنسبة إلى ما بعد الحداثیین، هو کیف أصبحت "بعض" وجهات النظر "حقیقةً"؟ وکیف یتمّ تکییف المعرفة من قِبَل أجهزة السلطة؟

2-2

من هذا الإطار الفلسفی العریض والمتشابک الخیوط مع نسیج التاریخ الأوروبی الحدیث، بدأ النقد الثقافی -فی المرحلة التی أعقبت ما بعد الحداثة- یتجه نحو وظیفة "التفسیر/ التأویل"، سعیا إلى إلقاء الضوء على ما وراء النصوص؛ أی ما یتوارى خلف "الخطاب Discourse" من أنساق مضمرة وتشکیلات خطابیة مسکوت عنها. فإذا کانت نظریة الأدب تبحث بالأساس فی مسائل مفصلیة حول ماهیة الأدب وتقنیاته وقضایا النوع والأجناس والنصوص والقرّاء والمتلقّین، کما تُعنَى بعلاقات الأعمال الفنیة بالثقافة وعلاقة القضایا الثقافیة بالمجتمع والسیاسة، فإن النقد الثقافی لا ینشغل بالأدب والفن فحسب، بل إنه یدور فی مدار الثقافة ذاتها، فی نظام الأشیاء، فی المسافات البینیّة و/أو المهملة بین الجوانب الجمالیة والأنثروبولوجیة[30].

عبر هذا الفهم، یمکن النظر إلى التاریخ بوصفه نصا. وبلغة أخرى، فالتاریخ سرد والسرد تاریخ، أو هو فئة سردیة، کما سبق أن ذکرنا، بمعنى من معانی "اللاوعی السیاسی" الذی ألحَّ علیه فریدریک جیمسون کثیرا. لقد تنبّه کثیر من الباحثین إلى هذا الأمر، وصرنا نسمع عن التاریخانیة الجدیدة والمارکسیین الجدد، کما تردّد کثیرا القول إن النقد الثقافی لا موضوعَ محددا له، کما أنه لا یتمتّع بتعریف محدد أیضا. إن دراسات النقد الثقافی تنهض على تحلیل الممارسات الخطابیة التی تأتی إلینا فی شکل أبنیة أدبیة مرتبطة بمفهومی المعرفة والسلطة معا. وما یفعله النقد الثقافی، أو الناقد الثقافی بالأحرى، هو أنه یهتم بتحلیل المضمرات الدلالیة الکامنة وراء الخطاب الجمالی الظاهر. ولأن هذا الخطاب الجمالی الذی یتجلّى عبر مفهوم "المتن" أو "النص" قد صنعته "المؤسسة"[31] -بعلاقات إنتاجها المعقّدة والمختلفة- فلابد من توجّه الباحث الثقافی نحو إلقاء الضوء على علاقة المعرفة بالسلطة والمؤسسة اللتین أسهمتا فی تشکیل هذا الخطاب الجمالی أو ذاک، على نحو من الأنحاء دون غیره. ولیس "النص"، فی النقد الثقافی، سوى وسیلة لاکتشاف حیل الثقافات وألاعیبها فی تمریر أنساقها وأیدیولوجیاتها المراوغة. وهذه نقلة نوعیة فی مَهَمّة (أو وظیفة) العملیة النقدیة؛ ذلک أن الأنساق هی المراد الوقوف علیها بالتفسیر والتحلیل والتأویل، ولیست النصوص. من هنا، لن یصبح "النص"، فی ضوء مفهوم النقد الثقافی، معزولا بصفة کلیة عن علاقات إنتاجه التاریخیة وسیاقاته الاجتماعیة، ولا عن نسقه التأثیری، کما اعتادت أن تقوم بذلک الکثیر من المناهج الشکلانیة والأسلوبیة والبنیویة وغیرها؛ فمضمرات الخطاب فعل إنسانی تاریخی متأثّر بالمجتمع ومؤثّر فیه بالقدر نفسه.

یرید النقّاد الثقافیون، إذن -وهم أولئک القادمون من خلفیات ثقافیة وأیدیولوجیة مختلفة، ولا یمثّلون کتلة متجانسة بالضرورة- أن یجعلوا من مصطلح "الثقافة" مصطلحا یشیر إلى الثقافة الشعبیة Folklore، جنبا إلى جنب إشارته إلى تلک الثقافة التی ترتبط بما ندعوه "الکلاسیکیة" أو ثقافة النّخبة. ومن المحتمل أن یکتب النقاد الثقافیون عن "رحلة عبر النجوم"، بینما هم یحلّلون فی الوقت ذاته روایة "یولیسیس Ulysses" لجیمس جویس J. Joyce (1882- 1942)؛ لأنهم یریدون تحطیم الحدود الفاصلة بین المستوى العالی أو الراقی والمستوى المنخفض أو المتدنّی. أو بصیغة أخرى، إنهم یریدون تفکیک ونقض التراتب الذی یوحی به هذا التمییز بین المستویین. إنهم یریدیون أیضا أن یکشفوا عن الأسباب -السیاسیة فی بعض الأحیان- التی تجعل من منتج ما منتجًا جمالیًا أعلى قیمة من غیره.

إن کتابة ناقد ثقافی ما عن الکلاسیکیة المبجّلة ربما ترکّز على  فیلم سینمائی أو حتى مسلسل هزلی، أَو ربما تنظر إلى مثل هذه الأعمال فی ضوء بعض الأشکال الأکثر شیوعا لقراءة المادة الفنیة. فروایة من تألیف جین أوستن Jane Austen (1775- 1817) إما أن یُنظر إلیها فی ضوء الرومانسیات القوطیة، أو تُقرأ بوصفها دلیلا على: "کیف تتصرّف السیدات؟"، وذلک کانعکاس لبعض الأساطیر أو الاهتمامات الثقافیة المشترکة. کما أن قصة شهیرة ،کنا نقرؤها ونحن صغار، مثل "مغامرات هکلبری فین" The Adventures of Huckleberry Finn لمارک توین M. Twain (1835- 1910) یمکن رؤیتها على أنها انعکاس أو تشکیل للأساطیر الأمریکیة حول مفهوم "العرق"، وما یتصل بجنوح الصبیان وإهمالهم، أو بوصفها مثالا دالا على الکیفیة التی ترجع بها النصوص إلى الوراء، صاعدا فصاعدا، حتى ملامسة الحدّ المزعوم بین "الثقافة المتدنّیة" و"الثقافة الراقیة". إن واحدةً من مسرحیات شکسبیر W. Shakespeare (1564- 1616) التاریخیة، ربما بدأت بوصفها عملا شعبیا استمتع به الکثیرون من أبناء الطبقات العاملة، قد تصبح لاحقا -کما أشار بعض النقاد الثقافیین- "عملا مسرحیا مثقفا"، یتمتع به فحسب أصحاب الامتیازات النخبویة والفئة المتعلّمة[32].

باختصار، یمیل النقّاد الثقافیون إلى مقاومة المعیار الأدبی ذاته من خلال مناقشة فکرة "المعیار" فی حد ذاتها مناقشة جدلیة؛ إذ إنه لیس معنیا بلائحة شرف الکتب العظیمة Master Pieces فی سلسلة تاریخ الأدب الخاصة بکل أمة أو ثقافة. یرید النقّاد الثقافیون إبعادنا عن التفکیر فی بعض الأعمال بوصفها "أفضل" ما أنتجته الثقافة المعطاة؛ لأنهم یسعون إلى أن یکونوا أکثر میلا إلى التوصیف وأقل میلا إلى التقییم النقدی، أکثر اهتماما بکل ما یتصل بالعمل الأدبی من سیاقات تاریخیة واجتماعیة وثقافیة من الاهتمام بعملیة تقییم المنتج الثقافی ذاته أو الأحداث الثقافیة ذاتها من زاویة المعاییر الفنیة والجمالیة. وهنا، یتقاطع النقد الثقافی مع الدراسات الثقافیة التی ترى أننا نعیش، فی نهایة المطاف، فی عالم تسیطر علیه الرأسمالیة المتعددة و/أو المتعدّیة الجنسیات، وسوف نستمر فی ذلک المستقبل المنظور "تشاؤم الذکاء- تفاؤل العزیمة"، کما قال أنطونیو جرامشی A. Gramsci (1891- 1937)[33].

 

3- المرجعیّة الثقافیّة للنظریّة:

3-1                                                                                

         الثقافة هی العنصر الذی نتعایش معه دائما باعتبارنا موضوعات، کما أنها هی ما یحدد الإطار العام الذی یضمّ کلا من الممارسات والعادات والتقالید والصور والتمثیلات الخاصة بأی مجتمع؛ ذلک لأن الثقافة هی "موقع القیم. ودراستها تُظهر لنا کیف أن القیم تتغیر من مجتمع إلى آخر، ومن لحظة تاریخیة إلى أخرى. لکن الثقافة لیست شیئا مجردا، بل على العکس من ذلک، إنها شیء یتجسد قی کل ما هو نصیّ، کما یتجسد فی اللوحات الفنیة وأعمال النحت والأثاث والموضة وبطاقات المواصلات العامة وقوائم التسوق"[34]. أما النقد الثقافی فهو ما یساعدنا على نزع الألفة عن کل ما هو معتاد مألوف، بل إنه یعزل الدلالات والمعانی المألوفة المتواترة من أجل المزید من التأمل والتحلیل الطازج. فی هذا السیاق، یمکن أن نفهم ماهیة "النقد الثقافی" الذی یدفع هذا الناقد أو ذاک الباحث إلى امتلاک آلیة مغایرة فی التفکیر، تقوم بالأساس على عملیة "نزع الألفة" حتى عندما نتناول أدبیات النظریة ذاتها.

        لیست مرجعیات النقد الأدبی إلا مرتکزات یبنی علیها الناقد أفکاره وآراءه النقدیة، کما تُعد المرجعیات الثقافیة للنقد الأدبی بمثابة "الخلفیات المعرفیة والمنابع الفلسفیة التی یصدر عنها النقاد العرب المعاصرون فی خطاباتهم النقدیة؛ فلا یمکن لأی باحث أو ناقد أن ینطلق من العدم أو الفراغ؛ بل لا بد من تراکم معرفی وأصول فکریة یستند إلیها"[35]، حیث یصدر أحکامه وآراءه بناء علیها. هکذا، یذکر بعض الباحثین ثلاثة أنواع مختلفة للمرجعیات التی یتخذها النقاد غالبًا فی تعاملهم مع النصوص الأدبیة، ویمکن أن تنحصر فی: المرجعیّات المنقطعة عن التراث والمتجهة صوب الحداثة أولا، والمرجعیات المتقوقعة حول التراث ثانیا، والمرجعیّات الانتقائیة ثالثا[36]:      وتتضح جلیًا قیمة المرجعیة فی فهم المصطلح النقدی، إذا ما قورنت بمشکلة غیابها عند التداول فی النقد العربی الذی "یستخدم المصطلح الغربی فی نصوصه، من دون أن یحدد مدلوله فی بنیة اللغة والثقافة العربیة. وعدم تحدید المدلول یعنی أن نص البحث أو الدراسة غیر مکتمل من الناحیة النظریة، ویعنی ثانیًا طبع بعض عناصره بطابع الغموض، ویعنی أخیرًا أن الناقد أو الباحث قد استخدمه فی نصه استخدامًا شکلیًا، فتعامل معه بأسالیب عشوائیة"[37]؛ أی من دون إدراک أبعاد المصطلح وسیاقاته التداولیة. فغیاب المرجع یؤدی إلى غیاب أسانید المصطلح؛ ومن ثمّ التعاطی مع المصطلحات تعاطیًا رمزیًا مجرّدًا، یفتقر إلى أسانید الخطاب الثقافی والمعرفی. ویمکننا أن نضرب مثالا على ذلک بمصطلحین محوریین فی نظریة الأدب کثیرا ما دار حولهما نقاش وجدل کبیر سواء فی الثقافة الغربیة أو العربیة؛ هما "الشعریة Poetics" و"التناص Intertextuality".

         یختلف التعامل مع المرجعیات الثقافیّة للمصطلح النقدی الحدیث تمامًا عن المصطلح القدیم؛ لکون السیاقات الثقافیة وبیئات الإنتاج لم تعد ملکًا للثقافة العربیة وحدها، کما کان الأمر فی القرنین الثالث والرابع الهجریین، حسبما یذکر محمد مندور فی مقدمة کتابه "النقد المنهجی عند العرب"[38]. کما أن الحقول المعرفیة التی تتغذّى علیها المصطلحات وتکتسب منها ثراءها المفاهیمی لم تعد مقتصرة على نواتج الثقافة العربیة الأصیلة، بل أصبحت "مُغرَّبة"، ومتأثرة بالمرکزیة الأوروبیة التی سیطرت على الساحة النقدیة، وأسهمت فی توجیه النقد العربی نحوها (طوعًا أو کرهًا)؛ لتکون مرجعیته الوحیدة التی یستمد منها مفاهیمه وأدواته النقدیة ویسلم بها کما هی، أو یطورها ویضفی علیها صبغة ذاتیة. لذا، لم یکن ثمة سبیل أمام الناقد العربی فی خضم الانفتاح الثقافی على الآخر الغربی إلا أن یُسلّم بأن الأدوات النقدیة التی یستند إلیها غربیة بحتة، وأن یتوقف سریعًا عن البحث فی تراثه القدیم عن مقابل اصطلاحی أو مفهومی لکل ما یَعِنّ له من مستحدثات النظریة الأدبیة والنقدیة، حتى یحافظ على الخصائص المرحلیة للنقد الأدبی بکل جوانبه.

       تمثّل الخلفیات التأسیسیة للمناهج النقدیة الغربیة المرجعیة الکبرى لتداول المصطلح النقدی العربی الحدیث، المنتقل -عبر وسائط مختلفة؛ کالترجمة والتعریب- من دائرة التلقّی النظری إلى دائرة التوظیف أو التطبیق أو الممارسة العربیة. ومن دون العودة إلى تلک الجذور، سیبقى فهمنا للمصطلح النقدی فهما ظاهریًا بعیدًا عن العمق والدقة الناتجین عن عدم الإلمام بالمرجعیات التی قامت علیها المناهج. وهنا، تجدر الإشارة إلى أن المرجعیات الثقافیة للمناهج النقدیة تتساوى فی أحد معانیها مع الأسس الإبستمولوجیة[39]، وهی منظومة متکاملة، تتکاتف فیها ثلاثة مقومات أساسیة، تُشکل فی تضافرها قاعدةً تنطلق منها المناهج، وتتحدد تلک المقومات فی الأسس التاریخیة التی حفَّت بظروف النشأة، والأسس الفلسفیة التی أسست لظهور الفکرة، والأسس اللسانیة التی أضفت الصبغة العلمیة علیها، وأسهمت فی الضبط المنهجی. وتلک المرجعیات عوامل أولیة تحیل إلى ثقافة المنشأ (الأوروبی)، وتشترک فیها جمیع المناهج النقدیة، وتسهم أیضًا فی نشأة المصطلح. فکل منهج أو تیّار من المناهج أو التیّارات النقدیة له مرجعیة ذات بعد تاریخی تتبلور خلالها المفاهیم والمصطلحات التی تُعَدّ شکلاً  "من أشکال انعکاس العالم فی العقل، یمکن به معرفة الظواهر والعملیات (...) التی تتحدد من خلال معرفة متطورة تاریخیًا، ویساعد تاریخ الممارسة على تعمیق وإغناء المفهوم"[40]. وهو الأمر الذی یعنی أن المفاهیم تتأثر بتغیّر الحیثیات والأحداث التاریخیة والاجتماعیة التی ترافق نشأتها، کما أننا لا نستطیع أن نستثنی وجود علاقة متوترة غالبا بین النقد والأیدیولوجیا، فالناقد الأدبی الذی یتعامل مع النصوص لا بد له من أن یکون له موقف فلسفی فنی؛ بمعنى أن الناقد یمتلک رؤیة محددة للواقع الاجتماعی تتبدَّى من خلال موقفه وآلیة تعامله مع النصوص الفنیة، فـ"إیمان الناقد بمفهوم محدد للأدب یأتی امتدادًا للواقع الاجتماعی"[41].

        إذن، المرجعیات الثقافیة هی نتاج جمع بین منهج فلسفی، هو طریقة فی التفکیر بالأساس، وتضافر مجموعة من المقومات الاجتماعیة والتاریخیة مع هذا المنهج. ولا یشترط أن تؤخذ أفکار هذا المذهب الفلسفی أو ذاک بحذافیرها، بل إنها تملک من المرونة ما یجعلها قابلة للتمدّد -والهجرة من بلد إلى آخر، کما کان یتحدث إدوارد سعید عن "هجرة النظریة"- حتى تستوعب الأفکار الطارئة على المجتمع، کما أنها تتقبّل الرؤى الخاصة النابعة من فُرَادة هذا الناقد أو ذاک، والمشفوعة بفهمه الخاص لتلک الأسس. إن الآلیات أو الطرائق التی تتکون خلالها المرجعیات الثقافیة للمناهج النقدیة هی سبب اتخاذ المفاهیم صورا متعددة باختلاف المناهج التی تتعامل معها. فالمصطلح النقدی مثلا شدید الصلة بالمنهج النقدی، وکل أفکار المنهج وفلسفاته تصبّ فی المصطلحات التی تغدو آلیات وطرائق منهجیة فی برنامج القراءة والتحلیل. وما یجعل المصطلحات النقدیة الوافدة إلینا، سواء عبر الترجمة أو التعریب، تنحرف عن مسارها، أو یعتریها التشوه، هو عدم إدراک بعض النقّاد/ الممارِسین أن المصطلح "یحمل جینات الثقافة المُرسِلة من خلال النظریة أو المنهج الذی وُلِدَ فی رحمه، وتخلّق بمکوّناته. والنظریة تعبّر فی نهایة المطاف عن رؤیة کبرى للعالم تصوغها المعتقدات والمؤثرات البیئیة والعوامل التاریخیة"[42]. وفی هذه الحالة، یهاجر المصطلح مسلوبًا من محمولاته، مُجْتَثًّا من جذوره وبیئته الحاضنة له، فیُضفی علیه ناقله -فی هذه الثقافة أو تلک- مفهومه الخاص، أو یبحث له فی التراث العربی عما یناسبه من المفاهیم؛ الأمر الذی یؤدی إلى تجرّد المصطلح من رؤیته الأولى التی کان یحملها، أو تغیّر وجهته وانطباعه بفکر الناقد الذی نقله مفرغا من محتواه.

لیست مرجعیة المصطلح، فی هذه الوضعیة، بعیدة عن مرجعیات النظریة ذاتها التی تقوم مقام الهویة الثقافیة أو الفکریة بالنسبة إلیه[43]. فالهویة الثقافیة حدث تاریخی وفعل تأمّلی یتخذ من التاریخ هدفا له، فی عملیة جدلیة لا تتوقف أو تنعزل فی الزمان أو المکان، تمثّل نسق النظریة/ نسق المعرفة[44]. أما العلاقة بین المصطلح والنظریة فهی أقرب إلى علاقة النّسَب. ومهما تحدث البعض عن  نسبیّة "الهویة"، أو کونها غیر خالصة الانتماء إلى مکان بعینه أو ثقافة بذاتها -خصوصا ونحن نحیا فی فضاء کونیّ متعدد الهویات والإثنیات- فإننا لا نستطیع فی نهایة المطاف أن نتخیّل الغیاب -أو التغییب- التام للمرجعیات، بغضّ النظر عن نوعها. فعلاقة النظریة، أو المنهج، بالمعطیات الثقافیة أو الحضاریة عموما مسألة بالغة الأهمیة إلى الدرجة التی استوقفت معها عددا کبیرا من النقاد والباحثین والمفکّرین من العرب والغربیین على السواء، رغم تفاوت منطلقات کل فریق من الفریقین[45]. فمن الغربیین، استثار الموضوع عددا من الباحثین المهمّین من أمثال خوسیه أورتیجا إی جاسیه J. O. y. Gasset (1883- 1953) وجورج شتاینر G. Steiner وجیوفری هارتمان G. Hartmann (1929- 2016) وفریدریک جیمسون وجوناثان کلر J. Culler، .. وآخرین. أما من العرب، فقد استنفر کلا من إحسان عباس وشکری عیاد وعبد العزیز حمودة وجابر عصفور ومحمد برادة، .. وآخرین أیضا. فضلا عن ناقد آخر یقف موقفا بینیّا (بَرزخیّا) على الحافة الفاصلة بین الثقافتین الغربیة والعربیة هو إدوارد سعید. ومن هذا المنطلق ذاته، یناقش جابر عصفور، على سبیل المثال لا الحصر، علاقة النقد الأدبی بالهویة الثقافیة، حیث یطرح سؤالا إشکالیا یتمثل فی سبب غیاب نظریة نقدیة عربیة إلى الآن[46]. ثم تراه یُرجِع السبب وراء إلحاح مثل هذا السؤال على العقل العربی المعاصر، وطرحه فی سیاقات ودوائر عدّة، وتردّده فی الأوساط الثقافیة العربیة الراهنة، إلى شعور أبناء الهویة العربیة بأزمة التبعیة، وانطلاق السؤال من موقف الضعف لا القوة، الاتّباع المضمَر لا الابتداع المعلَن أو المستقلّ[47].

لکنّ ناقدا آخر هو عبد العزیز حمودة سوف ینتصر للفکرة المضادة القائلة بإمکان، بل بوجود، نظریة نقدیة عربیة، منحازا إلى فریق کبیر من الباحثین السابقین علیه فی هذا المنزع، حیث یقول حمودة:

"هل طوَّر العقل العربی نظریة للأدب؟ أعتقد أن الصفحات التمهیدیة السابقة تکفلت بالإجابة بالإیجاب عن تساؤلنا المبدئی. لقد طور العقل العربی، فی العصر الذهبی للبلاغة، نظریة للأدب، جمعت بین التنظیر الأصیل والتأثر الصحّی بفکر الآخر والتطبیق على نصوص أدبیة کانت دائما نقطة انطلاق التنظیر من ناحیة، ثم نقطة العودة للتطبیقات الفردیة من ناحیة ثانیة. فما أرکان هذه النظریة؟"[48].

ثم یسرد عبد العزیز حمودة أرکان هذه النظریة مُحصیا إیاها فی ستة عناصر؛ هی: الأدب بین المحاکاة والإبداع، الإبداع باللغة، الصدق والکذب، السرقات الأدبیة/ التناص، الموهبة والتقالید، الشکل والمضمون[49]. أی أن أرکان النظریة الأدبیة العربیة التی استنبطها حمودة من متن الثقافة العربیة القدیم تتمثل فی ماهیة الأدب (أو الشعریة)، الأداة، التخییل، التناص، المحاکاة، الشکل والمضمون. ولا یبدو لنا الاختلاف بین خطابی عبد العزیز حمودة وجابر عصفور، فیما یتصل بمسألة الموقف من النظریة النقدیة العربیة، إلا اختلافا فی المرجعیة الثقافیة التی یتکئ علیها کل منهما. ففی الوقت الذی بدأ فیه عصفور مسیرته العلمیة باحثا فی التراث البلاغی والنقدی العربی فقد کان حداثی المنزع، فی حین بدأ حمودة رحلته الفکریة أستاذا للأدب الإنجلیزی والمسرح الغربی، لکنه انتهى تراثی النزعة، منافحا عن خصوصیة النظریة النقدیة العربیة. وهذا مجرد توصیف یحتاج إلى فحص أکثر هدوءا واستقصاء.

 

3-2 مرجعیات میخائیل باختین:

تتصل شبکة المفاهیم المرکزیة لدى باختین (1895- 1975) -مثل «الکرنفال» و«الحواریة»- اتصالاً وثیقا ولافتا للنظر بما سیطرحه، لاحقا، کل من چاک دریدا J. Derrida (1930- 2004) وإدوارد سعید عن فکرتی «استواء الأضداد» ambivalence و«القراءة الطِّباقیة» Contrapuntal Reading على الترتیب، فضلا عن أصداء أخرى للفکر الباختینی، تحیل إلى توغّله الجذری فی توجّهات ما بعد الحداثیین وما بعد الکولونیالیین على السواء. إن أحد التحولات النقدیة المهمة التی أحدثها الفکر الباختینی هو تحوله عن مفهوم اللغة Langue  بمرجعیته البنیویة التی طرحها الفرنسیون خاصة، من حیث هی نسق منغلق على نفسه من العلامات والإشارات، دون اعتداد بالذّات المرسِلة أو المستقبِلة، مستبدلاً به مفهوم «الخطاب» الذی یُعنَى باللغة من حیث هی «منطوق» أو «تلفّظ Utterance» اجتماعی حیّ، یتضمن ذواتًا متحدثة وکاتبة، ویتضمّن ــ من ثمّ ــ قرّاء ومستمعین، فی سیاقات اجتماعیة وثقافیة بعینها [50].

لقد خلق مثل هذا الفهم بالنسبة إلى اللغة وعلم عبر اللسان فهمًا مختلفًا تمامًا بالنسبة إلى"الشعریة" أو "الأدبیة" poetic التی ألحّ علیها الشکلیّون (وهو ما اعتمد علیه فیما بعد کل من جاری سول مورسون G. S. Morson  وکاریل إیمرسون C. Emerson فی صیاغتهما مصطلح «النثری» أو «النثریّة  Prosaics» أو «البروزیقا» فی مقابل اصطلاح «الشعریة» أو «الأدبیة» أو «البویطیقا Poetics»: أی تعیین ماهیة النثریّ فی الروایة بوصفه مقابلاً - ولیس مضادًا- للشعری فی الشعر)[51]. فلم یعد مفهوم الشعریة منصبًّا على «النص» من حیث هو فضاء منغلق على ذاته ومحدد سلفًا فحسب، بل انسحب بالقدر نفسه على «ما وراء النص»؛ وبذلک تصبح الأدبیة خاصّة نوعیة للأدب، لا بوصفه نصًّا، بل تتصل بماهیة الأدب من حیث هو «خطاب» منفتح الحدود والآفاق، أو «تلفّظ» اجتماعی وثقافی حیّ یحوی «آخرین» قارّین بداخله دائمًا، ویحتفی بالمعیش الاجتماعی قدر احتفائه باللغوی والنصّی. بهذا المعنى، یصبح باختین ناقدًا "ما بعد شکلانی"  بمعنى ما، حین یتجاوز ذلک الفهم الشکلانی الضیق للنصّ، أو هو أقرب إلى الناقد الثقافی الذی یدرک أهمیة السیاق الثقافی لمبدعی النصوص الفنیة[52]؛ لأن مبدعی النصوص الفنیة، سواء أدرکوا ذلک أم لا، یتأثّرون بالوسط الاجتماعی الذی یعیشون فیه، کما یتأثرون بالنصوص والأعمال الإبداعیة والفنیة الأخرى التی توجد بالفعل، والتی تلقی بصیصًا من الضوء أو تقدم إطارا مرجعیا للسیاق الذی تشکّلت فیه هذه النصوص. لذا، فلیس مستغربا أن یکون موضوع الشعریة، کما کان یفهمه باختین، لیس «النصّ»، وإنما هو «جامع النص» إذا استخدمنا مصطلح جیرار جینیت[53]؛ أی مجموع الخصائص العامة أو المتعالیة التی ینتمی إلیها کل نص.

هکذا، یصبح انتقال باختین من «اللغویات» إلى «عبر اللغویّات»، ومن ضیق «النصّ» إلى رحابة «الخطاب»، أشبه بما اجتمع علیه لاحقًا الاتجاهان ما بعد الحداثی وما بعد الکولونیالی، حین اهتمّا معًا بـ«الجوانب المرجأة والمتشظیة من الدلالة»، وهی جوانب لا تکمن فحسب فیما هو «نصّی»، بل یندرج أغلبها فی فضاء «الخطاب». فضلاً عن ذلک، فإن هذا الطرح الباختینی لــ"اللغة بوصفها مجتمعًا متغایر الخواصّ»، أمر یتضمّن استشراف هذا الفهم لما صاغه فیما بعد النقّاد ما بعد الکولونیالیین أیضًا الذین تعاملوا مع آداب تتسم بالتهجین؛ لأنها آداب أنتجتها ثقافات وهویّات مزدوجة غالبًا. فباختین الناقد والمنظِّر الروسی الأشهر فی القرن العشرین لم یکن ناقدا أدبیا فقط، بقدر ما کان مؤرّخا أدبیا من طراز فرید استطاع تغییر نظرة الکثیر من الفرنسیین والروس لماهیة الأدب ودوره فی النهضة الأوروبیة بصفة عامة.

من وجهة نظر باختینیة على الأقل، لم یکن الکاتب الفرنسی الشهیر فرانسوا رابلیه F. Rabelais (1495-1553م) مجرد کاتب عادی، بل ثمة تقاطع بین عالمی رابلیه وباختین نفسه، رغم اختلاف السیاقین اللذین أثّرا فی صیاغة رؤیة کل منهما للعالم والفنّ والإنسان. کان رابلیه، فی «بنتاجرویل وجارجنتوا Pantagruel and Gargantua»، کاتبًا یعرف جیدًا، وبحذق، کیف یرسم شخصیاته من رجال الأعمال وأصحاب الحِرَف الذین کان یلقاهم فی حدیقة «تراکو»، کان یتحدث بلهجتهم ویحلّل عواطفهم ویفهم أفکارهم··· إلخ. وحین سافر رابلیه إلى أقطار أوروبیة کثیرة، وأُتیحت له فرصة ملاحظة الناس والأمراء فی السلم والحرب، ما بین فرنسا وإسبانیا ومقاطعات شمال إیطالیا وترکیا وفیینّا وألمانیا، وأجواء الحرب کانت تحجب الأفق آنذاک، والأمور تجری فی دوّامة مستمرة من الجنون وسفک الدماء- قرّر مواجهة صخب العالم وعنفه وضجیجه بالضحک، لا الغضب، کما فعل فی «بنتاجرویل»؛ ذلک لأن الضحک یُلغی المسافة الملحمیة، بالقدر الذی یلغی کل مسافة تراتبیة تدفع إلى التفرّد الزّائف المتکئ على بعض القیم الشکلانیة. وربما کان ذلک هو السبب أیضًا وراء احتفاء باختین بالضحک وتاریخه فی کتابه عن «رابلیه وعالمه"، فضلاً عن اهتمامه الأثیر بتحلیل لغة «الساحات الشعبیة Marketaplace»، وأشکال «الاحتفال الشعبی Popular-Festive»، و«الصورة الجروتسکیة (أو المسخیّة) للجسد  Grotesque Image of The Body»، وغیر ذلک من مظاهر ثقافیة، رسمیة کانت أو شعبیة[54].

لقد کان أفق هذه الثقافة الکرنفالیة أفقًا واسعًا جدًا فی عصر النهضة والعصور الوسطى التی افترضت نغمة رسمیة، جادّة وصارمة، للثقافة الإقطاعیة (الأوروبیة) السائدة آنذاک[55]. وبغض النظر عن اختلافات هذه الأنماط الکرنفالیة، التی تمزج الشعائر الرسمیة بالهزلیة، والمهرّجین بالأغبیاء، والکثیر من أشکال المفارقة Parody، فجمیعها أشکال ذات أسلوب خاص؛ لأنها تنتمی إلى ثقافة ضحک کرنفالی واحدة. ولیس الکرنفال، بالنسبة إلى باختین، مجرد حدث احتجاجی تظاهری ضد إقطاعیی أوروبا أو غیرهم، یقف فی مواجهة صلف الثقافة الرسمیة السائدة فحسب، بل هو ثقافة فرعیة نقدیة -أو نقضیة- أشبه بثقافات التخوم Boundaries التی أشار إلیها هومی بابا، ثقافة ذات صوت مغایر تمامًا للسلطة، لا یعبّر عن طبقة أو شریحة بعینها، بل یحمل رؤیة جمعیة شدیدة الخصوصیة للعالم، تمتاح من منظور نقدی تمثیلی تشکّک طقوسه وأنشطته فی سلطة الأخلاق السائدة والمعاییر المتّبعة التی تُقدَّم فی سیاق محکوم بقانون خارجی، کاریکاتوری وهزلی[56]. إن قیمة الکرنفال تکمن فی إرسائه ازدواجیة القیم؛ أی الجمع بین قیمتین متعارضتین فی آن، وهو فهم یقترب کثیرًا مما أشار إلیه دریدا، لاحقا، تحت مسمّى "اجتماع الضِّدَّین"، وکأنَّ باختین یحیلنا ضمنًا إلى تناقضات الحیاة التی کان یعیشها مرتحلاً بین المنافی، حاملاً فی ذاکرته ومخیّلته صورة «الوطن».

الکرنفال، إذن، ظاهرة فی الحیاة المعیشة قبل أن یصبح ثیمة من ثیمات النص الأدبی، کما هو الأمر لدى رابلیه أو دوستویفسکی، أو مادة للدراسة والتحلیل کما فعل باختین. إن باختین یقدّم فی نصوصه العریضة قائمة متشعبة من المفاهیم والأفکار المتناثرة فی زوایا مدوّنته العریضة: کالکرنفال، المبدأ الحواری، تعدد الأصوات، و«الثقافة» بمفهومها الواسع (رسمیة وشعبیة، جدّیة وهزلیة، کتابیة وشفاهیة،..). لکنّه یحلّل صورًا (أو ثیمات) متواترة فی نصوص مدوّنة وشفاهیة. وهو إذ یفعل ذلک أشبه بمحلّل نفسی، أو محلّل اجتماعی، أو أنثروبولوچی، جنبًا إلى جنب کونه محلِّلاً أدبیًا ماهرًا یُعنَى بالصور والثیمات وتحولاتها من أدیب إلى آخر، ومن سیاقٍ ثقافی واجتماعی إلى آخر، مستعینًا بحسّه المرهف تجاه الذات الجمعیة التی کانت تخلقها النصوص، فی ثقافة أوروبا القرن الثامن عشر، حیث أمست «ثقافة الضحک»، و«المهرجان» أو الکرنفال، و«المفارقة»، و«لغة الساحات الشعبیة» محدّداتٍ أساسیة لقراءة أی نص إبداعی ینتسب إلى تلک الحقبة الباکرة من تاریخ أوروبا.

باختصار، تحیل المرجعیة الثقافیة الباختینیة إلى کونه قد عانى طیلة حیاته من التهمیش، والترحال الدائم بین المنافِی، من موسکو إلى جزر سولوفتسکی فی الشمال السوفیتی، وقزخستان، وسارانسک، بحثًا عن الوطن المفقود، کما عانت کتاباته من الوضع نفسه حتى نهایة الخمسینیات من القرن العشرین، کما یقول تودوروف[57]. وهو، فی مثل هذه الوضعیة، شبیه بإدوارد سعید وفرانز فانون، وربما آخرین.

 

3-3 مرجعیات إدوارد سعید:  

فی العَقد الأخیر من القرن العشرین، ذاع مفهوم "النقد الثقافی" أو "الدراسات الثقافیة" التی کان لإدوارد سعید فیها إسهامات شتى، بحیث تجاوبت أفکاره وأفکار نقّاد ومفکّرین آخرین مخضرمین ظهر بعضهم قبل البنیویة وبرز بعضهم الآخر بعدها، من أمثال میخائیل باختین، ورولان وبارت، وتزفیتان تودوروف، وبول دی مان P. de Man (1919- 1983)، وأمبرتو إیکو U. Eco (1932- 2016)، وفریدریک جیمسون،.. وغیرهم. وکما ذکرنا سابقا، تنهض المقولة الأساسیة للنقد الثقافی على ما یسمَّى نظریة "الأنساق المضمرة"، التی هی أنساق ثقافیة تاریخیة تتکون عبر البنیة الثقافیة والحضاریة لأی مجتمع، حیث تتقن الأنساق استراتیجیة الاختفاء أو التواری تحت عباءة النصوص، ویکون لها دور فاعل فی توجیه عقلیة الثقافة وذائقتها ورسم مسیرتها الذهنیة والجمالیة. وبناء على هذا الفهم، فالنقد الثقافی مشروع فی نقد الأنساق، فی المقام الأول. وهنا یکمن أحد التحولات الجذریة التی یفترق فیها النقد الثقافی عن النقد الأدبی، على اعتبار أن النقد الأدبی یُعْنَى بنقد النصوص، الذی هو بحث فی الجمالیات والمجاز والأسلوب. لذلک، سوف یصبح مفهوم "المجاز الکلّی"، من حیث هو مجاز یتحرک على محوری الترکیب والدلالة معا، بدیلا عن "المجاز البلاغی"، کما یقول عبد الغذامی[58].

لقد تمّ استعارة مفهوم "موت المؤلف" الذی أذاعه رولان بارت من أجل إحیاء النص وتأکید فاعلیة القارئ فی إنتاج الدلالة - ومن حیث هو علامة على الانتقال الجذری من النقد التاریخی والنفسی والاجتماعی إلى النقد البنیوی أو النقد النصّی بصفة عامة - لیتمّ توظیف مقولة مقابلة لها تماما، تمتاح من طاقة الجملة الأولى وشعبیتها، هی "موت النقد الأدبی". وهی مقولة أثارت اعتراض الکثیرین من الباحثین ونقّاد الأدب المعاصرین، فی الوقت الذی لاقت تردیدا ودعما من قبل آخرین رأوا أن النقد الثقافی سوف یکون البدیل الجاهز، مستقبلا، لیحل محل النقد الأدبی؛ لأن الأخیر -النقد الأدبی- قد بلغ مستوى مرتفعا من التشبّع النظری والإجرائی لن یعود معه قادرا على تقدیم بدیل ثقافی فعَّال، خصوصا فی سیاق الثقافة البشریة المعاصرة التی شهدت تحولات معرفیة بالغة الحدّة، مثل تصاعد الوعی الجماهیری وسقوط النخب والرموز، ظهور الصورة بوصفها خطابا عصریا کوکبیا، بروز السرد کقوة تعبیریة تفوق القوة التقلیدیة للشعر، .. إلخ.

فی واحدة من إشاراته الثاقبة، یبیّن لنا تیری إیجلتون کیف تحول البحث الأکادیمی المعنیّ "بالدراسات الإنجلیزیة" إلى "أدب العالم الثالث المکتوب بالإنجلیزیة"، حتى صار یطلق علیه اسم "أدب الکومنویلث". وحینما توسعت تلک الدراسات لتشمل آداب العالم الثالث، والمهمشین، أطلق علیها اسم "أدب ما بعد الکولونیالیة". وفی ذلک دلالة على التغیر والتحوّل الذی أصاب الدراسة الأدبیة فی صمیم منهجیتها. فبعد أن اقتصرت دراسة الأدب فی الماضی على البحث الأکادیمی المغلق، والنقد الأدبی المقنّن، انطلقت الیوم إلى الآفاق السیاسیة الأرحب، لتتولد عنها الدراسات الثقافیة بمفهومها الأشمل، متعدّیة للنقد الأدبی بمحدودیته. فصار المشتغلون بالتحلیل الثقافی یتناولون الأدب بوصفه ممارسة ثقافیة[59]، قبل أن یکون ممارسة جمالیة عند البنیویین، أو محض لعبة ذات طابع فلسفی عند التفکیکیین. لذلک، فإن نقد ما بعد الکولونیالیة لم یکن له أن یسعى إلى إقامة تراتب هرمی بین الثقافات، بل اتّجه إلى دراسة مدى تفاعلها[60].

ولعل أهم خصیصة من خصائص أدب ما بعد الکولونیالیة هی عنصر "التهجین الثقافی"، وتعدّد المرجعیات الثقافیة للنظریة أو التیار الواحد، ووجهة النظر المتنوعة المداخل والملامح فی التعامل مع العالم، والتحرر من أحادیة النظرة ومن سیادة ثقافة ما فوق غیرها من الثقافات. ویتمیز ذلک التوجه الجدید الذی یُعرف بما بعد الکولونیالیة بأن کافة الثقافات، المحلیة منها والغربیة، تتعایش جنبا إلى جنب، بحیث إن النص الأدبی المنتمی إلى أدب ما بعد الکولونیالیة یصبح فضاء للتفاعلات والتداخلات الثقافیة فی سیاق أشبه بما یطلق علیة الناقد الهندی رامانوجان Ramanujan: "سیاق المرآة العاکس لمرآة أخرى"[61].

     إن تحلیل الخطاب الاستعماری والنظریة ما بعد الاستعماریة یتقاطع مع العدید من المناهج وحقول البحث الثقافیة الغربیة المعاصرة، وذلک بوصفه هو الآخر خطابا واقعا تحت مظلة الفکر ما بعد الحداثى أو ما بعد البنیوی بصفة عامة. ویتضح ذلک من التوجهات المختلفة التی جاء منها باحثون آخرون اندمجوا فی حقل الخطاب الاستعماری. وعلى سبیل المثال، جاء هومى بابا Homi Bhabha من اتجاه التحلیل النفسی، بینما جاءت تشاندرا موهانتی Chandra Mohanty من ناحیة المنهج النسوی، وجاء إعجاز أحمد Ijaz Ahmed من إحدى تفریعات المارکسیة، ورکَّزت جایاتری تشاکرافورتی سبیفاک على التقویضیة (أو التفکیکیة). والمقصود هنا هو مدى اهتمام کل واحد من هؤلاء بتوجّه ما، ولیس الانحصار ضمن دائرته[62]، أو الانغلاق على الذات.

     فی فضاء هذه المرجعیة الثقافیة المتشعبة، نجح سعید فى تحلیل عدد من المسلّمات الأوروبیة تجاه الشرق، حیث أثبت أنها قد انطلقت من منظور استعمارى محض؛ الأمر الذی جعله أحد أبرز مؤسسى دراسات ما بعد الکولونیالیة، وله کذلک کتابات واسعة فى النقد الأدبى.لکنّ الملاحظ على إنتاج سعیدأن تحلیلاته تنبع من معطیات تتصل بمفاهیم متواترة ألحّ علیها کثیرا فی نصوصه، کالقوة، والسلطة، وسلطة الإنشاء، والتمثیلات الثقافیة، ورؤیة الآخر وتنمیطه، والنصوص المولودة لذاتها، والنصوص المهجّنة، وترابط المعرفة بالقوة،.. إلخ. لکنّ أکثر مفاهیمه أهمیة، سواء من حیث التکرار فی ثنایا نصوصه أو الخطورة والتأثیر، مفهوم التلاحم بین التاریخ والسردیات والتکوین الاستیهامی الخالص للمجتمع المتخیَّل، وتشابک المخیلة بالتاریخ والواقع بالسحر، کما یقول کمال أبو دیب[63].

     استطاع سعید أن یؤوّل روایة العالم الثالث "تأویلا طباقیا"، إذا جاز لنا استخدام مصطلحاته قبل التعریف بها، أی فی سیاق العلاقة بین طرق المزدوجة الاستعماریة، لا فى سیاق تاریخ منفصل ومعزول للثقافة أو المجتمع[64]، حیث یرى أن ما فعله الطیّب صالح، مثلا، فی روایة "موسم الهجرة إلى الشمال" هو بالأساس مصادرة لشکل روائی غربی استخدمه الغربیون للقیام باکتساح الفضاء الجغرافی للعالم الآخر[65]، واستعماره، وامتصاصه، واستغلاله، من أجل تشکیل حرکة مضادة تقتحم الفضاء الإمبریالی نفسه، وتغزوه، وتقلب فیه الأدوار بلغة جدیدة وأبطال منتقمین وبنیة روائیة محوَّلة ومعدَّلة لکی تخدم أهداف کتَّاب العالم الثالث ذاتها وتنقض الأصل المرکزی الحواضری. ولیست القراءة الطباقیة سوى القراءة فی سیاق العلاقة بین طرفی المزدوجة الاستعماریة، لا فى سیاق تاریخ منفصل ومعزول للثقافة أو المجتمع.

      من هنا، سعى سعید إلى أن تکون قراءته الأولى مرکّزة على أعمال فردیة فی البدایة، کما فعل مع جوزیف کونراد Josef Conrad (1857-1924)، بحیث کان یقیم قراءته على النصوص من حیث هی نتاج عظیم للخیال التأویلی الخلَّاق من ناحیة، ثم یجلو کونها جزاء من العلاقة بین الثقافة والإمبراطوریة، من ناحیة مقابلة؛ إذ لم یکن یؤمن بأن المؤلفین یتعیَّنون بصورة آلیة فی ضوء الأیدیولوجیا، أو الطبقة، أو التاریخ الاقتصادی، فحسب، بل إنهم  کائنون، قارّون إلى حد بعید، فی تاریخ مجتمعاتهم، یشکلون ذلک التاریخ ویتشکّلون به وبتجربتهم الاجتماعیة بدرجات متفاوتة. إن الثقافة والأشکال الجمالیة التی ینطوى علیها هذا المفهوم، بإرثه المتشعّب حد التنافر، لتُشتَق من التجربة التاریخیة، وهی فی واقع الأمر أحد الموضوعات الرئیسیة التی أقام علیها سعید کتابه "الثقافة والإمبریالیة"[66].  

ربما من سوء الحظ أن مصطلح "الطباق" -بمحمولاته البلاغیة العربیة التی تحصره فی علم البدیع الذی ینصبّ على دراسة وتحلیل الظواهر الصوتیة فی الشعر والنثر، المستخدم کترجمة للـ"contrapuntal" أو الـ "counterpoint" الذی استعاره سعید من الموسیقى، وهو موسیقیّ ممتاز یقدم عروضا عامة، وله کتاب مهمّ فی الموسیقى هو "متتالیات موسیقیة musical elaborations" (1991)- "مصطلح التباسی من جهة، ومتخصص جدا موسیقیا، بحیث یغیب مدلوله عن القارئ العادی، من جهة أخرى"[67]. لکنّ القراءة الطباقیة تعنی، من بین ما تعنی، قراءة النص ثقافیا بفهم یستوعب کل ما هو متضمَّن فیه، أو قارّ فی أعماقه، متجذّر، کامن خلف صوره ومجازاته وأسالیبه. هکذا، تصبح أیة قراءة طباقیة مطالبة بأن تُدخِل فی حسابها کلتا العملیتین أو الوضعیتین: الظرف الإمبریالی، ووضعیة المقاومة لها، ویمکن أن یتم ذلک بتوسیع قراءتنا للنصوص لتشمل ما تمّ ذات یوم إقصاؤه بالقوة[68]. وهو، على سبیل المثال، فی روایة "الغریب L' Strange" لألبیر کامو Albert Camus (1913-1960)، التاریخ السابق بأسره لاستعمار فرنسا وتدمیرها للدولة الجزائریة، ثم الظهور اللاحق لجزائر مستقلة، اتخذ فیها کامو موقف المعارض. وحتى یستطیع المرء أن یُموضِع کامو طباقیا -أی یقرأه قراءة طباقیة بین طرفی المزدوجة الاستعماریة- فی معظم تاریخه الفعلی، وبوصفه نقیضا لجزء صغیر منه، ینبغی أن یکون متیقظا بالغ التنبّه لأسلافه الفرنسیین الحقیقیین[69]، إضافة إلى أعمال الروائیین، والمؤرخین، وعلماء الاجتماع، وعلماء السیاسة الجزائریین فی حقبة ما بعد الاستقلال.

     لقد أثّرت العدید من النظریات والأفکار والروافد فی تکوین وعی إدوارد سعید وتشکیل مرجعیاته النقدیة والفکریة، وربما کان أکثرها وضوحاً تلک الأفکار التی جمعت بینه وبین میشیل فوکو، فقد اجتمع الاثنان حول هدف یکاد یکون واحدا: ففی الوقت الذی سعى فوکو إلى تفکیک خطاب السلطة عن طریق تفکیک خطابات المعرفة والجنس والسجن والجنون.. إلخ، انشغل سعید بتقویض خطاب الاستشراق وتعریة الوجه الإمبریالی للثقافة، ورفض أیدیولوجیا الهیمنة، بحثا عن إعادة صیاغة عادلة للعالم.

    إن نموذجی السلطة والمعرفة، لدى فوکو، یوضحان أن کلاً منهما یُنتج الآخر ویؤثر فیه بشکل بالغ التعقید، فالمعرفة تنتج سلطة. وفى الوقت ذاته، تحتاج أیة سلطة (بالمعنى السیاسی أو الدینی أو العسکری..) إلى خطاب معرفی یضمن بقاءها واستمرارها. وتختلف الأشکال والمراحل التى یتخذها هذا النموذج على مدار التاریخ، وهو ما جعل إدوارد سعید یبحث فى مراحل تطوره، لیکتشف أن الأمم الأکثر معرفةً هى الأمم الأوفر حظّا فى الهیمنة وبسط نفوذها على حواضر أخرى بعیدة، دون الحاجة إلى إنفاق تکالیف عسکریة باهظة. وما هذه الهیمنة على الحواضر البعیدة سوى أحد أوجه الإمبریالیة (الأوروبیة)، کما یعرّفها سعید فی کتابه "الثقافة والإمبریالیة Culture and Imperialism" (1993).

    استطاع التراث الروائى الأوروبی الضخم أن یلعب دورًا مهمًّا فی ترسیخ مبادئ السیطرة والهیمنة العرقیة، حیث کرّس هذا التراث -لدى الشعوب المستعمَرة- فکرة خطیرة مؤدّاها أنه من الأفضل لمثل هذه المجتمعات أن تخضع لسیطرة هذا الإنجلیزی أو ذاک الفرنسی أو ذلک الروسی أو البرتغالی؛ لأنها مجتمعات ناشئة، بحاجة دائمة إلى رعایة ووصایة، وذلک على نحو ما أوضح سعید فى دراسة تحلیلیة لروایة "مانسفیلد بارک Mansfield park" (1814) لجین أوستن، حیث یمکن -من خلال قراءتها طباقیا- استنتاج أن غیاب السیر توماس برترام  Tom Bertramعن مزرعته یوشک أن یؤدّی إلى تدهور أوضاعها وإلى إنحلال خلقی سوف یصیب رجالها ونساءها من دون استثناء. لکنّ عودته تصحّح الأمور وتضعها فی نصابها. فالسیر توماس، هنا، یمثل السلطة فی مختلف تجلیاتها (الدینیة، القانونیة، المِلْکیة). وإذا ما علمنا أن هذه المزرعة کانت مستعمَرة، فلسوف یتضح أن الهدف هو دعم المستعمِر وإبراز فضله على المستعمَر، وأن ذلک المستعمَر بحاجة ماسة إلى من یقوده ویعلّمه ویرشده. لقد أدّى هذا إلى بروز مفهومی "المصادرة" و"الصوت الصامت". "فالمصادرة" هى ردّ الفعل العکسى الذی یمکن أن تقوم به تلک الشعوب، حیث تسعى -من خلال السرد أیضا- إلى اختراق المرکزیة الأوروبیة وتفکیکها. إن مثل هذا الطرح سوف یفید، بشکل أساسی، فى المساعدة على فهم وتفسیر التوجّهات النقدیة لدى سعید، واستیعاب الأسس التی انطلق منها، على نحو ما لاحظت فریال غزول[70]، حیث أشارت إلى أن ثمّة حضورا قویا لفوکو فى نصوص سعید عن "الاستشراق" وما قبله، فى حین یحتل فرانز فانون Franz Fanon (1925-1961) موضع الصدارة فی أعمال سعید اللاحقة، وإن بقی فوکو حاضراً ومؤثراً فى أعماله، بدرجة أو بأخرى.

لنقل بإیجاز، إن سعید یرفض مرارا التنظیر للنقد بالأسلوب السائد، النمطی، من خلال وضع مجموعة من الأسس والمعاییر والتقالید الجامدة للتقییم. فمن ناحیة، یعد التنظیر نوعًا من تقیید إمکانات الناقد، ومن ثم فهو نوع من القهر الضمنی الذی ینطوی خلف مفهوم "النظریة". ومن ناحیة أخرى، فإن القبول بالنظریة، أیة نظریة، على اعتبار أنها الأفضل، ومحاولة فرضها على الأمم والشعوب الأخرى، یُعدّ فى ذاته نمطاً آخر من أنماط الهیمنة. وفی مقابل ذلک، نراه یحتفی بالوعى النقدى الذی هو مزیج مما یکتسبه الناقد بحکم الجغرافیا والتاریخ، کالمیلاد والجنسیة (والدیانة فی أغلب الأحیان)، وما یکتسبه کذلک بحکم الثقافة والممارسة والاشتغال الحرّ، کالظروف السیاسیة والاجتماعة والاقتصادیة. وهنا تحدیدا، یمکن طرح مقاربة نقد-ثقافیة مختلفة لأطروحة إدوارد سعید من منظور المؤثّرات الدینیة للثقافة، سواء فی طرحه لمفاهیم من قبیل "القومیة" أو "الاستشراق" أو "الإمبریالیة". إن ثنائیة "الدین-العلمانیة"[71] تکمن فی خطاب سعید بوصفها تمایزا مفصلیا یمثل فعلا تخییلیا واستمراریة سردیة تنسرب فی متونه الثقافیة؛ لأنها بمثابة المرکز أو النواة القارّة فی قلب مرجعیاته الثقافیة. وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع طرح ولیام د. هارت W. D. Hart حول وزن المؤثّرات الدینیة فی ثقافة إدوارد سعید، وبغضّ النظر عن کون هذه القراءة لواحد من أهم مفکرّی القرن العشرین قراءة بریئة أو تأویلا مغرضا، مُفرِطا، فی بعض المواضع من کتابه، فقد انتصر سعید لحریة الوعى النقدى على حساب سجن النظریة إذا استخدمنا عنوان کتاب فریدریک جیمسون "سجن اللغة Prison House of language"؛ لأن مفهوم الوعی النقدی، لدیه، أکثر حریة وانطلاقا وإنسانیة، وأکثر ارتباطًا بالواقع، کما أنه یسمح بتنوع الثقافات وبمساحات شاسعة للاختلاف وقبول الآخرین. لقد کان سعید مقاومًا ومناهضًا لأغلب خطابات الهیمنة فی مختلف تجلیاتها، السردیة منها وغیر السردیة، حیث وجد ضالّته لدى کل من فوکو وفانون وأدورنو وجرامشی،.. وغیرهم، ممن أدرکوا خطورة الارتکان إلى نظریة بعینها دون إدراک مرجعیاتها الثقافیة، أو دون ممارستها ممارسة حرة تنطوی على وعی عمیق وخبرة ثقافیة رصینة.

 

 

خاتمة:

 

فی خاتمة هذا البحث، نتصوّر أن مثل هذا النوع من الممارسة النقدیة أو الفکریة، الواعیة بسیاقات النشوء وتحولاتها المفاهیمیة، من شأنه أن یفتح آفاق النظریة المحدودة على تاریخ آداب العالم، حتى لا تصبح النظریة الأدبیة أو النقدیة منتجا محلّی الصنع أو حکرا على تاریخ ثقافة أوروبا وحدها. ولعل أفضل مثال على ذلک هم مجموعة النقاد والباحثین القادمین من بلدان العالم الثالث والشرق الأوسط الذین أسهموا فی فضاء النظریة العالمیة إسهامات شتى، وبدرجات متفاوتة بالطبع (أقصد إلى النظریة المکتوبة بالإنجلیزیة تحدیدا)[72]. إن ثمة تاریخا جدیدا لأدب العالم تتشکل ملامحه وتیاراته شیئا فشیئا، لا ریب أنّ للأفارقة والآسیویین فیه نصیبًا واضحًا سوف تکشف عنه السنوات القلیلة القادمة.

بید أن ما نرید التأکید علیه، بإیجاز، هو أن غیاب هذا الوعی المنهجی المنضبط بسیاقات النظریة ومرجعیاتها الثقافیة (الغربیة) قد أحدث تشوّها غیر قلیل فی الممارسات العربیة، وهو ما یمکن تلمّسه بوضوح مع بعض مصطلحات نظریة الأدب المتداولة فی سیاق النقد العربی الحدیث والمعاصر، مثل "الشعریة" و"التناص" و"المفارقة" و"وجهة النظر السردیة"، .. إلخ. إن مجرد حصر الأبعاد المفهومیة لأی مصطلح من هذه المصطلحات وموضعته فی سیاقاته الغربیة أولا والعربیة ثانیا، والمقارنة بین الوضعیتین مقارنة تناظریة تحلیلیة، سواء على مستوى التنظیر أو الممارسة التطبیقیة، سوف تکشف عن قدر غیر قلیل من اللبس الذی سقط فیه الخطاب النقدی العربی لسنوات لیست بالقصیرة (وهذا موضوع یحتاج إلى دراسة مستقلة ومتأنّیة).



[1] روحی الخالدی: تاریخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفیکتور هوکو، تقدیم: فیصل دراج، کتاب الدوحة، قطر، مایو 2013، ص: 18- 19.

[2] سید البحراوی: المدخل الاجتماعی للأدب، من علم اجتماع الأدب إلى النقد الاجتماعی الشامل، دار الثقافة العربیة، القاهرة، 2001، ص: 20- 23.

[3] انظر:

 Fredric Jameson; The political Unconscious, Narrative as A Socially Symbolic Act, Cornell University Press, Ithaca and New York, 1981, p.102

[4] راجع: محمد الشحات: سردیات المنفى: دراسة فی الروایة العربیة بعد عام 1967، دار أزمنة للنشر والتوزیع، عمّان-الأردن، 2005.

[5] محمد الشحات: سردیات بدیلة، سلسلة کتابات نقدیة، الهیئة الامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2012.

[6] انظر الفصل الخاص بالمارکسیة من کتاب سید البحراوی: المدخل الاجتماعی للأدب، من علم اجتماع الأدب إلى النقد الاجتماعی الشامل، ص ص 25-38.

[7] ولعل العلاقة بین الکلمتینStory/History  فی اللغة الإنجلیزیة والکلمة الواحدة المشترکة فی الفرنسیة Histoire تجسد مظهرا بالغ الوضوح والدلالة على مدى التأثیر والتأثر الحاصل بین السرد والتاریخ. لقد کان التاریخ فی الغرب حتى القرن الثامن عشر فرعا من فروع الأدب. وهو أمر یمکن ملاحظته ببساطة فی الأصل المشترک الذی یتمثل فی أن "مصطلح التاریخ ومصطلح السرد القصصی إما أن یکونا شیئا واحدا أو شدیدی الشبه فی کثیر من اللغات الأوروبیة". انظر:

 Edward W. Said, Reflections on Exile and other Essays, Harvard University Press, Cambridge, Massachusetts,2002, p. 43

[8] آلن دوجلاس، المؤرخ والنص والناقد الأدبی، فصول، الهیئة المصریة العامة للکتاب، عدد1، مجلد 4، 1983، ص 96.

[9] محمد مندور: النقد المنهجی عند العرب، ومنهج البحث فی الأدب واللغة، مترجم عن الأستاذین لانسون وماییه، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزیع،القاهرة، 1996. ص 14.

[10] محمد مندور: المرجع السابق، ص 14.

[11] محمد مندور: المرجع السابق، ص 15.

[12] انظر: لانسون: منهج البحث فی تاریخ الآداب، ضمن کتاب محمد مندور: النقد المنهجی عند العرب، المرجع السابق، ص 397.

[13] إیمانویل فریس، برنار مورالیس: قضایا أدبیة عامة: آفاق جدیدة فی نظریة الأدب، عالم المعرفة، المجلس الوطنی للثقافة والفنون والآداب، الکویت، العدد 300، فبرایر 2004، ص: 67.

[14] أحمد بو حسن: العرب وتاریخ الأدب: نموذج کتاب الأغانی، دار توبقال للنشر، الدار البیضاء، الطبعة الأولى، 2003، ص: 70.

[15] فی هذا السیاق، یقول محمد مندور فی کتابه "النقد المنهجی عند العرب": "ومعنى هذا أننا نفضّل الأخذ بالمنهج التاریخ حتى عندما نحاول أن نضع للنقد حدوده، وهذا هو المنهج الذی استقرّ الباحثون على جدواه منذ أوائل القرن التاسع عشر إلى الیوم، وبفضله جدّدت الإنسانیة من معرفتها بتراثنا الروحی وزادته خصبا" راجع محمد مندور: النقد المنهجی عند العرب، ص 11.

[16] بات فی عداد تاریخ النقد الأدبی القول إن البنیویة التی قامت على أکتاف کل من فردینان دی سوسیر Ferdinand de Saussure ولوسیان جولدمان Lucien Goldmann ورولان بارت Roland Barthes وتزفیتان تودوروف Tzvetan Todorov، وغیرهم، قد انتصرت للدّالّ على حساب المدلول، واعتنت بالکلمة على حساب الدلالة. وقد استعانت البنیویة فی ذلک بمظلّة الحداثة modernism التی دفعت أقلام نقّاد الأدب ومنظّریه الکبار، آنذاک، إلى الانکباب على البنیة النصیة للأدب تشریحا وتفکیکا؛ الأمر الذی تحولت معه البنیویة إلى شکلانیة مفرطة فی بعض الأحیان، وغدت النصوص الأدبیة التی کانت مفعمةً بالحیاة والحِراک جثثًا هامدة على أیدی بعض النقّاد الحرفیین ممن ظنّوا أنفسهم سوف ینتسبون بذلک إلى البنیویة الحق، بحیث لن ینساهم التاریخ النقدی والفلسفی. ومن الناحیة الفکریة، فقد أعقب ذلک المدّ البنیوی تیار ما بعد الحداثةpost-modernism  الذی واکب نقدیا حرکة ما بعد البنیویة التی تزعَّمها الباحث والمفکر الفرنسی الجزائری الأصل جاک دریدا. انظر: محمد الشحات: سردیات بدیلة، ص: 17- 18.

[17] یمکن أن نحیل القارئ هنا إلى بعض الجهود النقدیة التی قدّمها کل من کمال أبو دیب، محمد بنیس، محمد مفتاح، صلاح فضل، جابر عصفور، محمد عبد المطلب، عز الدین إسماعیل، مصطفى ناصف، عبد القادر القط، عبد الله الغذامی، محمد الهادی الطرابلسی، عبد السلام المسدی، .. وآخرین.

[18] فی سیاق النقد العربی المعاصر، یمکن أن نشیر إلى ما قدمه کل من محسن جاسم الموسوی وصبری حافظ وسعید یقطین وعبد الله إبراهیم وفریال غزول ومحمد برادة، .. وآخرین.

[19] حمید لحمدانی: النقد التاریخی فی الأدب: رؤیة جدیدة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1999، ص 26.

[20] المرجع السابق، ص 27.

[21] یستعرض عز الدین إسماعیل هذه الأسس، ویصنّفها إلى أسس ذاتیة وأخرى موضوعیة؛ منها أساس المنفعة، الأساس التعلیمی، الأساس الأخلاقی، الأساس الاجتماعی، الأساس النفسی، الأساس الجمالی البحت. راجع کتاب: عز الدین إسماعیل: الأسس الجمالیة فی النقد العربی: عرض وتفسیر ومقارنة، دار الفکر العربی، القاهرة، 2000، ص: 7، 53- 106.

[22] المرجع السابق، ص: 29- 33.

[23] للمزید من المعلومات الاستقصائیة حول هذه الاتجاه النقدی، راجع کلا من: سید البحراوی: البحث عن المنهج فی النقد العربی الحدیث، دار شرقیات، القاهرة، 1993، وعبد العزیز حمودة: المرایا المقعّرة: نحو نظریة تقدیة عربیة، مرجع سابق، ومصطفى ناصف: النقد العربی: نحو نظریة ثانیة، عالم المعرفة، المجلس الوطنی للثقافة والفنون والآداب، الکویت، العدد 255، مارس 2000.

[24] أدریان مارینو: نقد الأفکار الأدبیة، ترجمة: محمد الرامی، مراجعة وتقدیم: سعید علوش، المرکز القومی للترجمة، القاهرة، 2008، ص: 29- 30.

[25] یمکن –فحسب- محاولة إحصاء الرسائل العلمیة فی الجامعات العربیة التی قامت على تطبیق البنیویة (فی الفترة من 1980 إلى 2000) على قصیدة شعر واحدة أو نص روائی واحد، وسوف تکون النتیجة بالغة الإدهاش. راجع -فی هذا السیاق- مصطفى الضبع: ببلیوجرافیا نقد الروایة، الکتب- الرسائل العلمیة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، طبعة تجریبیة، 2015.

[26] روبرت یانج: أساطیر بیضاء، کتابة تاریخ الغرب، ترجمة: أحمد محمود، المشروع القومی للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003، ص: 53.

[27] محسن جاسم الموسوی: مواجهات إعجاز أحمد الثقافیة، "ألف"- مجلة البلاغة المقارنة، الجامعة الأمریکیة بالقاهرة، العدد 18، 1998، ص: 84.

[28] انظر:                                             Ann-Julie Boivin: Brief history of Post-Modernism, on the following  link:

http://estelavieira-uminho.blogspot.com.eg/2009/09/post-modernism.html

[29] مایک فیذرستون: محدثات العولمة، ترجمة: عبد الوهاب علوب، المشروع القومی للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1995م. ص 317، 318.

[30] أرثر أیزابرجر: النقد الثقافی: تمهید مبدئی للمفاهیم الرئیسیة، ترجمة: وفاء إبراهیم، رمضان بسطاویسی، المشروع القومی للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003، ص 78.

[31] عبد الله الغذامی: النقد الثقافی: قراءة فی الأنساق الثقافیة العربیة، المرکز الثقافی العربی، الدار البیضاء-المغرب، بیروت-لبنان، الطبعة السادسة، 2014، ص: 32.

[32] انظر:

Johanna M. Smith& Ross C. Murfin:  What is Cultural Criticism?, on the following link:

https://www.usask.ca/english/frank/cultint.htm

[33] نقلا عن: جون ستوری: النظریة الثقافیة والثقافة الشعبیة، ترجمة: صالح خلیل أبو أصبع، فاروق منصور، مراجعة: عمر الأیوبی، کلمة، أبو ظبی، هیئة أبو ظبی للثقافة والتراث، 2014، ص: 373.

[34] انظر:

Readers in Cultural Criticism: Post Humanism, edited by Neil Badmington, Palgrave, 2000, p. ix, x

[35] بشیر إبریر: مرجعیّات التفکیر النقدی العربی الحدیث، مجلة علامات، ج49، م 13، (رجب 1424ه – سبتمبر 2003)، ص598.

[36] یُنظر: بشیر إبریر: مرجعیّات التفکیر النقدی العربی الحدیث، ص 592.

[37] سمیر حجازی: المتقن: معجم المصطلحات اللغویة والأدبیة الحدیثة، دار الراتب الجامعیة، بیروت، د.ت، ص85.

[38] یؤرّخ مندور لبدایات النقد المنهجی عند العرب بالقرن الثالث الهجری، وتحدیدا منذ ظهور کتاب ابن سلام الجمحی "طبقات الشعراء"، مرورا بکتب نوعیة أخرى لحقت بابن سلام مثل کتاب الآمدی "الموازنة بین الطائیین" والقاضی الجرجانی فی "الوساطة بین المتنبی وخصومه"، ثم تراه یلاحق الفکرة ذاتها حتى عندما تحول النقد إلى بلاغة على أیدی أبی هلال العسکری صاحب "سر الصناعتین" فی القرن الخامس، حتى یبلغ المرحلة الأخیرة لدى ابن الأثیر فی کتابه "المثل السائر". انظر: محمد مندور: النقد المنهجی عند العرب، ص 5، 6.

[39] خلیفة المیساوی: المصطلح اللسانی وتأسیس المفهوم، منشورات ضفاف، الریاض، ط1، 2013، ص 35.

[40] م. روزتال و بوتین: الموسوعة الفلسفیة، ترجمة: سمیر کریم، دار الطلیعة، بیروت، 1974، ص 484 -449.

[41] شکری عزیز ماضی: فی نظریّة الأدب، المرکز العربی للدراسات والنشر، بیروت، ط1، 2005، ص107.

[42] سعد البازعی: الاختلاف الثقافی: ثقافة الاختلاف، المرکز الثقافی العربی، الدار البیضاء- المغرب، بیروت-لبنان، 2008.ص48.

[43] سعد البازعی: المکوّن الیهودی، المرکز الثقافی العربی، الدار البیضاء- المغرب، بیروت-لبنان، 2007.ص 16- 18.

[44] جابر عصفور: النقد الأدبی والهویة الثقافیة، کتاب دبی الثقافیة، عدد 21، فبرایر، 2009، ص 206.

[45] سعد البازعی: الاختلاف الثقافی، ص 70.

[46] جابر عصفور: النقد الأدبی والهویة الثقافیة، ص 181، 188.

[47] جابر عصفور: النقد الأدبی والهویة الثقافیة، ص 189.

[48] عبد العزیز حمودة: المرایا المقعرة، عالم المعرفة، المجلس الوطنی للثقافة والفنون والآداب، الکویت، عدد 272، أغسطس 2001، ص 332.

[49] عبد العزیز حمودة: المرایا المقعرة، ص: 333، 374، 415، 442، 458، 467.

[50] تیری إیجلتون، مقدمة فی نظریة الأدب، ترجمة أحمد حسّان، الهیئة العامة لقصور الثقافة، کتابات نقدیة، عدد 11، سبتمبر 1991، ص142·

[51] انظر:

Gary Saul Morson & Caryl Emerson: Mikhail Bakhtin: Creation of Prosaics, Stanford University Press, Califorrnia, 1990,  p. 15.

[52] أرثر أیزابرجر: النقد الثقافی: تمهید مبدئی للمفاهیم الرئیسیة، ص: 76.

[53] چیرار چینیت، مدخل لجامع النص، ترجمة: عبد الرحمان أیوب، دار توبقال، الدار البیضاء، 1985، ص94·

[54] هنری توماس ودانالی توماس: أعلام الفنّ القصصی، الجزء الأول، ترجمة: عثمان نویه، راجعه: محمد بدران، کتاب الهلال، دار الهلال، القاهرة، دیسمبر 1978، عدد 336، ص: 38·

[55] انظر:

Mikhail Bakhtin; Rabelais and His World, Translated by: Helen Isowlsky, The M. I. T. Press, Cambridge, Massachusetts and London, England, 1968,  p. 4.

[56]  بییر زیما: النقد الاجتماعی، نحو علم اجتماع للنص الأدبی، ترجمة: عایدة لطفی، مراجعة: أمینة رشید، سید البحراوی، دار الفکر للدراسات والنشر والتوزیع، الطبعة الأولى، القاهرة، 1991، ص157·

[57] بعد موت ستالین (1953) بدأ النقد الروسی یلتفت إلى کتابات میخائیل میخائیلوفیتش باختین، وبدأت حرکة التوثیق تهتم بأعماله حول الروایة وبعض إسهاماته الفلسفیة فی علم الأخلاق وعلم الجمال، کما أنه قد عانى أیضًا من حَنَق السلطة حین حُکِم علیه بالسجن عشر سنوات فی جزر سولوفتسکی بعد أن تورّط مع مجموعة من الشبّان فی تنظیم سِرّی بکنیسة روسیة أرثوذکسیة تحت الأرض، "وقد حُکِم علیه بالموت المحقّق فی منفى «الأرکتیک Arctic Exile»، وقد تم تعدیله إلى النفی إلى کازخستان الأکثر حیاة من هذا المنفى". انظر: تزفیتان تودوروف: باختین: المبدأ الحواری، ترجمة: فخری صالح، الهیئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، عدد 14، یونیو، 1996، ص 72.

[58] یناقش الغذامی بعض المقولات المرکزیة المستقرة فی نظریة الأدب من منظور ثقافی مغایر لمرجعیاتها الأدبیة (الجمالیة)، فیتحدث عن "المجاز الکلی"، و"التوریة الثقافیة"، و" الجملة النوعیة"، و"المؤلف المزدوج". انظر: عبد الله الغذامی: النقد الثقافی: قراءة فی الأنساق الثقافیة العربیة، ص 70- 76.

[59]  نفسه، ص255،256.

[60]  ماری تریز عبد المسیح، ما بعد الکولونیالیة: قراءة أولى، مجلة القاهرة، عدد 180، نوفمبر 1997، ص11.

[61]  نقلا عن: هالة کمال: صور الذات الأوروبیة فی أدب ما بعد الکولونیالیة: التفاعل الثقافی فی أعمال مختارة للروائیة روث برویر جابفالا، مجلة القاهرة، عدد 180، نوفمبر 1997، ص: 18.

[62]  میجان الرویلی، سعد البازعی، دلیل الناقد الأدبی، ص79، 80.

[63]  کمال أبو دیب، إدوارد سعید فی الثقافة والهیمنة، مجلة نزوى، سلطنة عمان، عدد 9، 1997، ص9.

[64]  المصدر السابق، ص11.

[65]  نفسه، ص10.

[66]  إدوارد سعید، الثقافة والإمبریالیة، نقله إلى العربیة: کمال أبو دیب، دار الآداب، بیروت، ط1، 1997، ص23، 66.

[67]  نفسه، ص20.

[68]  نفسه، ص21، 135.

[69]  نفسه، ص14.

[70]  فریال جبوری غزول، أثر فوکو على إدوارد سعید، مجلة ألف (مجلة البلاغة المقارنة)، الجامعة الأمریکیة بالقاهرة، عدد 25، 2005.

[71] ولیام د. هارت: إدوارد سعید والمؤثرات الدینیة للثقافة، ترجمة: قصی أنور الذبیان، مراجعة: عمر خریس، کلمة، أبو ظبی، هیئة أبو ظبی للثقافة والتراث، 2011، ص: 10، 22- 23، 26- 27.

[72] باستثناء کل من إدوارد سعید وإیهاب حسن بوصفهما ینتمیان إلى المؤسسة الثقافیة الغربیة، یمکن أن نذکر جایاتری سبیفاک، وعارف دیرلیک، وهومی بابا، ومحسن جاسم الموسوی، .. وآخرین.